ملف من إعداد وتقديم: هدى حمد
“لا أسوأ من جهلٍ نشط”، هذا ما قاله جوته قاصدا أشكالا لا نهائية من الجهل، ويمكن سحب جملته هذه إلى الجهل بالأرض والطبيعة أو مراوغتها من أجل ثقافة الاستهلاك غير المنظمة. فلا أحد منا يعلم قدر التغيرات التي صاغت الكون، تلك التي أحدثتها الطبيعة بنفسها أو نهشها الإنسان بأظافر الاستحواذ الشرسة، “فكل ما هو قائم في الكون هو ثمرة الفرصة والضرورة”، كما قال الفيلسوف اليوناني ديموقريطس، فالتطور الذي وصل إليه الانسان كان فرصة ذهبية، ولكن الضرورة كانت تحتم عليه أن يفكر أيضا بمن سيأتي مستقبلا إلى هذه الأرض المُستنزفة والمُحاطة بالتلوث وثقب في الأوزون، والكائنات الحية المُهددة بالانقراض!
لا نعلم على وجه الدقة إن كانت الأرض تحاول أن تتعافى من أدران الفوضى التي أحدثها الانسان، عبر أصغر كائناتها التي لا ترى بالعين المجردة، لتُعلم الإنسان درسها القاسي في اختبار الموت الغامض الذي تكابده حتى الحضارات الأرفع شأنا، والتي تقف مختبراتها ومنجزاتها العلمية عاجزة حتى اللحظة!
لكن وإن كان أصدقاء البيئة يدافعون عن الأرض على ضفة، فإن الأدب والفنون على ضفة أخرى تحاول جاهدة أن تقارب هول اللحظة وصدمتها. يشير إبراهيم العريس في أحد مقالاته المُهمة، إلى أنّ اللقطة السينمائية المُرعبة التي شاهدناها في فيلم “موت في البندقية” لفيسكونتي والمأخوذة عن رواية توماس مان، دلالة على انتشار الوباء، تتجاوزها الآن واقعيا عشرات اللقطات المُفزعة لعربات الموتى في الطرقات، ومشاهد المدن الجميلة وقد أضحت بؤرة للموت، حيث يحلّ الوباء القاتل بالمدينة، محولاً إياها من رمزٍ للجمال إلى رمزٍ للموت.
الكتابة عن الأوبئة في آخر لحظات الحياة التي تتأرجح بين أمل ويأس، انتظار وجزع، هي لحظة فارقة لترك صدى الأوجاع لأجيال لاحقة، قد تعبرها هي الأخرى أوجاع مماثلة في مستقبلها الغامض، فلا يصدها التحصن الكثيف بالعلم ولا يرد فتكها لقاحات العالم المتحضر!
في هذا الملف الخاص الذي تفرده مجلة عن الآداب والفنون والأوبئة، يستقرئ الهواري غزالي الطاعون الأسود في العالم العربي من خلال الشعر الكلاسيكي. الشعر الذي يمكنه أن يُعطي صورة كاملة عن الحساسيات الاجتماعية والسياسية، كما يمكنه تقديم الكثير من المعطيات الفنيَّة والأدبيَّة عن الكتابة الشعريَّة زمن الموت، فقد تكون الكتابة عن الطاعون آخر ما يكتبه الشاعر وهو يخلد اللحظة الأخيرة قبل أن يقضي نحبه، فقد يجد الشاعر راحة فينظم، أو وقتا للتَّأمُّل فيصف، أو قد يموت دون أن يرثي نفسه!
ولا يبتعد نور الدين الهاشمي عن صورة الطاعون الذي مرّ على البشرية، فاجتاح العالم القديم في القرن الرابع عشر الميلادي، وغيّر مجرى التاريخ وخلخل البنية الاجتماعية، والذي رجح معظم المؤرخين في تلك الفترة أن بداية انتشاره كانت في شرق آسيا على حدود الصين!
وكما يبدو فإن الأوبئة في الأدب تتجاوز صورها المألوفة، فلم يكن استعمال التخييل في المحكي خالصًا لوجه الخيال دائما كما يقول أحمد يوسف وهو يتناول رواية “الطاعون” لألبير كامو؛ وإنّما كان يضمر موقفًا أكثر مما يبدو، إذ لا فرق بين وباء الطاعون الذي كان يفتك بسكان وهران، ويفرّق بين المرء وزوجه، ويُفسد عليهم حريّتهم في عالم التخييل، وبين وباء الاستعمار الذي نكّل بسكان الجزائر. فهل كانت رواية كامو مفعمة حقا بحساسيّة استعماريّة تسمح لنا بالقول إنّ هناك وباء مضمرًا ومسكوتًا عنه غير وباء الطاعون الذي يقدّمه لنا المحكي؟
أم “هل الوباء هو الجرثومة التي يحملها بنو البشر – مجازاً- والتي تكيل بمكيالين مقارنة مع الجرثومة البيولوجية التي تقيس بمكيال واحد!” كما طرح محمد شاهين متسائلا.
في الجانب الآخر من العالم، لفظ لويس سيبولبيدا، الكاتب والروائي التشيلي أنفاسه الأخيرة بسبب إصابته بعدوى فيروس كورونا القاتل، قدّمه لنا في هذا الملف خالد ريسوني وترجم لنا بعضا من قصصه. ففي عمر يناهز السبعين، بقي في وحدة العناية المركزة لمدة 48 يومًا في غيبوبة يصارع المرض الفتاك، بمساعدة التنفس الاصطناعي. كان رحالة يعشق البحر، جوَّابا للآفاق، وتعتبر أعماله السردية مرآة لحياته المضيئة، فهو يخلق شخصيات خيالية يستلهمها من تجاربه الحياتية.
عبر رؤية استشرافية، يمكن للآداب والفنون بأشكالها اللانهائية أن تستبطن المواضيع، وتُشرّح الحالات، بمبضع حاد، جارح، وصادم، كما سنقرأ في قصة “الطهارة” ليودميلا بيتروشيفسكايا التي تنتمي إلى تيار ما بعد الحداثة الروسي، ويترجمها للعربية أحمد م الرحبي. فعبر لغة واقعية يومية، لا يعترضها شيء خارجي، ولا تنسج من الخيال، تهزنا القصة من الأعماق، وتضعف مقاومتنا الزائفة، لنجد أنفسنا أمام محكٍ حاد وملموس لما جنيناه، ونجنيه على أنفسنا. ومثلما هو حلم راسكولنيكوف أيضا، تُنهي الكاتبة قصتها بسؤال بليغ عن كُنه الطهارة، وإن كانت مرتبطة بالجسد أم أن أصلها في الروح.
“عندما ننظر للأرض كأنّها آلة، فإن هذه الأرض تصبح موضوعا للاستغلال”، هذا ما قاله ساتيش كومار في الحوار الذي ترجمه لنا عبد الرحمن إكيدر، فهذا ما قادتنا إليه النزعة الغربية التي وضعت الذكاء فوق كل شيء لجعلنا سادة العالم، وإنه لخطأ مركزي سيقودنا بلا شك إلى خسارتنا المادية، والروحية والنفسية. ساتيش كومار هو أحد الشخصيات العالمية المدافعة عن السلام. كان راهبا في السابق، وواحدا من تلامذة غاندي، نشر في الآونة الأخيرة “من أجل إيكولوجية روحية”، وهو مقال يدعو فيه إلى إيجاد توازن جديد بين الأرض والنفس والمجتمع.
ولعل المهدي عثمان يأخذنا لذروة التراجيديا في نهاية هذا الملف، عبر الشعر وحده:
تَحْت سَقفٍ بِلا جُدُران
ظَلَّ يُحْصي عَدَد المَوتَى
الذِين حَمَلهُم على ظهْرِه
كانَ يَرفَعُهم بِحِيادٍ تامّ
لمْ يبْتَسمْ أوْ يَذرفْ دَمْعة واحِدة
كذلك لمْ يَسْبق لَه أنْ سَمِع مَيّتا
يَبتسمُ أو يَذرْفُ دمْعة واحِدة