عادل الحامدي
كاتب وروائي تونسي
شعر الطفلان أن حظا غريبا قد حالفهما هذا اليوم، على خلاف ما كان يحصل لهما في سائر الأيام، عندما كان هذا الحظ لا ينفك يتنكر لهما بصورة مستمرة ويمعن في جحوده الأثيم، فيضطرهما إلى أن يقطعا المسافة الطويلة المرهقة ذهابا من المنزل إلى المدرسة صباحا، ثم يقطعانها مرة أخرى إيابا من المدرسة إلى المنزل في المساء مشيا على الأقدام،
الشقّة تبدو لهما بعيدة جدا كل يوم، ويتحملانها بجهد جهيد، لا يخفّفها التعود أو انتظار ما لا يأتي، والطريق أمامهما تمتد وتلتوي دون أن تلوح لها نهاية، تمتد هكذا عامدة متعمدة كما لو أن لا نية لها من وراء ذلك التمدد غير الإمعان في تعذيبهما، لكنهما رغم ما كان يعتور جسديهما من إنهاك يغذّان السير مع تصميم يعاود التوالد متجددا مع كل مرحلة يقطعانها.
لقد قطعا مرحلة أولى من مسيرة العودة، انتهت بهما عند القنطرة، وفقأ عين الطريق الكريهة التي لا تفتأ تتآمر عليهما وتأكل من أقدامهما، ثم قطعا مرحلة ثانية، وانتهت بهما عند أطلال منزل مهجور، وها هما الآن يشرعان في قطع المرحلة الثالثة، التي ستنتهي بهما عند الطاحونة، أقدامهما التهمت من الطريق نصفه تقريبا ومن الستة كيلومترات اقتطعت ثلاثة، انتهى مضيّهما مع الطريق، صعدا عند بلوغهما الطاحونة، وشرعا مع الوصول لنقطة النصف في النزول، والنزول دائما أسهل من الصعود. لم يغالب الطفلان الشعور بانفراج نفسي غريب تملكهما وهما يشرعان بمصارعة المراحل الثلاث المتبقية، لكن المفازات لا تزال تلوح لهما على يمين الطريق ويساره كما لو أنها تمثل امتدادا للعذاب لا نهاية له، وتشير لهما من بعيد مهددة متوعدة، بأذرع عملاقة مثلتها أشجار عالية عجفاء الهياكل نبتت هنا وهناك في الخلاء المحدق بهما كأنها تسخر من استبسالهما.
يشرع جسداهما بالترنح عند بلوغهما هذه المرحلة ويتابعان المشي وهما يجران الأرجل على التراب، دون أن يلوح لعيونهما في الطريق المقفر الطويل الذي يمشيان فيه، أثر لدابة أو مركبة يطمعهما ظهورها في نيل توصيل سريع ومريح إلى المنزل.
هذا المساء توقفت لهما شاحنة صغيرة، عطف صاحبها عليهما، فأركبهما في صندوقها الخلفي… الرجل بدا لهما قاسي الملامح ثقيل الجسد بشوارب ثقيلة تغطي فمه ونظرة متوقّدة الحمرة في عينيه، وتباين مظهره القاسي بشكل غريب مع مسلكه العطوف مع الطفلين، قاد الرجل مركبته خارجا من الطاحونة وهمَّ بأن يزيد في سرعته عند دخوله للطريق الرئيس، ثم خفضها عندما شاهد الطفلين، ولم يزد على أن أوقف الشاحنة بعنف عندما حاذاهما، وبطريقة جعلتهما يجفلان، وسمعا صوت الفرامل، ثم فاه بكلمة واحدة لم يزد عليها، كأنه يصدر أمرا لا رجعة فيه : “اركبا”، وفي لمح البصر احتواهما صندوق الشاحنة كأن قوة خفية رفعتهما هناك.
الأمسية باردة، والهواء ينفخ بقوّة في فراغ الشاحنة ويلفحهما… عاودت هذه السير، ونظر الطفلان حولهما وقد أخذ منهما الانبهار، فبدا لهما مشهد الدنيا على يمين الطريق ويساره ساحرا وهي تتموّج وتفقد ثبات معالمها وتشرع بالتراجع طائرة إلى الخلف مع التقدّم السريع للشاحنة، شعرا بأنهما تحرّرا من ثقل الأقدام واستعاضا عنها بأجنحة محلقة. لكنّ الطريق متحفّر، والشاحنة كثيرة الاهتزاز، فكانا يهتزان معها، ويفسد عليهما ذلك متعة الشعور بأنّهما طائران، ويعاودان إسدال أجنحتهما إلى جانبيهما، وينتظران بلهفة اجتياز المطب وعودة سرعة الشاحنة إلى إيقاعها الأوّل ليعاودا الرفرفة، وفي أكثر من مرحلة من مراحل الرحلة كانت تبرز لهما على الجانبين شجرات طويلة، فتعلو وجهيهما المفاجأة، ويطويان أجنحتهما سريعا خشية عليها من الارتطام بالجذوع الصلبة للأشجار وتكسرها.
لقد خبرا هذا الطريق، وسارا فيه مئات المرات، ويعرفان ما يحفّه من نبات وأشجار ومبانٍ. لكنّهما الآن وهما يمتطيان الشاحنة يشعران بكل شيء جديد عليهما كأنّ عيونهما تراه لأول مرة. وشعورهما بجدّة الأشياء عليهما جعلهما يحسّان بسعادة غريبة قلّما حظيا بمثلها، كانت ابتسامة ظفر لطيفة تسيل على وجهيهما، ثم شرعا يتناوشان ويتحدى أحدهما الآخر إن كان يزال قادرا، وهو ضائع في خضم تفاصيل الطريق التي كان يتسارع ظهورها لأعينهما ثم امحاؤها، على معرفة في أي مرحلة من مراحل الطريق هما سائران. اكتسبت المعالم سمات جديدة، لا المنخفضات ظلت على انخفاضها ولا المرتفعات حافظت على ارتفاعها. وفيما الشاحنة تئز بهما منطلقة إلى الأمام، كانا لا يكادان يصدقان أنّهما استراحا من عذاب المسافة بفعل هذه الصدفة السعيدة النادرة التي أتاحها لهما سائق الشاحنة العطوف ذو السحنة القاسية.
نظرا حولهما في صندوق الشاحنة، فشاهدا في إحدى الزوايا كيسا متوسط الحجم نصف مفتوح. بدا لهما الفم المفتوح للكيس يشبه شدقا شائهة تطلق ضحكة هازئة، وبغتة اهتزت العربة بعنف، فوقع الكيس على أرضية صندوقها، ومن شدقه المفتوح تدحرجت برتقالة، برتقالة جميلة وسمينة وكاملة الاستدارة، لأول وهلة وحالما وقع بصر الطفلين عليها، لم يصدقا ما شاهداه، وفكرا أن الكيس كان يمارس معهما مزحة ثقيلة. ثم فكرا أنها كانت فخا يستثير فيهما الخفيّ من المطامع، ثم يمسكهما متلبسين بجنحة سرقة ما ليس لهما، ثم انتهيا إلى القطع أن الكيس كانت نيته حيالهما أفضل وأنبل مما خمَّنا، إنه يشعر بأنهما جائعان ومتعبان ويعطيهما ما يأكلان ولا يبيّت لهما أي مقصد سيئ، كانت برتقالة، حقيقية تامة الاستدارة، والطريق عند الجانبين خالية من البشر ومن العيون المترصدة، المفازات لا تزال ممتدة والشاحنة تمضي مسرعة ولا تتيح لأي عين أن تبصر بوضوح شيئا مما كان يحدث داخل صندوقها الخلفي من مراودة البرتقالة لجوع الطفلين. أحدهما فكر أنّ تلك الثمرة الجميلة بقدر ما تصلح لتكون برتقالة فبوسعها كذلك أن تكون تفاحة، فلها نفس الشكل ونفس الاستدارة، وبوسعه التهامها دون تقشير، ودون أن يترك على يده أثرا من مائها ورائحتها يدلان على ما اقترفه من اختلاس. إنها أمامه تماما، على مسافة أشبار من متناول يده، لكنه يدرك أن لا أحد سيعطيه برتقالة، وهذه التي سقطت من الكيس ليست له، لأن أحدا لم يعطه إياها، وهي برتقالة وليست تفاحة وسيتعبه أن يقشرها ويعرض نفسه للفضح السريع، والكيس لا أمان معه ولا يمكن الثقة به، وفكّر الطفل الثاني أنّ البرتقالة بوسعها كذلك أن تكون كرة يدحرجها على الأرض ويلعب بها، لكنه يخشى أن يهرب بها الأطفال الشريرون ولا يعرف كيف سيعيدها لصاحبها بعد ساعة اللهو. وفعلا مضت البرتقالة، تماما مثل كرة، تتدحرج ببطء حتى بلغت نهاية الصندوق، فأمسكها الحاجز وسكنت في مكانها، ثم شرعت الشاحنة تهبط منحدرا، فعادت البرتقالة تحت بصر الطفلين تتدحرج نحو الاتجاه الآخر، حتى بلغت حافة الكيس الذي خرجت منه واستقرت هناك.
همّت يد أحد الطفلين بأن تمتد لالتقاطها، ثم تراجعت ببطء وجلةً، كان الخوف يملأ قسمات وجهه الصغير، هذه البرتقالة ليست لنا، لأن أحدا لم يعطنا إياها، وعادت نظرته المتوسلة ترمق الكيس المتّكئ عند زاوية الصندوق، ماذا يضمر لهما هذا الماكر الصامت؟ لعلّه ممتلئ بالبرتقال كله… فكّر الطفل… وهذه واحدة منها، يجب أن يعتقدا ذلك، وإذن فلا خوف من أن يحسّ صاحبها بنقص لو التقطا تلك البرتقالة المتدحرجة وأكلاها، لكن ماذا لو أنّ ما في الكيس كان شيئا آخر، وتلك كانت البرتقالة الوحيدة فيه؟ والسائق الذي استعادت ملامحه هيأتها العابسة القاسية لأعينهما، سيلحظ غيابها عن كيسه، ويتذكر الولدين الشريرين اللذين أركبهما في صندوق شاحنته دون شك، ويجدهما ويعاقبهما عقابا أليما.
عادت الشاحنة تصعد، وعادت البرتقالة تتدحرج نحو الاتجاه الآخر… وعادت عيون الطفلين تشتعل باللهفة، وحملتهما اللهفة إلى تخوم وهم بأنهما امتلكا البرتقالة فعلا، وتناوب عليهما الشعور باللذة الفائقة إذ يمسكاها أخيرا وشعورهما بأن تلك الملامسة للبرتقالة حملت في ثناياها شيئا يشبه اللسعة، لكن من منهما سيفعلها ويمدّ يده نحوها أوّلا؟ ويتخلص من وهمه حول ما كان فيه، بتخلصه من الوضع الذي بحاجة إلى وهم، ويحتمل شعوره باللذة الفائقة ممتزجا بشعوره باللسعة؟ شرعت نظرات التلاوم تنعقد بينهما، تقول نظرة الطفل الأول: مدّ يدك والتقطها أيّها الجبان…إنها برتقالة.. مجرد برتقالة في كيس ممتلئ عن آخره بالبرتقال،.. والسائق مشغول عنّا وبيننا وبينه حاجز حديدي… وتردّ عليه نظرة الطفل الثاني: لا، إنها برتقالة واحدة، ولا يوجد شيء غيرها في الكيس، مدّ يدك أنت، لماذا أنا وحدي الجبان؟ أرني أنّك أشجع مني. وتحمل نظرة السائق إليك وهو يرى كيسه خاليا منها، عادت البرتقالة تدور حول نفسها، إنها تراودنا مصرة على أن تكون لنا، لكن هل هي حقا لنا؟ فكّر الطفلان، وإنّهما بحاجة إلى شجاعة الدنيا كلها ليجرآ ويمدّا يديهما ويمسكاها، وتذكّرا أنّهما لفرط فقر عائلتيهما لا يكادان يأكلان البرتقال غير مرّة وحيدة يتيمة في السنة. مدّ أحد الطفلين ساقه محاولا تحويل وجهة البرتقالة، لعلّه يجعلها تصدم قدمه، وتبدّل خطّ سيرها، وتتدحرج في اتّجاهه هو… فيسهل عليه أمر التقاطها من مسافة قريبة جدّا، فلا تشعر عين أحد من الخلق أنّه لاحقها وجلبها من بعيد، ولا ثقل عليه ما في أمر ملاحقتها من شعور بالإثم، لكنّه مكر بها، فمكرت هي به بدورها، وتدحرجت بعيدا عن ساقه… شعر بها ذهبت بعيدا جدا عنه حتى بلغت آخر الدنيا، فاستقرت في مكان خفيّ، وغابت عن ناظريه.
استدارت الشاحنة، ودخلت مسلكا ترابيّا انتهى معه استواء الطريق وسلاسة طيران الطفلين… عاودت البرتقالة الظهور، وأصبح دورانها شبيها بدوامة، صارت تلفّ وتدور مثل الخذروف، تمضي في كلّ الإتجاهات، ثم تعود على أعقابها، وترتفع أحيانا في الفضاء بفعل هزّة عنيفة من الشاحنة ثم تقع على الأرض، والطفلان منشدان للدوّامة ببصرين زائغين، وأجنحتهما تنتفض بعنف ولا يقدران على معاودة التحليق، بدت لهما البرتقالة مرة تلعب معهما “الاستغماية”، ومرّة تصطدم بشجرة، ومرّة يغيّبها العشب الكثيف النابت على جانبي الطريق، ومرّة ثالثة تقع في حفرة صغيرة، ويأكلها جرذ. فيصرخان في الجرذ ليهرب، هكذا لوقت لا يدريان مدّته… حتى استدارت الشاحنة ولم ينتبها إليها. وحدها البرتقاله كانت كل عالمهما. شاهدا فيها ثمرة لذيذة تفلت من كيس ممتلئ بالثمار التي يشتهيان أكلها، وتهيأ لهما أنهما أكلاها دون أن ينتبه لهما أحد أو يعاقبهما، ثم فكرا أنّها كرة صغيرة تلائم أقدامهما الصغيرة، وتغنيهما عن اتّخاذ الضفادع كرات يتقاذفانها، وأخيرا تهيأ لهما أنها تدور أمامهما مثل خذروف، تدور طويلا وتسلك في دورانها خطا طويلا متعرجا، وتثير دوامات من التراب تحتها، ثم تبطئ الدوران حتى تهمد وتستكين في مكانها، وتهم اليد الصغيرة بأن تمتد لتعيد التقاطها. فرد الطفلان أجنحتهما مجددا وهمّا بمعاودة الطيران، وبغتة استيقظا على وقع اهتزازة عنيفة، وصرخا فزعين من وراء الحاجز في السائق:
– يا عمّي الراجل، الله يخليك، أوقف الشاحنة، فقد فتنا مكان النزول بكيلومتر أو يزيد..
أوقف الرجل شاحنته، ونزل، كانت دمعة تسيل من عين الطفل الذي صرخ. لكنّ الرجل لم يعبأ بصرخة الطفل ولا بدموعه، واتّجهت عيناه إلى الصندوق. شاهد الرجل البرتقالة التائهة فاقدة للرشد. وهي لا تزال تترنّح وتتمايل في محاولة منها لاستعادة توازنها، وبنطّة واحدة كان هو في الصندوق. شخص الطفلان نحوه وهما في غمرة حالة انتظار أليم، رفع الكيس وفتحه قليلا، كان كله برتقالا… ممتلئا إلى حدود فوهته برتقالا. اتسعت الضحكة الهازئة المنبعثة من الفم الشائه للكيس، أمسك الرجل البرتقالة، وتفرّس فيها.
– شبعتما من الكيس؟ ورمقهما بنظرة قاسية… ثم نظر إلى أرضية صندوق الشاحنة، فلم يعثر على قشور، فعرف كم كان الطفلان ماكرين، فأضاف:
– ورميتما القشور خارجا…؟
لوح الطفلان في الحال بيديهما ورأسيهما نفيا، وأقسما للرجل بصوت مرتعش أنهما لم يلمسا شيئا مما كان في الكيس، كان فماهما جافين لا أثر فيهما لرائحة برتقال، صمت الرجل وشد يديه حول خصره ثم تركهما ينزلان، وفيما هما يشرعان بالابتعاد كانا لا يكفّان عن النظر خلفهما، نسيا الخوف ونسيا العقاب، وعاد عالم البرتقالة يستغرقهما، فوجدا فيه تجسيما لكل ما كانا يتمنيانه في عالمهما، فلو أعطاهما الرجل إياها، لكان في ذلك تحققا جميلا لأمنيتهما الصغيرة، أن يشبعا بطنيهما الجائعين ويتلذذا الطعم الحلو لمائها. لثوان امتدت فبدت في قسوتها كأنها بطول الدهر توهج في أعينهما شعاع ذلك الأمل ثم انطفأ، وهما يجيلان فيه النظر، بينما هو كان مرّة يغرس عينيه في برتقالته الغالية ومرّة يحدجهما بطرف فائق الحدّة وهما يبتعدان ببطء. أخيرا حسم أمره، فتح الكيس وأعاد البرتقالة إلى داخله، ثم عاود ولوج شاحنته، وانطلق…
تجاوز الطفلان محطة نزولهما بمسافة بعيدة، ألهتهما طويلا رقصة البرتقالة، فنسيا أن المحطة قد صارت خلفهما، وعليهما الآن أن يتعبا مجددا ويعاودا جرّ أقدامهما على التراب في سعيهما المضني لبلوغ محطّتهما الأصلية.