يعتبر د.سعيد علوش أحد أهمّ الأصوات الإبداعية والنقدية في الوطن العربي؛ يجمع بين الكتابة الروائية والكتابة النقدية التي تعتمد على القراءة الموضوعاتية والتأويل وهرمينوطيقا النصوص، تنتمي أعماله الروائية إلى المدرسة الجديدة التي لا تستقر على شكل واحد وثابت، بل تمتلك أشكالا تعبيرية تكسر كل جاهزية، غير مرتهنة للمقولات النهائية والمغلقة، وتظل في بحث دؤوب عن أشكال جديدة للتعبير بعيدا عن كل نمطية وضيق أفق، إيمانا منه أن السرد الروائي لا يوثر النمذجة والاستقرار داخل شكل ثابت، بل يظل مفتوحا على التنوع وتوظيف الأبعاد اللعبية، التي تسائل الواقع وتشكك في يقينياته وثوابته، وتلج عالم الاحتمالات واللايقين. وتنفتح على فضاء السؤال اللامحدود.
وقد بدا هذا اللعب الروائي واضحا في روايته «كاميكاز» الصادرة سنة 2010 التي كسرت «أفق انتظار» المتلقي، حيث فضحت هذا العالم المعقد وانتقدته في الآن ذاته، وحيث التعالق بين سلطة المال والإعلام والسياسة لمسخ الحقيقة.
ورواية «سيرك عمار» هي أيضا تكسر «أفق انتظار» القارئ؛ بحيث تتأسس على بنيات لعبية تستفزنا لممارسة اللعب، وكتابة نص على نص والمغامرة في التفسير والتأويل اللانهائي على اعتبار أن «النص آلة كسولة» كما يقول أمبرتو إيكو، وقارئ روايات د.علوش اللعبية، من الضروري وهو يلج مغامرة التأويل واستنطاق النصوص، أن يصطدم بمتعة القراءة وبالعمق المعرفي والفكري الذي ينهل من مرجعيات عدة «دينية,سياسية، شعرية، شعبية، تاريخية…», تجعل تأويلاتنا حذرة وملغومة بالكثير من المخاطر والصعوبات، ليستفز بعنف قراءاتنا القبلية أو مايسميها ستانلي فيش بـ«استراتيجيات التأويل»، على اعتبار أن القارئ لا يمكن أن يلج عوالم روايات سعيد علوش خاصة وباقي الروايات الأخرى، ورأسه صفحة بيضاء.
«سيرك عمار» بين الواقعي والتخييلي
تستند رواية «سيرك عمار» إلى مرجعية تاريخية واقعية، متمثلة في مسار «سيرك آل عمار» عبر التاريخ، هو استناد يلوذ بذاكرة أيقونية أدرجها الكاتب في روايته، ذاكرة تفقد جذورها وهويتها عبر التاريخ وتستعيد أفقها عبر خيال الكاتب، ذلك «أن الأمم، مثل السرديات، تفقد جذورها في خضم الزمان والأساطير ولا تستعيد أفقها إلا في الخيال» حسب هومي بابا، ليعيد الكاتب عبر أفق جمالي إبداعي متجدد ما بعد حداثي، صياغة هوية مرتبكة متذبذبة مشتتة، ويمنحها هوية جديدة، على اعتبار أن السرد يُكون الهوية حسب بول ريكور، ذاكرة ينعشها ألبوم صور عائلة «آل عمار» التي عرفها الواقع الفعلي في الغرب، وأكدت حضورها في دول غربية وعربية خلال الفترة الأولى من القرن العشرين، واستطاعت إدهاش العالم بعروض فرجوية مثيرة، لكن استنادا للجنس الإبداعي الذي تم تحديده على غلاف الرواية، فإن الأمر لا يتعلق بسيرة غيرية «لفرقة آل عمار» ولا بتوثيق فوتوغرافي وإن تم تأثيثها بصور فوتوغرافية للسيرك ولأبطاله الحقيقيين، بل حكاية «آل عمار» هي ذلك الإطار الواقعي الذي تشكلت من حركاته السحرية البهلوانية، أفضية إبداعية متخيلة لسيرك أكبر هو سيرك الحياة. هو انزياح أيقوني لسيرة «آل عمار»، على اعتبار أن القراءات اللانهائية والممكنة للنص لا يمكن أن تتحقق إلا بالانفصال عن العالم الحقيقي حسب ديفيد كارتر في «النظرية الأدبية»، لتتغير ملامح الحكاية وتتشكل من جديد في إطار لعبي ساخر ومتخيل وماكر، حيث الجد والهزل، وحيث اللعب أصدق أنباء من الجد، وحيث المحاكاة الساخرة والمواقف الهزلية والتوظيف الساخر لأسماء بعض أعلام السياسة والثقافة والمعرفة…، وحيث الحكاية المتخيلة للجد الأول «حميمو بن عمار بن القايد»في عروش برج بوعريريج الجزائرية الذي هاجر إلى فرنسا رفقة صديقه الفرنسي «كامي أدولفو»، وأقام في قرية لالوزير وتزوج من ابنته وساعده في الإشراف على الضيعة والسيرك إلى أن رُزق بـ«دزينة» (12من الأبناء والأحفاد)، أبدعت بفنية عالية في سيرك عمار وحولته إلى أسطورة، من خلال الكثير من العروض المبهرة والتجارب السينمائية والإنسانية الراقية «بهلوان المستعجلات».
أما واقعيا، فقد تمكن أبناء آل عمار وأحفاده من الاندماج بقوة في المجتمع الفرنسي، برغم كل أخطائهم وزلاتهم، ليتم تعميدهم، بحيث لم تعد تربطهم بالجزائر الأصل سوى أسماء عربية، ليكتسب «آل عمار» هوية فرجوية إمتاعية أكثر منها هوية قبائلية جزائرية نسبة إلى جدهم الأكبر القايد بن القايد.
فنحن إذن، أمام بنية سردية تتأرجح بين ماهو واقعي وماهو سحري، لتغدو الرواية أشبه ب»برزخ» ينسج حدودا بين البنيتين الواقعية والتخيلية، ويمحوها في الآن نفسه، لتتماهيا معا في إطار واقعي سحري، استنادا لوظيفتي الفصل والوصل البرزخي عند ابن عربي.
البهلوان ولعبة الاقنعة:
بخفة الساحر، وبألعاب بهلوانية، يفتتح البهلوان الواقف على عتبة الغلاف، باب الرواية للولوج إلى سيرك أكبر هو سيرك الحياة، حيث الحيوانات في «الإهداء» تبدو أصدق أنباء من الإنسان، وحيث صمتها يلقن الإنسان «حكمة الأولياء»، كما يضمن له التأمل العميق في «العناصر الأربعة» بدون تشويش، هي أنسنة للحيوان، ليهدي الكاتب روايته إلى الكثير من الحيوانات الوفية:
إلى شاطونات لافوازين
وبيك بيرجي
وباك دوبرمان
الذين لقنوني فنون
تكليم صم وخرس وبكم الحارة
التحديق في النار والحجر والماء والهواء
…………………….(الاهداء)
في سيرك الحياة الأكبر والمتخيل عند الكاتب،»الأرزاق كالأعمار توزع وتنزع، ولك الساعة التي أنت فيها، أنت اليوم بهلوان فيرلان وغدا بهلوان ميشال تورنيي وبعد غد بهلوان متشائل….. «(ص150 )، ولا أحد يسلم من الحيوانية ومن ملامح البهلوان، بدءا من القايد والجد الأكبر حمو بن حمو «سليل القرصان» والذي رفض مساعدة الأمير عبد القادر الجزائري متذرعا بـ«أنفة القبايلي» الموهومة: «كل العروش التي راسلها الأمير عبدالقادر مستنهضا لمواجهة الغاليين استجابت أو اعتذرت إلا القايد بن القايد الذي تجاهل أمير الغرب……»ص21، لكنه يتحول إلى بهلوان تتقافز عليه القردة «فالأسد عندما يكبر تتقافز على ظهره القردة، هذا ما ردده الفقيه وهو يرى القائد بن القائد يقف أمام المقيم العام الغالي مؤديا آيات الولاء والطاعة للرجال البيضان»، ثم تتوهج صفة البهلوانية بقوة في فلذة كبده «حميمو»ابن عمار بن القائد، الذي خدم فرنسا أكثر من الفرنسيين أنفسهم، هو يشبه والده خِلقة لكن يختلف عنه خلقا، هو حمار الطاحونة الاستعمارية الفرنسية يقول «حميمو» مخاطبا الحمار:»أنت مثلي حْرَكْت وقطعت البحر» ص 75، هو امتداد للمستعمِر في الأراضي الجزائرية، والمتشرب حتى النخاع بفكره الاستعماري، «حميمو» الشخصية الرئيسة والمركبة في الرواية، الذي وهنت علاقته بهويته وثقافته الأصلية إلى درجة الانسلاخ، ففي حوار للفقيه مع حميمو بعد إنقاذه من البئر:
-ألا تقرأ آية الكرسي!
فتلعثم وهو يرد مخدرا:
– ما أنا بقارئ، ما قرأت…ص14
مصير استلابي تام لشخصية «حميمو»، ينسجه بإتقان ظهور المربية الفرنسية «كاترين دونوف» التي غرست في تربته الهشة المطواعة قيما فرنسية دخيلة، يقول السارد عن أمه الشركسية: «وقد توسمت فيه كل سمة وهي تشرف على تربيته ولا تدري كيف طلبت من كاترين دونوف تعليمه الغالية وهي تتحين أوقات فراغ الفقيه…»ص21.
هذا التأرجح بين ماهو «مقدس» و«مدنس»، يجعل «حميمو» يعيش في كوابيس دائمة، وفي حالة تمزق داخلي بين أصول إسلامية يتم اللوذ بها في «ملمات المرض والموت والفجيعة»ص21، وبين خوفه من الآخر المبهر، وذلك حين يحذره في حلمه «فقير حياتن» من مصاحبة الكاورية البيضان» ص54، لكن إغراء الآخر يبدو قويا، وليس من السهل الانفلات من إساره، فبمجرد يقظته سيستنجد بالنبيذ والسيجارة كي يطفئ قلقه، لينتهي به الأمر في آخر الرواية، مقطوع الرأس الشمعي من طرف «يميني مترف» 424، ويعني به «يميني متطرف» بعد أن تم نحث تمثاله في متحف سيرك آل عمار بفرنسا.
فحتى ولو ذاب في كيان الآخر، سيبقى عنصرا دخيلا مشوشا على النسق المجتمعي الفرنسي، ف»احميمو» يحيل ضمنيا إلى الشباب المغاربي الذي يعاني من صراع ولا استقرار داخلي، أوهمته الدولة الفرنسية بأنه فرنسي بحقوق فرنسية، فتنازل عن دينه وتقاليده وربما حتى عن لون شعره، فرحا بهذه «البطاقة السحرية» التي ستدخله للمجتمع الفرنسي من بابه الواسع، لكن سرعان ما تنبه إلى الوهم الذي يعيشه، فلا هو فرنسي بكامل حقوقه، ولا هو مسلم بكامل تقاليده وعقيدته، وقد يتعرض لرفض الآخر حتى وهو في حضن الثرى.
انشطار وضياع للهوية سينقدح زنادها بشراسة، بسفر «حميمو» إلى قرية للالوزير صحبة «أدولفو كامي» خادم فرنسا المطيع في أراضيها المستعمَرة، ثم الزواج من ابنته، هي نهاية لكوابيسه وتمزقه الداخلي، وبداية الانصهار الكلي بالآخر، تقول زوجة كامي: «وبالضبط هذا الاندماج هو ما يهمني، يبدوا أنه دخل في اندماج حقيقي معنا»، فكامي بونفو ابن فرنسا وخادمها البليد، شُحن في البداية نحو برج بوعريريج بالجزائر كـ«بهيمة ربانية مسيحية في مملكة أنديجين، أقصى ما تحمله رقم خدمة مدنية في مستعمرة تدر الحليب»ص35، ليرتدي قناعين، قناع لكي يتقرب من «الأنديجين» وهم أهالي الجزائر، وقناع كي يرضي الإقامة العامة الفرنسية، واستعماله للقناعين معا هو إرضاء لمصالح فرنسا، لكنه يظل أكبر بهلوان، سلط عليه السارد كل سهام السخرية والمسخ، فهو «خنزير «أوهمته فرنسا بالخدمة المدنية لكنه في الأصل سيكلف بالخدمة العسكرية، «والحق أن كامي كان يعيش بوجهين ولسانين منحاه ثقة لانديجين والمعمرين على السواء»ص44. كامي بونفو هو أيضا رجل «بطنة لا فطنة»، لكنه سرعان ما سيستفيق من بطنته عندما يحدث قتل ثلاثة أشخاص في حفل يتحول إلى مأساة، ليجد نفسه متورطا فيما هو أكبر من مجرد خدمة مدنية.لينتهي به الأمر في قرية لالوزير الفرنسية، متشبعا بجنون عظمة موهوم، خلقته لديه إقامتة الجبرية بالجزائر، هو جنون عظمة فرنسا المتضخم والذي لم يبرحها إلى الآن. فكامي يعد أكبر مهرج، لكنه لم يخرج من مهمته خاوي الوفاض، بل عاد إلى قرية لالوزير بكبش فداء لا تربطه بأصوله العربية سوى اسم لم يخل من تصغير وتحقير من طرف السارد «حميمو».
أما «شقية عمار» فهي آخر ما تبقى من سلالة آل عمار، «عاشقة الكوار»417،: «أنا شقية عمار آخر فرع شجرة آل عمار لي البحر والرياح الأربع, أنا آخر ذريتكم التي لاتضحك لها المرايا والسطوح ولا تحتفي بها الأشباح, أنا من تضع حدا للجاه والباه, مرددة بانتصار (لا عاهرات ولا لوطيات) هذا هو شعاري لغزو عالم ما وراء البحر والسماء «ص18، لا تربطها بأصولها القبايلية الجزائرية سوى الملامح والاسم، وزيرة في حكومة «شاركو»، هي ليست «محبوبة الضواحي» كما يتوهم المغاربيون، بل خادمة مطيعة للمصالح الفرنسية، هي تحيل رمزيا لسياسة الانتقاء التي تنهجها فرنسا، و «نموذجا» حيا لسياسة الاندماج القوي حد الذوبان، التي عجزت عن تحقيقها بعض الأقليات المهاجرة من أصول عربية ومسلمة، بل هي «أمثولة» حية للانخراط في المجتمع المضيف بإصرار وبمسؤولية دون الشعور بأي تقزيم أو مركب نقص تجاه الآخر.
ورغم السرد الكرونولوجي المحبك الذي يسم بناء الرواية، فالرواية ظلت تتوسل بأشكال لعبية تكسر رتابتها، عبر المواقف الهزلية والتوظيف الساخر لأسماء بعض أعلام السياسة والثقافة والمعرفة، وسرد موشى ببياضات ونقط حذف وبصمت متناثر ضاج، يحرض القارئ على استنطاقه استنادا طبعا إلى مرجعيات تاريخية ودينية وسياسية وثقافية، بحيث يحثنا «سليل القرصان» للعودة لتاريخ القرصنة بالمغرب الكبير، وعدم استجابة القايد بلقايد للأمير عبد القادر الجزائري للعودة إلى تاريخ القبائل بهاته المنطقة، وعلاقة كارولينا بـ«عشاق ملال» تحفزنا لقراءة جديدة للعلاقات العربية الاسبانية، و»لصراع الأديان»، وما يكتنفها من تراكمات تاريخية وسياسية تؤثر على هذا اللقاء الحضاري الآني»معركة أنوال مثلا واندحار الجيش الاسباني»، هي دعوة ضمنية لإماطة اللثام عن المخبوء في تاريخنا، وكتابته بأقلامنا، عوض تركه عرضة لنهب الآخر وتزييفه، هو عمل إبداعي لا يحترف الاختلاق والإقصاء وتنضيد ذاكرة الأنا وتجييش المتخيل ضد الآخر ولا الفبركة والتلفيق والتلاعب بمشهديات من تاريخ المستعمِر، كما عهدنا في كتابات انبجست في سياق استعماري، بل تعمل على عملية الفضح والتعرية للمستعمِر والمستعمَر معا، بنوع من الباروديا أوالمحاكاة الساخرة.
وتعد تقنية المسخ من بين التقنيات الفنية التي وظفها الكاتب بقوة في روايته، وهي تقنية استعملها الغرب وخاصة جيمس جويس وكافكا، كما وظفها بعض الكتاب المغاربة كمحمد الهرادي في روايته «أحلام بقرة»، ومحمد زفزاف في روايته «المرأة والوردة»…، ولها أصول أسطورية خرافية، بحيث كلما غضبت الآلهة على الأشرار تمسخهم حيوانات، وغضب السارد على بعض شخصياته، وسمه بسيماء القسوة والغضب، لينزل بهم سوط عقابه على السواء مستعمِرا كان أو مستعمَرا، بحيث يغدو «حميمو» حمارا، و»كامي» خنزيرا، والساسة بأقنعة حيوانية…، هو نقد قاس للذات والكشف عن عيوبها وهفواتها، عوض تعليق أخطائها على شجرة الآخر.
تندرج رواية «سيرك عمار» ضمن روايات ما بعد الاستعمار التي لا يمكن قراءتها كقيمة جمالية فقط وإغفال القيم الثقافية والاجتماعية والسياسية التي ترشح بها، وهذا ما راهنت عليه نظريات ما بعد البنيوية الني تسللت من القراءة الشكلانية للأدب المتسمة بمحدوديتها وضيق أفقها، إلى قراءة أكثر رحابة تلتقط مشهديات سياسية واجتماعية وثقافية وتعيد ترصيصها في إطار نقدي قاس وساخر في الآن نفسه، هي رواية تنخرط في إطار مشروع روائي للكاتب يعمل فيه على انتقاد ولائية الذات وامتثاليتها وخنوعها واستلابها، وكذا الوجود الاستعماري في الدول المغاربية، وما استتبع عن هذا الوجود من تشوهات وتهجين وانسلاخ عن الأصول مثلثها شخصية «أحميمو» المتشبعة بالثقافة الاستعمارية أحسن تمثيل، وما أنجب هذا الوجود من وضع متوتر ومشوش وقلق لأجيال تخلت عن تقاليدها ودينها ومعتقداتها من أجل وهم الاندماج في النسق الثقافي الفرنسي، لكنها ظلت بالنسبة لفرنسا عنصرا دخيلا مقحما غريبا حتى وهي بين القبور.
المصدر:
رواية «سيرك عمار»، سعيد علوش، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الطبعة الأولى،.2008.