أكتب هذا المقال من التاريخ وللتاريخ. أكتبه من التاريخ الذي أراه يتشكل من جديد بفضل كل صور قول «لا» و«كفى» التي ما زلنا نراها في بقاع مختلفة من عُمان. التاريخ إذًا لم ينتهِ كما صوره لنا البعض، وكأن أمر الشعوب قد حسم إلى غير رجعة بحسب أهواء غير أهواء هذه الشعوب وتقديرها لمنافعها في حاضرها ومستقبلها. التاريخ لم ينتهِ ولن ينتهي ما دامت على وجه البسيطة، ومنها أرضنا العُمانية، نفوسٌ حرّة لا تقبل أن تمضي منقادة في غيّ التغييب المنظم والانقياد والقبول بما لا يمكن قبوله.
التاريخ لم ينتهِ بل تتدخل الإرادة البشرية، ومنها إرادة العُمانيين، لتصنع بيدها وعلى أعينها أحداثًا جديدة، بعد أن كاد الجميع أن يتصور بأن أمر التاريخ قد حُسِم، وأن ما عشناه دهرًا سنعيشه إلى نهاية عُمرنا، وسيعيشه أبناؤنا وأحفادنا إلى يوم يبعثون. التاريخ لم يمت، لأن الروح لم تمت.
وأكتب هذا المقال للتاريخ، ليس خوفًا ووَجَلا من حساب على صمتٍ نرفض قبوله، بل ليكون رسالة نرسلها من حاضرنا هذا للمستقبل، ليقرأها من يقرأها في لحظة مستقبلية، سواء أكانت تلك اللحظة هي الساعة القادمة أو بعد يومين، أو بعد قرن أو دهر من الزمان، وليستنتج ذلك القارئ مرّة أخرى أن التاريخ العُماني لم يمت، لأن روح الإنسان العُماني لم تمت، بل إنها تتشبث بإرادتها وبقدرتها على صنع هذا التاريخ. أشعر أننا بالكتابة للتاريخ كما أفعل الآن مثل من يبعث رسالة إلى المخلوقات المجهولة في الكون الفسيح عن أن هناك كائنًا اسمه الإنسان يشاركهم الوجود في الكون الفسيح: هنا نحن نبعث رسالة للمستقبل إننا شعب حيّ كريم، يَقبَل الخير ويُقبِل عليه ويرفض الشر والفساد ويعاقب عليه، واننا بخير لأننا أحياء قادرون على حمل الأمانة التي تنوء عن حملها الجبال، وهي إرادة التغيير.
حديثي سيكون تفصيلًا لبعض النقاط الأساسية التي أرى وجوب تفصيلها عن الحالة الاحتجاجية العُمانية. النقطة الأولى هي أن التحرك الاحتجاجي هو حالة إنسانية، منبعها الحفاظ على كرامة الإنسان، وعلى إبقاء جذوة إرادته حيّة، كما أنها تنطلق من الشرائع والقوانين، فالقرآن الكريم ينص في سورة الإسراء على كرامة الإنسـان }ولقد كرّمنا بني آدم{، كما تضمن القوانين المعاصرة كرامة الإنسان فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان يضمن للإنسان التعبير عن آرائه ورفضه لما يحد من حرّيته وينتهك كرامته، كما ينص النظام الأساسي للدولة في السلطنة على هذا الحقّ في التعبير السلمي عن الرأي. وأضيف أن جلالة السلطان المعظّم قد عبّر عقب توليه الحكم في السلطنة عن تفهمه لمطالب المطالبين للتغيير آنذاك، وما كان التغيير المبارك الذي تم في يوليو 1970 إلا تعبير من قبل جلالة السلطان عن رفض الظلم، وعن قدرة الإنسان العُماني على التغيير. الحالة الاحتجاجية الحالية تنبع من نفس منبع الكرامة والإرادة: رفض الظلم ووجوب تغييره.
النقطة الثانية مرتبطة بالنقطة الأولى، ومفادها أن التحرك الاحتجاجي هو حالة وطنية، فالعُمانيون بشتى فئاتهم وفي مختلف مناطقهم يعبرون عن احتجاجهم على كثير من الأمور التي سادت قبل هذا الاحتجاج، فقد شارك العُمانيون من مختلف الأعمار والآراء والمهن والمحاتد فيها، وهي ليست مجرد فورة شباب فقط كما يحلو للبعض القول، كما رأينا هذا الاحتجاج الحضاري السلمي في ظفار (وهي الأرض التي شهدت التغيير في يوليو 1970) وفي مسقط العاصمة، وفي صور، وجعلان بني بوعلي، وصحار، وشناص، وينقل، والبريمي، وغيرها من مدن عُمان الكريمة. الرسالة واضحة هنا إذًا: أن عُمان كلها تشترك في الاحتجاجات. كما أن الحالة الاحتجاجية هي حالة وطنية لأن مطالبها تتسامى على المصالح الضيقة والمباشرة للمحتجين أو لمناطقهم، بل ان الجميع رفعوا مطالب وطنية عامّة، منطلقها رفض جادّ وصلب لممارسات سلبية وُجِدَت في كل الأرض العُمانية، وهي مطالبٌ سينهمر غيثها المدرار، حين تتحقق، على كل الأرض العُمانية الطيبة.
النقطة الثالثة التي ينبغي على الجميع، وخصوصًا الدولة، وضعها نصب الأعين هي أن الحالة الاحتجاجية ليست هي المشكلة بل هي البادرة اللازمة للحل والإصلاح، أي أن التحرك السريع والبعيد المدى لا ينبغي أن يركز على كيفية «الخروج من المأزق الحالي» (بحسب اللغة الصحفية المعتادة) وعدم تكرار ظهوره في المستقبل، بل علينا أن نفهم أن هذا «المأزق» سيكون هو نبع الخير العميم الآتي على عُمان، لأنه لو لم يحدث لسارت الأمور السلبية كما كانت، وربما قال قائل «ولكن هذا يدفع بخلخلة استقرار البلاد» والجواب هو أن البلدان الكريمة لا تعيش لكي تستقر، بل إنها تستقر لكي تعيش كما أنها تنتفض كي تعيش حرَّةً كريمةً، وحين يمتنع العيش الحرّ الكريم فلا ضير من خلخلة الاستقرار، ولا نقصد بطبيعة الحال خلخلة الاستقرار الأمني، فهذا خط أحمر كلنا ضده (ودرء الضرر الأعظم مقدم على جلب المصلحة الأصغر)، ولكن المقصود بالاستقرار الذي ينبغي علينا جميعًا خلخلته هو استقرار أحوال الفساد بكل أشكاله، فهو استقرار ينخر البلدان، ويصيب عظامها بالهشاشة الوطنية، ويتعداه إلى إصابة روحها بموت الكرامة والإرادة. هذا النوع من الاستقرار من الواجب المبادرة إلى نفضه وهزّه بل وزلزلته. الانتفاض الاحتجاجي في عُمان هو إذًا احتجاج مبارك لأنه يعبر عن رفض الفساد بكل أشكاله، ويعبر عن الأحلام والآمال الوطنية بشتى ألوانها، ولا ينبغي أن يتم التعامل معه على أنه هو المشكلة. الاحتجاج هو ضرورة لازمة من ضرورات العلاج، وما الفساد والصمت عليه، واحتضار الأمل أو موته، إلا السم الزعاف والداء الذي يقتل الأوطان والشعوب.
النقطة الرابعة تتعلق بمستقبل عُمان، وحق الجميع في المساهمة في صنعه. شعر الكثير من العُمانيين لوقت طويل أنهم مغيّبون عن صنع حاضرهم ومستقبلهم. شعروا بأنهم مجرد مشاهدين لمسلسل ممل لا يغطي حلقاته إلا ضباب الفساد بكل أشكاله، وهو مسلسل بدا لوهلة أن حلقاته لا تنتهي أبدًا. ما أود أن أقوله هنا هو أن الحالة الاحتجاجية التي تعم عُمان تخبرنا بأن عُمان ملك للجميع: لشعبها ولدولتها، وينبغي أن يشارك الجميع في صنع الحاضر والمستقبل مشاركة متكاملة تكون فيها الحكومة أمينة على مصالح الشعب، كما ينبغي أن توجد من الضمانات المؤسسية ما يكفل هذا، وأخص بالذكر ضرورة تحوّل مجلس الشورى إلى مجلس يقوم بالدورين الأساسيين التي تقوم بهما البرلمانات وهما التشريع ومراقبة أداء الحكومة ومحاسبتها.
النقطة الخامسة حول مفهوم «التخريب». ذكرت في الأعلى أن درء الضرر مقدم على جلب المصلحة، ومعنى هذا أن كل العُمانيين يرفضون أي حالة من حالات تخريب الممتلكات العامة أو الخاصة، ولكن علينا أن ننتبه إلى أن التخريب، وخصوصًا الذي شهدناه في صحار، هو محض هامش للحالة الاحتجاجية وليس أساسها، وهو أمر ينبغي أن يتم التعامل معه ضمن القانون، وينبغي استخدام القوة مع من يحاول أن يفتعله لأي سبب، فلا يمكن القيام بالإصلاح من خلال القيام بالفساد، غير أن القاعدة الأساسية هي أن الاحتجاج العُماني هو حالة سلمية حضارية عبّر ويعبّر بها العُمانيون عن رفضهم للحالة السابقة.
كما أود أن أشير إلى قضية في غاية الأهمية في هذا السياق، وهي أنه ينبغي على الجميع ألا يحصروا التخريب في ما شهدناه في صحار من حرق وإتلاف للممتلكات، بل ان كل فساد هو تخريب، وكل استغلال لمنصب من أجل إثراء أو نفوذ أو مصلحة أيًا كانت هو تخريب. التخريب لا ينبغي أن ينحصر في ما حدث في صحار فقط، بل أن تخريب الوطن من خلال الفساد السياسي والاقتصادي والإداري والمالي هو تخريب أخطر بكثير من تخريب الممتلكات (المرفوض بقوة كما أشرت). وهذا يعني أن على الدولة أن تحاسب كل المخربين، صغيرهم وكبيرهم، وأن يتم أولًا البحث الحقيقي الصادق في تهم الفساد التي يتهمهم المجتمع بها بناء على قواعد واضحة معلنة مثل قاعدة «من أين لك هذا؟»، وإن ثبتت عليهم التهم فالقضاء العُماني النزيه كفيل بالتعامل مع كل مخرّب لأي حق وطني وأن ينال من العقاب ما يستحقه، وكما فعلت في مقال سابق أعيد هنا قول جلالة السلطان المعظم في مجلس عُمان عام 2008: «وتجدر الإشارة هنا إلى انه لمّا كان الأداء الحكومي يعتمد في إرساء وترسيخ قواعد التنمية المستدامة على القائمين به والمشرفين عليه فان في ذلك دلالة واضحة على مدى المسؤولية الجسيمة المنوطة بالموظفين الذين يديرون عجلة العمل في مختلف القطاعات الحكومية، فإن هم أدوا واجباتهم بأمانة وبروح من المسؤولية بعيدا عن المصالح الشخصية سعدوا وسعدت البلاد، أما إذا انحرفوا عن النهج القويم واعتبروا الوظيفة فرصة لتحقيق المكاسب الذاتية وسلما للنفوذ والسلطة وتقاعسوا عن أداء الخدمة كما يجب وبكل إخلاص وأمانة فانهم يكونون بذلك قد وقعوا في المحظور ولابد عندئذ من محاسبتهم واتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة لردعهم وفقا لمبادئ العدل الذي أرسينا عليه دعائم الحكم والتي تقتضي منا عدم السماح لأي كان بالتطاول على النظام والقانون أو التأثير بشكل غير مشروع على منافع الناس التي كفلتها الدولة ومصالح المجتمع التي ضمنها الشرع وأيدتها الأنظمة والقوانين ومن ثم فإننا نؤكد على أن تطبيق العدالة أمر لا مناص منه ولا محيد عنه وان أجهزتنا الرقابية ساهرة على أداء مهامها والقيام بمسؤولياتها بما يحفظ مقدرات الوطن ويصون منجزاته». أقول منطلقًا من قول صاحب الجلالة المعظم هذا أن كل أشكال التخريب وأنواعه ينبغي محاسبتها وتقديمها للقضاء ومعاقبتها.
النقطة السادسة تتعلق بمسار عُمان المستقبلي عقب هذه الأحداث: لقد غيّرت هذه الأحداث عُمان تغييرًا كبيرًا، وهذا التغيير يقودنا إلى حقيقة أساسية علينا جميعًا أن نفهمها وهي أنه لا عودة للوضع الذي كان قبل هذه الأحداث، وأعني بطبيعة الحال ألا عودة للحالات السلبية التي كانت موجودة، بل إن عُمان خطت خطوات للأمام وهي رحلة في طريق واحد هو طريق الإصلاح والتغيير، وهذا يعني أن علينا أن نقف جميعًا ضد أي محاولة من أي كان للعودة إلى التعايش مع السلبيات والأمور المرفوضة، والتي قامت الاحتجاجات لإنهائها.
النقطة الأخيرة هي غلاف لكل النقاط الواردة فيما تقدم، ومفادها أن إصلاحات التغيير المطلوبة ليست إصلاحات معيشية واقتصادية فقط، بل إنها إصلاحات شاملة، وعلى رأسها الإصلاحات السياسية. المطالب المعيشية والاقتصادية طفت على السطح لأنها تمس الناس مسًّا مباشرًا في حياتهم ومعيشتهم وحقوقهم المباشرة من وظيفة وزواج ومأوى، وفي تقديم المطالب الاقتصادية المعيشية فإن علينا أن نميّز بين المطالب التي تبدو منطقية قابلة للتحقق والمطالب غير المنطقية التي يصعب أو حتى يستحيل تحققها، فتحديد الحد الأدنى للأجور مثلًا تحكمه عوامل كثيرة من أهمها مستوى الدخل القومي للبلاد، والنشاط الاقتصادي وغيرها من العوامل، ومن غير المعقول أن نشترط حدًّا أدنى للأجور لا يعكس وضع البلاد الاقتصادي ودخلها القومي، كما أن من غير المعقول كذلك المطالبة بإسقاط الديون الشخصية والطلب من الدولة أن تتولى دفعها، ذلك أن هذه أموال استفاد منها صاحب القرض شخصيًّا، ومن غير المعقول أن تتحمل ميزانية الدولة ديونًا شخصيّة استفاد منها صاحبها، كما أن ذلك فيه ظلم كبير لمن لم يأخذ قرضًا شخصيًّا واحتمى بالصبر وبتنظيمٍ صارمٍ لدخله وأوضاعه المالية للتعايش مع صعوبات الحياة وللتغلب عليها.
أقول إن المطالب المعيشية هي مجرد جزء من المطالب الإصلاحية السياسية الكبرى، وتشمل هذه المطالب الكبرى مشاركة الناس في صياغة ومراجعة دستور بلادهم (والقضية ليست الاسم هنا، بمعنى أن الاسم يمكن أن يظل هو «النظام الأساسي»، وفي اللغة العربية سِعَة) بما يحقق رؤاهم الوطنية لنظام الحياة في عُمان، إضافة إلى تحرير الإعلام العُماني من قيوده الكابحة للقول والتعبير عن الآراء المختلفة، ووضع النظم التي تحد من الفساد والتخريب بكل أشكاله، ووضع نظام صارم يتمتع بالمراقبة لصرف المال العام بما يضمن عدم التعدي عليه وعدم هدره فيما لا يجني منه الوطن العُماني الخير، وإصلاح حال مؤسسات الدولة المختلفة التي لا يختلف اثنان على وجود ترهل وضعف في أداء كثير منها، ونشر التعليم ومؤسساته بما يضمن حصول كل عُماني على التعليم الذي يرغب فيه وبما يضمن الصالح الكلّي للوطن العُماني في استعداده للمستقبل، مع وضع التنظيمات التي تضمن المهنية العالية الحقّة في مؤسسات التعليم بكل مستوياته.
والخلاصة هي أن التغيّر الذي أحدثته الحالة الاحتجاجية هو تغيّر كبير، والمطالب التي رسختها هذه الحالة هي مطالب كبيرة، والاستجابة بالإصلاح ينبغي أن تكون كبيرة ومستمرة بما يحفظ لعُمان روحها الحيّة وجذوة إرادتها الكريمة القادرة على صنع التاريخ العُماني الذي لن يموت لأن روح عُمان ستظل تنبض دائمًا عزّة وكرامة، ولن تموت.