جوزيف كورتيس**
ترجمة: رشيد بن مالك- باحث وأكاديمي جزائري
خلافا للسيميولوجيا التي تقتصر فقط على المنحى الإيحائي للنصوص واختزالها بصورة أولى إلى تحليل بعض الشفرات الاصطناعية البديلة، فإن السيميائيات السردية والخطابية تتوافق في الكثير من النقاط مع مرامي البلاغة -حتى وإن اختلفت المنظورات- يمكن أن توجد العديد من العناصر المقترنة بالكشف عن الحجج (inventio) وتنظيمها (dispo-sito) والأسلوب (elocutio) -بعد إجراء بعض التعديلات- في تنظيم الخطاب، كما تتصورها السيميائيات في الصيغة الاستبدالية والنظمية. غير أن المماثلة لا تكون سوى جزئية ما دامت غاية البلاغة معيارية (وغير وصفية) وتنظر فقط في الخطابات الإقناعية، باستثناء، مثلا، الخطابات التأويلية.
ليس من دون بعض المخاوف أن يقترح السيميائي فحص العلاقات التي يتوقعها أو يتنبأ بها بين تخصصه الخاص والبلاغة. فالمشكلة الأساسية تأتي في المقام الأول من جهله الملموس لمعرفة فعل خطابية يرجع تاريخها إلى ما يزيد على ألف سنة وأصبحت الآن موضوع فضول أو تحفة فنية أكثر من كونها “تقنية” حقيقية قيد الاستعمال. من جهة أخرى، إذا كانت البلاغة -بقطع النظر عن التحولات التي ميزتها تاريخيا، والاختزالات، والتفككات التي مستها- تشكل نظريةً للخطاب تعنى بطرق تفكير سائدة قبل ظهور العلم، ونوعًا من “الميتالغة” المتماسك والمبني، فإن السيميائيات اليوم بعيدة عن تمثيل مجموعة من المبادئ العضوية والموحدة: تحت مظهرها المفرد تتخفى مجموعة من المفاهيم والمقاربات المتباينة بل والمتناقضة ليس لها ما يجمعها في الغالب سوى ماض قصير جدا!
ولن يتم تجاوز هذه العقبة الأخيرة إلا بصورة مؤقتة، على حساب الاختزال الكبير. لا نتحدث هنا سوى عن وجهة نظرنا (مع أ.ج.غريماس) واستنادا إلى مشروعـ”نا” العلمي (المشروح جزئيا في مدخل إلى السيميائيات السردية والخطابية، طبعة هاشيت 1976، وعلى نحو أوفى في القاموس المعقلن في نظرية اللغة) حيث لا يسعنا أن نقدم عنه سوى لمحة موجزة جدا وبعض المقاطع. في مجالي البلاغة أو السيميائيات، ستكون هذه الصفحات القليلة ملمحة للغاية، إن لم تكن كاريكاتورية، فعرض مثل هذه الإشكالية يتجاوز كثيرا أبعاد مقالة، وهذا سيرغمنا على البقاء في مستوى عام جدا (وعادي)، وعلى افتراض -في جملة أمور- من بينها وجود معرفة عند القارئ واسعة إلى حد ما حول مصطلحية (غالبا ما تكون منفرة، وهذا أمر له ما يبرره !) مستعملة ليس فقط في البلاغة بل وفي السيميائيات أيضا، بشكل خاص.
حتى نسلط الأضواء بصورة أفضل على الطريقة التي نتصور بها العلاقات بين البلاغة والسيميائيات، يبدو لنا من الضروري أن نوضح بإيجاز موقفنا النظري بالمقارنة مع المشاريع الأخرى في نفس الوقت المتقاربة جدا والمتباينة، سواء أكانت-إن قليلا أو كثيرا- مكملة أو حصرية.
إن السيميولوجيا التي تصورها ف. دي سوسيرF.de Saussure-بصورة واسعة للغاية- بوصفها دراسة لِـ “أنظمة العلامات”، تحولت عند بعض الأتباع إلى تخصص ملحق باللسانيات، مقتصر على تحليل بعض الشفرات الاصطناعية البديلة، على غرار “قانون المرور”. من هذا المنظور الضيق إلى حد ما، تجدر الإشارة إلى أنه تم الاحتفاظ فقط بـ”النظام” وليس بالسيرورات السيميائية المناسبة حيث تستبعد الممارسات الدالة الأكثر تنوعا (مثل الإيمائية أو الخطاب اللغوي)، ومن الصعب تأييد مثل هذا الموقف ما دام اللسان نفسه ( كنظام) -مثلا- لا يمكن اختزاله إلى صنافة (استبدالية) خالصة لأنه يدمج أيضا -كما أشار إلى ذلك سواء هيالمسلاف Hjelmslev أو شومسكي Chomsky- البنيات التركيبية. على أي حال، من البدهي أن نستبعد تمامًا أي تلاق ممكن أن يجمع هنا بين البلاغة والسيميولوجيا.
في المجال الخاص بالسيميائية اللسانية، هناك تيار مرتبط إلى حد ما مباشرة بالنظرية الكلاسيكية للإعلام والاتصال فرض نفسه تدريجيا في ما وراء المحيط الأطلسي، ومفاده أن “العلامة” -المحددة في الأصل بعلاقة الدال بالمدلول (سوسير) أو التعبير بالمضمون (هيالمسلاف)- يتعين في تشكيلها إدماج العلاقة بالـ”المرجع” (المسمى غير لغوي). ومثل هذا الرفض لاستقلالية (معلنة من سوسير) موضوع اللسانيات، وأشكاله واشتغاله الخاص يفتح الطريق، فيما يبدو، لتفكيكه. تتحول اللسانيات إلى “فلسفة اللغة” ما لم يبتلعها علم النفس، علم الاجتماع، والأنثربولوجيا عمومًا. فـ “السياق” غير اللغوي، المتصور إلى حد ما كمكان للفاعل والتاريخ، هو الوحيد الكفيل بإدراك الأنظمة والسيرورات السيميائية، وصياغة أنماط “إنتاجـ”ها. من هذا المنظور، تصعب معرفة مكان التلاقي بين السيميائيات والبلاغة، مادامت هذه تفترض ضمنيا، كما سنرى ذلك، محايثة اللغة.
في مؤلَّفِه السيميولوجي، شدد ر.بارث R. Barthes -بصورة خاصة- على ظواهر “الإيحاء”، وحاول مفصلتها وفق العلاقة دال/مدلول. هكذا، تكمن الإيديولوجيا إجمالا حسبه” في شكل مدلولات الإيحاء بينما تمثل البلاغة شكل المُوحِيَاتِ”. ومن ثم، وعلى الرغم من وجهات نظره الحصيفة، فإنه وَسَّعَ العلاقة المشكلة للعلامة موليًا في ذلك أهمية كبيرة للحدس الذاتي للواصف، ينتشر دال لغات الإيحاء على امتداد الخطاب وفي مستويات مختلفة جدا (الصوتية، والفونولوجية، والتركيبية، والدلالية…) ولا يمكن أن يقارب إلا بالتسليم التعسفي المسبق للمدلول. ولما كانت الموحيات تنتمي إلى مستويات لغوية مختلفة، فإنها لا يمكن أن تشكل مجموعة متجانسة أو تبنى في شكل نموذج إسقاطي.
ما يسمى الآن “السيميائيات الفرنسية” (التي ننتسب إليها) تسعى إلى الأخذ في الاعتبار كل أشكال اللغة الممكنة (انظر أدناه 1) حتى وإن كانت دوافعها المنهجية ذات طبيعة لسانية بالأساس. وخلافا لـ ر. بارث، فإنها تثبت الافتراض المتبادل بين الدال والمدلول؛ وفي معارضتها للتيارات الأنجلو-ساكسونية والوظائفية، تظل وفية لمبدأ المحايثة -حتى لو تعين التنبؤ بالعلاقات بين الأنظمة السيميائية المختلفة (بين اللغة اللفظية واللغة الإيمائية على سبيل المثال)- وبدلا من التقيد بصعيد العلامات، فإنها تهدف إلى استكشاف -بصورة مستقلة- كل واحد من صعيدي اللغة (تعبير/ مضمون) لإدراك التجلي. لا يبدو أن هذه المسلمات الأولية التي حرصنا على التذكير بها لرفع بعض الالتباسات الممكنة تجعل السيميائيات غير جديرة بعقد لقاء مثمر بالبلاغة، وهذا ما يتوجب علينا النظر فيه.
1. في العدد 16 من مجلة التبليغات (1970)Communications المخصصة “للـبحوث البلاغية”، أعرب ر.بارث -في مقدمة مفكرته التي تعرض بطريقة تاريخية ومباشرة “البلاغة القديمة”– عن رغبته “في مواجهة السيميائيات الجديدة بالممارسة القديمة للغة الأدبية التي أطلقت عليها البلاغة على امتداد قرون “(ص.172). ليس من باب المصادفة -بالفعل- إذا تم التقارب بين البلاغة والسيميائيات. فاللسانيون أساسا (رومان جاكوبسون R. Jakobson) والسيميائيون بوجه عام -سواء تعلق الأمر بالمدرسة التطبيقية في الدراسات العليا أو مجموعة لياج Groupe de Liège- هم الذين أعادوا الاعتبار مؤخرًا للبلاغة التي أهملت وفقدت مكانتها على الأقل منذ القرن الماضي، متبعين في ذلك بطريقة معينة نصيحة كاتب فالسطاف Falstaff (التي تناولها من جديد ج. جينيت Genette في “البلاغة المحدودة”): Torniamo all’antico, sarà un progresso “دعنا نعود إلى القديم، سيكون التقدم”.
إن هذه العودة إلى الماضي -التي لا تستلزم بالضرورة التقدم، ولكن يمكن أن تثيره- مربوطة بإشكالية تشترك فيها البلاغة والسيميائيات، والمتمثلة في تنظيم الخطاب.
من المعلوم أن البلاغة ارتبطت في المقام الأول بالخطاب الشفوي، وبسبب تقيدها(اللاحق) بالمكتوب وحده، رأينا اختفاء -بصورة متزامنة- كل ما كان له علاقة في البداية بهذين المكونين الأساسيين في الأصل وهما “الفعل” «actio» (النطقpronuntiatio) والذاكرة (memoria). ومن ثم، أصبحت البلاغة أقرب إلى الكتابة منها إلى الطريقة في الكلام. ومع ذلك يبدو أنها استغلت الإواليات الخطابية التي يمكن تحديدها في أشكال التعبير غير اللغوية : هكذا فإن ك. ميتز C.Metz استطاع أن يبين أن السينما تتقن، بطريقتها، استعمال هذه “الصور” المتمثلة في الاستعارة والمجاز. بعبارة أخرى، ودون تعميم مفرط، فإن البلاغة تتخطى، هنا أو هناك، المادة الأولية التي اتخذتها سندا لها، ومكان ولادتها، كما سبق لرولان بارث وأن شدد على ذلك، فإنها في الحقيقة “ميتالغة” مستقلة، في حدود معينة، عن اللغة- الموضوع المطبقة عليه.
وبالتوازي، فإن السيميائيات (باعتبارها لغة-موضوع) هي أيضا -على الأقل كما نتصورها- تتخطى بصورة واسعة مجال الألسن الطبيعية (على نحو ما تعالجها هذه السيميائية-النظرية الخاصة المتمثلة في اللسانيات) لاحتوائها أيضا تسمية سيميائيات “العالم الطبيعي” (على غرار الموضوعات، السيرورات “الطبيعية”، الإيمائية، البروكسيميا، إلخ…). إن السيميائيات في اشتغالها أول الأمر، وبصورة أساسية، على مستوى أعمق من التجلي (حيث تقع “العلامات”)، فإنها (كنظرية ومنهجية) حافظت على استقلاليتها بالمقارنة مع صعيد التعبير: فـ “القصة” نفسها يمكن أن تروى بدال صوتي(لغوي)، خطي(مكتوب) أو مرئي (صورة) مثلا، أو تستعين بشكل متزامن بالعديد من الدوال الأخرى (شريط مصور، فيلم، باليه، ، أوبرا، إلخ…) في إطار السيميائيات المنعوتة بالانصهارية. ومن جهة أخرى، فإن السيميائيات، على غرار البلاغة، تتحدد بميتالغة صارمة تسعى إلى بنائها لتبرير تنظيم الدلالات وأنماط إنتاجها.
ومع ذلك، فإن البلاغة، منذ وقت طويل، والسيميائيات، منذ ظهورها الحديث العهد، تفرغتا بالفعل في المقام الأول -إن لم يكن من حيث المبدأ على الأقل من منطلقات الواقع- للتنظيم الخطابي، حتى وإن تباينت المرامي الأخيرة لهاتين “الصنعتين” في الحالتين. من المعلوم أن الدراسات الغزيرة في السيميائيات الأدبية خَلَفَتْ على نحو ما المقاربات “الأسلوبية”. إن البحوث حول “الحكاية” -المسماة أحيانا “سرديات”- المنجزة من ف. بروب V. Propp والمعممة في المجال الأدبي سعت كلها مع أكبر أو أقل قدر من النجاح والفعالية إلى معالجة وتنظيم هذه الملفوظات، الأوسع من الجملة، والتي نسميها خطابا. لقد انضافت حاليا إلى اللسانيات الجملية “لسانيات خطابية” يمكن أن تشكل، على أسس جديدة في غاية الاختلاف، ومن بعض النواحي، إعادة صياغة حديثة للبلاغة.
2. دون الخوض في تحليل مقارن مفصل-أصبح صعبًا إن لم يكن مستحيلاً نظرا لتباين المنظورات (قارن 3) التي تَحُولُ في الواقع دون الحصول على أي مماثلة منتظمة -يمكن أن نشير مع ذلك إلى بعض أوجه التقارب، وبعض روابط القرابة بين “التخصصين”.
أ. إذا احتفظنا من “الاكتشاف”inventio فقط بجانبه المتعلق بمدونة “الأماكن المشتركة”، يمكن أن نتصوره على أنه نوع من الصنافة الدلالية(التي لا زالت تحتاج إلى عمل يخص تنظيمها المنطقي- الدلالي) يحينها الخطاب إما في شكل مجرد -وهذا يتوافق في مصطلحيتنا مع “الثيمات”- وإما بطريقة صورية (مع الشخوص والأفعال، إلخ…). من هذا المنظور، فإن “الطوبوسات”topoï قابلة للمماثلة بتنظيم المضمون (الدلالي)، المربوط بالسياق السوسيوثقافي (أو العبر ثقافي). لا يتعلق الأمر هنا بالكليات الدلالية( ربما على غرار مثلا “حياة”/”موت” أو “طبيعة”/ثقافة) بل بمجموعة من الثيمات الخطابية التي يمكن أن تتمفصل إلى مقولات ثنائية (سمو/ ذل، فقر/ غنى…) ويمكن التعرف عليها باعتبارها مستودعا في اللسان (في حالته الافتراضية) لأنظمة قيم يتولاها مجال أو مجموعة ثقافية محددة وتحددها تحديدا موجها إيحاءات تحيل على الانشراح أو الإنقباض، مما يعني بطبيعة الحال أن مثل هذا التنظيم وهذا التوزيع للعناصر الأكسيولوجية تتغير من سياق سوسيوثقافي إلى آخر.
ضمن مثل هذا المنظور، نموضع مثلا البحوث والمقاربات الثيمية كما أقيمت بصورة تدريجية لاسيما في مجال الأدب (قارن ج.ب. ريشار J.P.Richard). ومن هذه الزاوية أيضا، تثار مسألة الموتيفات في الأدب الشفوي. يتعلق الأمر هنا بتشكلات خطابية لم تعد ثيمية (أو مجردة) بل صورية (في شكل ميكرو- حكايات) وتشكل شيئا شبيها بالكتل المنمطة القادرة على التنقل داخل الحكاية نفسها (بحسب الروايات)، والتواجد أيضا في حكايات مختلفة. فـ “الزواج” -مثلا- يبدو كمقطوعة مستقلة نسبيا يمكن أن تقع في بداية أو وسط أو نهاية الحكاية (كما سبق وأن عالجناها في التقاليد الفرنسية: في Ethnologie Française, 1977, VII, 2)، ترافقها في كل مرة وظيفة سردية -من وجهة نظر مجموع الحكاية التي ينخرط فيها- مختلفة ولكنها تحافظ -على أي حال- على خصوصيتها الدلالية التي تجعله قابلا للتعرف عليه بهذه الصفة وأيًّا كان سياق استعماله. إن الموتيفات في الأدب الإثني شبيهة بمخزون “أماكن مشتركة” جاهزة لا يملك الراوي إلا الاستقاء منها حسب حاجياته. يكفي أن نشير هنا إلى أن التشكلات الخطابية سواء أكانت ثيمية أو صورية تتوافق مع تمفصلات تمارسها جماعة سوسيوثقافية في الكون الدلالي، من الضروري أن نذكر بأن تصنيفيتها لا زالت بعيدة عن الإنجاز!
ب. إذا كان “الاكتشاف” يقترب مما نسميه مضمونا دلاليا، فإن “الانتظام” disposito شبيه -جزئيا (لأنه يحين المعايير المتنافرة)- بالبنية “النظمية للخطاب”. إن التعرف -من خلال البلاغة- على “أقسام الخطاب” وتنسيقها، يتناسب، في السيميائية الخطابية، مع مشكلات التجزئة إلى وحدات. لقد تم الاعتراف حدسيا، منذ زمن بعيد، بوجود وحدات خطابية، ومس التمييز الحوار، والحكاية، والوصف، والخطاب غير المباشر (الحر)، إلخ…، ولكن دون القدرة (على) أو الإرادة في إعطاء تبرير نظري متماسك لذلك. أكيد أن الأمور لم تعد واضحة للسيميائي لندرة البحوث في هذا المجال على الأقل في الوقت الحالي.
إن أ.ج.غريماس، في تناوله مفهوم “الشيفتر” «shifter» الذي أدرجه ر.جاكوبسون R.Jakobson من خلال مفصلته إلى فصل/وصل، أدمج وأوضح جزئيا العلاقة بين الملفوظ والتلفظ(قارن 3 أ) وحركات الذهاب والإياب التي تقوم بين هاتين الهيئتين.. انطلاقا من هذه الإجراءات الخطابية يمكن التمييز، مثلا، بين الحكاية (التي تُفْصَلُ، بالاعتماد على “الهو”، وبالنظر إلى هيئة التلفظ) والحوار (حيث تمثل العلاقة “أنا”/”أنت” إسقاط بنية التبليغ، من خلال الوصل الملفوظي، داخل الخطاب الملفوظ).
لا يتعلق الأمر هنا، بكل تأكيد، سوى بمخطط أولي لتمفصل “أقسام الخطاب”، ولكن يمكن أن نتوقع للتو عدم توافقه، بصورة دقيقة، مع التنظيم«disposito»، على اعتبار أن البلاغة تدمج في هذا الإطار ليس فقط الوحدات الخطابية التي ذكرناها للتو، بل، أيضا، وعلى سبيل المثال، توجيه النداء إلى المشاعر (animas impellere) -لتمييز الاستهلال والخاتمة- الذي يرتبط في السيميائيات بمستوى تحليلي مغاير تماما: الجهات التصديقية والإبيستيمية، والصعيد العرفاني، إلخ…
ج. من المعروف أن البلاغة انتهت بصورة تدريجية إلى التخلي عن الاكتشاف «inventio» والتنظيم «disposito» لتتفرغ أساسا للأسلوب «elocutio» كما تشهد على ذلك مثلا، في القرن الماضي، صور الخطاب لـ ب. فونطانييه B.Fontanier. وقد تحولت في النهاية “الزخرفة” إلى علة الوجود الوحيدة للبلاغة التي تغاضت عن النظر في الخطاب ككلية. من هذا المنظور، فإن الأسلوب يبدو للسيميائي كصنافة ممكنة لـ “صور” البلاغة، الصور البيانية التي لم تعد متصلة بأبعاد الخطاب بل بتلك المقترنة بالجملة، سواء تعلق الأمر بـ “صور الكلمات” (استعارة، كناية) أو “صور الفكر” (تلطيف، قلب المعنى)، أو صور “الإلقاء” (فك الإدغام، تصحيف بالقلب) أو “البناء” (إرداف، إضمار…). وهذه بطبيعة الحال نقطة مهمة تبتعد فيها السيميائيات عن البلاغة في حدود طرحها الخطاب ككلية غير قابلة للاختزال إلى مجموع جمله. هكذا، فإن الاستعارة، مثلا، لا تتحول إلى واقعة مثيرة لاهتمام السيميائي إلا في حدود “تدفقها” متجاوزة بذلك أبعاد الجملة.. من وجهة النظر هذه، فإن عملية التحويل إلى استعارة تبدو كلعبة، كوصل للإيزوتوبيات المتنوعة ( بمعنى معاودات المقولات المعنوية -المجردة أو الصورية- من خلال وحدات تسمى سيميمات، مختلفة، كإجراء إنتاج خطابي (قارن الخطاب الحكمي للإنجيل حيث تتناسب إيزوتوبيا ثيمية محددة -المملكة مثلا- إيزوتوبيات صورية عديدة). هكذا، فإن الحديث عن “الحب بأنه شعلة” يسمح بالانتقال-مثلا- من إيزوتوبيا ثيمية إلى إيزوتوبيا صورية مع “الحرارة” و”الضوء”، إلخ…، أو من أيزوتوبيا صورية (جسدية مقترنة بإيماءات الحب) إلى أخرى (النار التي تشتعل) دون احتساب كل التنظيمات الإيزوتوبية المتراكبة الممكنة (بالاعتماد عليها في الشعر، نتكلم على نحو معين عن أمور عديدة في آن واحد.. في التحية لـ ملارميه Mallarmé التي درسها فرانسوا راستييه، تتجلى ثلاث إيزوتوبيات صورية: “المأدبة”، و”الملاحة” و”الكتابة” المتناسبة مع الإيزوتوبيات الثيمية.. “الصداقة”، “الوحدة/الهروب”، و”الإبداع”). ولمثل هذا المنظور، على الأقل، الفضل في تحريرنا من الثنائية انزياح/معيار التي تبرز فشل نوع من الأسلوبية، وكذلك بعض المقابلات التقليدية على غرار معنى حقيقي/معنى مجازي (حيث يشبه المعنى الحقيقي بالحالة الأولى المتقدمة تاريخيا).
ومن المفيد أن نشير هنا إلى أن الأسلوبية -التي تندرج في إطار تقاليد البلاغة ولم تُثَبَّتْ في فرنسا إلا في أواخر القرن التاسع عشر- حاولت أن تتولى صور البلاغة، ولكن من خلال وصلها بهيئة التلفظ (قارن الأسلوبيات اللسانية لـ ش.بالي C. Bally، الأدبية لـ ل.سبيتزر L. Spitzer، الإحصائية لـ ب. غيرو P. Guiraud، أسلوبية الانزياحات لـ ج. كوهين J.Cohen وم. ريفاتير M.Riffaterre).
3. من هذه المقاربة المجزأة والمحدودة للغاية، تنبعث بالفعل استحالة مماثلة بين البلاغة والسيميائيات. ولتسليط المزيد من الضوء على الاختلافات، يجدر بنا أن نقدم هنا باختصار شديد تصورنا العام للخطاب ونَذْكُرُ أيضا -كما يدعونا إلى ذلك الحقل التطبيقي للبلاغة- المسألة التي تطرحها النمذجة العامة للخطابات.
أ. كما لاحظنا ذلك، فإن الخطاب ليس مجرد تعاقب جمل، ولكنه كلية أكبر من مجموع ملفوظاته الجملية المكونة. وبما أن الأمر يتعلق بالكل، فإن إجراءات الوصف لا تكون صاعدة بل نازلة، بقطع النظر عن الحدود الجملية [التي تتأسس على عوامل (facteurs) أساسية تركيبية]. وإذا قلبنا الآن المنظور بالتموضع ليس على مستوى الوصف (الذي ينطلق من الكل إلى الأقسام) بل على مستوى إنتاج الخطاب، نقول إن هذا الأخير (إنتاج) يتم وفق “مسار توليدي” ينطلق من الأبسط، من الأكثر ابتدائية، إلى الأكثر تعقيدا، من خلال قواعد “التحويل” التي تسمح بالانتقال من المستوى “الأعمق” إلى المستوى الأكثر “سطحية”على أساس تنامي المعنى.
هكذا، فإننا استدرجنا إلى استنباط-بصورة مؤقتة، وعلى سبيل الفرضية- المستوى الأكثر تجريدا “للبنيات السيميوسردية”، تلك التي تشكل إلى حد ما “الهيئة الافتتاحية” «ab quo» للمسار التوليدي للخطاب، وتلك المقترنة بـ “البنيات الخطابية” (بالمعنى الحصري) التي تقود إلى “الهيئة الختامية”« ad quem» .
تتمفصل “البنيات السيميوسردية” -إجمالا- إلى مكونين -التركيبي والدلالي- وتشتمل على مستويين من العمق:
التركيب “الأساسي” المتميز بالعمليات المنطقية (المسماة أيضا تحويلات) المقترنة بالنفي والإثبات (التي يمكن تمثيلها في “المربع السيميائي”)، والدلالة “الأساسية” التي تمفصل الكون الدلالي (باعتباره كلية) إلى مقولات وتشكل المادة التي يشتغل عليها التركيب الأساسي.
“التركيب السردي السطحي” الذي يُحِلُّ محل العمليات المنطقية ذات المستوى الأدنى تحريكَ الـ”ملفوظات” (الفعل أو الحالة؛ الوصفية أو الجهية) المتميزة بعلاقات الصلة أو التحويل بين “العوامل”.. هنا تدمج -في جملة أمور- من بينها مفاهيم “البرنامج السردي” (لما يحكم ملفوظُ فعل ملفوظَ حالة)، و”الإنجاز”، و”الكفاءة”، والمسار السردي، إلخ…؛ وبصورة مترابطة “دلالة سردية” تنتقي القيم الجاهزة في الدلالة الأساسية وتحينها من خلال إقامة صلة بفواعل التركيب السردي السطحي.
من الواضح أن هذه الهيئة السيميوسردية الأولى المزدوجة-خلافا للثانية التي سنسعى إلى عرضها باختصار- ليس لها ما يناسبها في المنظور البلاغي.
إن البنيات السيميوسردية، المذكورة أعلاه، تشكل بالنسبة لنا خزان الأشكال الدلالية الأولية ذات النمط الافتراضي، ومن هذه الناحية، فإنها شبيهة- مع جرد موسع بطبيعة الحال- بـ “اللسان” عند ف. د.سوسيرF.de Saussure أو إ. بنفنيست E. Benveniste (المستعمل للدلالة ليس فقط على البعد الاستبدالي بل أيضا على البعد النظمي)، وهو لسان يفترضه كل تجل خطابي، ويحدد سلفا، في آن واحد، شروط “التخطيب”. وعلى هذا الأساس، تكون “البنيات الخطابية” (بالمعنى الحصري) مدعوة لتولي البنيات السيميوسردية السطحية بحملها على الانتقال من خلال هيئة التلفظ. وفي هذا المستوى، نميز:
– من جهة، التركيب الخطابي الذي يتضمن، استنادا إلى تمفصل هيئة التلفظ (إلى “الأنا”/ “الهنا”/ “الآن”، حسب إ.بنفنيست) إجراءات “الإمثال”(تأسيس الممثلين)،و”التفضيء”(هنا/هنالك)، و”التزمين” ( الآن/ حينئذ) و”التهيئة”- دون أن ننسى “الموضعات والبرمجات الفضائية الزمنية”( مثلا، على مستوى الزمن، وفق العلاقة: أسبقية/ تزامن/ تلوية؛ وتنهض هذه الإجراءات أساسا على تحيين عمليات الوصل والفصل ويمكن أن تلقى، بصورة جزئية للغاية، ما يناسبها في المصطلحية البلاغية: بوجه خاص في “الاكتشاف” بالاعتماد على الشبكة : «Ubi ?» ,«Quando ?»,etc, « Quis ?»
– من جهة أخرى، إن الدلالة الخطابية بمكونيها الفرعيين الثيْممة والصورنة ( في اقتران هذه الأخيرة، مثلا، بالأنثربونيمات، والتوبونيمات، والكرنونيمات المتناسبة مع التركيب الخطابي) التي تهدف إلى إنتاج الخطابات المجردة أو الصورية ترتبط، كما أشرنا إلى ذلك، بـِ”الأسلوب”.
يكفي أن نضيف ضرورة تفادي الخلط بين البنيات السيميوسردية والخطابية، و”البنيات النصية”المرتبطة بنظام التجلي (في هذا اللسان الطبيعي أو ذاك، أو أي نظام سيميائي آخر ذي طبيعة إيمائية أو بصرية مثلا: يأخذ نص الشريط المصور شكل “تعليقات” أو “رسوم”). يكون كل مستوى من المسار التوليدي منصصا لحظة “استلقائه” على الورق: يمكننا الحصول على الخطابات المنطقية أو الثيمية أو الصورية. فـ “التنصيص” يكون حينئذ مُوَاجَهًا:
– من جهة بمسائل خطية الخطاب (مع مسألة الاستعادة مثلا) تبعا للدال الذي يستعمل لاحقا لتجليته (الزمني للغة الشفوية ، الفضائي للكتابة أو الرسم، إلخ…)،
– ومن جهة أخرى بمسائل “مطاطية الخطاب” (مع العلاقة توسع/تكثيف كما نلحظ اشتغاله في الشرح المسهب: تسمية/تعريف بالتوسع، نص/خلاصة، إلخ…): قارن ما نسميه في البلاغة “كناية”.
ستفسح صياغة البنيات النصية المجال في النهاية لـ “التمثيل الدلالي” للخطاب، وهو تمثيل قمين بأن يتخذ مستوى عميقًا للبنيات اللسانية المولدة للبنيات اللسانية السطحية (من المنظور الشومسكي): لسانيات جملية يمكن أن تحل محل اللسانيات الخطابية.
ب. من بين الاختلافات بين البلاغة والسيميائيات، نكشف أيضا عن تباين مهم مقترن بمجال ممارساتها. إذا كانت السيميائيات تفكر في اقتراح نموذج قادر على إدراك أي نوع من الخطاب، وفي مرحلة لاحقة، تمييز الخطابات الخاصة، واقتراح، من منطلقاتها، تصنيفية متماسكة على أساس معايير داخلية (ولا ذات طبيعة إيحائية كما هو الحال في التصنيف التقليدي للـ “أجناس”)، فإن البلاغة تتقدم كـ “فن إقناعي”، فهي لا تعنى إذا بصورة أساسية سوى بقسم نطلق عليه تسمية “الخطابات الإقناعية”.
كما يروق لـِـ ر. بارث التذكير بها، فإن البلاغة نشأت من سيرورة الخاصية وهدفها إقناع المستمع “حتى ولو كان المضمون الإقناعي باطلا”. ومنذ ذلك العهد، فإن البلاغة استمرت في تحويل اللغة إلى إوالية تهدف إلى حمل (المستمع أو القارئ) على الانخراط: بتعبير سيميائي، إنها تمثل فعلا “إقناعيا” (أحد أشكال الفعل العرفاني)، المرتبط بهيئة التلفظ، ويتمثل، عند المرسل (أو الباث) في استحضار كل أنواع الجهات (التصديقية والإبيستيمية بصورة خاصة): ويتوجب أن يتناسب “اعتقاد” المرسل إليه مع “فعل-اعتقاد” المرسل.
معلوم أن النظرية الكلاسيكية في التبليغ اهتمت دائما بالنقل “الصحيح” للرسائل، وبمطابقة الرسالة المتلقية بالنظر إلى الرسالة المبثوثة، ولم تكن مسألة صدقها سوى بما تعلق بمطابقتها بالنظر إلى نفي الكينونة، أي إلى مرجعها: من منطلقات هذا المنظور، الذي يميز، جملة أمور، من بينها لسانيات ما وراء الأطلسي (الناهضة على تأويل العلامة بالاعتماد على الواقع غير اللغوي)، فإن الكلمات تقول الأشياء بينما تعتبر في أوروبا كاذبة، تخفي “حقيقة” مضمرة (قارن أسياد الشك”: ماركس، فرويد، سوسير). تطرح اللسانيات الأوروبية، خلافا لذلك، المنحى المحايث لكل لغة: للسان نظام خاص، مستقل عن المرجع غير اللغوي، حتى لو أمكن بطبيعة الحال إقامة علاقات “بيسيميائية” بين النظام والسيرورة اللغويين، ونظام آخر أو سيرورة غير لغويين (الإيمائية، مثلا). فالنظرية السوسيرية، في رفضها اللجوء إلى المرجع الخارجي(في حكاية محددة، تتناسب مقولات الصدق/الباطل/ السر/الكذب/ مع “وضعيات عرفانية” ملازمة لها) -وانضمامها هنا إلى البلاغة- أرغمت السيميائيات على طرح ليس مسألة الصدق بل مسألة التصديق، القول الصادق، أو بصورة أدق، “الفعل- الظاهر- الصادق”.
فالخطاب شِبْهُ الصادق-حيث نعلم أنه مرتبط بالبلاغة والأدب- ليس فقط “تمثيلا” صحيحا (وفقا لما ينتظره المرسل إليه في سياق سوسيو ثقافي محدد في بعض الأجناس الخطابية لا غير: الخطابات الفلسفية، والاقتصادية، والإستاتيكية، والقانونية، والعلمية، إلخ… التي لا تعرف شبه الصادق) للواقع، بل شِبْهُ الصادق إنه أيضا -وأكثر من ذلك- تصاور مبني من أجل “فعل- ظاهر – صادق”: إن خلق الوهم المرجعي (وهو نتيجة بصورة خاصة لإجراء الأيقنة باعتباره مكونا فرعيا للصورنة في تصورنا النظري) والوهم التلفظي (الذي تحركه لعبة الوصل والفصل) يُتَّخَذُ بالفعل لإنتاج أثر معنى “الصدق”. حول هذه النقطة، لا يسع البلاغة والسيميائيات إلا أن تتفقا.
ولكن، إذا كان الفعل الإقناعي الممارس من المرسل لا هدف له سوى البحث عن انخراط المرسل إليه، فإنه مشروط بفعل عرفاني آخر، “الفعل التأويلي” الذي يمارسه بدوره المرسل إليه. ومن ثم، فإن بناء تصاور الصدق باعتباره مهمة أساسية للمرسل مرتبط في آن واحد بالكون الأكسيولوجي المشترك بينه وبين المرسل إليه لا سيما بالتمثل الذي يبلوره هذا الأخير عن كون المرسل. مما يعني بصورة أعم أنه بالترابط مع الخطابات الإقناعية (مثل الإشهار، والبيداغوجيا، والخطابات السياسية، إلخ…)، توجد أيضا خطابات تأويلية (التفسير، التعاليق، النقد الأدبي أو الفني، إلخ…) تَبُتُّ، انطلاقا من “ظاهر” اقْتُرِحَ عليها سلفا، في “الكينونة”(الممكنة) المناسبة. ومن الواضح أن مباشرة هذه التصنيفية الأولية ذات طبيعة مقولية: إن الخطابات المحققة بصورة ملموسة ليست تجسيدات لهذا النوع أو ذاك، ولكنها تربط الاثنين في الغالب بطريقة تكون فيها الهيمنة لأحدها على الآخر. على أي حال، نلاحظ هنا أن البلاغة لم تتعرض لأشكال أخرى من الخطاب، ومن ثم لا يمكن أن تقترح نموذجا لتصنيفية عامة: فمجالها مقصود ومحدود.
ج. من وجهة نظر أخرى، حددت البلاغة لنفسها مهمة بلورة “قواعد الفن”: وكما كتب ذلك ر.بارث، “فهي في آن واحد دليل للوصفات تثيرها غاية تطبيقية، وشفرة بوصفها مجموعة من الفروض الأخلاقية يكمن دورها في مراقبة (يعني تسمح وتحدد) انزياحات اللغة “الهووية”. إن هذا المنحى المعياري للبلاغة (كفن للقول الجيد) -المرتبط بصورة جلية، في التقسيم الثلاثي، بالنحو (قواعد التكلم الجيد) والجدلية (فن الخطابة)- غير قابل على الإطلاق للتوفيق مع المقاربة السيميائية التي تسعى إلى إدراك إنتاج كل خطاب، أيا كان نوعه (دون الحكم المسبق على إيحاءاته الاجتماعية المثمنة أو المنتقصة لقيمتها)، ووصفه، وليس إلى اقتراح “قواعد” تشكله، وبنائه.
خلافا للبلاغة التي تهدف إلى إثارة، كنتيجة، قناعةِ، وانخراطِ، واعتقادِ المرسل إليه حيث تتناسب القواعد (أو النظام المعياري الذي يحددها) جزئيا مع “الكفاءة العرفانية” للمرسل (مثلما نلقاها منشطرة مع مصطلحية أخرى في الأفعال “الأدائية” لـ ج.ل. أوستين J.L.Austin) ، فإن السيميائيات لا تقتصر لا على وجهة نظر المرسل أو اللافظ، ولا حتى على التبليغ اللساني (وفق المحور: مرسل/ مرسل إليه): فهي تسعى ليس إلى إنتاج نوع خاص من الخطاب، بل إلى إعطاء كل الخطابات الممكنة (بالمعنى الأوسع: الخطابات اللغوية وغير اللغوية) وَصْفًا أنسب (وفق مبادئ التماسك، والشمولية، والبساطة)، وتشكيل، بصورة موسعة، نظرية دلالية (تحتوي التبليغ بوصفه أحد مكوناتها)، وتصور أنماط إنتاج المعنى، ومنها إقامة تصاور إن لم يكن أكثر “عقلانية” فإنه -على أي حال- “شبه صادق” (بالنظر إلى الكون الإبيستيمولوجي المحيط).
من هذا المنظور، لا يسع المنهجية السيميائية إلا أن تثرى ليس فقط بإدماج مكاسب البلاغة بل بإعادة تشكيلها أيضا: وهذا ما تسعى -من جملة أمور أخرى- إلى تحقيقه جماعة M التابعة للياج Liège لا في المجال المحدود والجزئي للـ”صور” و إنما في الحرص على تصميم “بلاغة عامة”.
مناقشة
ج.ب. ريسويبر J. P. Resweber – إن الاعتبارات المقيدة على الشبه الصادق تذكرني بالجدلية الأرسطوطالسية. يضع أرسطو بشكل محدد الجدلية في ملتقى ما يمكن أن تؤول إليه السيميائيات والبلاغة على اعتبار أن هذا التخصص يُعَدُّ الفن المنظم لمختلف الدلالات، فن الإقناع انطلاقا من الشبه الصادق أو الرأي، إجمالا من منطلقات نظام المخيال الذي يعتبر في الحقيقة نظام الخطاب.
ج.كورتيس- نعم. وعلاوة على ذلك، أعتقد أن توسعات البلاغة والنحو ظهرت، تاريخيا، من هذه المنطلقات.
م. ميشال M.Michel – إن ما أشرتم إليه من بحوث تمثلونها تعنى بالنص المكتوب. هل طبقت المنهجيات المعروضة على أنماط تبليغ أخرى، السمعي البصري على وجه الخصوص؟
ج.كورتيس- توجد ورشة سيميائيات تشتغل على الصورة. بداية، إننا لا نتحدث عما تمثله، المدلول، يعني أثر المعنى الذي تنتجه الصورة. فالتحليل يُعْنَى في المقام الأول بالدال (الأشكال، الألوان، التباينات، الضوء…) وتَجِدُّ في الكشف عن المقولات المضمرة، وأنواع التقابل.
ف.دينيس Ph. Denis- قلتم إن مسألة الشبه الصادق مربوطة بالأدب الشفوي أو الأدب المكتوب. أود لو أعطيتم توضيحات بصورة أدق حول البلاغة والسيميائيات على المستوى الكتابي أو المستوى الشفوي.
ج.كورتيس- في البلاغة، يوجد الاستهلال، ثم السرد، والحجة، وفي النهاية الخاتمة. نرى إذن أن الاستهلال والخاتمة يقعان على الصعيد العرفاني. وبينهما يقع سرد الوقائع و”الحجج”. إن الرهان في نهاية الأمر هو عرض سرد يكون شبه صادق. فمسألة الشبه الصادق تنضم إلى المشكلة التي تحدثت عنها منذ قليل بخصوص مثلا التفضيء أو التزمين، الخ.
ف.دينيس Ph. Denis- هل الكتابة تجعل من هذه التقنيات أقرب إلى الصدق؟
ج.كورتيس- أجيب ببساطة أن شبه الصدق هو مجموعة من الكليشيهات المنظمة تندرج في إطار ذاكرتنا الجماعية وهي عندنا بمثابة نقطة اتصال. إن مشكلة شبه الصدق مرتبطة أيضا بشدة من الناحية الجغرافية باليونان، العالم الروماني، باختصار إلى كوننا الثقافي الغربي. وفي نقلها إلى ثقافة أخرى، فإن المسألة لا تطرح أبدا.
لنضرب مثالا آخر في المجال القانوني: ماذا نعني بسند ملكية؟ إنه عقد صَادَقَ عليه الموثق، ولكن يعلم الجميع جيدا أن العقد قد يزور. هناك إشكالية كاملة تطورت حاليا حول التزوير لاسيما في الولايات المتحدة، وإيطاليا أيضا: وقد تم التساؤل حول التزوير وإجراءاته. ما الذي نعنيه إذن بالملكية بقطع النظر عن التصديق الذي يحددها؟
م.ساشو M.Sachot- لماذا لا نقول إن المكتوب يدمج زمنية أخرى؟ فالتعبير الشفوي يلزم في العدالة مثلا المُحَلَّفَ بإبداء رأيه، والقاضي يفصل مباشرة بعد النطق. ولكن لنفترض أن المحكمة تجتمع وتشتغل على الوثائق المكتوبة. في هذه اللحظة نناقش ونعود إلى الوراء. حينئذ، فإن البناء وكذلك إجراء التلفظ هو الذي سيؤدي إلى الانخراط وهذا بسبب اللعبة المدارة بشكل جيد وليس لوجود أدلة مقنعة. على صعيد المكتوب وخلافا لما سبق، فإننا نكون إزاء اشتغال إجراءات أخرى: بحوزتنا هنا خلاصات ووثائق مكتوبة تثبت وجه الدعوى، بينما توصلنا في السابق إلى نفس النتيحة بالاعتماد على موارد الإقناع أو التلفظ.
ج.كورتيس- ولكن ماذا يعني “أثبت”؟ هذا السجل العقاري يقوم مقام البينة في إعادة توزيع الأراضي. اللغة الرياضية هي أيضا تحاول إقناع الآخر بحقيقة الأمر. ولكن، ألا يوجد اختلاف بين اللغة الرياضية واللغة البلاغية؟ فالبلاغة تستعمل ليس فقط اللغة المنظمة التنظيم الجيد المسخرة لإقناع الآخر بل أيضا اللغة التي تستحضر الشخصية الإنسانية الكاملة مع كل ما تحمله من مشاعر.إننا نشتغل إذن في آن واحد على الأهداف والتحريكات -كما يقال- والمشاعر والأهواء. نحن نعمل حاليا على تأسيس سيميائية الأهواء بعد أن بلورنا سيميائية العمل والتحريك والتقويم.
طالب – السيميائيات، إذا فهمتكم جيدا، هي شكلنة القدرة: تهدف إلى إعطاء شكل لما أريد قوله. هل هذا يعني أني -من خلال هذا الشكل باعتباره طريقة في التعبير- أتوصل إلى قول ما أريد قوله؟ هل يمكن، من الجانب الآخر للمعنى المقيد والإيحائي، بلوغ ما أراد تبليغه الكاتب؟
ج. كورتيس – الدلالة هي محصلة أثر المعنى، يعني أثر المعنى الممَفصل، ويتقدم إليّ ككلية أنظمها وأحاول أن أدركها انطلاقا من إجراءات متتالية ومنظمة. فالمعنى هو كل أولي لا نتميزه. أقر إجمالا بوجود المعنى، وسأشتغل من منطلقات هذه القاعدة أو هذا المفترض.
م. ساشو – ندرك من هذا القبيل الدلالة بطريقة مماثلة للتلفظ المفترض في علاقته بالملفوظ، وباعتبارها إجمالا إنتاجا لما سيتم تلقيه كأثر معنوي.
ج. كورتيس – أي ما سيتم إدراكه من القارئ بوصفه أثرا للمعنى.
م. ميشال – إن ما يثيرني هو الطريقة التي شددتم بها على مبدأ المحايثة في اللسان، وأعتبره أساسيا. فالكثيرون الذين يقرون العلاقة بالمرجع وينجزون تعليقات تكون إما تفسيرية أو لاهوتية يتجاهلون تماما هذا المبدأ الأساسي المقترن بمحايثة اللسان. ومن هذه المنطلقات يمكن أن يُقَوِّلُوا النصوص كل ما يخطر بالبال حتى الأمور المتناقضة كليا.
ج. كورتيس – نعم. إن اللسانيات بناء صرف لا علاقة له بالمرجع. إذا كانت الصوتيات شيئا، فإن الفونولوجيا شيء آخر يحين مفهمة دلالية دون ادعاء مرجعي. ومبدأ المحايثة هذا هو الذي يرفضه كل أنصار التداولية لهذا التيار ويسعون إلى تبرير اللغة بالواقع من خلال البعد الأدائي performatif مثلا.
ج.ب. ريسويبر – تتحدثون عموما عن “فعل الاعتقاد” الذي أتى به تحليل الخطاب. إذا كان راسين Racine، مثلا، يستهوي شيئا فشيئا المتكلمين-المشاهدين في عالم الأهواء، وإذا توصل إلى احتباسهم داخله، وسحرهم، فإن ذلك تم بواسطة إجراء “فعل الاعتقاد”، والظاهر المزيف شبه الصادق. يُظْهِرُ هذا الإجراء، من خلال اللعبة الرابطة بين الفصل والوصل، من جهة تَخَيُّلَ الفاعل (اختفى راسين، ولم يعد الفاعل موجودا هناك)؛ ويحقق، من جهة أخرى، محاكاة الحقيقة بفضل الإنتاج الخطابي للأوهام المرجعية والتلفظية.
الإحالات
* هذا النص مأخوذ من :
Courtés Joseph. Rhétorique et sémiotique : De quelques divergences et convergences. In: Revue des Sciences Religieuses, tome 52, fascicule 3-4, 1978. Problèmes d›interprétation dans le champ du discours théologique. pp. 227-243.
DOI : https://doi.org/10.3406/rscir.1978.2833
www.persee.fr/doc/rscir_0035-2217_1978_num_52_3_2833
** دكتور في اللسانيات، مدير سابق بالنيابة للمركز الدولي للسيميائيات واللسانيات(أوربينو، إيطاليا)، جوزيف كورتيس مكلف بالمحاضرات بمدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية (سيميائيات عامة) وبجامعة باريس8 (الأدب الشفوي). فضلا عن عشرات المقالات (المخصصة إما لعروض في المنهج، أو للتحاليل الملموسة في مجال الخطابات الدينية، الأسطورية، والفولكلورية)، أصدر ليفي شتراوس وقيود الفكر الأسطوري، عام، 1973، ومدخل إلى السيميائيات السردية والخطابية. حرر مع أ.ج.غريماس، علاوة عن مقالين نظريين وتطبيقيين، قاموسا مهمًّا في السيميائيات سيصدر عن دار هاشيت في أكتوبر 1978(صدر في 1979/ المترجم).