في تجربته الشعرية الأخيرة "حامل الفانوس في ليل الذئاب "( 1 ) يواصل الشاعر العراقي سركون بولص مغامرة اجتراع نص شعري متفرد في متخيله وأشكال صوغه. نص شعري يعرف كيف
" يقتل الاب " ويخفي ملامح سلالته الشعرية البعيدة، حتى ليغمرنا شعور، بأننا أمام بداية لا سالف لها، أو أمام نهاية تعرف دائما كيف تبدأ، من ليل شعري غير مدلل الا بقوة التجربة، في الحياة والكتابة معا. الأثر الشعري قوي، غير إننا عندما نريد البحث عن مصادره لا نكاد نعثر على علامة في الطريق. إن ما كان شبه ستحيل من وجهة نظر نظريات النص الحديثة، يبدو أقرب الى الانجاز في هذه المجموعة: نقصد هذه البداية التي تكاد تكون مطلقة والتي دشنها سركون بولص في شعر الحداثة، مثلما دشنها قبله أنسي الحاج وأدونيس ومحمد الماغوط وشوقي أبي شقراء وشعراء آخرون.
1- العنوان: الثريا أو العتبة
اول علامة نصية تستوقفنا في المجموعة هي العنوان: هذه الثريا المعلقة فوق سماء المجموعة، والتي تسلط الضوء على متخيلها وعلى بعض اختياراتها الجمالية، من هنا فهي تحتاج الى اضاءة تأويلية نؤسس عليها وعينا الجمالي الممكن بهذا العمل.
"حامل الفانوس في ليل الذئاب " عنوان طويل، على طريقة مجموعة من الإصدارات الشعرية الحديثة. وهو يتكون من حقلين متضادين: حقل النور ويرمز له دال " الفانوس " وحقل الظلام ويرمز له دال " الليل "، والفاعلية الشعرية يخوضها إنسان يغامر بفانوسه في ليل الحيوانات الضارية.
تضاد هذه الحقول، نقرأ فيه تضادا بين شاعرية الأشياء الصغيرة أو المتنامية الصفر "الفانوس" والأشياء الكبيرة أو المتنامية الامتداد "دليل الذئاب".
وبين هذين التضادين ينهض متخيل المجموعة المتراوح بين الحميمي، الذاتي، القائم داخل الفضاءات الشعرية المغلقة، والموضوعي الغريب المرتبط بالفضاءات الشعرية المفتوحة، حث العالم يغوص في ضباب المجهول.
"حامل الفانوس" تركيب شعري يمكن إن نقرأ فيه ملامح إسطورية بعيدة، تصله ببرومتيوس سارق النار المقدسة. ونقترح، في هذا السياق، مع جاستون باشلار، إن " نجمع تحت اسم "عقدة برومتيوس" كل الميولات التي تدفعنا لأن نعرف مثل آبائنا وأكثر منهم، مثل معلمينا وأكثر منهم" (2). فاذا كانت النار، في هذا الفهم، رمزا للمعرفة التجاوزية المنبثقة عن الذات، فالفانوس كذلك. هكذا تكون "عقدة برومتيوس، هي عقدة أوديب الحياة الفكرية"(3) الموسعة لتشمل الفاعلية الشعرية المتطلعة لتشييد مسكنها الجمالي الخاص. ولما كان النور يصدر من قلب الفانوس، لينتشر في العالم الخارجي، فالمعرفة الشعرية كذلك، هبة ذاتية تشرق من الداخل، لتنتشر في خارج يظل دائما مشدودا نحوه. فالفانوس اذن، يمكن ان يشتغل كاستعارة نقدية محملة بأصداء أسطورية تجعل المعرفة الشعرية هبة مقدمة تبذل لأجل الانسان، وفي سبيلها ليتحمل الشاعر كل أشكال العذاب. وهي في حالة سركون بولص. هذا المنفى/التيه الدائم، في الحياة وفي الكتابة، باعتباره اختيار الاقامة خاصة ومميزة في قصيدة النثر. أما عبارة "ليل الذئاب" فهي تعني انفتاح التجربة على الأهوال، وهذا ما يمنحها صفة المغامرة الحقيقية، القائمة في صلب تجربة العبور.
2- الميثاق: مؤشرات نصية
اسم الكاتب وجس الكتابة علامتان اساسيتان في تأسيس ميثاق القراءة بين المؤلف والمتلقي. ميثاق يتكفل بفتح أفق انتظار القارئ وتوجيهه، غير انه لا يعفي من خوض تجربة القراءة التي تسمح بقياس المسافة القائمة بين الانتظارات الجمالية والواقع النصي. وقد تكون تلك المسافة مقلصة الى درجاتها القصوى في حالة تجاوب القراءة مع النص. وقد تكون مسافة كبيرة تؤشر على تنافر ينعت في جمالية التلقي بخيبة الأفق.
طبيعي ان كل التوقيعات الشعرية لسركون بولص، تخيب أفق انتظار القارئ التقليدي المشبع بقيم العمود الشعري وجماليته. وخيبة الأفق، في حالة هذا القارئ، الموجود بيننا طبعا، نادرا ما تكون ذات مفعول ايجابي، بحيث تدفعه لاعادة النظر في قيمه الشعرية وتشييد انتظارات جمالية جديدة، مرنة، مستجيبة لروح العصر القائمة على التسيب والتهجين وعبر النصية، وهذا ما يجعل الحوار بين قطبي القيم التقليدية والحداثية شبه منعدم، وهو ما يجعل الصراع المجتمعي معقدا، تحكمه قيم التبادل الاقتصادي، وتعارضات ثقافية وجمالية تتعلق بالاشكال والنصوص والأجناس.
يؤسس سركون بولص، في هذا العمل، شعريا، لميثاق القراءة، وهو لا يكتفي بالرأسمال الرمزي الذي ينضح به اسمه على غلاف المجموعة، مثلما لا يكتفي ايضا بالتحديد الاجناسي "شعر" الذي يبقى، مع ذلك، مراوغا بحكم ضربات الهدم التي خضع لها على امتداد الأربعين سنة من تاريخه الحديث، بل يخصص قصيدة الافتتاح، لتأسيس تعاقد قرائي، ولو عبر لغة المجاز، تتخلص بموجبه ذمة الشاعر، من أي كسر يقع في أفق انتظار القارئ.
"قارئ الكتاب" هذا الملفوظ، هو عنوان قصيدة الافتتاح، وهو بحكم ذلك يشتغل صراحة بسؤال التلقي في صلته بالخيار الشعري الكبير الذي تصدر عنه المجموعة. عندما نجتاز عتبة العنوان الى القصيدة، يتعين أفق انتظارنا بشكل أدق، نعرف ان العلاقة بالقارئ مفتوحة على أهوال النفي، ومشروطة بقدر من الاستقلالية التي تجعل التجربة الشعرية، منشغلة، في حدود معينة، بأنا موسعة، بحكم اختراقها من قبل أصوات ولغات متعددة، لهذا فهي تلتقط من خلال تجربة العبور اعتمالات الحياة وأمثلة الوجود. في عزلة تامة، لا يعضدها الا هذا المصير المشترك الذي يربط بين الذوات والذي تستشعره الذات الشاعرة بحكم قدرتها على التقاط الجرح الفردي ونبض الوعي العام. دون أن تجعل من نفسها معبرة عنه الزاما وتعاقدا. انها تصر خارج منطق الجماليات الاجتماعية على التقاط الجراح والاندفاعات الحيوية، دون قيد أو شرط يخل بدور الذات في ممارسة حريتها، في اجتراح نمط متخيلها الشعري وأشكال صوغه. فالتعاقد الذي توقعه القصيدة مع متلقيها، هو تعاقد الشعر والتزام الحرية وفردية التجربة وفرادتها في آن:
– ما كنت أقيم على الجمر له / ما كنت أنام وحيدا من أجله وأحيا / في عالمين بينهما كتاب، أفتحه كأن في قدرتي / أن أستعيد ذلك الشاطئ مرة أخرى / وأسبح ثانية في ذلك التيار (الديوان.ص 6)
يشيد هذا المقطع وضعا اعتباريا للذات المتلفظة، يجعلها تقطع مع الجماليات التموزية (موت الشاعر من أجل حياة الأمة) وذلك بهدف تذويت التجربة الشعرية وتكريس غائيتها الذاتية. من هنا فآلام التجربة لا تعاش لأجل سعادة القارئ، بل تعاش كلذة صوفية خالصة، وكتجربة شعرية مسكونة بأمثلة حياتية وأخرى ميتافيزيقية، بكل ما يلتبسها من غموض أصلي قائم في منطق الأشياء. وفي ثنايا الاحاسيس، من هنا صيغة النفي التي تفتح بها هذه التجربة أفقها الشعري (ما كنت… ما كنت…) ومن هنا أيضا صيغة التساؤل القلق، الصادر عن تأمل معنى تجربة ان تكون الآن، شاعرا:
– هل أنا آخر الآتين إذن / أتبع شمعة الى نهايتي، أم أنا أول من سلفوا / أكمل دورته العكسية في الزمن، من قبل ومن بعد؟ (الديوان، ص 6)
– الشعر في هذا التصور تجربة فردية، كالصوت، كالحب، وكالجنون، تعيش الذات، لحسابها الخاص، عذاباتها / متعها حتى النهاية. لكنها تتساءل في قلق، هل هي "آخر الآتين" الى ليل الكتابة. هذا الليل الرمزي يؤشر عليه دال "الشمعة" الذي يشتغل كأحد وجوه الاستعارة الكبرى المفجرة لشعرية الديوان، نقصد فعل حمل الفانوس / سرقة النار، امعانا في التلذذ بطقس خرق الممنوع، واضاءة ليل للانسانية، واصرارا تاما على التحمل الكامل لاستتباعات هذا الفعل الشعري الباذخ. وهذا ما سيجعل الذات تصرح بأنها ستخوض التجربة حتى نهايتها "أتبع شقة الى نهايتي" لكنها سرعان ما تواصل تساؤلاتها عبر الاقامة في الطرف الآخر من الاختيار "أم أنا أول من سلفوا" أي أول من عبروا ليل التجربة الشعرية، في تخومها الحياتية، وفي انشغالاتها ضد – الزمنية "أكمل دورته العكسية في الزمن، من قبل ومن بعد".
غير انه، مباشرة، في السفر الشعري الموالي تعرج الذات لتؤكد من جديد هذه العزلة القصوى التي تقوم عليها تجربة الكتابة، وهي عزلة تتطلع الى اكتشاف بعض الأسرار الادغالية للأنا الشعرية، في عبورها لمجهول العالم "وحدي في غابة والغابة أنا؟". وهذه الخفاءات الادغالية تضاعف عزلة الذات، وتدفعها الى الامتياح من المتخيل الديونيزوسي، لتفصح في النهاية عن الشرط الوجودي الذي تصدر عنه الكتابة، شرط موسوم بتسييد القلق والألم والتشاؤم، والايحاءات الجنائزية:
– لي من الشوك تاج، زائري/ الوفي الغراب (غراب
ادغار ألن بوالناعق: هيهات !) أنا الغابة في غابة
وحدي / التف على نفسي وليس لي/ أن أبدأ أو
أنتهي، أنا ولدي وأبي/ ارتقي درجا/ لا أعرف أين
يؤدي عارفا أن كل ساعة هي الأولى والأخيرة – أرتقي
درجا وأسمع صوتا ورائي "اسمعني، اسمعني آخر مرة
وأدرك وجهك نحوي" (الديوان، ص 6/7).
هكذا تلتف القصيدة على نفسها، لتعلن من جديد، في نوع، من التكرير الايقاعي، طابع العزلة الادغالية، المميزة للذات الشعرية المنخرطة في تجربة الكتابة، لتوسع بعد ذلك من صيغة السلب المؤكد على اكتفاء الذات المتلفظة بنفسها واستغنائها عن الأب والابن الرمزيين (دون الام) لانها تجدها في ذاتها. وهو الاستغناء الذي يترجم نصيا في كتابة، تكاد تكون بداية مطلقة في الشعر العربي المعاصر (متخلصة من سلطة الأب ) من هنا طابع المغامرة المفتوحة على أفق المجهول، وأيضا طابع الحسية الدنيوية المتخلصة من أوهام التواصل المتطلع الى تغيير الحياة – العالم. والقارئ مدعو الى قبول هذا التعاقد الضمني في الكتابة، اذا رغب في التفاعل، مع نصوص رحالة، جادة في كشف الجراح الوجودية الأصلية، لحظة انجلاء الوهم، وزوال مساحيق الايديولوجيا الكاشفة عن ترهل العالم.
عبر هذا التعاقد، تصر الذات المتلفظة في النهاية، على ارتقاء "درج" الكتابة، هذا الدرج الذي يوحي. رمزيا، بفعل الارتقاء، بالصعود درجة درجات، فوق الأرض / تجاه السماء. وهي ايحاءات تشير الى دور الكتابة الشعرية، في التسامي بأشياء الحياة ورفعها الى جلال الفن، الشيء الذي يضفي عليها لمسة سحرية قادمة من التباس الاستعارات الغامضة، المتحدرة من مناطق العتمة في أصقاع النفس الانسانية.
والذات الشاعرة، اذ تخطو خطوتها في مصعد الكتابة، تسع صوتا قادما، من الخلف يلتمس منها الاستماع اليه، وادارة الوجه نحوه آخر مرة. غير ان القصيدة تنتهي هكذا فجأة، تاركة قارئها أمام حيرة التأويل، لا يعرف من صاحب الصوت وما مضمون كلامه. وانطلاقا من عنوان النص، وانشغالاته الجمالية، يمكننا ان نفترض بأن الصوت صادر عن "قارئ الكتاب" الذي يرغب في ملء بعض مواقع اللا تحديد التي تركتها هذه التجربة في تلقيه الجمالي. وهي رغبة يمكن ان نقرأ فيها تطلعا، ربما، أحادي الجانب، الى خلق تعاضد قرائي بين الشاعر والقارئ. ومثلما تصمت القصيدة عن مصدر الصوت، تصمت ايضا من رد فعل المشاعر ومدى استجابته لرغبة الصوت / القارئ، واغلب الظن ان القصائد الأخرى في الكتب / الأبواب الأربعة التي تتكون منها المجموعة، ستجيب، مداورة، عن ذلك.
3- الشعر والتجربة العبور
يتقدم الشعر، في كتاب سركون بولص الأخير، باعتباره ديوانا للحياة، الذات فيه عربية – أشورية تعبرها اللغات- السلالات، في عبورها للعالم، عبر المرأة، وللمرأة عبر العالم أصقاع بعيدة في البلدان والاخيلة تروض داخل استعارة شعرية جامحة منشغلة حد الهوس بالتجربة، الشعر فيها لا ينتج عن تأمل ذهني بارد، بل عن انخراط مباشر في حمأة العالم، والانصات الى دبيب الأعصاب وتذوق ملوحة العرق. القدم تسعى أبدا والعين ترصد الأشياء عبر شحنها بطاقة الشعر الخلاقة، والاشياء تتحول من وجود بارد وغفل الى اعتقالات حيوية لأنها قادمة من أنا شعرية – سردية تذوت تجربة الخوض في العالم. العالم مضطرب كالبحر لا استقرار لامواجه. وضع قلق يسم الذات بدوام الهجرة والترحال.
من هنا: نتوقف، دائما، في هذا العمل الشعري المتميز مع الانقطاعات: نهاية شيء ما، علاقة ما، حافز ما، حياة ما، وشعور معين. من قصيدة لاخرى، لا نصادف الـ "النهايات" و "سباق المسافات الطويلة" نحو وهم سرعان ما يتكشف عن سراب. نحن اذن بين يدي شعر الهجرة وانجلاء الأوهام، وانكسار الذات الى رقع فسيفسائية. ذات تعيش استحالة لحم أجزائها المتناثرة الشيء الذي يسم التجربة الشعرية الصادرة منها بحس مأساوي شفاف، كل حضور مشع يخفي مأساة كبيرة. لانه سليل كسر النظام ونتيجة حتمية لفعل باذخ: سرقة النار المقدسة وما تتتبعه من لعنة مباركة. مباركة لانها "فانوس" يضيء ليل الحقيقة: ليل الكائنات والأشباح والبشر المكدودين. أعصاب هؤلاء وعظامهم تظهر من ثنايا القصائد، بينما صراخهم يبقى بعيدا، ولا يصلنا الا ما يردده الخلاء أو الجدران من أصداء / آهات. من هنا فالمجموعة، رغم، غرقها في حمأة الحياة، فهي تخرج سليمة، معافاة، الا من قلق الشعر في رصد تبدلات المصائر، دونما تحليل أو تنظير أو توجيه أو أدلجة، مع هذا الحرص الشديد على الطراوة، وتجنب اللغة الاصطناعية الميتة والتراكيب الشعرية الجاهزة. انه البدء الذي يعرق دائما ليبدأ من الأشياء الى الكلمات. من الانسان في أوضاعه المختلفة، مع ميل الى السلبية، الى القصيدة متحررة من كل ارغام أو قيم جمالية مسبقة، ولو من داخل شعريات النثر الجديدة، كل هجرة تدفع نحو بداية جديدة، لترسم أفق "سندباد" دائم.
هذه التيمة الاثيرة لدى سركون بولص، مع ما يعتمل داخلها من حب ونوستالجيا غير مقيدة، تتحول الى استعارة نقدية واصفة لرهاناته الشعرية. من هنا، فالتجربة الشعرية، تعبر، بشكل مضاعف، عن أفقها الجمالي، في ذات الوقت الذي تعبر فيه عن متخيلها الشعري، وهذه علامة فارقة في الانفجار الثاني والثالث لشعر الحداثة. تسم نصوص فاضل العزاوي، قاسم حداد، محمد بنيس، أمجد ناصر، سيف الرحبي، نوري الجراح، حسن نجمي، محمد الصابر، وشعراء آخرين مع خصوصيات تهم عالم كل شاعر على حدة.
4- العبور الى العالم عبر المرأة
العبور الى المرأة عبر العالم
يتقدم ديوان "حامل الفانوس في ليل الذئاب" باعتباره تجربة عبور مضاعفة. مرة تكون وجهتها العالم وأخرى المرأة. عنصران يجعلان تجربة العبور على قدر كبير من الألم – المتعة، فيمنحان الذات مبرر انوجادها الهش. الارتماء في أحضان العالم / المرأة، عبر تبديل مستمر للمواقع: من الخارج المعبور بالذات، الى الداخل المذوت للعالم. الحياة استعارة نهرية أصلية والذات لا يسعها الا أن تكون كذلك مع سمة أساس: التدفق والاستمرار مؤزمان بالانحباس والانقطاع. بحثا عن اتجاه حركي آخر، عن حافز أقوى سرعان ما يتكشف عن وهم كبير. من هنا على الذات، أن تكون سيدة قدرها. عليها الهروب من حتف الى آخر، عليها تقطير اللحظات، والارتماء الحر في هاوية الحياة، المصائر لا تهم كثيرا، أمام جمال الاندفاعات النهرية، أمام متع الطريق وأهوالها اللذيذة. المأساة متأصلة، لكن الجموح أجدى، لذلك لا بد من فتح الأحداق على سعتها لالتقاط مشهد الجرح الباذخ. لرسم ملامح الجنازة / الوليمة. لابد من فتح أفق الأنا الشعرية وتغيير مسارها: التحول من الغنائية الى السردية المتوترة، ذات الحساسية المفرطة تجاه تبدل الأشياء وانقطاع العلاقات. الأنا الشعرية – السردية تتوسع وتصبح في رحابة العالم، لانها مقبورة بأناسه وفوضاه، لترتسم في النهاية ملامح عالم شعري، لا قيمي، تركيبا، وايقاعا، معجما ومتخيلا شعريا، عالم تظهر من خلاله قدرة الشاعر على صهر أعناق المتنافرات، أو المجاورة بين عناصرها في كرم شعري خلاق.
العبور الى العالم عبر المرأة، والعبور الى المرأة عبر العالم، وحدتان دلاليتان مداخلتان تتبادلان الاضاءة لرسم متخيل تجربة العبور، وفي كل مرة يرتفع مكونا، سواء "العالم" أو "المرأة" ليشكل مهيمنة جمالية تحكم التجربة وتجعلها مشدودة الى أفق دلالي مخصوص. وتبدل مواقع الهيمنة الجمالية وانفتاحها على دبيب الحياة، يسم الديوان بالتنوع والغنى والامتلاء. هكذا لن يكون الفصل بين الوحدتين الدلاليتين الا اجراء منهجيا شكليا، ييسر رصد مغامرة الأنا الشعرية، السردية في رسمها للجغرافية السرية لمتخيل العبور.
4-1- العبور الى العالم عبر المرأة
هذه أول وحدة دلالية، تسعي مقاربتنا النقدية الى اضاءتها. وهي وفي ذات الوقت، أول لحظة دلالية يسعى النص الى تشييد متخيلها، مستعيدا بذلك هاجسا شعريا قديما، ترسمت ملامحه الأولى في الكتاب الأول للشاعر الوصول الى مدينة أين / 1985) ومختلف الوحدات المعجمية التي يتكون منها هذا العنوان، تقي بهذا الانشغال بالعالم، بالمدن، بالفضاءات البكر والأصقاع المجهولة. ذات الانشغال يتجدد في هذه التجربة من خلال موتيف (حافز) شعري أقوى، وهو المرأة.
تكاد تكون الحركة دائمة في هذه الوحدة. الشيء الذي يدفعنا للحديث عن نزوع موجي يخترق الذات في تفاعلها بالعالم. من هنا، هذا الهدير الدائم المحمل برطوبة مالحة، هي رطوبة الحياة ذاتها. دائما، هناك مسافة تطوي لتنفتح أخرى. فيما تكون المرأة / الموسيقى فترة استراحة قصيرة، يعرف فيها الجسد عودته الى الرحم: مثلما يعرف فيها تساميه حتى عبر انحداره الكبير. عرق الطريق يكاد ينز من جلد الكلمات، وانفاس المتعبين تخترق المسام، ونحن نعبر من قصيدة لأخرى. فيما تبقى أصوات السيارات وجلبة الناس ولغط المهاجرين عالقة بالروح، هناك داخل تلك الفوضى تنبثق الكلمة الضرورية، تنبثق قصيدة الخلاص (قصيدة: شاي مع مؤيد الرواي):
– أمامنا علب السجائر / تلك الذخيرة../ من حولنا لغط المهاجرين، صفق الدومينو المتتالي/ على رخام الموائد، ضوضاء كانت أليفة ذات يوم ربما / انبثقت منها مرة أخرى/ وسط الدخان كلمة ولدت هناك ولا تريد أن تموت هنا/ ان لم نقلها نحن من
يقولها/ ومن نحن ان لم نقلها (الديوان.. ص15)
في غياب المرأة، لن يكون هناك، في العالم، أرض صلبة، يمكن للذات الوقوف عليها لن يكون غير العواصف والمهاوي والانجرافات، وبذلك يصبح العالم في هشاشة الطفل، كلاهما معرض للانجراف، للعطب السريع الذي لا تنفع معه استغاثات الرحمة، ولا تضحيات البطل المخلص: الذي مازال يحمل قيما ايجابية رغم انحطاط العالم (قصيدة: شهود على الضاف):
– من يوقف العالم عن الانجراف / أو يسد من أجلنا باب
القيامة، باي صخرة ؟/ لا أحد/ من يعيد الينا القامة
التي تغيب / من يرفع المهد كالطائر من بين مخالب التنين /
أو يوصل اليه الأم الغريقة ؟/ لا أحد/ رجل واحد ألقى
بنفسه لا عنا في التيار / تلقاه النهر الهائج كأنه ذبيحة /
صارع قليلا، صاح مرة / واختفى. (الديوان ص:14).
مطاردة العالم في أصقاعه وتبدلاته: لن تتيسر، اذن، الا عبر المرأة. ومهما كانت العلاقة سريعة، قصيرة، فانها تمنح الذات الطاقة الضرورية لمواصلة تجربة العبور، الانكسار فوق جليد العالم يستدعي في كل مرة، طاقة اللحم المستمدة من مناجم المرأة. من هنا، الحاجة المتجددة اليها: عند كل عبور، من محطة الى اخرى. هذا ما تكشف عنه قصيدة "طقوس الطبيعة" في حركتها الدلالية الأولى:
– قادما من محطة أخرى/ كهذه تركتها/ ورائي/ بانتظار
قطار لا أريده / أن يجيء: كم من الزمن، ساعات، قرون /
أرمق امرأة تشرب شيئا/ في احدى الزوايا/ معها رجل /
سوف تودعه بعد قليل (الديوان، ص:42)
عند كل عبور تلوح امرأة متلففة في ثياب المجهول. امرأة العبور واللقاءات المفاجئة، التي تكشف كل علامة في جسدها، أو في الفضاء المغمور بهالتها، عما يحبك في الزرقة البعيدة من مصائر تجعل جسدها
وليمة متجددة للعبة اللقاء/ الوداع:
– هذا ما تقوله زرقة عينيها المفضلتين تحت / خصلاتها
الذهبية النافرة / هذا ما تقوله / خطوط التماس في بوصلة المصائر،
هذا ما يقوله / جدول اللقاءات والوداعات…
يقول / هذا الجدول السحري/ ان اللقاء والوداع ما هما الا/ توأمان
سياميان تواءما أخيرا/ في الجسد الواحد.
(الديوان، ص42/43)
كل هذه التكهنات الحارة تفضي بالشاعر الى سيارتها الدافئة ثم الى بيتها بالقرية القريبة حث الدفء المضاعف، وحيث الاستقرار لا يكون الا في المهوى السحيق، وعلى طول الطريق، تبدو الفضاءات الجميلة في تبدلاتها السريعة الكاشفة عن رغبة في التلاشي. وهي رغبة ايروتيكية محولة من اقتصاد الذات الى اقتصاد الاشياء:
-… ما عرفت…/ وهو اننا سنذهب معا بعد ساعة (معا
بعد ساعة ) الى بيتها في قرية قريبة / سيارتها دافئة /
وهي تسوق بسرعة / كل الجسور بيضاء تغطيها الثلوج.
غابة تبدو، أفق يغيب / قرميد، سقوف / يرينا / الاسفلت
كم هو راغب / في التلاشي/ تحت عجلاتنا،
وتصلي الطريق من أجلنا
صلاة قصيرة. (الديوان، ص43)
كثيرة هي النصوص التي تلتمع فيها أضواء القرى المجاورة التماعا، يرقص خيالات الرغبة، التماع باهت يخفي أكثر مما يكشف. ويكشف أبعاد الأشياء أكثر مما يسرف فيها. فيجعل الصمت سيد زمن نفسي، تجاور فيه الرغبة في الحياة الرغبة في الموت، وتصبح الموسيقى طاقة روحية تقسو بالأجساد الى مقام الافلاك السيارة. كل هذه الحياة النقية، تستيقظ زمن الليل، حيث تنشط الرغبة وتهيىء للعاشق كل عدة السفر:
– مباركة / هذه القرية / النائمة / وبوركنا نحن الذين
لا ننام: فراشنا على الأرض راسخ / في مطالنا/ النبيذ والسجائر /
قطوف على موجة الستيريو/ جسدا الى جسد مع الأفلاك.
نام "سيد المغنين" نام فاوست / نام أهالي الراين.
(الديوان، ص44)
نوم اذن في الخارج وحياة في الداخل، حيث تشع شاعرية البيت الايروتيكي، بثلوج نوافذه وستائرها، كل ما يعتمل في الخارج، من عناصر الطبيعة، يبئر هذا البيت ويجعل كائناته الأدبية تنخرط في أحلام يقظة، محفزة بموسيقى نارية، تقذف بالأجساد بعيدا في مجاهل الشرق. انه العبور الرمزي المتجدد عبر طاقة موسيقية، ذات اشاعات استعارية ايروتيكية:
– ريح تعذب مفاصل الباب / "الرجل الذئب" في الخارج
يعوي.. دعيه يعوي. ضعي اسطوانة / ضعي بوب أيلان /
في "ملجأ من العاصفة"/ ضعي رافي شانكار، سيد السيتار/ ليأخذنا
بيديه الى الهند/ سنعبد الليلة نارها/ ودفقة، دفقة نجري الى المصب.
(الديوان، ص 45)
اللقاء أفق وداع دائم، الشيء الذي يجعل انشباكات اللحظة الايروتيكية مفتوحة على احتمالات لحظة الوداع. لحظة الخسارة التي تعيد الذات الى عزلتها الاصلية، وتجعلها بالتالي تنقذف في غياهب العالم، كل عناق لقاء، هو عناق وداع، في ذات الوقت، هكذا تقيم المأساة في جذر الفرح، وتنفتح السعادة الايروتيكية على مهاوي الشقاء الابدي (قصيدة:
ماذا نفعل الآن ؟):
– هذه الساعة التي ستدنينا/ أو تفرقنا او تذكرنا بأن ليلتنا هذه / قد تكون الأخيرة، ونعرف انها خسارة أخرى/ سيعتاد عليها القلب مع الوقت / فالوقت ذلك المبضع / في يد جراح مخبول سيعلمنا الا ننخدع بوهم الثبات:
"أقل مما يكفي، أكثر مما نحتاج" (الديوان، ص31-32)
المرأة اذن، في هذا المستوى الدلالي، ما هي الا موتيف شعري لعبور العالم. من هنا هذا الاحساس الحاد بالزمن، لكن اذا كان الانسان لم يختر ولادته، فهو على الاقل يستطيع أن يقرر مصيره عبر هذا الارتماء الارادي في العالم. ان فعل الانقذاف في الوجود، يعلم الشاعر حرية اختيار اللذائذ الذاتية وكل جماليات السقوط، التي تستطيع وحدها منح الذات سموها، أو على الأقل، مبرر انوجادها:
– كل اطلالة على الهوة خطوة أخرى/ في الطريق
السالكة الى الذروة: ما نفعله الآن. (ص32)
4-2 العبور الى المرأة عبر العالم:
يكبر هاجس المرأة ويصبح العالم بوصلة لها، كل الفضاءات تصبح نقطة جذب باهرة بفضل وجودها الاستثنائي. الفضاءات تتعدد وتبقى المرأة واحدة في تعدد قومياتها، ما من ملامح خارجية تميزها باستثناء صفات الداخل المنعكسة على القسمات. وهي في العمق صفات ذاتية، لأنها محفرة بطاقة شبقية، تنظر في العين وحركة اليدين وبؤر الحرارة، دون أن ينعكس ذلك على نوعية المعجم. فالانتقاءات المعجمية تبقى مع ذلك في حدود رهينة بعيدة عن بذخ الانتهاك. روائع الجنس في هذه التجربة ملطفة بثقافة المؤنث الباذخة، وبعيدة عن الرمزيات "الحيوانية" السادية والبطارية (جورج بطاي). وكلما توغلنا في نصوص هذه التجربة، تقلصت فضاءات الخارج وتعملقت فضاءات الداخل، في اتجاه تشييد شعرية البيت الايروتيكي، ذي الألوان الزاهية والعطور الناعمة، والألحان الآخذة بالأنفاس. كل شتاءات هذا البيت تكون حالمة، لانها تولد دفء التناقض القائم بين ثلوج الخارج وشموش الداخل (قصيدة: اريكة فيرونيكا الزرقاء):
– "كولونيا" باردة طقسها رماد:
اليوم ثلج، بالامس ثلج، وغدا بالتأكيد..
لكن الثلج جميل على الراين، والرمادي لون لا بأس به
عندما تدلك فيرونيكا عازفة الفلوت
الى غرفتها القريبة من الجسر
لتسعل شيئا من فيفالدي، شيئا
من باخ، وتفتح أريكتها الزرقاء
فاذا بها سرير. (الديوان، ص86)
هكذا تتكشف القصيدة، وتخرج من دوخة العالم، الى أمان البيت الايروتيكي، حيث الأنثى تهيىء، الخرائط السرية للمتعة، لتمنى الذات لذة الوصول، وهنا تصبح المرأة القنديل والنوتي العارف بمسالك العبور، وقائد تجربة المهاوي، لكن، داخل هذا البيت، حث تتكشف الحياة وتصبح أشياء العالم الخارجي وكائناته، بمثابة كورال خلفي يواكب انحدارات الداخل. (قصيدة: بيت حواء):
– عيناها/ حين أضل / من تحتي/ ترشدانني/ بيتها/ أعمق صمتا/ من غابة العالم / من حولنا بحر/(البشر لم يخلقوا) وفي الحديقة / طائر ليلي غناؤه رتيب / يواكب انحدارنا/ من هاوية / الى أخرى. (الديوان، ص 85)
كلما أدرك الليل الشاعر، استيقظت بداخله الرغبة، واشتدت حاجته الى دفء البيت الايروتيكي، والرغبة لا ترى الا باللمس، باليد الممدودة نحو بذخ الجسد وهالاته، هناك يقع التماس، وتشرع الذات في تسرد متوتر لحدود التجربة، دونما تحويلها الى تجربة حدود، كما تظهر عند مشاعر كـ جورج بطاي مثلا، ان الشاعر يحرص على استقطار المشهد الجنسي، في صور شعرية حساسة، لكنها غير متهتكة (قصيدة دليل ):
– كلما وسع الظلام حدوده، مددت يدي أمامي/ لألمس جدار النور، لحمك المتألق من الداخل، هالاته / الحمامة تحت يدي، روحك المضطربة في مهب نفسي / عندما نزلت الدرج الحجري، وغبت / ولم تستديري. (الديوان، ص104)
هكذا يتم رصد الانفعال والحركة الانثويين، بأفعال مثيرة، مسرفة، تبدو من خلالها الذات الانثوية، خاضعة لقدرية خفية، هي قدرية الجسد عندما يكون في مهب جسد آخر، مدرب وعارف، وهي أيضا قدرية الجسد المقذوف به في العالم، المتحمس لطريقه داخل مجهول، علاماته شحيحة، و "دليله" أعمى، ومهاويه كثيرة، انها مأساة معاينة الحياة عبر معاناتها، وهذا ما يفرض على الذات ان تكون جزءا من حركة النهر العارمة، ومشاهدا في آن، من هنا هذا الاحساس الحاد بالزمن، هذه الخفة غير المحتملة لكائن رحالة، بحاثة عن وجهه الأول في كل حضن جديد، في نوع من النوستالجيا الشفيفة، التواقة الى استعادة الطفل والرحم معا، انها تجربة استمالة، تجعل الذات تصدح في القصيدة ذاتها، مستعيدة حتى صوت الانثى المتطلعة الى العودة:
– أفي مهاو كهذه نطارد وجهنا الأول / ونهدهد
من كناه في ذراعي من أصبحنا..
"أيا كانت وجهة سيرك، عد في النهاية الي. جسدي
بلادك الأولى" قال صوتها في،
بينما أطوف هنا وهناك. (الديوان، ص:105)
ان تطلع الذات الى استعادة موضوع رغبتها، يظل تطلعا ممزقا بحتمية المصير. من هنا تتم استعادته رمزيا على مستوى التذكر. فاعلية تفكر في الجسد بحرارة القادم من التجربة وبنوستاليجا العاشق، الذي يختزن في المسام والحنايا، رائحة الجسد الآخر، تفاصيله وخرائطه السرية، حيث عنف اللحظة الايروتيكية، يترك وشومه على الجسد. وهنا تنفلت بعض الاستعارات المعادية المخففة، لتسم متخيل العبور نحو الرغبة بجمالية القسوة الاصلية، القائمة في صلب كل فعل ايروتيكي دموي (قصيدة جرد العلاقة ):
– هل كان الفرق سيغيرنا/ لو لم نجد هذه السدود حيث
كنا/ نتوقع أرحب الفضاءات ؟ أنظري / ما فعلته الرغبة
بنفسها، هذه الندبة تحت ضلعي/ تحتوي ليلا بكامله، وأنت:
أعرف أية طريق / سلكتها كل طعنة نحو مركز الرحمات / ندوبك
باللمس تعرفها أصابعي..
أزحت عن وجهك قناعه أحيانا/ على باب كهفك أسقطت
كل جلودي. (الديوان، ص35)
ان هشاشة العالم / الحافة، وجه آخر لهشاشة الذات، جدل قائم في صلب تجربة العبور الى مهاوي اللذة، حيث الحلم طريق آخر لشعرية الايروتيكي المخفف برمزية الحكمة. هكذا، فمثلما يعانق الشيخ صباه، في الذات الشاعرة، ينزع الصبي نحو شيخوخته، حيث تلتمع اشراقات الحكمة المعطرة من تجربة العبور/ الخوض في حافة العالم / الحياة. وهنا تضع الذات الشاعرة – الساردة، حصادها الكبير، ليكون في متناول التداول الشعري، في صفة نصوص / آثار شعرية تخومية ترصد الوعي القائم وحتى الممكن (قصيدة: الحافة وأسرارها):
– على الحافة الهشة التي نصل اليها وكنا طيلة الوقت
نسعى بكل ما فينا من تهور لبلوغها، تلك القشرة الخداعة
من رقيق الجليد على فوهة أخدود ما أطول ما أغرانا في أحلامنا الشبقة بانتهاك ظلامه، هناك حيث الحياة تنكسر بين رجليك كأسا من كريستال عذريتك التي لم يصنها الزمن. نسير ونترك آثارنا: نعرف اننا نمتحن المصير بكل فلذة. (الديوان، ص 46)
ان متاهة العالم، وعزلة الذات وهشاشتها أمام تبدل العلاقات، وحتمية المصائر، تدفعها (الذات) نحو تبني القيم الشعرية الديوتيروسية، التي ستتحول الى طاقة مفجرة لاندفاعات حيوية، يعتبر العبور والترحال والتيه الارادي، أحد أهم تمظهراتها النصية، طبعا في تمفصل دائم مع تجربة الحب، وشاعرية البيت الايروتيكي، حيث المرأة المتواطئة، تفتح جسدها لاستقبال انقذاف الكائن. في نوع من العودة الرمزية الى الرحم. هذه النوستالجيا الاصلية، تسري خلفية اساسية في كل شعر كبير. تتعدد رموز الديونزوسية، في تجربة "حامل الفانوس"، وهي في أحيان كثيرة ترق، لتتمظهر في صفة عطر، أو زجاجة شبانيا، أو ضوء خافت، أو جسد شفاف عار، أو نغمة ليلية ربتها الدياميس، وأطلقتها باتجاه الشاعر لتحمل رأسه، دونما حاجة الى سيف:
(قصيدة: غناء على ايقاع الطبلة والسيتار):
– قل لي أيهما أقوى- الحزن الذي يرفرف مذبوحا /
على ضربة السيتار ولا يموت أم ذلك الحزن / الاضافي، ذلك الحزن /
الاضافي، ذلك الدرويش الذي يقع على ضفة الكنج/ بانتظار النيرفانا/
ذلك الضيف الذي جاء بلا سيف الى بيتي/ لكنه مضى حاملا رأسي (الديوان، ص 98).
غير أن كل هذه العناصر الديونيزوسية، تظل على صلة وثيقة بالمرأة، بالعالم، لتشكل في تضافر معهما، نسغ تجربة شعرية مأخوذة بهاجس العبور، حيث التخوم والاصقاع، الشموس والثلوج، لتنفجر عبر كل ذلك، نصوصا شعرية باذخة، تعتبر المظهر الأكثر ديونزوسية، في هذه التجربة. ان ما نقف عليه مع سركون بولص، بكل الارتجاف الضروري، هو ليل الانسان، وليس ليل الآلهة، رغم ايحاءاتها في هذه التجربة، وفي ذلك تكمن صوفية دنيوية معذبة، تجعل من الشاعر برومتيوس الحياة الشعرية، الانسانية المعاصرة، من خلال ذلك السفر الدائم وراء اللهب.
الهوامش
1- سركون بولص: حامل الفانوس في ليل الذئاب (شعر) منشورات الجمل 1996.
2- 03P.. siassE oiloF /ueF ud esylamahcusp aL :dralehcaB no tsaG.
3- المرجع ذاته، ص 31.
نبيل منصر (شاعر من المغرب)