محمد السماعنة
كاتب أردني
«يا محمد ابن أبو جمال هذا حج أصغر، ولا جدال ولا فسوق في الحج»
ورضيت الجلوس يومذاك في مقعد مغمور متوارٍ عن الأمكنة بلا عينين ولا شفتين.
وفي الحج الأكبر قلت: «يا محمد، هذا حج، ولا جدال ولا فسوق في الحج». ورضيت الجلوس يومذاك في مقعد يابس يطل على أنفاسك وحدها، لا ترى منه غير أصابع قدميك المتورمتين وهما تبحثان عن مكان أوسع لينفضا عنهما هذا الضغط والعصر والشد والخنق.
وأمس كنت متأخرا يا بن أبو جمال فأجلسك الكنترول فوق محرك الباص لتصطلي بحرارة أنفاسه وتهتز مع اهتزازاته.
أما اليوم فأنت في الموقف وحدك، ولا ينافسك أحد على المقعد الأول، ولن يجرؤ أحد على أخذه منك، فالأمور واضحة والقاعدة واضحة: «الأول للأول» وأنت الأول والمقعد الأول لك، وهو حقك، فأنت من صلى الصبح وسرّع نبضاته وقدميه ليقف على رأس المنتظرين.
وأنت في المقعد الأول الآن، والعالم كله أمامك».
«ما أجمل الجلوس في المقعد الأول، حيث تواجه أنت والسائق معا الشارع، نعم معا، وتطويان المسافات معا، وتتناولان أطراف الأحاديث، وتتبادلان الابتسامات والحكايات و«السوالف»، في المقعد الأول حيث تستطيع سماع صوت المذيع وهو ينثر تحياته المتكلفة في الهواء من مسجل الحافلة…!
يهزك الكنترول من كتفك «هزتين ونصف»: «لو سمحت ، هذا المقعد محجوز، اقعد هنا، الله يسعدك».
وكدت تقول (لا) لولا أن رأيت وشم الأفعى، وآثار الشرط والطعن والشطب.
«ومم يشكو المقعد الثاني يا أنا، هو الآخر مطل، ومبهج، وفيه حياة تسر الناظرين». لم تكد تستذوق الجلوس في المقعد الثاني وتجس نبضاته حتى هزتك يد جافة قاسية: لو سمحت، قم.. اقعد هناك، تابعت عيناك عيني الكنترول وهو يحنو على الصبية المترقبة ويقول لها: تعالي اجلسي هنا»، وكدت أن ترفض يا أنت لولا رأيت عيونا ذكورية كثيرة تنتظر أن تقول لا.
الكنترول بجفاف: اقعد هون
«والمقعد الثالث يا محمد مثل المقعد الأول، بل هو أخوه وصنوه، ورفيق دربه، وهو الآخر مطل وله عينان وأذنان»
تحركت الحافلة وتمايل الركاب مع اهتزازاتها لأكثر من دقيقتين .
الكنترول بصوته الخشن: ارفع هالصبية يا معلم.
يعلو صوت صكيك المكابح وصفيرها وهي تحاول إيقاف الحافلة، بينما انشغل الكنترول بالبحث عن متطوع يجلس الصبية المتعطرة المتزينة مكانه.
-«لو سمحت، بس قعّد هالصبية مكانك»
وكدت تقول (لا) لولا أن أخرجتك يد بجسدك، لتتمسك يدك بالعارضة الحديدية المثبتة بسقف الحافلة.
وكنت قد تمايلت يا محمد مع الواقفين بضع ثوانٍ قبل أن يطلب الكنترول منكم الجلوس نصف جلسة، ويطلب من الجالسين إغلاق النوافذ وإسدال الستائر.
وتبخترت الحافلة في شوارع المدينة بغرور وزهو، وتمايل الواقفون المتعلقون بالعارضة معها بقوة.
السائق الذي ملأ دخان سيجارته الحافلة: ألو،.هلا. بالله، وين؟
تتوقف الحافلة فجأة وسط الشارع في منتصف المسافة، قبل أن تنهي جولتها.
السائق بتودد وغضب وبوجه عليه علامات الغيظ والقهر وهو ينفث سيجارته بقسوة: «شباب في دورية على الطريق، لو سمحتم الزيادة ينزل ما بدنا نتخالف على ساعة هالصبح!».