في قصائد «الأيام ليست لنودعها» للشاعر عبده وازن (منشورات الجمل 2014) , تميل العبارة ومعها الفكرة بين يديه , غالباً , إلى الغموض أو الإمحاء . كرجل بصمت شجرة . كقتلى وقاتلين لا يملون القتل معاً . كان يكون أحد هو اللاأحد . كان يكون «غداً» خطأً لغوياً من ارتكابات الزمن …. وهذا يجعله في حيرة مع اللغة , أو يجعل اللغة في حرج تجاهه . يقول : رجل بلا … طيف رجل بلا … «يدخل المراَة ويخرج \ لا يبصر نفسه» (قصيدة «و») ويتابع الهفوات الدامية للغة متابعته لمتاهة النفس : الوردة جرح في جرح . والقصد الاندراج (وادراج الاَخر – القارئ) في غيبوبة المعنى من خلال غيبوبة اللغة . لا أقول غياب المعنى بل أقول غيبوبة المعنى . والفرق بينهما كبير . فالشاعر ليس غائباً أو نائماً . ولكنه غائم . أو يمشي على حد شفاف بين النوم واليقظة . تنظر إليه وهو يسير مسرنماً على سطوح نصوصه وتخاف أن يقع . لكن المسرنم لا يقع ويعبر مفاصل الخطر والحدود عبوراً واثقاً وإن على قلق . ريم الجندي في رسمة الغلاف كأنما دخلت في عصب هذا الشعر حيث رسمت مدينة يطير فوقها رجل بجسد طائر ويدين مفرودتين كأنما تماماً هو الشاعر أو طيفه الطائف في سرنمات الليل …وبين الليل واليقظة . وهنا تشعر أن الشاعر في القصيدة , يلعب لعبته في اللعبة . ففي قصيدة «لا أحد» (إلى فرناندو بيسوا) يقف امام المراَة ويقول: هذا لا أحد. «لكنني أعرف جيداً أنني احد أولئك.. «ويمعن في اللعب المحير بمفردات اللغة القليلة التي يرتبها ويعيد ترتيبها لا لكي يوضح ما يرمي إليه , بل لكي يدخل معها ويدخلنا في الدوار اللذيذ . هذا جزء من سر الشعر : «لا اقول إنني لا أحد \ أقول أنني أحد هؤلاء الذين هم لا أحد». يدخل عبده وازن في نصوصه في لحظات تواشج (هارموني) مع الناس والأفكار والأشياء . أو مع الأحاسيس والتهيؤات وهي هذه مادة القصائد . تكاد لا توصف لعدة أسباب . من بينها غموض ماهيتها. فهو و إن كان مترسلاً في كتابته . أو مائي اللغة . طالعاً من جذور بعيدة من النثر العربي الشفاف في ترجمة اليازجيين للكتاب المقدس , والوارث الكبير للترسل العربي أمين نخلة , إلا أنه ينحاز بالغموض إلى الشفافية أكثر من انحيازه للوضوح . بذلك ينتقل النص من سرديته أو نثريته بسبب عدم انتظامه في الوزن والقافية , إلى الروح الأثير للشعر , وهي مادته , أعني ذلك المزيج في الإيقاع النفسي المتاَتي من هندسة اللغة والكلمات أو هو ما ارغب في تسميته بالتواشج أو الهارموني …. وهي كلها من معاجز اللغة . قلنا إنها هارموني تكاد لا توصف , فبعد غموض ماهيتها , يأتي تبادل الأدوار , وحرج العبارة . صحيح لا مفر من اللغة , ولكن صحيح أيضاً أنه لا مفر من الالتباس والاعتذار الدائم . ذلك أن اللغة . في توقها المحموم في القصيدة نحو الشعر . تسحب خلفها كل شيء : فكرة الفيلسوف وجهد المؤرخ وتوق الموسيقي وحبكة الروائي .. وهذا ما يجعل الشعر في أول الصف . ذلك ما فات فلاسفة اليونان المشائين أن يدركوه في حواراتهم حول الشعر . كان أفلاطون يرغب , مختبئاً في حوارات الجمهورية . وراء معلمه سقراط . في إثبات أن الشعر محض وهم لسفسطائيين. او هو تقليد تصوير بالكلمات لتقليد صانع بشري (نساج أو نجار مثلاً) لصانع مثالي يقيم مع مثالاته في مكان غامض . لكن , ها هو الشعر , مع إضافة الزمن , يثبت تماماً في المكان حيث كان الفلاسفة اليونان يرغبون في تحطيمه .
في محاورة سقراط مع غلوكن في الجمهورية . والأرجح أن غلوكن هو صدى ببغائي لسقراط , يقول جلوكن ليظهر أن الشعر سفسطة : « إنك تذكرني بأحجية التضاد التي تتلى على موائد الطعام للتسلية . تقول الأحجية : قيل أن رجلاً ليس برجل رمى وما رمى طائراً وليس طائراً جاثماً وليس جاثماً على غصن وليس بغصن . بحجر وليس بحجر …» وهكذا للدلالة على الموجود والمعدوم في وقت واحد . يجيب سقراط المرموز إليه في المحاورة بحرف «س» : «نحن أبرياء في وضعنا الشاعر مع الرسام فإنه يشبهه في إيراده التافهات إذا قيست بمقياس الحقيقة . وإذا الحال هكذا , فنحن أبرياء إذا حظرنا دخوله الدولة الراغبة أن تتمتع بنظام حسن .لأنه يثير قسم النفس الحقير , ويقيته ويشدده « (جمهورية أفلاطون . نقلها إلى العربية حنا خباز , دار الكاتب العربي , بلا تاريخ للطبعة , ص 253 , وص 422 ) .
نلاحظ هنا أن هذا النظر الفلسفي للشعر خلله كامن في العصب . والعصب هنا شبيه بوتر في قيثارة . إذا كان الوتر رخواً أو مقطوعاً , فلن يعزف لحن . سيأتي من يقول إن الخلل في اللحن . في حين أنه في الوتر . خلل ما زال يتردد بين الحين والاَخر , من عمق الفلسفة اليونانية حتى هذه الأيام .
• إضافة الزمن
على نصوص عبده وازن في «الأيام ليست لنودعها» نكهة رثاء . وهو يبدأ بمرثية وينهي بمرثية . ففي اولى القصائد بعنوان «منادمة» يقول «في الصباح لم نستيقظ \ لأننا لم ننم» وفي الأخيرة بعنوان «النائمة : ( إلى ليليان سوسنة الصباح التي سقطت في مهوى الأربعين ), يقول في ما يشبه لغة تغار من نفسها :
« الجميلة التي نسيت أن تستيقظ \ الجميلة النائمة \ النائمة التي ستظل جميلة \ الجميلة التي نامت \ النائمة التي ستظل جميلة \ الجميلة التي نامت \ الجميلة التي لم تستيقظ \ الجميلة التي استيقظت ثم نامت \ الجميلة النائمة \ التي تستيقظ ثم تنام \ الجميلة التي ستظل تستيقظ ثم تنام ….».
إذن , ما بين نوم ليلة ويقظتها (وكأننا لم ننم ولم نستيقظ). تمر الحياة مر السحاب . الشعر بأكمله . من جاهليته العميقة حتى اليوم , بمثابة وداع متكرر لما نستقبله على هذه الارض , وسرعان ما يغيب في قلب ليل عجيب هو في النتيجة فراغ …. فراغ نظنه يمتلئ لكنه فراغ . المرعب أن هذا الفراغ يكاد يلتهم الوجود برمته . يكاد لا يذكر الإنسان أنه عاش . يكاد يكون باطل الأباطيل هو الوجود . ذلك الذي ذكره العهد القديم . يقول الشاعر الجاهلي مظاظ بن عمرو الجرهمي قصيدة ما زال بيتان منها يذكران حتى اليوم , للدلالة على أن كل عيش جميل كأنه لم يكن : « وقائلة والدمع سكب مبادر \ وقد شرقت بالدمع منها الحناجر
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا \ أنيس ولم يسمر بمكة سامر»
إذن : كان لم يكن بين مكانين , انيس . ولم يسمر بمكة سامر …
هذا هو سبب بكاء الشعراء الطويل ومراثيهم التي لا تنفذ .
يقول عبده وازن في اَخر قصيدة «حبور» : «بعد الاَن , لن ننظر إلى قمر يلتمع مثل برتقالة , السماء أصبحت هاويتنا , التي فيها نحلق في حبور ماورائي». إنه غالباً ما يشرك عناصر كونية في لعبة تأملاته . ولكنه سرعان ما يسرع نحو الماوراء . نحو الغيب . بمعنى انه إذا كان الشعر جرحاً من جروح الغيب (على ما نرى ونعرفه) فلا بد من أن تسربل الميتافيزيقيا مفردات الوجود في القصيدة . الشاعر معني بمراقبة الأشياء . هذا صحيح . برصد ما يجري على ما يقول رودان «حين تسرح امرأة جميلة شعرها فإنها تقلد حركات النجوم». لكنه بعد ذلك , معني بسؤال الغامض والمصير . فمهما كان الشاعر حسياً ويومياً ومباشراً , مهما كان عددياً , فإنه لا يستطيع أن يتلافى لعبة الزمن . إنه البعد الرابع لكل قصيدة . وهو يأخذ في قصائد الشاعر لبوسات متنوعة . وهو سر المراثي . وفي أصل الرومانسية . يقول «لا اسامك أيتها الشجرة» (قصيدة توأمان) . إنه ينتبه للاثر : هو والشجرة . الظل والشجرة . مرور الأيام . الغياب المفتوح مثل كتاب مفتوح على طاولة العزلة . الأفول . سقوط رجل عن شرفة , ثمرة (أو ملاك) عن غصن . مزهرية عن نافذة …… إنها وسواها في نصوص الشاعر , عدة مرور الزمن . سواء كان ذلك صعوداً في السماء أو نزولاً في النهر . وبين حركات الزمن أو بين طياته , ثمة ظلال تتوالد وتنحسر .سرعان ما تنحسر كأنها لم تولد …… «كأننا ظلالنا التي انحسرت» في أسلوب الكتابة . يعمد الشاعر إلى ما نسميه فرجة الرؤية. (الزوم) zoom بلغة الكاميرا . أحياناً تصغر كاميرته الأشياء حتى تكاد لا ترى .. أو تمحي . كان يقول «السماء العارية تجلس قربنا , أو البحر اقل من حقل يمائم» ….. واحياناً يكبر فرجة الرؤيا , كما في «هجرة» (وهي إلى هلدرلن الشاعر الألماني الميتافيزيقي الذي انتهى مجنوناً في ظلام عقله) , حيث تغب الاَلهة ليحضر ماذا ؟ أعتقد ليحضر الشقاء على الأرض . في ما يغرب من انسحاب الزمن , وهو الطقس الغالب على النصوص , يتقدم أسلوب السلب والنفي لدى الشاعر , على الاثبات . «الأيام ليست لنعدها …. السماء لا تذكر ….. الأيام لا تعلم …. ليس كما يحلو لها …. الأيام ليست لنودعها …..» (من قصيدة «أيام») . تتراجع الصور , ويبرز حس الفوات . ذلك ما نسميه في اللغة «القهقرى» كما في قصيدة «إلى وراء». وفي مفردة قهقرى «المقترحة , أمر عجب . ثمة أولاً ما يشبه صوت القهقهة .. ثم بعد ذلك ما يشبه دحرجة الحجارة في واد ؟ وحين نقول إن اسلوب الشاعر في نصوص كثيرة هو أسلوب السلب . من خلال أدوات في اللغة , لم , لا , لست , …..إلخ فليس معنى ذلك العدم الذي يرمي إليه الشاعر . في السلب قوة تؤدي إلى الإثبات . يقول في قصيدة «لم اقل»:
«لم اقل إن سماءً لا تكفيها نجمة …. لم اقل إن زرقة لا تكفي بحراً …. لم أقل إن حديقة لا تكفيها بوابة ….» من خلال هذا , يمكن ضمناً الإصغاء لصوت اَخر يقول قلت , حيث تتغير صيغة القصيدة : قلت سماء تكفيها نجمة ….قلت قبرة يكفيها غصن .. قلت بحر تكفيه زرقة .. قلت حديقة تكفيها بوابة». أيهما اجمل ؟
كل قراءة إبداعية للشعر لعب مع الشعر . الشعر لا يفهمه سوى الشعر . أبعدوا النقاد والفلاسفة . ابعدوا العوام . أبعدوا عن الشعر من ليسوا بشعراء . ذلك أن في كل شاعر ينطوي جميع الشعراء . إن في حنين وازن لبيسوا وهولدرن ورمبو , ما يشبه ناراً واحدة لقابسين كثر . حين يقع الشاعر في كيمياء التعارضات أو في التباس التعارضات . وينظر إلى الوجود وكأنه بكامله طباق . أرق هو النوم , نوم هو الأرق . وحين تقع القصيدة في منطقة اشتياق القصيدة . وبعد أن يرى الشاعر سلسلة صور ومرئيات من ليل وسماء وقمر ونسيم وغمام وشجرة …. يقول : العين مفتوحة
– لماذا ؟
– -لأنها لم تر
آنذاك نسأله :هل تقصد ما قاله بيكاسو : أرى ما أريد Je vois ce que je veux
أم تقصد ما قاله لوركا : تنظر إلى الأشياء لأنها لا تراها .
————————-
محمد علي شمس الدين