الكتابة هي تسجيل الوقائع الهاربة من الحياة، محاولة الإنسان القبض على المنسي والعادي بظن بعضهم. غير أن كلمة «العادي» يعاد إنتاجها وفق تخييل ومناخ آخر من الرؤية/الرؤيا والاستطراق البصري، لتكون حكاية أخرى!
طالما فكرت في مضمون، مغزى، أن تكتب. فوجدت أن ذلك ليس إلا سيرة مستترة وغامضة يصعب جدا تلمس كل حوافها، سبر أغوار ذلك المجهول والغريب.
هي سيرة الإنسان في تصاريف دهره، ومحاولته لاكتشاف المخبوء في تلافيف الذات والوجود.
وأن تكتب يعني فيما يعني أمورا كثيرة لا حد لها، تتوالد بين لحظة وأخرى، بحيث تصبح كثيفة لا محدود لها.
تمتد مثل ثقوب سوداء قادرة على ابتلاع كل شيء.
ومثل «بج بانج» ينفجر ليصنع الحياة الكونية الجديدة.
وإذ تشبه العملية برمتها الفيزياء والكيمياء والفلسفة، تساؤلات العلم سواء كان تطبييقيا أم نظريا.
ينشأ هوس الكتابة والرغبة في جعلها معنى من الطفولة وربما منذ جينات عابرة في سراديب الأجداد، وذات يوم تجد أنك بدأت، أن تقرأ وتكتب.
تكون فيها أنت كائنا آخر، ذلك الإنسان الذي يتنقل في أماكن غير مكتشفة، لم تطرق من قبل.
يمشي ويتقافز ويسير إلى أن يصل إلى نقطة ما، تجعله يفكر من أنا؟
يعيد السؤال أكثر من مرة.
لكن الكتابة.. ليست سؤالا مجردا عن الذات، ولا يمكن تضمينها في فحوى البحث عن معنى الوجود، فحسب.
هي أعمق وأوسع من تلك التصورات. بإعتبار أنها ما زالت لغزا كونيا، فيزيائيا، عمقا آخر لكون لم يفهم.
هل هناك علاقة بين الكتابة والمكان؟
الكتابة هي ابنة المكان والبيئة، فكرة قديمة ومتناسلة عبر العصور لكن ثمة التباسا كبيرا في فهمها ماذا تدل بالضبط؟!
فالكتابة ابنة البيئة والموقع والجغرافيا من حيث المتشكلات الثقافية والوعي المبكر والطفولة التي تصنع الخرائط السرية للذات. لكن ذلك لا يعني الموضوع والأمل في بيئة بعينها هي الحبل السري الذي تظل متصلا به..
قد يحدث ذلك في حدود مساحة مرئية ومشاهدة أو مدركة من الوعي الإنساني، لكنه لا يكون حقيقة في ما وراء البحث عن معنى الفن، الفنان، أن تكون حرا. أن تتفاعل مع الجنون الذي ينتج عن فعل الانفلات. طالما كانت الكتابة هروبا من سجن الذات باتجاهها.
وماذا يعني المكان، سوى أن يترحل في النفس البشرية، يشرد معها أينما حلت ويغيب، حتى أنه يعيد ابتكار الأمكنة الجديدة وفق شكله ومزاجه، بحيث يكون المكان الأول. الذاكرة الأولى.. مضمونا مجردا، لما سوف يأتي بعده. وبحيث تصبح الكتابة هي صنع المجردات بعيدا عن محسوس العالم وظنونه السيئة.
فالكاتب يعيد اكتشاف المكان في سفره وفي قراءاته وفي تشكيل وعيه الجديد بين يوم وآخر، إذا تعلق بالمعرفة والحس الصوفي الذي يحرره من التزام بدني ومكاني وجسدي.
هل البعد عن الوطن إيجابي ام سلبي مع الكتابة؟
دائما ما يسألني أحدهم هذا السؤال. بطريقته هذه أو بصياغة أخرى.
لكنني أسأل ما هو الوطن؟
وهو سؤال له ارتباط بما سبق حول ماهية المكان، علاقته بالذات المبدعة. هنا يصبح الوطن فكرة فلسفية ومجردة بدرجة كبيرة إذا ما كان التحرر الذاتي الحقيقي، وإذا ما أصبح الإنسان ابن حضارته الكونية، ليس مغلفا بأي أنا أو هياكل مستهلكة لصور مكررة درج الناس على استعمالها كما لو أنها حقائق دامغة، بعد أن تصبح الحقيقة هي تصورك المبدع، وقفزك باتجاه أن تحرر العالم حقا من الجمود والارتهان للعواطف الجياشة الكاذبة؛ أن يصبح معنى القدر لديك لطيفا. وبعد أن تكتسب مفردات الجمال عندك، وعيا داخليا خاصا، يتسربل في خلايا الدماغ، في اللاوعي واللاممكن وفي حدود ما وراءك دائما.. حيث لا ترى. حيث عالم «الميتاوطن»، ذلك المتشكل في غيب غريب، غامض كغموض الكتابة.
ما هو الاغتراب؟
.. وهذا أيضا سؤال يتكرر برغم أنه أُهِلك بالإجابات..
يقولون دائما إن هناك اغترابين: أولهما ذاتي وشخصي، يكون في مكان مجهول من خلية الكون التي يرمز لها الدماغ البشري.
وآخر عام وبدائي وساذج يتعلق بالفيزياء التشخيصية، بالأمكنة المدركة.
لكن الكتابة هي بحث هميم ضد الساذج، هي تفتيت لكل المحتمل، وهي مناجاة الغائب والبعيد.
بالتالي يصبح الاغتراب هو رسم اللوحة بريشة لا تعرف من يمسك بها، هي أنت. وأنت اللوحة. بظن أن الكل يكمل الكل. وأن الفلسفة في محاولة الوصول للجواب؛ هي طريق متصل باتجاه المغامرة والاكتشاف وليس بهدف المعنى النهائي الذي لا يتحقق أصلا.
الاغتراب هو سكن لحظي، هو الذات التي تهدد نفسها بنفسها من أجل أن تجد مساحتها في العالم. تلك المساحة المتلونة والعجيبة والأميبية التي لا شكل لها، والتي تأخذ شكل الأناء ولونه وجنونه.
هي ذلك الفضاء الآخر، البعيد، ذلك الثقب المضيء الباهر الذي سوف يأخذك إليه، يبتلعك بقوة ذات يوم لتقول، ياليتني كنت أعرف وأفهم المقصود من ذي قبل.
وساعتها هيهات.
لا مناص!
ما هو طموحك؟
دعني أسألك سؤالا أخيرا!!
أعني أسأل ذاتي عن الطموح، ذلك الاجترار البشري.
إن الزمن إيقاع متحرك لا ارتهان له أبدا. إنه طموحنا المتسرب بلا توقف، يتشكل في كل لحظة بصورة أخرى وبجديده. فأنت طموحك المستمر. وما علاقة ذلك بالكتابة/الفن/الحكاية إلا الرغبة الدفينة في أن تصوغ بداية لكل كمال، إذا ما شاهدت الشيء مكتملا فأنت لست فنانا. فالكتابة هي محاولة لنقد ونقض العالم وهي سعي من وجهة أخرى للترميم والبداية، الخلق.
هما وجهان متقابلان عالم/ واقع ما قبل وبعد الكتابة – لكل منهما خاصيته. ليس تقابل المرآة. فقد اخترعت المرآة لكي تهدم مشروع الفن وتجعله غبيا، فأدرك الرسامون ذلك فشرعوا في تصوير اللوحات الباهرة.
الطموح هو الكتابة. أن تكتب بلاوعي كما قال جورج أورويل.
أن ترى يدك تهتز أو الـ «كي بورد» يطرقع..
اسمع صوته واستجب لهمسه الذاتي.
أي همسك أنت أيها الطامح.
سافر معه إلى حيث مدن أخرى لم تخترع بعد، وحيث بدايات معلنة تجمدت عندها المدن فصارت نحاسية تحت الشمس.
سافر مرات ومرات ثم ابدأ في التمعن في الصور من جديد، في الأشياء، في خلايا دماغك السري.
من تكون أنت؟
لا إجابة.
فأكتب إذن وواصل التسطير لسطورك بلا نهاية.
عماد البليك *