مايزوز جيروم ليلى طيبي- مترجمة جزائرية
مزوَّدًا بمناهج العلوم الاجتماعية، يستمدُّ إبداعُ آني إرنو الأدبيّ وجودَهُ جزئيًّا من ممارستها للملاحظة الميدانيَّة. ولذلك، سوف ينطوي عملُها الأوفر من حيث التَّعليقات إلى غاية يومنا هذا، وهو “المكان” (الحائز على جائزة رينودوت عام 1984)، خلال مختلف فترات إنجازه، على عنوان “مبادئٌ في الإثنولوجيا العائليَّة2”. منذ عام 1980، استلهمت بشكل صريح طريقةَ كتاباتها من الأعمال التي أُلِّفَت في علم الاجتماع أو في الإثنولوجيا، كما استخدمت أدوات هذين العلمين ومنهجياتهما؛ فلقد كانت تقوم بإعداد قُصاصات تحضيريَّة، تسجِّلُ فيها ذكرياتها ومظاهر اجتماعية عاينتها، وكانت تعمل على جمع الشهادات، والصُّور، وعلى إبداء ملاحظاتها عن مواقع معيَّنة (كالسُّوبرماركت، والمترو)، ويتَّضح هذا كلُّه من كتابين، مذكِّرات الخارج (1993)، والحياة الخارجيَّة (2000)3.
في المقابلات التي أجرتها، قدَّمت الكاتبة نفسها على أنها عاشت، على تواصلٍ مع أوساط اجتماعيَّة مختلفة، في تجربة ذلك “المنشقَّ الطَّبقي” الذي يضعُ نفسَهُ باستمرار وبشكلٍ غير مقصودٍ في “حالةِ مراقب وعالمِ إثنولوجيا”. تقترح هذه المقالة دراسة النَّموذج السَّردي الخاصّ بموقف الشَّاهد عيان، من خلال تناول خيارين يجسدَّان ذلك: المنطوق المتعدِّد (النَّص السَّردي)، ثمَّ التَّوجُّه نحو “الكتابة المسطَّحة”.
في النُّصوص التي كُتِبت حول طريقة عملِها، تلخِّص آني إرنو مشروعَها في ذلك التَّصَرُّفِ الذي تقضي به بضمير المتكلِّم المتعدِّد بما يتوافق مع متطلَّبات نصوصها السَّردية (إرنو 1994). تريد الكاتبة أن تكون مصوِّرةً لعالم وعصر، متجاوزَةً ذاتيتَها الوحيدة للتَّعبير عن تجربة جماعية. في الواقع، فإنَّ التفكير في منطوق الرِّوايات (النَّص) واضحٌ في الأنماط الثلاثة التي استخدمتها إرنو على الَّتوالي: أولا “أنا” البطل المكتوب عنه في الرِّوايات بضمير المتكلِّم (الأدراج الفارغة، 1974)، ثم “أنا” المستخدم من قبل سيرتها الذَّاتيَّة في الحكايات العائليَّة (رواية المكان)، وأخيرا، في رواية السَّنوات (2008)، أين يتمُّ التَّخلي عن “أنا” لصالح المتكلِّم عن نفسه بضمير الغائب المؤنَّث “هي”، أو بضمير الجمع المناسب للوسط الاجتماعي “on”. يثير هذا الموضوع الانتباه كمصدر يليق النَّظرُ فيه بعمق، فالرِّواية قد تمَّ إدراجها في شكلها المنطوق (السَّردي)، ولكنَّها تتخلَّى عن تفرُّدها الطَّائش لأجل استيعاب جميع أنواع حقائق العالم “الخارجي”. وهو ما يعبِّر عنه مشروع “مذكِّرات من الخارج” كمذكِّرات غير شخصيَّة.
يتمُّ تقديم النَّص ذي السَّارد المتعدِّد في صيغة فعلٍ محايدٍ لا يتقدَّم أبدا على قيمِ الشَّخصيات ولا على اللُّغة. وتقف النَّاطقة بالنَّص طواعية “في درجةٍ أقلَّ ممَّا يقتضيه فنُّ الأدب”، متخلِّيَةً عن الأشكال البرَّاقة وعن أثر ذلك التَّوافق الذي تثيرُه الإيحاءات الأدبية:
وإذا كان مشروعي ذا طبيعة أدبيَّة، فلأنّ ذلك يعودُ إلى معرفة الحقيقة عن أمِّي؛ هذه التي لا يمكنها أن تكون مريضةً إلا بالمفردات. (أي، لا الصُّور، ولا الذِّكريات، ولا الشَّهادات العائليَّة بإمكانها إعطائي ذلك). ولكنِّي أرجو أن أبقى، في حالةٍ من الحالات، “في درجةٍ أقلَّ ممَّا يقتضيه فنُّ الأدب”4.
إنَّ البقاء “في الدَّرجة الأقلَّ ممَّا يقتضيه فنُّ الأدب” هو اتِّخاذ موقفٍ واضحٍ من الرِّوائيِّين المعاصرين، لاسيما أمام أنصار السَّرد الشَّكلاني. منذ “المكان”، تؤكِّد إرنو بطريقة نضاليَّة جدًّا “رفضَها للخيال”، بما يتَّفق واختيار الكتابة التي تغذِّيها ملاحظاتٌ ذات منحى متوافق مع علم الاجتماع5.
منذ فترة قصيرةٍ، أدركت أنَّ الرِّواية مستحيلة، لأنَّها حياة خاضعةٌ للضَّرورة، لا حقَّ لي لأنحاز للفنِّ ولا أن أحاول أن أصنع شيئًا “مشوِّقًا” أو “مؤثِّرًا”. سأجمعُ أحاديث أبي، حركاته، أذواقه، الوقائع البارزة في حياته، كلّ العلامات الموضوعيَّة لوجودٍ شاركتُ فيه أنا أيضًا. (المكان، ص، 20).
إنَّ ما تعبِّر به الرِّوائيَّة عند استخدامها لعبارة (“لا حقَّ لي أن أنحاز للـ..”) في شكلِ واجبٍ أخلاقيٍّ يقودها للتَّحدث لصالح قرَّاءٍ يتقاسمون معها التَّجربة نفسها في عدم امتلاكهم لتلك الشَّرعية الثَّقافية :
“من خلال أبي، شعرت أنني كنت أتحدَّث عن أشخاص آخرين أيضا، [من أجل] جميع أولئك الذين ما زالوا يعيشون في درجةٍ أقلَّ ممَّا يقتضي أن يكون عليه الأدب والذِّين لا نتكلَّم عنهم كثيرًا”6.
يعتمد المشروع الذي يستهدف هكذا متلقٍّ على بروتوكولٍ سرديٍّ واضحٍ وواقعيٍّ، مؤسَّسًا على ممارسات من المراقبة المتأنِّية، ورافضًا أيَّ لجوء للخيال. على حافة المكان، تقدِّم المتداخلات السَّرديَّة7 هذا الشَّاهد الـ”أنا” ومشروعه القائل:
“سأجمعُ أحاديث أبي، حركاته، أذواقه، الوقائع البارزة في حياته، كل العلامات الموضوعيَّة لوجودٍ شاركتُ فيه أنا أيضًا”. (المكان، ص،21).
“لقد انتهيت من الكشف عن الإرث الذي كان عليَّ إيداعُه على عتبة العالم البرجوازي والمثقَّف عندما دخلت إليه”. (المكان، ص، 100).
يتجلَّى، انطلاقًا من هذه الخيارات السَّرديَّة، “موقفُ” المؤلِّفة، بالمعنى المحدَّد لهذا المفهوم: فمسارات آني إرنو الأدبيَّة ذات الطَّابع العمومي، مواقفها وحواراتها وصوتُها النَّاطق بالنُّصوص أيضًا تتقاطع مع السِّمة الاجتماعية للانسان الشَّاهد8 ومع اعتباطيَّة النَّظرة الإثنولوجيَّة للعالم. بتجديدِها المتفرِّد للرِّواية السَّاردة لحكايات المهانة الاجتماعيَّة (حيث روسو وجينيت مَعْلماها الأساسيَّان)، ستحوِّل إرنو موقفها الإثنولوجي النَّاتج عن مراقبتها الدَّقيقة والواعية إلى ممارسة عمليَّة، بحيث تحقِّق في “الذَّاكرة المهينة” لغرض تفكيك ذلك العار الذي لحق بمجتمعٍ لطالما خضع لزمن طويلٍ من الامتحانات (المكان، ص، 65 و10). وستمثَّلُ الأهداف الأساسيَّة للسَّرد في إعادة تأهيل وإصلاح وبناء انسجامٍ لقصَّة مؤلمة إلى غاية اليوم.
إنَّ الأمر يتعلَّقُ حقيقةً بأخلاقيات السَّرد، فالعمل في الكتابة لامرأةٍ اعتبرت نفسَها خائنةً لطبقتها الاجتماعيَّة يقوم بإصلاحٍ متأخِّر، بل يبادرُ إلى لملمة شمل العائلة والمجتمع. ينجرُّ عن هذا الاصلاح آثارٌ تكشف في المنطق الاجتماعي عن حياة المقهورين، وهي آثارٌ تعيد الذَّاكرة للمستبعدين من التَّاريخ، كما استنتج ذلك أيضًا، في المرحلة نفسها، بيار بارگونيو، (فتات، 1995)، فرانسوا بون (الجنازة، 1992)، وبيار ميشون (حياة جوزيف رولان، 1998).
الكتابة “المسطَّحَة”:
في عمقِ تصوُّرات إرنو حول القيم التي تقوم تقنية الكتابة لديها بنقلها، تقيمُ داخلَ هذه التَّصوُّرات قناعةٌ بأنَّ “الموقف الاجتماعي والثَّقافي للرَّاوي” يشكِّل قضيَّة محوريَّةً في السَّرد9: ففي مشروعها الأدبي التّوثيقي (الشُّهودي)، لا تتمتَّع الرَّاوية بأيِّ وضعيَّة تسمحُ لها بالإشراف من الأعلى (للسُّخريَّة أو للتَّناول العلمي) على الشَّخصيات التي لا يمكن للرَّاوية أن تتظاهر بالحكم على قيمها، وإنَّما تكتفي بوصفها وتأويلها وفق أطر الثَّقافة الخاصَّة ببيئة هذه الشَّخصيات نفسها10.
“لا شعر ذكريات، لا سخريَّة متوهِّجة، الكتابة المسطَّحة تأتيني تلقائيًّا، هي نفسُها التي كنت أستخدمها للكتابة، فيما مضى، إلى أبويَّ لأقول لهما الأخبار الهامَّة”11.
“كنتُ أردُّ أيضًا بنبرة تقريريَّة. كانا قد شعرا بأنَّ الصِّيغ الأسلوبيَّة هي طريقة لخلق مسافة بيننا.”12
على العكس من ذلك ، فإن الهدف الكامل من هذه السَّرديَّات، في بساطتها الشَّكليَّة الظَّاهرة، يتمثَّل في إعادة اكتشاف وجهة النَّظر الاجتماعية التي تقاسمتها وإيَّاهم، قبل ولوج بيئة اجتماعية أخرى بفضلِ التَّعليم: فعدم تناولِ أبيها وأمِّها بتلك الأحكام الغامضة التي تطلقها الطَّبقاتُ المثقَّفة على الأوساط الشَّعبيَّة، ولكن لوصفهما، مثل عالم الإثنولوجيا، في انسجامهما الخالص. لا مكان في هذا المشروع الأدبي للنَّظرة الغرائبيَّة والمُشفِقة إزاء الـ”أناسِ الشُّجعان”، ولا للسُّخرية إزاء “العالم الكادح”.
يستحضر مفهوم الكتابة” المسطَّحة “أو” المحايدة”13 تلك الفكرة التي اقترحها في الماضي رولان بارث عندما عبَّر عن تأمُّلاته بخصوص الكتابة “المحايدة” أو “البيضاء”:
ومهما كان الشَّكل الأدبي، فإنَّنا نجدُ فيه اختيارًا عامًّا لنغمة أو صفة معبِّرةٍ عن روح الجماعة. وهاهنا تحديدًا، يعبِّرُ الكاتبُ عن تفرُّده بوضوح، لأنَّ ههنا موضعُ اِلتزامه.14
وبينما سيترتَّبُ الأسلوب عن المزاجيَّة والدافع البيولوجي وفق بارث، فإنَّ الكتابة، من جانبها، تشكِّل خيارا ينبع من “تأمُّل الكاتب حول الاستعمال الاجتماعي لشكل كتابته والاختيار الذي يضطلعُ به هذا الشَّكل”15.
تتحمَّل إرنو بمسؤوليَّة كبيرةٍ هذا المدلول الاجتماعي والسِّياسي البحت لفعل الكتابة، بل وتشير صراحةً إلى بارث16. إنَّ الكتابة المسطَّحة تسمحُ بالتَّحكم في النَّص الأدبي وقيمِه، بـ”تجنُّب التَّواطؤ، وذلك التَّوافق الطَّبقي، مع القارئ الذي يُفترضُ فيه أن يكون مُهيمِنًا” لغرضِ “منعِه من أن يأخذ موقعًا يعلو به على أبيـ[ـه]”. إنَّه خيارٌ سياسيٌّ، وضروريٌّ، لا هوادة فيه”17. وللحفاظ على هذا التَّأثير، تتكوَّن مادَّة السَّرد قبل كلِّ شيءٍ من مفرداتٍ وصورٍ مستلْهَمَةٍ من الحياة الحقيقيَّة :
“يبدو لي أنني أحاول دائما الكتابة بهذه اللُّغة الماديَّة لذلك الزَّمان، وليس بالمفردات والتَّراكيب التي لم تأتِ إليّ، ولن يكون لها أن تأتي إليّ أبدًا. لن أعرف أبدا سحرَ الاستعارات، ولا بهجة الأسلوب”18.
صحيحٌ أنَّ آني إرنو تستعيرُ من بيار بورديو مفهوم “المسافة الموضوعيَّة”19، ولكنَّها تدمجها ضمن كتابةٍ ليست من علم الاجتماع، معتمدةً على طرق السَّرد، والصُّور والتَّوصيف المستخدم عادةً في الأدب:
“عندما أكتبُ، فإنَّه تحضرني في بعض الأحايين، وليس دائمًا، رغبةٌ في استخدام بعض مفردات علم الاجتماع. ذلك أنَّني حين أكتب، فإنَّ الأشياءَ لا تتمثَّل أمامي في شكلها المجرَّد، […]، وإنَّما ما يأتيني، تلك الصُّور، وتلك الأحاسيس. […] إنَّ الكتابة باتِّخاذ مسافةٍ، إنَّما هي لإعطاء نوعٍ من الموضوعيَّة لحالتي…” 20.
إنَّ “الأدب” باعتباره مِسطَرَةً للنُّصوص التي تنشرها المؤسَّسات المعرفيَّة، يثير مخاوفَ ثقافيَّةً لدى أولئك الذي لا يملكون شفرات لامتلاك المعرفة، ويمكن اعتبار أب21 الرِّوائيَّة واحِدًا من بين هؤلاء.
” […] إنَّ تبنِّي “كتابة باتَّخاذ مسافة”22 التي تتوافق مع وضعيَّة [الكاتبة] هو الموقف السَّردي الوحيد الذي يمكن الدِّفاع عنه […]. بالنِّسبة [لها]، يشير هذا التَّعبير “الكتابة باتَّخاذ مسافةٍ” إلى كلٍّ من الأسلوب، الصَّوت الخالي من العلامات العاطفيَّة، والمنهجيَّة…”23.
يرتبط السَّرد المسطَّح مرَّةً أخرى بالطَّريقة نفسِها التي يتمُّ بها التَّعامل مع مفردات الحياة الموصوفة بـ”الكادحة”. تحتلُّ هذه العبارات والمفردات التي توضع بين (علامات الاقتباس أو في خطٍّ مائل) مكانةً مهمَّةً في الحكايات حيث تبدو بمظهر من تطوي داخلها شهادةً عن التَّعدُّدية اللُّغويَّة الاجتماعية المتصارعة ص5 (فيما بينها). تجتهدُ السَّاردة كي لا تتبنَّى، بخصوص طرق التَّعبير، وجهة نظر معيارية، أفرزها ذلك الحكم المتداول في المنهج المدرسي:
“وحيثُ أنَّ المدرِّسة كانت “تُصحِّحُ” لي، أردتُ فيما بعد أن أصحِّحَ لأبي، أن أوضِّحَ له أنَّ “التَّأرض”24 أو أنَّ “السَّاعة ربع إلَّا الحادية عشرة” غير موجودتين. ذات مرَّة غضب غضبةً شديدةً. مرَّة أخرى: “كيف تريدون ألَّا يصحِّحَ لي، وأنتم تتحدَّثون خطأً طوال الوقت”. كنتُ أبكي. كان تعيسًا.25 ”
من النَّاحية السَّرديَّة، يبدو أن الأنا السَّاردَ يرفض تلك القيم التي بسببها وضع الأنا المسرود عَنْهُ كلامَ الأب على محكِّ التَّصحيح. وإذا كانت التَّعليقات السَّرديَّة الكثيرة تحمل في طيَّاتها حكمًا قاسيًا إزاء الاستخدامات الأدبيَّة للُّغة الشَّعبيَّة، فإنَّه في هذه الحالة، يكون حكم الكاتبة قد تميَّز بحياديَّة تامَّةٍ كتلك التي يتميَّزُ بها علماء الاجتماع.
“كانت اللَّهجة الإقليميَّة هي اللُّغة الوحيدة لأجدادي.
ثمَّة بشرٌ يتذوَّقون “بهاء اللَّهجة الإقليميَّة” والفرنسيَّة الشَّعبية، كذلك كان بروست ينقل باستمتاع أخطاء “فرانسواز” وكلماتها القديمة. لا تهمُّه غير الجماليَّات لأنَّ “فرانسواز” خادمته وليست أمَّه. ولأنَّه لم يشعر قطُّ بهذه التَّركيبات ترد تلقائيًّا على لسانه.26″
وإذا لم تكن راضيةً عن الحروب الواقعة بين اللّغات وأسسها الاجتماعية، متسائلةً في الوقت نفسه عن اللُّغة الفرنسيَّة الوطنية التي تُلقَّن في المدارس كنموذج وحيد، فإنَّ إرنو تتهجَّم (بعد لويس-فرديناند سيلين الذي كان قد أطلق الانتقادات نفسها) على ذلك الحكم اللُّغوي لمارسيل بروست؛ هذا النّصب الأدبي الفرنسي بامتياز. وفي الوقت الذي شجَبت فيه التَّصوُّر المنبوذ للأوساط الشَّعبية التي يُكتبُ عنها في الثَّقافة ذات المستوى المتوسِّط، استطاعت إرنو أن تتملَّك الأدوات الفكريَّة والكتابيَّة هذه، لدرجة الذَّهاب إلى حدِّ القول إنَّها “تستخدم تلك المعرفة بالكتابة” المختلَسَة “من الطَّبقة المهيمِنة27”. إنَّ “الموقف” الذي وصفته يتراجع هنا متَّخِذًا مكانا يقف فيه الأدب الصَّريح، المناقض للتَّقليد المعرفي السَّائد.
خاتمة:
بعد أن تخلَّت آني إرنو نهاية 1970 عن الفنِّ التَّخييلي في الرِّواية، توجَّهت نحو خيار الشَّهادة السَّردية المستنسخة عن مشروع قريب من علم الإثنيات (الإثنولوجيا)، كما يدلُّ على ذلك اعتمادُها على ضمير المتكلِّم “أنا المتعدِّد”. يمثِّلُ هذا أيضًا انحيازًا، في مجال الأدب المعاصر، عن الإدماج المتزايد للـ”أدب” ضمن الفنِّ التَّخييلي وحده وعن الاستخدامات المنبوذة للخيال. بالإضافة إلى ذلك، يهدف الاشتغال الدَّؤوب لكتابةٍ محايدةٍ أو “مسطَّحة” إلى إضفاء طابع النِّسبيَّة على تلك الأولوية التي نعطيها للوظيفة الجمالية، لتمكيننا، ونحن نكتبُ الأدب، من تحقيقِ هدفٍ معرفيٍّ متحرِّرٍ من الأحكام الاجتماعية الجاهزة. لقد أعاد الفيلسوف جاك بوفريس إلى الأذهان مؤخَّرا في كتابه “معرفة الكاتب (2008)” صورةَ المعارف التي يختصُّ بها الأدب والتي تمَّ التَّقليل من شأنها إلى حدٍّ كبير، بل وإنكارُها أيضًا، خلال الفترة البنيوية والشَّكلانيَّة، وفق ما قاله. إنَّ الكتابة بـ”اللُّغة الماديَّة” في روايات آني إرنو تتمثَّلُ في كونها أداةً أخلاقية للمعرفة أكثر من كونها خوضا لغمار الأدبيَّة28. (La Honte, p. 74)
يمكن لمشروع الكاتبة الموصوف بكونه “سيرة ذاتيَّة اجتماعيَّة”29 أن يواجه بشكلٍ مثمرٍ منهجيةَ “التَّحليل الاجتماعي الذَّاتي” التي استخدمها بيير بورديو في عمله الذي نُشِر بعد وفاته، “نظرة في التَّحليل الاجتماعي (2004)”. تمثِّل هذه المسألة المتمثِّلة في تجسيد العودة إلى الذَّات الاجتماعية الشَّرط الأساسيَّ لأي أخلاقٍ في الكتابة، بالمعنى الذي تناوله بارث (1953)، وبالتَّوجه الذي اختارته إرنو لنفسها إزاءَ “موقفـ(ـها) من الكتابة”30.
الهوامش
1 -MEIZOZ Jérôme, « Éthique du récit testimonial, Annie Ernaux », Nouvelle revue d’esthétique, 2010/2 (n° 6), p. 113-117. URL : https://www.cairn.info/revue-nouvelle-revue-d-esthetique-2010-2-page-113.htm
2 -Ernaux, «Raisons d’écrire », dans Dubois J., Durand P., Winkin Y. (dir.), La Réception internationale de Pierre Bourdieu, Presses de l’université de Liège, 2005, p. 345.
3 -Charpentier Isabelle, «“Quelque part entre la littérature, la sociologie et l’histoire…”. L’œuvre auto-socio biographique d’Annie Ernaux ou les incertitudes d’une posture improbable», dans COnTEXTES, n° 1, septembre 2006, revue de sociologie de la littérature en ligne: «http://contextes.revues.org/index74.html ».
4 -Une femme, p. 23.
5 -Ernaux & Frédéric-Yves Jeannet, L’Écriture comme un couteau, 2003, p. 80-81.
6 -Ernaux, entretien avec I. Charpentier, février 1995, dans I. Charpentier, «“Quelque part entre la littérature, la sociologie et l’histoire…”. L’œuvre auto-sociobiographique d’Annie Ernaux ou les incertitudes d’une posture improbable», p. 10.
7 -ولقد استخدم الكاتب الأرجنتيني خوليو كورتازار في قصَّةٍ بعنوان (استمرار الحدائق) نشرت سنة 1956 هذه الظَّاهرة السَّرديَّة، حيث نقرأ أنَّ شخصًا ما كان يقرأ في كتابٍ قصَّةَ امرأةٍ كانت تخون زوجها مع حبيبها الذي سيتوجَّه لقتل الزَّوج، هذا الأخير، وهو ما سنكتشفه في النهاية، ليس سوى الشَّخص الذي كان يقرأ ذلك الكتاب.
8 -Philippe Roussin, «L’économie du témoignage», dans Communications, n° 79, Seuil, 2006, p. 337-363.
9 -Ernaux, «Vers un je transpersonnel», dans Lecarme Jacques (dir.) Autofiction & Cie, RITM, n° 6, université de Paris X, 1994, p. 221.
10 -Ernaux a été une lectrice passionnée d’un texte fondateur des cultural studies, traduit dans la collection «Le Sens commun» de Pierre Bourdieu: Richard Hoggart, la Culture du pauvre, trad. fr., Minuit, 1970 [1957].
11 -اُنظر المكان، ص 19- (La Place, p. 21).
12 -اُنظر المكان، ص57، 58، – (La Place, p. 81 ).
13 -Pierrot Jean, «Annie Ernaux et l’“écriture plate”», dans Rabaté Dominique et Viart Dominique (dir.), Écritures blanches, Presses de l’université de Saint-Étienne, 2009.
14 -الكتابة في درجة الصِّفر، رولان بارث، ترجمة محمد نديم خشفة، مركز الإنماء الحضاري، ط1، 2020، ص 20.
Barthes, «Qu’est-ce que l’écriture ?», dans le Degré zéro de l’écriture, p. 14.
15 – المرجع نفسه: ص22،23 / p. 15.
16 -Ernaux & Jeannet, L’Écriture comme un couteau, 2003, p. 79.
17 -Ernaux, «La littérature est une arme de combat…» (entretien avec Isabelle Charpentier), dans Mauger Gérard (dir.), Rencontres avec Pierre Bourdieu, Paris, Éditions du Croquant, 2005, p. 169.
18 -(La Honte, p. 74).
19 -Ernaux, «La littérature est une arme de combat…», 2005, p. 167.
20 -المرجع نفسُه، والصَّفحةُ نفسُها
21 -Jérôme Meizoz, “Annie Ernaux, une politique de la forme”, dans Durrer S. et Meizoz J. (dir.), « La littérature se fait dans la bouche», Versants n° 30, Champion, 1996, p. 45-62.
22 – أن يكون هناك تعاطٍ نسبي مع ظاهرة ما دون إقحام الأحكام الجاهزة وإطلاقها دون مبرر.
23 -Ernaux, «Raisons d’écrire », dans Dubois J., Durand P. et Winkin Y. (dir.), Le Symbolique et le Social : la réception internationale de Pierre Bourdieu, Liège, Presses universitaires, 2005, p. 345.
24 -استخدمت الرَّاوية عبارة “se parterrer” التي استنبطها والِدها خطأ على قياس العبارات التي تبتدئ بـ”se”، والتي تفيد صرفيًّا قيام الفعل على صاحبه وليس على غيره، على سبيل المثال: completer و se completer، فالفعل الأول يفيد معنى أكمل والثَّاني معنى أكمل نفسه أو اكتمل. وقياسا على هذا، عندما أراد والد الرِّوائيَّة استخدام فعل الارتماء على الأرض، ركَّب من “par”و”terre”، بالاضافة إلى “se” جملة غير صحيحة فرنسيًّا.
25 اُنظر المكان (مترجمةً)، ص 43، أو (La Place, p. 57-58)
26 اُنظر المكان (مترجمةً)، ص 42، أو (La Place, p. 56)
27 -Ernaux & Jeannet, L’Écriture comme un couteau, 2003, p. 33.
28 -Gérard Mauger, «Les autobiographies littéraires : objets et outils de recherche sur les milieux populaires », dans Politix, n° 27, 1994, p. 32-44.
29 -Ernaux & Jeannet, L’Écriture comme un couteau, 2003, p. 21.
30 -Ernaux & Jeannet, L’Écriture comme un couteau, 2003, p. 37. À partir de la notion de «posture littéraire» que j’ai proposée dans Postures littéraires, Mises en scène modernes de l’auteur (Slatkine Érudition, 2007), Isabelle Charpentier décrit aussi la «posture ambivalente» d’Ernaux entre littérature et sociologie, cf. «Quelque part entre la littérature, la sociologie et l’histoire…», 2006, p. 1.