(1)
عالم صغير في غرفة
بلا شك، من الصعب أنْ تحكم على الشخص من مظهره. هي بريطانية من أصل صيني. في الوهلة الأولى لم أجد فيها شيئًا ملفتا للانتباه. وذات يوم تحدثتُ معها بسبب نغمة هاتف كانت تنبعث من غرفتها. كل شيء فيها مألوف سوى شعرها الأشقر. الكثير من الصينيين تملؤهم السعادة حينما يجتمعون مع أقرانهم يرطنون بلغتهم التي لا نفهمها. ويبدون بعض التحفظ تجاه الآخر إلا فيما ندر. ويلقِّبون أنفسهم بأسماء أوروبية مستعارة وسهلة بسبب طول وصعوبة نطق أسمائهم الحقيقية. لكن البريطانية الصينية تختلف عن بقية الصينيين على الأقل من الذين التقيتهم وتحدثت معهم. هل لأنها عاشت في لندن؟
كانت غرفتها بجانب غرفتي التيتشبه كبسولة صغيرة جدرانها هشة أمام الأصوات. بداخلها حمام لا يغطيه سوى ستارة بيضاء.. كل شيء في متناول يدي: السرير والطاولة وجهاز الحاسب الآلي والتلفاز وجهاز الدي في دي والثلاجة الصغيرة والميكروويف، إلى جانب مغسلة مسطحة. كل هذه الأشياء في غرفة بحجم ثلاثة أمتار في أربعة. إن دخلت الحمام ونسيت شيئا فلا داعي لأن أخرج منه، من هناك أمد يدي وأجلب الشيء المطلوب بكل يسر. وإن كنت جالسًا على الكرسي أمام الطاولة واحتجت إلى شيء لآكله من الثلاجة ، أيضا أمد يدي وأجلب الشيء من داخلها وأدخله في الميكروويف لتسخينه. تلك الغرفة عالم صغير احتوى عالمي الأصغر عنه. لا يوجد ما يثير الاستياء. في هذه الكبسولة أنام وأدرس وأعيش فيها. كبسولة مؤثثة بشكل جيد. حياة صغيرة. لكنها جميلة. وكفيلة بأن تجلب لي السعادة.
(2)
نغمة هاتف
نغمة هاتفها النقال اخترقت جدران غرفتي الصغيرة. استيقظتُ والنوم يثقل جفوني، ففي هذا الوقت بالتحديد يرن هاتفها لثوان. وهذه الثواني تكفي لغرز أذناي بابر الانتزاق، وانتشالي من صندوق النوم.
كرهت تلك النغمة ولن أنساها أبدا. تنطلق مثل صاروخٍ صغير كل صباح مخترقًا الجدار الفاصل بين غرفتينا. صار قلبي يئن تحت وطأة صخبها. والذي يبعث على الأسى هو أنَّ هاتفها يرن قبل موعد استيقاظي. أحاول أنْ أرجع لصندوق النوم، ولكنني لا أستطيع. ربما صديقها يهاتفها في ذلك الوقت، أو أنها وضعت النغمة كمنبه ليوقظها.
وبعد أن تعرفت على جارتي الصينية قررت أن أعترف لها عن شعوري تجاه النغمة. ترددت في بداية الأمر حتى لا أزعجها. وبعد تفكير صرحت لها عن استيائي ومعاناتي بشكل غير مباشر، قلت لها بود:
– أنا معجب بنغمة هاتفك.. فأنا أسمعها كل صباح.
بادرتني بابتسامة. وقالت بأنَّ أمها هي من يتصل فيها. كانت تكلمها في هذا الوقت يوميًا لتطمئن عليها، فهو الوقت المناسب في بلدها، والمناسب إلى حد ما لجارتي.لكنه غير مناسب لي. ولكن بعد صبر وتفكير جعلتُ من هذه النغمة طريقا إلى النشاط ومنبها يوميا حتى في أيام الإجازات.
(3)
صباح من زجاج
صُنِعَ هذا اليوم من الزجاج. خرجت من غرفتي واستقبلني صباحٌ زجاجي ولكنه مكسور، فكلما مشيت في طريق رأيت الزجاج مكسورًا .. لوحة إعلانات تناثر زجاجها على الأرض، نافذة أحد المتاجر تشققت .. زجاج سيارة تناثر هنا وهناك.
شاهدت جارتي الصينية تجمع قطع الزجاج الملون والمتناثر على الطريق والذي تدفق من لوحة الاعلانات، أسألها بلغة إنجليزية عمانية (ماذا تفعلين؟)، وجاوبتني بابتسامة وبلغة إنجليزية ليست صينية بأنها تجمع قطع الزجاج من أجل درس في فن الكولاج. بادلتها الابتسامة وتيقنت بأنها تستمتع بتكسر الزجاج وتستفيد منه ، ثم وكأني رأيتها تتحول إلى كائن زجاجي ملون يحملني إلى السماء لننثر قطع زجاج ملون على بشر تحولوا إلى كائنات زجاجية. ثم عدت إلى الأرض، بينما هي ظلت جالسة في غيمة زجاجية. كل ما حولنا زجاج، بنايات شاهقة من الزجاج، هل ستتكسر؟ مرآة الغرفة، الحاسب الآلي، المصابيح، النافذة، الهاتف النقال، التلفاز، ماذا إن تكسر كل هذا الزجاج؟
قلت لها:
– ظننت بأنك قلت لي بأنك تدرسين تخصص التربية والخاص بالمعاقين.
أهدتني ابتسامة وأجابت:
– هذا صحيح.. فن الكولاج هواية.
صمتتْ قليلا ثم أردفتْ:
– على فكرة هذا التخصص ليس طموحي.. أقصد تربية الإعاقات الخاصة.
قلت لها:
– هل أجبرك أحد على دراسته؟
أجابت:
– لا..أنا أخترته بنفسي.
قلت:
– ولكن؟
أجابت:
– أنا الآن أدرس هذا التخصص من أجل أخي المعاق، وبعد أن أنتهي سأفكر بدراسة التخصص الذي أحبه.
تجمدت في مكاني، وأقشعر بدني، وتحول الزجاج ونغمة الهاتف وغرفتي الصغيرة إلى حدائق سحرية، واحترمت الابتسامة الصينية احتراما لا حدود له.
————————
يحيى سلام المنذري