شكلت كتابة السيرة الذاتية الروائية لدى نخبة من الكاتبات اللبنانيات، إرادة قوية لاستكشاف الجسد الأنثوي المصادر، واستعادته لتأكيد حضوره الاجتماعي، ولم تكن هذه الإرادة مجرد رفاهية أو استعراض جمالي، بل كانت قضية وجود حيوي وخطوة لكاتبات عربيات صوب الحداثة، قولًا وفعلًا ولغة، فخرج الجسد مواكبًا لسيرة روائية نبضت حضورًا وتوثبًا، وهذه الرغبة بالحياة لن تمر إلا عبر بوابات الطفولة والأنوثة والكتابة لأفق جديد فجاءت حنان الشيخ ذات الأصول الجنوبية إلى بيروت، لتأخذ كتاباتها منحى مختلفًا، أكثر حسية وحيوية، فتخلع عن الجسد الأنثوي الطابع اليوتوبي وتنزله إلى أرض الواقع ملموسًا وحقيقيًّا، فكتبت سيرة روائية لأمها في «حكايتي شرح يطول»، وتبدت سيرة الأنوثة بكل تجلياتها النفسية والجسدية في سيرة «حكايتي شرح يطول» التي اتخذت الشكل الروائي في السرد، وبدت في هذا النص الرغبة في الحياة تمر عبر رغبة الجسد في الانعتاق من القيود الاجتماعية والنفسية التي تكبل انطلاقه.
تأتي «حكايتي شرح يطول» (1) كنص يحمل في مضمونه سيرة روائية (2) بعد رحلة ليست قليلة أو يسيرة خاضتها حنان الشيخ (3) في العالم الروائي عبر مسيرتها التي جعلتها في دائرة الضوء في المشهد الروائي اللبناني بشكل خاص والعربي بشكل عام.
وعبرت في رحلتها التي بدأتها برواية «انتحار رجل ميت» عن مشروع كتابة مستقرة. أصدرت حنان الشيخ روايتها الأولى «انتحار رجل ميت» في عام 1970، وعن تجربتها في كتابة هذه الرواية تكشف واقع المناخ الاجتماعي والثقافي الذي نشأت فيه قائلة: «تأثرت بالمناخات الأدبية السائدة في لبنان في الستينيات، ولا أخفي أنني انبهرت ببعض الكتب ولكن من دون قراءتها بعمق، ولذلك فإن الكتب التي نالت إعجابي قليلة جدًّا منها كتاب «أنا أحيا» للكاتبة اللبنانية ليلى بعلبكي. كذلك قرأت في طفولتي كامل كيلاني وبنت الشاطئ، وآنذاك كنت أفكر لماذا اسمها بنت الشاطئ؟ أكثر مما كنت أفكر فيما كتبته.. لم أكن ميالة للتعمق في الأشياء المكتوبة لكنني كنت أشعر بأنني يجب أن أكتب، وأن لديّ بعض الأشياء التي يجب أن أقولها. وفي ذلك الوقت كنت أخجل من أن يعرف الآخرون حقيقة ثقافتي، وكنت أحرص على إعطاء الآخرين صورة بأنني قارئة مثقفة مطلعة على حركة الأدب والفكر ولكن بالواقع لم أكن هكذا أبدًا.. فقط كنت أحب الكتابة، حتى نجيب محفوظ قرأته. بعد روايتي الأولى كنت أجرب القراءة ولكن سرعان ما كنت أمل ذلك» (4)
وإذا كانت الكتابة فعلًا ذاتيًّا داخليًّا يكشف من خلاله الكاتب عن ذاته في الأعماق، فإن حنان الشيخ لا تتردد في الكشف عما كان يموج داخلها من هواجس فكرية ونفسية تتعلق بالكتابة، خاصة في بداية اكتشافها هذا العالم.. تقول: «كنت مشغولة بنفسي واهتماماتي مركزة نحو ذاتي كشخص أو فرد، وماذا أريد أن أفعل أو إلى أين أريد الوصول؟ أو في البحث عن شخص أحبه وأين أكون في الحياة؟!.. مثل هذه الأمور هي التي كانت تستحوذ على تفكيري، ذلك أنني كنت متمردة على عائلتي وبيئتي ومناخاتي البيروتية. (5)
لا تكتفي حنان الشيخ بالمزج بين الخيال والواقع، بل هي تتأمل في كليهما لتنسج عالمها الروائي الخاص، فالكتابة من وجهة نظرها هي تأمل وصياغة جديدة للواقع والخيال، من هنا جاءت فكرة كتابة سيرة حياة والدتها..لذا تُعتبر رواية «حكايتي شرح يطول» نصًّا سرديًّا طويلًا يتخذ الشكل الروائي لسرد سيرة حياة والدة الكاتبة. «هي إذًا سيرة عن الطفولة الدائمة لـ«كاملة» التي زُوّجت وهي في سن الثالثة عشرة، وظلت محتفظة بروحها الطفولية المرحة، الساخرة، لتتمكن من مواجهة العالم الخارجي الممعن في غباوة التقاليد وسطوة الذكورة.. كتابة تستظل بالطفولة ولُغتها، وبكلام الأم الحيوي وروحها المرحة، تعطينا نصًّا آسرًا يطفح بالبهجة ولذة الاستكشاف (6)
تسير «حكايتي شرح يطول» في اتجاه واحد محتكمة إلى رؤية تقدم «الأنا» على «النحن»، وترد الاعتبار للحميمي والذاتي والخاص على المستويين النفسي والجسدي. ذلك لأن عين الراوية في هذا النص تركز على جزئيات متوارية كما أنها تطوع أساليب التعبير بما يتوافق مع ما تود البوح به. سنلاحظ ذلك في كثرة استخدام المفردات العامية، في الرسائل، والأمثلة الشعبية، مما ساعدها على بلوغ مواطن هامشية وتخوم بعيدة لا يمكن بلوغها مع اللغة العربية الفصحى وحدها، وهو أمر يتفق مع اتجاه بعض النقاد إلى أن «مسألة المستويات اللغوية داخل العمل السردي تعني – في المذهب النقدي المتسامح – أن الكاتب الروائي عليه أن يستعمل جملة من المستويات اللغوية التي تناسب أوضاع الشخصيات الثقافية والاجتماعية والفكرية، بحيث إذا كان في الرواية شخصيات منوعة مثل عالم لغوي، وصوفي وملحد وفيلسوف وفلاح ومهندس وطبيب وأستاذ جامعي.. فإنه على الكاتب أن يستعمل اللغة التي تليق بكل من هذه الشخصيات» (7)
يأتي السرد من خلال صوت الأم «كاملة» لذا لجأت حنان الشيخ إلى العامية اللبنانية في غالبية الحوارات، وأيضًا في المونولوج الداخلي، حيث تصف الكاتبة الشخوص في تفاعلها مع الأماكن الأحداث، وتحضر اللغة الدارجة في بساطتها لتحتل عناوين الفصول بغية الكشف عن طريقة تفكير البطلة الساردة، وطبيعة رؤيتها للعالم المحيط بها، بل طبيعة عالمها الداخلي الخاص والحميم، هذا ما نراه حاضرا أيضا مع اللجوء إلى كلمات الأغنيات الشائعة في ذلك الزمن، وأيضا أفلام السينما التي كانت في ذاك الوقت تمثل العالم السحري الجديد.
إن تصريح حنان الشيخ بأن هذا النص «سيرة»، وأن أشخاصه حقيقيون يحيلنا مباشرة على نمط من الشخوص ذي طبيعة مرجعية يمنح الأبطال حياة خارج النص، وحضورًا تاريخيًّا يغذي وجودهم الدلالي، وييسر للمتلقي إجراء عملية المطابقة أو المشابهة الواضحة أو المحتملة بين المتن الحكائي وحياة الكاتبة، إلا أن قارئ «حكايتي شرح يطول»، سيجد عند شروعه في تحليلها اتجاها محددا يُسلط الضوء على سيرة حياة «كاملة»، فيما تكرس سائر الأشخاص والأحداث لكشف هذه السيرة من دون أن تشكل حيواتهم أهمية في مسار السرد، ذلك أن معظم شخوص النص تبدو غير متفاعلة إلا في الإطار الذي تتفاعل فيه وتتلاقى مع دائرة حياة «كاملة»، الراوية للنص، إنها الساردة، وبطلة الحكاية، أما سائر الشخصيات فيتم الحديث عنها من وجهة نظر كاملة، وهذه الشخوص تتوزع إلى قسمين:
– قسم يمثل نظام السلطة الأبوية ويتمثل بـ «الأم – الأخ العابس – الزوج – وزوجة الأخ العابس».
– قسم ثانٍ، يمثل الشخصيات المتعاونة مع البطلة «كاملة» وهم: «محمد» حبيب البطلة – الأخ عازف العود، وابنة الأخ التي تلقبها بـ «الملاك».
إن شخصية كاملة، ينطبق عليها وصف «الشخصية المدورة – أو المكثفة – وهي تلك المركبة المعقدة التي لا تستقر على حال، ولا تصطلي لها نار، ولا يستطيع المتلقي أن يعرف سابقًا إلامَ سينتهي أمرها؛ لأنها متغيرة الأحوال، ومتبدلة الأطوار، فهي في كل موقف على شأن. فعنصر المفاجأة لا يكفي لتحديد نوع الشخصية، إذ نرى غناء الحركة التي تكون عليها داخل العمل السردي وقدرتها العالية على تقبل العلاقات مع الشخصيات الأخرى، والتأثير فيها، فإذا هي تملأ الحياة بوجودها، وإذا هي لا تستبعد أي بعيد، ولا تستصعب أي صعب». (9)
«ففي هذه السيرة الذاتية المكتوبة عبر الحكي الشفوي وشذرات من رسائل محمد إلى كاملة، وعبر المعايشة والتخييل، تحتل شخصية الأم بؤرة الدائرة التي تنداح منذ ثلاثينيات القرن الماضي إلى نهايته، لتلامس تجربة امرأة استطاعت – على الرغم من أميتها وقسوة بيئتها – أن تلتقط نبضات ولحظات دالة في مسارها الخاص وفي علائقها بالمجتمع المنغمر في تحولات متسارعة. لم تمنعها الأمية من أن تستوعب تعقيدات العلائق البشرية وثقل التقاليد والجمود الديني. من هذا المنظور، يمكن القول: إن كاملة نموذج للمثقف الواعي، المتخلق من صلب التجربة والإحساس والحدس. كانت – في سلوكها ومواقفها – تستند إلى منطق الحياة وإلى طاقتها الداخلية التي تحثّها على التحدي والمغامرة. كان من بين أفراد عائلتها من يفرض الوصاية على المرأة ويشيّئها ويقمعها باسم قيم موروثة جامدة. وكانت كاملة تحس أن الحياة تستحق أن تعاش من خلال علائق الحب والغناء والمرح والسخرية. وقد وجدت في أفلام السينما المصرية جسرًا ربطها برحابة المتخيَّل، وعوَّضها عن سجن البيت وأعباء الزوجية». (10)
إن ذكريات المرء عن طفولته الأولى، ما هي إلا تفاصيل مخزونة في ذاكرته، تجعل من حياته ككل مرحلة طفولة متكررة بأوجه مختلفة، وهذا ما سيظهر في السلوك الغريزي، اليومي، العادي. لذا فإن أية محاولة للانسلاخ عن هذه الجزئيات، واستئصالها عن العقل الواعي ليست إلا عملية مصادرة تبعية لمرحلة أساسية من مراحل الحياة التي كانت بمثابة اللبنة الأولى في تكوين الوعي.»إن أدبية السيرة الذاتية قوية على نحو خاص في النصوص التي تركز على الطفولة، إن السيرة الذاتية التي تتناول الطفولة هي الأكثر صلة بالرواية من السيرة الذاتية الكاملة، سيرة الطفولة تستخدم الكثير من القواعد الأدبية للكتابة الروائية». (11)
لكن الراوية «كاملة» تستقطر عبر النص حياة ملموسة مرئية، ومحكية تقدم من خلالها سيرة طفولتها، وصباها، سيرة حياتها، وسيرة جسدها المثقل بالقهر العاطفي والاجتماعي. جسد يؤرخ لحرمان الطفولة وأوجاعها، الذي بدأ مع هجر الأب للعائلة وما تلا ذلك من فقر وجوع. ثم زواج إجباري رتبته الأسرة لـ «كاملة» من زوج أختها التي ماتت نتيجة مرض ألم بها بعد أن عضها الجرذ. تتزوج «كاملة» من رجل يكبرها بأربعين عامًا ، وهي في الثالثة عشرة من عمرها، لتنجب أول ابنة وهي في الرابعة عشرة.
هكذا تكون طفولة الراوية أكبر وأخطر من مجرد أحداث زمنية تنتمي إلى ماضٍ انتهى بما أنها كائن حي تلازمه ذاكرته، وتتلبس هويته، وتنحفر بها كالندبة.
الخط المحوري في الرواية هو حكاية «كاملة» البنت الصغيرة التي ستحكي قصتها منذ الميلاد حتى لحظة الوفاة. تبدأ السيرة بالمقطع التالي:
يقول لي أبي في إحدى زياراته إليّ في بيروت وهو يضع الطربوش على رأسه حتى يبدو أكثر طولًا إذ كان بالغًا في قصره: «سميتك كاملة؛ لأنك خلقت كاملة الملامح والتكاوين، وسميت أخاك «كامل»، مع أن الكامل هو النبي محمد «صلى الله عليه وسلم بس يلا معلهش أنا كريم».. جملته الأخيرة هذه جعلت ردي عليه يزدحم في حنجرتي، يكاد يخنقني ومع ذلك مضيت أخبط «الدقماقة» على «البلاطة»، لكن هذه المرة خبطًا عنيفًا جعل قطع اللحم تتطاير من حولي. (الرواية، ص: 5)
أرادت حنان الشيخ خلال هذه «الرواية /السيرة» كتابة سيرة حياة والدتها، بما تعرفه عن هذه السيرة لتكون شاهد عيان على بعض أحداثها، وأيضًا بما تختزنه ذاكرتها من وقائع وأحاسيس وحالات لسرد محنة الأم «كاملة» المتزوجة من رجل يكبرها بأربعين عامًا، وكيف تقع في حب شاب يكبرها ببضع سنوات، وتستمر علاقتها به لأعوام طويلة قبل الزواج منه. تقع هذه الأحداث للأم مع وجود محن حياتية أخرى مثل الجوع، والفقر، والجهل حيث نشأت تلك الأم في حضن أسرة فقيرة. هكذا تكون الصدمة الأولى التي تخدش وجود «كاملة»، فتحاول وحدها اكتشاف العالم وتصنيف الأشياء، وبالتالي، اكتساب معرفة شخصية – كما سنبين – عن الحب والجنس، الذكورة والأنوثة، الذات الأنثوية المقموعة أمام سلطة النظام الأبوي. ثم حضور الجسد الفردي بكل خصوصيته.
يختصر هذا المقطع، وهو مونولوج داخلي تحكي فيه كاملة طبيعة علاقة أبيها بالعائلة تقول: «إنت كريم؟ مشان هيك كنت بدك تضيعني أنا وأخي في سوق النبطية حتى ما تشتريلنا لحمة؟ تركتنا حتى صرنا هفيانين السكر واللحمة وانجبرنا نروح عابيروت، وعمرها ما كانت روحة.. لو ما بيروت ماكنش الجردون علقني هيديك العلقة بتقول عن حالك كريم منشان هيك منعت عني الأكل وجوعتني وبعتني بعشر ليرات ذهب، وعمري 13 سنة؟ يا ويلك من الله..» (الرواية ، ص:7)
يشف هذا المقطع عن تواتر زمني لسلسلة من الوقائع، يؤثر تعاقبها في انتظام شبكة موضوعية، تربط بين عناصرها علاقات متسلسلة كالآتي:
1- غياب الأب «الجوع»: «تركتنا حتى صرنا هفيانين السكر واللحمة».
2- الاضطرار للرحيل: «انجبرنا نروح عابيروت».
3- المرض: «لو ما بيروت ماكنش الجردون علقني هيديك العلقة».
4- القمع الطفولي: الزواج: «بعتني بعشر ليرات وعمري 13سنة».
تبدو ذاكرة «كاملة» الطفولية تعج بصور الفقر والجوع والحاجة إلى الطعام بعد تخلي الأب عن طفليه «كاملة وأخيها كامل» وأمهما.. «تمد أمي يدها، تقطف أكواز التين تمرغها على كسرة خبز لنأكلها، تبل لنا الخبز بالماء، ترش عليه حبيبات قليلة من السكر» (الرواية، ص: 15) تقتات العائلة التي هجرها الأب على الخبز اليابس، وحبات تين مقطوفة من الشجرة، وعلى ما تساقط من القمح في حقول الجيران..» أفرد تنورة فستاني وأبتدئ أجمع ما أجده على الأرض. « (الرواية، ص 16). وفي أيام الربيع كانت العائلة تجمع ما ينمو من حشائش وفطر في البساتين، لكن الجوع الذي يشتد على العائلة التي فر معيلها يدفع الأم للعمل في البساتين.لكن هذا المصير يجبر والدة «كاملة» على البحث عن حلول لإعالة ولديها، خاصة في المواسم التي ينتهي فيها القطاف من البساتين.
«قالت لي أمي، تودعي من الليطاني: بدي روح فيكم عابيروت.. شو بدي عيشكم على قرص العنة والسليق» (الرواية ، ص 20)..
هكذا يدلف القارئ إلى ذكريات «كاملة» عن طفولتها في بيروت من لحظة مغادرتها القرية في الجنوب، وبدء علاقتها مع إخوتها الأربعة الذين يعيشون في بيروت. «نقصد بيروت في سيارة «أبو دعه»، لا سيرًا على الأقدام، كما كانت تفعل أمي كلما اشتاقت إلى أولادها الأربعة.. كنت أعرف أن لي شقيقين وشقيقتين، من زوج أمي الأول الذي توفي مقتولًا.» (الرواية ، ص 23)
في بيروت – المدينة – تبدأ الحياة في التغير أمام عيني «كاملة» حيث تخف وطأة الجوع: «لم تبحث أمي في الليل، بين الأعشاب الخضراء، عن الخبيزة وقرص العنة كما كانت تفعل في الحاكورة لتحضر وجبتنا. ولم نجلس تحت أكياس بيروت الكبيرة، نلحس ونأكل، بل جلسنا حول صينية على الأرض، نمد أيادينا أنا وأمي وأخي كامل بكل تردد رغم أن الطعام الذي كان أمامنا كان أكثر بكثير مما كانت تقدمه لنا أمي في الجنوب.» (الرواية ، ص 29، 30)
وتصير الحياة عند «كاملة» اكتشافات صغيرة تشغل مخيلتها الطفولية، إنها مسألة الحرمان الذي نشأت عليه الذي يدفعها للتركيز على ملذات الحلوى التي تتعرف إلى أنواعها وتتحايل للحصول عليها.
«لم أهتم بأي فرد في العائلة، لكني صببت كل اهتمامي على الحلوى التي أصبحت شغلي الشاغل، أهجس بها وبأسمائها: النعومة – البندقية – السمسمية، وأتحايل على أمي حتى تمنحني نصف قرش. أبكي أمام شقيقتي، أهرع إلى البائع أقف أمامه بعينين متوسلتين جائعتين، ولعابي يسيل كأنني كلب» (الرواية، ص 20)
لكن هذا الحرمان وتلك الرغبات الطفولية التي لا تُلبى تشكل أول إحساس بالكراهية داخل «كاملة».
«أقول للبائع ما حدا بيعطيني قرش، أنا من الضيعة وأبوي ميت، لكن البائع ينظر إلي وكأني لم أقل شيئًا وأشعر أني أكرهه» (الرواية، ص 31).
تتنازع «كاملة» شهوة الحصول على الحلوى التي ما إن تنتهي حتى تتجاذبها شهوة الحصول على أشياء البنات الصغيرات من أساور وأدوات زينة، ثم يبدأ في داخلها التصادم بين الفقر المدقع الذي تحيا فيه وسط عائلتها وما تراه من بنات المدينة، تقول: «وعندما أخمد شهوتي، للحلوى، تنبت لي شهوة أخرى وهي أن أشتري الدبابيس والأساور الملونة التي أخذت أراها حول أيدي البنات.. لكن كيف أخفي فستاني الذي لم يكن كفساتين بنات بيروت؟ كان فاقع اللون ذا تعريقات كبيرة». (الرواية، ص 32).
هكذا تبدأ حواس «كاملة» بالتفتح، حواس تكشف نبضًا جديدًا لا علاقة له بالموروث العائلي في أسرة فقيرة متزمتة دينيًّا، لكن هذا النبض الجديد تحكمه نزعتان متناقضان:
أ – رغبة قوية في اكتشاف حياة المدينة وكيف يعيش أهلها: «أسير في الحي والأحياء المجاورة، أصعد السلالم والدرجات وأدخل حدائق البيوت حتى أصل إلى أبوابها» (الرواية ، ص 33).
ب – إحساس بالحرمان العائلي الاجتماعي ينتج عند كاملة جراء خوفها من زوج أختها المتدين وشقيقها العابس، ومن عدم التحاقها بالمدرسة كسائر الفتيات.
هكذا تكون السلطة الأسرية والاجتماعية في حياة «كاملة» منذ الطفولة، سلطة لا تنفرد الأم فيها على اعتبار أنها المسئولة عن الأبناء بعد غياب الأب، بل يشاركها هذه السلطة آخرون هم الابن الأكبر الذي تصفه الراوية «شقيقي العابس» وهناك زوج الأخت الذي يهددون «كاملة» به كلما اقتضت الحاجة لتخويفها. «تمنيت لو أني حمامة حرة، طليقة، بعيدة عن البيت وعن أنظار شقيقي العابس، وزوج شقيقتي، حتى عن أنظار شقيقتي التي كانت عادلة، تحبني، لكنها قليلة المزاح، ونادرة الضحكات، أتمنى لو أني تلميذة أستمع إلى أوامر المعلمة وأجلس في الصف مع بنات في مثل عمري»: (الرواية، 35).
إن ذاكرة «كاملة» الطفولية تعج بصور شتى للحرمان المادي والمعنوي، هذا الإحساس الذي يسفر عنه إحساس موجع بالفقد، الذي يتشعب في مسارات متعددة.
«أتأكد أن أمي لم تعد لي، ولا لأخي «كامل»، فهي أصبحت أمًّا للأربعة الآخرين، تعمل بما يشير إليه كل من شقيقتي وزوجها وشقيقي العابس، وتحمل مشاكلهم جميعهم إلى الفراش» (الرواية، ص 37). إن الإحساس بالحب، والحنان، والدفء الذي تمنحه الأم لأطفالها وترمز إليه، لا تنال منه كاملة نصيبًا كافيًا إلا في ساعات النوم، وفي النهار هناك مهام موكلة إليها لا تستطيع الفرار منها.
إن الحرمان سواء كان معنويًّا أم ماديًّا يشكل حالة وجودية مركبة يختلط فيها الجانبان النفسي والجسدي، مما يعكس أثره حتمًا في سلوك الشخصية وتصرفاتها حيال العالم، فهي إما أن تنكفئ على ذاتها في شكل انطوائي مستسلمة لحتمية واقعها البائس، وإما أن تواجه الحياة بكل عقباتها في محاولة منها كي تأخذ ما ترى أنه من حقها وهذا الاختيار الثاني يكون «الفرح» لا «البؤس» هو العامل المسيطر فيه على الشخصية. وهذا ما سنرى أنه سيكون اختيار «كاملة»، رغم كل ما ستعانيه في حياتها.
«يقترب عيد الأضحى، وأسمع بنات الحي يتحدثن عن فساتينهن الجديدة، فأسأل أمي عن فستان العيد». «يصر زوج شقيقتي أن يشتري لي فستانًا مستعملًا وهكذا كان.»(الرواية، ص40).
العالم الذي انفتح أمام عيني «كاملة» بمتعه البسيطة سيتسع أكثر حين تكتشف «السينما»، إنه عالم سحري ملون، فيه صور، وموسيقى، وأضواء، فيه حب ولهفة وشوق يملأ روحها المسكونة بالحرمان، هكذا يصير خيالها مسكونًا بواقع آخر متخيل تتلهف لمعرفة بعض خباياه. «أسترجع فيلم الوردة البيضاء في خيالي أفكر لو أهرب، فأدخل السينما، ومنها إلى الشاشة حيث أعيش مع الممثلين الذين كانوا يتحدثون في الفيلم بكل رقة وينشغل بال بعضهم على البعض الآخر. وأتأكد أنهم من طينة أخرى لأنهم ذهبوا، وتعلموا في المدارس» (الرواية، ص 46).
تتميز «كاملة» بذات داخلية مقاتلة تستمد منها قدرة على مواجهة كل الحرمان والصعوبات التي تواجهها منذ بداية معاناة «الجوع» في القرية، حتى إدراك وضعها الاجتماعي المعدم مقارنة مع بنات بيروت. إن الأسئلة الكثيرة الملقاة داخل «كاملة» لا تدرك معناها بوضوح، ربما كل ما تعرفه أن عليها أن تحيا، وأن تأخذ المتع الصغيرة المتاح لها الحصول عليها أمام تزمت الأخ وزوج الأخت واستسلام الأم. وضعف الأخت، لكن حياة كاملة ككل محكومة بإرادات عليا تتجاوز قدراتها العمرية سواء حين تكون طفلة، أو عندما يكتمل وعيها وتصير امرأة، لذا لا تتمكن كاملة من مواجهة هذه الإرادات التي لا يمكننا اعتبارها «قدرية» بل إنها إرادات «أسرية – اجتماعية» تتعامل مع «الأنثى» على اعتبار كونها شيئًا أكثر مما هي كائن حي له حقوق وعليه واجبات. وهذا يمكننا استنتاجه عبر تتبع حيوات شخصيات نسائية عدة في «حكايتي شرح يطول». فالأم والدة «كاملة»، يهجرها زوجها هي والطفلين ولا تتمكن من إلزامه بالإنفاق على الأسرة حتى حين تحاول اللجوء للمحكمة لا تلاقي سوى الوعود.
«تأخذنا أمي في اليوم التالي إلى المحكمة، تقول لرجل يضع على رأسه عمامة مثل بطيخة: جوزي مش عم يدفع الكلف، من وين بدي طعمي هالولدين؟.. نسمع الرجل ذا العمامة يقول كلامًا كثيرًا، فتثبت جملة في رأسينا «الكلف راح يجيك عانصف دارك. ولم يأتِ الكلف» (الرواية، ص 9) . « تمضي أشهر.. والدنا لم نعد نسمع عنه سوى إشاعات تدور على ألسنة الناس. تعتزم أمي مواجهته ليدفع الكلف. (الرواية، ص 17).
أما الراوية «كاملة» فيتم تزويجها، وهي طفلة في الثالثة عشرة من عمرها بعد أن يعقد قرانها وهي في العاشرة على زوج أختها، بعد أن تموت الأخت جراء تسممها من عضة الجرذ.
«كنت ألعب على السطح عندما نادتني أمي وزوجة شقيقي العابس لتطلبا إليّ الدخول إلى غرفة نوم الصبيان حيث أقول كلمتين «أنت وكيلي» ثم أخرج وأكمل لعبي. أردد «أنت وكيلي» وأسرع إلى باب الغرفة أفتحه وأغادر لأرى أمي وزوجة شقيقي تقفان وكأنهما تتنصتان على ما كان يجري في الغرفة، وإذا بي أخاف أن تبدلا رأيهما. وتمنعاني من اللعب على السطح، لذلك بادرتهما قائلة: «خلص قلت، أنت وكيلي شو بعد بدكن؟» أركض إلى السطح وكلي عجب لأن الكبار يضيعون الوقت، وينصتون إلي أردد بعد رجل العمامة «أنت وكيلي» بدلًا من أن يطلبوا إليّ مسح الأرض أو جلي الصحون» (الرواية، ص 54).
يستشرف هذا المقطع المعاناة التي ستبدأ في حياة «كاملة»، حيث إرادتها المسلوبة منذ الطفولة، تلك الإرادة التي يتم توجيهها لصالح غايات أخرى تتناسب مع الخيارات الأسرية لباقي الأفراد، لكنها لا تتلاءم مع كيان طفلة في العاشرة من عمرها، تم انتزاع طفولتها منها منذ تفتح وعيها الأول على غياب الأب، على الجوع والفقر، وحاجة الأم للانتقال إلى بيروت والحياة مع ابنتها وزوجها، لكي يساعداها في نفقات الولدين، لكن تكريس الانتزاع التام للطفولة يكون مع مصادرة حقها في اختيار «الزوج» وقيام العائلة بعقد قران طفلة- تلعب في الشارع – على رجل يتجاوز ضعفي عمرها.
إن القمع الأسري الذي مُورس على حياة «كاملة» لم يكن كله ذكوريًّا، بل إن النساء شاركن في صنعه أيضًا هناك الأم وزوجة الأخ اللتان تتواطآن لتنفيذ خطة متفق عليها في تزويج «كاملة» لزوج أختها كي تقوم كاملة على رعاية أطفال الأخت المتوفاة.
سلطة الذكورة وخصوصية الجسد الأنثوي
إن غاية تحليل صيرورة الأنوثة عند الراوية «كاملة» نهدف من خلالها إلى توضيح صيرورتين متوازيتين ومتعارضتين تحكمان واقع كاملة الجسدي والنفسي:
أولًا: تطلع «كاملة» إلى تفتح كيانها الأنثوي من لحظة لقائها «محمد» الرجل الذي ستحبه، وبداية انطلاق هذا الوعي بالذات والآخر، سواء عبر مقارنتها نفسها ببطلات السينما، أو عبر رؤيتها محمد أنه شاب مختلف عن كل الرجال والشباب الذين عرفتهم من قبل: «أغني وأنا أتصور أني البطلة التي تطرز الوردة الحمراء المكتملة على القماش، التي أبعد عنها حبيبها لأنه غني وهي فقيرة» (الرواية، ص 57).
«لم تعد تجذبني الخيطان الملونة، ولا الوردة التي أريد أن أكمل تطريزها، ولا مراقبة الخياطة فاطمة بقدر ما جذبني وجود الشاب في الحديقة، وهو يقرأ في كتاب، أخذنا نتبادل الحديث حتى سألته إن كان قد رأى فيلم «الوردة البيضاء»؟. (الرواية، ص 59). يتشكل في بيروت عشق «كاملة» للسينما، للفساتين الجميلة، للأغنيات، للأفلام، لكسر كل القيود الاجتماعية التي تحيط بها وتمنعها من اكتشاف العالم، لكن «كاملة» محاطة بواقع مختلف، واقع يتشكل من الفقر والمعاناة والجهل. ولعل سيرة حياة كاملة في انتقالها من الجنوب إلى بيروت، ومن المجتمع القروي الفقير والمعدم إلى مجتمع مدينة بيروت، المنفتح والحضاري، يعبر عن شريحة اجتماعية عريضة انتقلت من الجنوب إلى بيروت في سنوات الثلاثينات بسبب الفقر، ثم بسبب الحروب التي ستؤدي إلى الرحيل القصري.
ثانيًا: المحظورات الاجتماعية والأسرية التي تعارض النازع الأول داخل «كاملة» الذي يتوق إلى الاكتشاف والمعرفة، وإلى الانعتاق من الواقع الضيق الذي تحيا فيه، لكن «كاملة» لا تتمكن من أن تمنح جسدها أو روحها تلك الحرية المرجوة، بل تظل على مدار حياتها تلتقط ما تتمكن من التقاطه، تقول: «أشبه نفسي وأنا بالقرب من محمد بالقطط التي تحف جسدها بمن يقدم لها قطعة من اللحم أو كسرة من الخبز، وأحيانًا تحف جسدها بالجدران الدافئة كلما شعرت بالبرد». (الرواية، ص 63).
تتمكن «كاملة» من دخول بوابة الأنوثة والحب، عبر بوابة «الفن»، من خلال السينما تستطيع «كاملة» أن ترى حيوات أخرى لنساء أخريات تختلف حياتهن عن حياتها، وعن حياة والدتها وأختها. هكذا تعقد المقارنات المستمرة بين الواقع المعاش، والواقع المرئي على الشاشة الذي يحاكي أحلامها وما تتمناه لكن جزءًا من هذه الأحلام يصير مجسدًا بالشاب الذي تحبه «محمد» الذي تراه يشبه ممثلي السينما.
«كنت على حق عندما فكرت أن «محمد» يشبه الممثلين، إنه يرتدي ثيابًا شبيهة بملابس عبد الوهاب، يتحدث عن لغة الشعر والعلم» (الرواية، ص 63).
لكن بماذا سيفيد هذا الوعي الجديد، في حياة «كاملة»؟
لا تتمكن «كاملة» من أن تتراجع عما تحس به من حب نحو «محمد»، رغم تقاليد المجتمع الذي تحيا في ظله، ورغم زواجها تستمر في لقاء محمد، خاصة بعد أن فشلت كل محاولاتها للتخلص من هذه الزيجة. تسعى «كاملة» إلى مقاومة زواجها من زوج أختها بكل ما لديها من قوة نفسية وجسدية، تهرب إلى الجنوب حيث يقيم والدها مع زوجته، وتظل لمدة شهرين، لكن الأب يعيدها إلى بيروت بعد أن يأخذ المال لقاء عودتها.
«يعيدني أبي إلى بيروت بعد مكوثي لديه شهرين فأكتشف لحظة عودتي أنه قصد تجويعي حتى أرجع إلى بيروت في أقرب فرصة لأنه وُعِدَ بعشر ليرات ذهبية إذا تم زواجي بزوج شقيقتي» (الرواية، ص 82).
يمكننا رؤية فكرة «الأنوثة» المنتهكة في حياة كاملة عبر عدة مواقف تلخص هذا الانتهاك الذي يطول حياة الجسد ككل:
«لا أعرف كم من يد امتدت لتلبسني الفستان الأبيض، لكن أعرف كيف هربت من الأيادي الكثيرة إلى «بابور الكاز» (الرواية، ص 82) .
حاول زوج شقيقتي إضرام النار بكل الفساتين التي جاء بها متحسرًا على ثمنها، فتسرع زوجة شقيقي العابس تطفئها، ويعده الجميع بتأديبي» (الرواية، ص 84).
«وفي الليلة الثالثة أدخلوني إلى الغرفة بعد أن انصعت إلى أوامرهم» (الرواية، ص85).
«لكن شقيقي الذي كان ينتظرني عند الباب قال: «فوتي وإلا قالت الناس إنو قريب الخياطة فاطمة لعب بعقلك وعاملك شيء»، ولم أفهم قصده لكن خوفي العظيم أنه علم بأحاديثي مع محمد واحتفاظي بصورته وذهابي معه إلى السينما، وطلبه لي أن أنتظر ستة أشهر.. كل ذلك جعلني أعود إلى الغرفة». (الرواية، ص 85).
إن هذه الانتهاكات الجسدية التي تتعرض لها «كاملة» عبر إجبارها على الزواج من زوج شقيقتها، وتوفر الشرعية العائلية لحماية هذا الانتهاك من الأم، وزوجة الأخ والأب، والأخ، ستعمق جروح الكينونة من جديد ويزداد إحساس «كاملة» بانتهاكها الجسدي، لكن هذا الإحساس يدفعها للتمرد، لا للرضوخ والطاعة. تعي كاملة أنها نفذت حكم «الأسرة» بالاستسلام لهذا الزواج، لكنها في الوقت ذاته تعمد إلى القيام بكل التصرفات التي تمنحها مساحة من الحرية التي أخذت منها، فلا ترضخ «كاملة» لأوامر زوجها بالتنظيف، ولا تستسلم لأحكامه في الاقتصاد بالنفقات، بل تقوم بما تراه مناسبًا لها.. سأقدم عدة صور لتمرد «كاملة» المادي على الأشياء، واللجوء إلى ذاتها الداخلية لتحقيق توازن مفقود في واقعها:
«سرعان ما تأكد زوجي أني خلقت من طينة تختلف تمام الاختلاف عن طينة شقيقتي المتوفاة، فأنا لا أحمل أيًا من صفاتها: الصبر – النظافة – الكد – الرزانة – مهارة ربة البيت القديرة» (الرواية، ص 89).
«لم يكتفِ زوجي بأن نهرني أمام الجميع.. أبلع إهانته لي، متصنعة اللا مبالاة والانهماك بشيء ما، وما إن يغادر الغرفة حتى اعتلى الكرسيّ كما فعل، وآتى باللبن، أشرب منه، ثم أدلقه على رأسي ووجهي وملابسي، ألحس يدي كما تفعل القطط.. يتضاعف ضحكي كلما رأيت وجه زوجي المصدوم وكلما تساقط اللبن مني على الأرض، ولم يفطن أني أقتص منه بل أخذ يلوم نفسه» (الرواية، ص 90).
أما التمرد النفسي الذي تقوم به «كاملة» فيحدث خلال ركوبها مع عائلتها القطار حين يذهبون للشام، تفكر كاملة وهي في الشام أن تهرب، لكنها لا تجرؤ على تنفيذ هذا الأمر. وتتمرد «كاملة» على سلطة الطاعة الدينية بألا تتبرع بالمال في ضريح السيدة زينب، كما طلب زوجها، وتتمرد في تفكيرها بالهرب ثم تتمرد في حوارها مع ضابط شاب لا تعرفه وتوهمه بأنها غير متزوجة، كي تشجعه على خطبتها:
«أبتسم له مشجعة.. أسرع، وأعطيه اسمي وعنواننا وأعطيه اسم زوجي على أنه اسم أبي يودعنا الضابط وهو يضع يده على قلبه، ويبتسم لي، أتمنى لو أن زوجي هو فعلًا أبي»، ولم يكذب الضابط الخبر إذ دق بابنا مساء اليوم التالي ومعه والده.. يتأهل زوجي به، كذلك شقيقي العابس وكل ظنهما أن الضابط جاء يطلب يد ابنة شقيقتي المتوفاة لكن الضابط ينطق اسمي أنوح وأبكي لأني لم أصبح خطيبة هذا الضابط الجميل» (الرواية، ص 101).
في الفصل الذي تعنونه الكاتبة باسم «وكر الحيايا» تحكي «كاملة» عن البيت وأفراده، وكيف تراه بعد زواجها، إذ هي لم تنتقل للإقامة في بيت آخر، بل تسكن مع زوج أختها في غرفة، وهي غرفة أختها المتوفاة، كما أن البيت يضم عددًا كبيرًا من الأفراد، مما ينفي تمامًا وجود مساحة من الخصوصية ولعل هذا في الوقت عينه ما يمنح «كاملة» فضاء أكثر اتساعًا للحرية، أكثر مما لو كانت تعيش منفردة مع زوجها في بيت مستقل مما ينفي خصوصية الجسد، وخصوصية الذات. لكن كاملة وسط هذا الزحام العائلي، والأفراد الكثر في البيت الصغير والضيق، تحاول أن تشق عالمها الخاص مع قدوم ابنتي شقيقتها الأخرى المتوفاة لتعيشا مع جدتهما بعد زواج الأب.
«تتبدل حياتي بمجيء ابنتَي شقيقتي المتوفاة، خصوصًا الكبرى التي كانت تصغرني بسنوات قليلة، كأن الله أرسل لي ملاكًا يحيطني بعنايته.. لم أصدق حسن حظي رغم الظروف التي رافقت مجيئهما، وهكذا أصبح عددنا في البيت يفوق عشرين نفرًا، عدا الزائرين والزائرات» (الرواية، ص 94).
تحتفظ كاملة بذاكرة خصبة عن ذاك الزخم الكبير من الأحداث في طفولتها التي حملت سلسلة تداعيات زاخرة بالدقائق والتفاصيل التي تتخلل حديثها عن الوقائع والأشخاص التي أثرت على سيرورة حياتها ككل فيما بعد. تنزلق «كاملة» إلى عالم الأمومة من بوابة الطفولة، دون مرحلة فاصلة لتؤهلها لفهم تفاصيل الأنوثة. الكل يعرف أن «كاملة» غير مؤهلة للحمل والإنجاب، سواء على المستوى النفسي أو الجسدي، لكن أحدًا لا يتدخل لتغيير أي شيء في واقع تحولها إلى أم، بل يكون هذا الحدث استكمالًا لمرحلة زواجها من زوج أختها الذي يكبرها بأعوام كثيرة.
«يحين وقت المخاض، فتسرع بي زوجة شقيقي العابس إلى مستشفى الجامعة الأمريكية بناء على طلب زوجي، وما إن رآني الطبيب حتى أخذ يقيس خصري، وبطني وقدمي بالمتر، وكأني قطعة من القماش وعندما سألني عن عمري وعرف أني في الرابعة عشرة لم يكتم استياءه فصاح «شو» الظاهر أهلك ما عندهم أكل يطعموك حتى قاموا زوجوك» (الرواية، ص 106).
لا تملك «كاملة» نظرًا لصغر سنها وعيًا بفكرة الجسد وفكرة الأمومة، إن وعيها بكونها صارت أمًّا يتشكل مع المزايا التي ستحصل عليها مع هذا الدور، نستنتج ذلك من خلال ما يلي:
«أراقب ابنتي وهي تتثاءب وتتمطى، وإذا بها تمدني بقوة جديدة تضاعف القوة التي مدتني بها وهي في بطني». «يأتي اليوم الذي أفارق فيه السرير، لأجد الأيادي الكثيرة تساعدني على الاعتناء بمولودتي.. خوفًا من أن أوقعها أرضًا حين أحملها، أو خوفًا من أن أجعلها تبلع الماء في الوقت الذي أقوم بغسلها».
«رغم حبي الشديد لمولودتي فاطمة إلا أني كنت أنسى وجودها في حياتي أحيانًا، خصوصًا وأنا أسمع الأغاني فأتوق إلى مغادرة البيت قبل انقضاء المدة المطلوبة وهي أربعون يومًا، أتوق إلى الذهاب إلى السينما، إلى ضجيج المدينة» (الرواية، ص 108).
تبدو الأمومة في حياة «كاملة» طريقًا لانتزاع جزء من حريتها المأخوذة، ومن صباها وأنوثتها المصادرتين، من هنا تصير «كاملة» واعية بتحولها إلى «امرأة» لها حقوق من الممكن أن تمنحها بعض المتعة والمرح ضمن حياتها الجافة والمهملة.
«تتملكني الشجاعة لإقامة «يوم استقبال» أسوة ببقية النساء الثريات ومتوسطات الحال اللواتي كن فخورات بحسبهن ونسبهن، أو من كن مثلي يعشقن الغناء وحضور الأفلام السينمائية.. لكن زوجي لم يكن يحب الزيارات، وكان ضد شرب القهوة وتقديمها، وينسب ذلك إلى ضياع الوقت، وقد أجبرته على أن يأتي لي بنوع واحد من الشوكولا ومن الملبس الأبيض.. وكنت أشتري البن والأزهار سرًا ثم أوزعها فور انتهاء الاستقبال على الجارات خوفًا من أن يراها زوجي، ويجري معي تحقيقًا: من أين أتيت بها؟ وكيف أنفق المال على زهور ستذبل وتموت؟!» (الرواية، ص110).
إن التوق الذي يشد «كاملة» نحو حياتها الداخلية لا يخبو مع قدوم مولودتها الأولى «فاطمة» ولا تنطفئ رغبتها نحو السينما والغناء والحب، بل إنها تعمل على تطويع حياتها الجديدة للحصول على جزء مما تحلم به في خيالها، لذا نراها تتجرأ على اصطحاب النسوة ودخول صالة ليلية: «منذ دخولي إلى صالة ناديا العريس. وأنا أهدس بالمغنين والمغنيات، بالإسكتشات وبالممثلين وكنت أنتهز فرصة الهرج والمرج التي كانت تحدث في بيروت من أجل أن ينشغل شقيقي العابس عني، كتحليق الطائرات الإنجليزية فوق بيروت، وإسراع الجميع إلى السطح لرؤيتها وهي ترمي المناشير، معلنة استقلال لبنان وسوريا، وإذا ما تعالت الموسيقى لأن جيوش الحلفاء قد دخلت ساحة البرج بالموتوسيكلات، فأجدني أسرع راكضة إلى الساحة لعلي أرى من على بلاكين الحانات والمقاهي، أولئك المغنين والممثلين والممثلات» (الرواية، ص 116).
بناء على ما تقدم تتضح الحياة الداخلية النشطة التي تحياها «كاملة»، إنها تتوق للحب، للفن، للفرح، وهي عاجزة عن الحصول على هذا التوق سوى عبر التحايل على الواقع المحيط بها بدءًا من أسرتها التي لم تنسلخ عنها رغم زواجها، ثم هناك وجود زوجها وابنتها، إلا أن كل هذه العوامل لم تشكل هزيمة لروحها المقاتلة، إنها تسعى بكل ما لديها من طاقة للحصول على ما تريد رغم إدراكها العقاب الذي يمكن أن يلحق بها في حال تم اكتشاف أمرها، لكن هذا التوق أيضًا يمكن النظر إليه على اعتبار أنه الطريق لمعرفة الأنوثة في داخلها.
«هذه الدنيا الجميلة، دنيا الأزهار، والشيوكولا والاستقبالات والفساتين، والكعب العالي، والكحل حول العينين، وأحمر الشفاه، أخذت تجعلني عطشى لكلمة إطراء، ونظرة إعجاب، لا من النساء فقط بل من الرجال خصوصًا جارنا الشاب.. « (الرواية، ص: 116 ).
تحيا «كاملة» في واقع من الحرمان المادي والمعنوي، حرمان يجعلها تعيش في أمنيات مستمرة لنيل الأشياء التي ترغب بها، وهي أشياء أنثوية يرفض زوجها وأخوها أن تحصل عليها، لذا تستمر في التحايل للوصول إلى رغباتها.
لكن «كاملة» تواجه قمعًا «ذكوريًّا» من زوجها وأخيها يتمثل في ضربها وإهانتها واتهامها بالسرقة من زوجها، إلى الحد الذي يدفعها للتفكير في الانتحار في لحظات اليأس.. يغيب أيضًا عن حياة «كاملة» وجود مرجعية نسائية تلجأ إليها في وقت المحن، أو تأخذ منها النصيحة، إن كل النساء اللواتي يحطن بكاملة يمثلن أيضًا السلطة، هناك الأم وزوجة الأخ لذا تكون المرجعية الأولى بالنسبة لكاملة إحساسها الفطري بالأشياء ومدى رغبتها فيها أو نفورها، لذا تندفع غالبًا بجموح خلف ما تود الحصول عليه، لأنها تعيش هوية جسدية مفتقدة واقعيًّا، وتحاول التعويض عن هذا الفقد في التفتيش عن ذاتها في المشتريات الجميلة، في السينما، واللقاءات النسائية، ويحدث تواطؤ من قبل المجتمع المحيط بها؛ لأنها صغيرة في السن، وحديثة عهد بالزواج:
«تضحك الجارات وتتناقل الألسن أخبار سرقاتي، يتواطأ معي الجميع لصغر سني، رغم احترامهم لنزاهة زوجي وتدينه» (الرواية، ص 123).
أفردت المؤلفة فصولًا للحديث عن فترات محورية من حياة «كاملة»، تلك المرحلة التي تعاود فيها التواصل مع حبيبها الأول «محمد»، وهكذا تبدأ مع فصل «شبح الليل الوطواط الجميل» مرحلة الخروج الجامح عن النظام الاجتماعي في لقاء «كاملة» رجلًا آخر غير زوجها:
«يمر عامان قبل أن أكتشف أن محمد قريب الخياطة، هو الذي أرسل لي باقة الزهور التي أتتني إلى البيت عقب ولادتي طفلتي فاطمة» (الرواية، ص 126). هكذا تندفع كاملة وراء هذا الحب للشاب الذي تراه يشبه فناني السينما. ولا تقدر على التراجع عن الإحساس بتجلي الحب، وبالخوف أيضًا لأن اكتشاف هذا الحب سيجر عليها الويلات والمصائب الاجتماعية، فهي تعيش باستمرار حالة رعب من أخيها وزوجها، تخاف أن يكتشفا أمر ذهابها للسينما، تخاف أن يعرفا أمر شرائها للأشياء النسائية التي تراها في المجلات والأفلام، لكن رغم ذلك يمنحها التفكير بمحمد سعادة لم تعرفها من قبل.
لكن هذا الخوف لم يمنع «كاملة» من كسر التابو الاجتماعي الذي يحول دون لقائها بمن تحب، لأن هذا الحب يمنحها الإحساس بذاتها المفقودة، ويعيد إليها الإحساس بكيانها الأنثوي والإنساني في آن معًا. «هناك من يلاحظ أسناني المصفوفة وابتسامتي وعيني الذابلتين ووجدتني أرضى أن ألقاه في غرفته في اليوم التالي بعد أن سرقت نفسي من نفسي.. أخذت ألقاه كل يوم تقريبًا فور عودته من عمله في «الأمن العام» أتعلق بغرفته الصغيرة، لا أريد أن أكون في أي مكان آخر فهي بالنسبة إلي كصالة السينما، بعيدة عن ضجيج بيتنا وأصوات الكبار والصغار والرضع». (الرواية، ص 138).
إن هذا الحب الجريء، المقاوم الذي يتحدى كل التقاليد والأعراف الاجتماعية يولد عند «كاملة» حالة من التساؤل عن حياتها ككل، وعن وضعها كزوجة لرجل أجبرت على الزواج منه، مما يدفعها للتفكير بالتمرد على هذه المنظومة الأسرية التي تم التعامل مع كاملة» فيها على أنها شيء لا إنسان.
إن «كاملة» ترى في حياتها انعكاسًا لأفلام السينما، وليس العكس، إن حياتها هي فيلم يشبه الأفلام التي تشاهدها، من هنا تعيش كاملة في خيالها أكثر من الواقع، وتقارن حياتها مع حياة بطلات الأفلام وواقعها مع واقعهن.. واقع الحب المقموع بسلطة الأهل، وواقع الأنوثة الغائبة أمام افتقاد الذات الداخلية وضياعها:
«أخرج من فيلم دموع الحب وكلي لوعة على موت البطلة نوال، الأفلام تحاورني من جديد، إنها تعكس حياتي، أنا مثل نوال تزوجت كما فرضت علي الظروف، وها أنا مثلها أجد الحب لكن يداي مكبلتان خلف ظهري بزواجي وبطفلتي وبالجنين الذي في بطني» (الرواية، ص 142).
تتضح أكثر حالة الفصام بين عالمين في الفصل الذي يحمل عنوان «حنان» . في هذا الفصل تغوص كاملة في عالمها كأنثى، تعيش مشتتة بين رجلين، رجل متزوجة منه، وآخر تحبه وتحاول أن تتهرب من لقائه؛ لأنها تخشى من افتضاح أمرهما. هكذا يبدو الوعي الذي يتشكل داخل «كاملة» وعيًا طفوليًّا وغير ناضج، ولا يمتلك خبرة معرفية تخول صاحبته أن تختبر الحياة إلا عبر حواسها، وأيضًا عبر ما تسمعه من الآخرين. في هذا الفصل تحكي «كاملة» عن ولادة طفلتها «حنان» وهذا الفصل يعتبر الأهم من منظور فكرة السيرة؛ لأنه يحدد سيرة ولادة الكاتبة وظروف نشأتها الأولى.
«تأخذني ابنة شقيقتي إلى المستشفى عندما تداهمني آلام المخاض، وإذا بطبيب التوليد نفسه يهتف ما إن يراني: تعرفي أنا دايمًا بتذكرك عطيت محاضرة مرة، وجبت السيرة إني ولدت بنت عمرها 14سنة» (الرواية، ص 155).
يعلق الطبيب مبتسمًا وهو يسحب ابنتي الثانية: «إجتك بنت عظيم».. ألمس كل الحنان من هذا الطبيب وأسأله إذا كان باستطاعتي الذهاب إلى السينما في الغد حيث أغيب لساعتين فقط، لأنه إذا عدت إلى البيت فلن يدعني أهلي أفارق سريري لمدة أربعين يومًا كالعادة فيفوتني فيلم «حنان» وإذا بالطبيب يضحك عاليًا ويقول: «حنان سمي بنتك حنان.. اسم حلو» (الرواية، ص 158).
تأخذ الكاتبة اسمها من السينما، إنه العالم الذي تحيا فيه والدتها «كاملة» بكل طاقتها المقبلة على الحياة حتى في أصعب لحظات آلام الجسد -الولادة – تفكر كاملة في عشقها للسينما، في حياتها التي عادت واستمرت بعد لحظة الولادة وكما لو أنها تحتفي بالحياة في دورتها المستمرة.
«أجلس في السينما إلى جانب محمد أبتهل إلى الله ألا يتدفق علي الحليب لكن تأثري حين قبل محمد يدي قائلًا: «الحمد لله على سلامتك» جعل الحليب يطفح من ثديي، وما إن ابتدأ الفيلم حتى أشار إلى الشاشة ليلفت نظري إلى كلمة «حنان» مؤكدًا أن الاسم في غاية الجمال ذو معانٍ كثيرة، ثم أجهش بالبكاء» (الرواية، ص 158).
لكن «كاملة» في هذا الحب تعيش صراعًا داخليًّا بين خوفها من اكتشاف أمرها وعدم قدرتها على التخلي عن حبيبها، وتزداد حدة هذا الصراع عندما يصل خبر هذا الحب إلى أسماع الزوج. تعاني كاملة الخوف، بل رعب الفضيحة وتتذكر في داخلها كيف يتم التشهير بالنساء الخائنات في القرى:
«ولم أهدأ إلا عندما تمر ببالي فجأة صورة المرأة التي طوفوها في النبطية أجدني أشكر الله أني في بيروت ولو أني ما زلت في النبطية وانتشر خبر خيانتي لزوجي وعلاقتي بمحمد لكان طاف بي أهالي النبطية في القرى وجوارها، بعد أن ركبوني بالمقلوب على ظهر حمار «أزعر، من غير جلّ» (الرواية، ص 186).
يتضح في هذا المقطع مدى القهر النفسي والجسدي الذي يقرر مصير النساء، ويحدد وسيلة التشهير التي تناسب الحالة التي لا يرضى عنها والتي يتم اعتبارها خروجًا على الأعراف الاجتماعية. لكن «كاملة» هنا لا تعتبر ما تقوم به خطيئة، بل إنها تتجاوز فكرة الخطيئة إلى فكرة الحصول على التعاطف الإنساني من القارئ لبطلة قادتها الظروف الاجتماعية إلى سلسلة من العذابات النفسية والإجتماعية، ولعل هذه العذابات لم تتوقف عند حدودها الذاتية، بل امتدت إلى مصير أطفالها.
«أتحايل بشتى الحيل لأفارق البيت من غير زوجة شقيقي.. أعدو إلى غرفة محمد أصطحب ابنتي الصغرى حنان، لنجلس وكأننا عائلة، وهو يقذف عليها الشيوكولا والملبس والألعاب، أنبه ابنتي وأخبرها بأن محمد هو الدكتور، ونحن في عيادته كان عليّ أن آخذ الحذر منها لأنها كانت سريعة الملاحظة والانتباه» (الرواية، ص 192).
تتعرض سيرة «كاملة» في بعض المقاطع لنقلات سردية مفاجئة في الأحداث الرئيسة كأن تقول: «وكان محمد قد انقطع عن رؤيتي لمدة شهر إلا أنه رآني مصادفة مع ابنتي ونظر إليّ تلك النظرة فعرفت أنه يريد العودة لي. وفعلًا عاد إنما بالطريقة التي أرادها ذهب إلى شقيقي البكر عاشق العود، طالبًا إليه مساعدته من أجل تطليقي من زوجي وبدلًا من أن يتحدث شقيقي عاشق العود مع زوجي يزورنا من غير علمي ويختلي بشقيقي العابس الذي أغمي عليه عند سماعه الخبر، تتعالى الأصوات أهرب إلى السطح.. لكن شقيقي لم يلحق بي إلى السطح فقد أخذت الأمور والأحداث تمر بسرعة، ورأيت نفسي في المحكمة الشرعية وقد تنازلت عن كل شيء ثم يظهر والدي فجأة ويصطحبني معه إلى الجنوب، ولم أستطع أن أفكر بمحمد الذي وعده بالمال لأن عهد الليرات الذهبية قد ولى».
يتضح عبر هذا المقطع التحول التام الذي طرأ على حياة كاملة، إنه الطلاق من زوجها الشيخ والاستعداد للزواج من الرجل الذي تحب.تغمر أحاسيس كاملة انفعالات شتى تصاحب مرحلة زواجها من «محمد» تدرك «كاملة» أنها قامت بتنفيذ خطوة جريئة وصعبة في حياتها هذا ما تحس به لحظة فراقها عن ابنتيها فاطمة وحنان، ثم بعد عودتها للسكن في الحي ذاته الذي كانت تسكن فيه مع زوجها الشيخ.
لنقرأ العبارات التالية التي تحاسب كاملة فيها على تجرؤها على القيام بالتمرد والطلاق وفرض واقع نفسي وجسدي مختلف عن حياتها السابقة، واقع فيه حياة جديدة مع رجل آخر:
الفضيحة: « طلاقي كان فضيحة لأني تقمصت دور الرجل».
الحرمان: «أمسك قلبي خوفًا من أن تمنع ابنتي من رؤيتي» (الرواية، ص 230).
التحدي: أتمسك بهذه الكلمة «الجرأة» وكأنها بلسم يداوي جروحي. أنا جريئة وكذلك محمد، تحدينا المجتمع تناقلت فضيحة طلاقي الألسن (الرواية، ص 232).
نبذ اجتماعي: «تقاطعني جميع النسوة اللواتي كنت أدعوهن لحضور الاستقبال في بيتنا» (الرواية، ص 233).
صراع داخلي: «رغم حبي الشديد لمحمد ما زلت أشتاق إلى حياتي الماضية عندما كانت مسؤولياتي تعمها الفوضى» (الرواية، ص244).
رغبة العودة: «لماذا تمر ببالي ولو للحظات فكرة العودة إلى بيتنا حتى إلى الحاج؟ هل لأن الحياة بعد زواجي بمحمد أصبحت أكثر جدية وعلي مراعاة أدق التفاصيل (الرواية، ص 245)
حضور الجسد في تحولاته
إن حضور جسد «كاملة» في تحوله من جسد خائف ملاحق محاصر من سلطة المجتمع وانتقاله إلى الحياة في بيت آخر ومع رجل آخر لم يؤدِ إلى نجاتها من الأوجاع بل كانت هناك عدة مواقف مفصلية جسدت الإحساس بالألم وكررت حضوره في حياة كاملة:
– أعود إلى وظيفتي السابقة «حمير الحجارة»، أفرغ حمولة وأملأ حمولة لا على ظهري بل في بطني، أحمل بمولودي الثالث وأنجب بنتًا خضراء العينين، وأكمش نفسي مرة والحليب ينزل من ثديي وأنا أنحني لحملها وكأني إحدى البقرات» (الرواية، ص 247).
– رغم انتقال أمي إلى بيتي ومساعدتها لي في تربية أطفالي، ورغم أن محمدا قد أتى لي بخادمة إلا أني كنت دائمة التعب والإرهاق نتيجة إصابتي بنزيف تلو الآخر».
– «ولم نتشاور أنا ومحمد بأنه علينا التوقف عن الإنجاب ريثما يتعافى جسمي».
– «أعرف أني كسولة أفضل الاستلقاء والنوم والثرثرة على شغل البيت وتدبير شؤون الأولاد» .(الرواية، ص 248 ـ 249)..
– «كان محمد قد لاحظ تبدل طبيعتي واختفاء ضحكتي وأنني لم أعد أحب الذهاب معه ومع الأولاد إلى شاطئ البحر، فرؤيتي للبحر أخذت تسرع من دقات قلبي، وعندما لم أعد آكل حتى السمك وما عدت أقوى على الوقوف، أتى لي محمد بالطبيب يقول لي ولمحمد إني أعاني الكآبة التي تثيرها الأماكن النائية المنعزلة كالصحاري والبحار وهذا الأخير مصدر كآبتي. ابنتاي في بيروت واشتياقي لهما كبير» (الرواية، ص 254).
بناء على هذه المقتطفات من الرواية يتضح أكثر عالم «كاملة» النفسي والجسدي، هذا التجاذب الذي تعانيه بين حياتها السابقة وواقعها الحالي بين شوقها لابنتيها وحرمانها منهما وإنجاب أطفال جدد يسببون لها مشقة في حياتها، مما يسبب آلامًا جسدية ونفسية لتعود كاملة وتتحرك ضمن دائرة الوجع والحرمان. هناك – إذن – شبكة علائقية معقدة التنظيم على مستوى بنيتها الدلالية العميقة.
لقد تم استهلاك القيم العاطفية والجمالية التي شكلت مخيلة «كاملة» ووعيها لتحل محلها واجبات واقعية ثقيلة تلقي بالبطلة إلى حالة جديدة من الصراع الذي ينفتح على معاناة مختلفة، فإذا كانت كاملة تشكو من قبل من غياب الانسجام العاطفي والجسدي بينها وبين زوجها الحاج، فإنها تشكو الآن انهيارًا جسديًّا تسببه مسؤولياتها الكثيرة المتمثلة في العناية بالبيت والأطفال، هذا إلى جانب آلامها الجسدية التي نتجت عن الولادات المتكررة وافتقارها للوعي اللازم للحيلولة دون تكرار هذا الألم الذي استنزف طاقتها وطاقة زوجها محمد وأدخلها دائرة صراع آخر.
إن التفصيل الدلالي يكشف عن عجز باطني يمكن إرجاعه إلى المكونات التالية:
– رغبة كاملة في التصالح مع المجتمع بعد أن قامت بخطوة متمردة بالطلاق ثم الزواج ممن تحب، لذا أقدمت على إنجاب أربعة أولاد منه وهذا يعني أنها فازت بالامتحان ووضعت في خانة الزوجة الصالحة.
– حنين «كاملة» للحصول على الرضا الاجتماعي والازدهار العاطفي مما يسبب لها اضطرابًا داخليًّا يظهر في صورة آلام نفسية وجسدية تتمثل في « اكتئاب – إرهاق – نزيف – بكاء : «أضع مولودًا ذكرًا هو آخر العنقود، أصر محمد على تسميته «محمد كمال» حتى أنادي ابننا محمد ويناديه كمولة، على رغم انتقاد الأهل والأصحاب خوفًا من أن يجلب الاسم الشؤم وسوء الحظ، خصوصًا أن محمد كمال أتى بعد عدة إجهاضات لكنه أتى في ظروف ملائمة، إذ عاد حبنا يطفو بعد أن طمسه تعبي وإرهاقي علاوة على ظروفنا المادية والغيرة القاتلة». (الرواية، ص 269).
إن طبيعة هذا الوعي عند الساردة كاملة تجعلها ترغب في التمكن من الحصول على سلطة اجتماعية وعاطفية، لا شك أن هذا التجاذب الداخلي بين رغبتها العفوية في عيش حياة تلقائية بسيطة تخلو من المسؤوليات تتضارب مع النظرة الاجتماعية إليها كزوجة متمردة، لذا تتفانى كاملة بكل قوتها لتثبت العكس حتى لو كان هذا الإثبات على حساب صحتها النفسية والجسدية.
الجسد والموت
في الفصل الذي عنونته الكاتبة باسم «محمد كمال» يبدأ حديث كاملة عن الموت لكن هذا الحديث يصل إلى ذروته في حلول الموت فعلًا مع وفاة زوجها «محمد» في حادث سيارة، هكذا تكون مرحلة أخرى من حياة كاملة التي ستنفتح على معاناة داخلية وخارجية.
«هل من المعقول أن كل شيء قد توقف وسيصبح محمد كناية عن عظام؟ أين الأفكار والمشاعر والخطط والآلام والذكريات والشهوات وكتابته الشعر وحفظه إياه؟» (الرواية، ص 274).
يهوي حدث الموت على حياة كاملة مثل صاعقة تزلزل واقعها من جديد لتحرق الحقل الأخضر الذي تحيا به وتحوله إلى صحراء جافة. من هنا يصير على كاملة أن تواجه الحياة وحيدة مع خمسة أطفال أي أن جسدها المثقل بهمومه وأعبائه عليه أن يواجه واقعًا جديدًا أكثر قسوة ومرارًا، واقعًا يعيد كاملة لسلطة المجتمع المفروضة بالقوة.
«الخوف يسكنني ويمتد إلى أولادي الخمسة، إلى أمي، إلى صديقاتي، إلى كل من يطأ عتبة بيتي بعدما أصبح أهل محمد الرجال منهم فقط كصائدي الأسماك ينتظرون بكل صمت أية هفوة تصدر عني حتى أعلق بشباكهم المنصوبة» (الرواية، ص 286).
يشكل حدث موت محمد انزياحًا محوريًا في حياة كاملة وفي رؤيتها الموضوعية للحياة، وهذا ما سنلاحظه في الجمل التي سيتم الاستشهاد بها، والتي تشير لتحول طبيعة واقعها واختلافها، مما يؤكد من جديد النتيجة الطبيعية لافتقار الوعي العميق بالحياة الذي افتقرت إليه كاملة منذ طفولتها الأولى، وإجبارها على الزواج من رجل يكبرها. إن هذا التحكم الذكوري في حياتها نتج عنه فرار مستمر وغير ناضج تكون أكثر مع افتقادها للأولويات الأساسية للاعتماد على نفسها، من هنا يكون موت الزوج حدثًا مزلزلًا يقلب واقعها كله ويعيدها من جديد إلى دوامة الفقر والاحتياج والهروب أيضًا، وإن اختلف شكل الهروب كما سنرى. يمكننا فهم طبيعة تحولات كاملة كما يلي:
أ – الخوف والاحتياج :
«مرت سبع سنوات ونصف السنة على وفاة محمد، تبدلت أمور كثيرة منها سقايتي لشجيرة الفتنة في الليل لا في النهار خوفًا من أن يلمحني الدائنون على الشرفة: الجزار والفران وصاحب مخمر الموز وبائع الخضار وبائع المفروشات وبائع الأقمشة حتى جابي الكهرباء» (الرواية،ص246).
ب – افتقار الوعي:
تفتقر كاملة إلى الوعي والنضج الذي يخولها إدارة حياتها،وحماية أطفالها، لقد عاشت سنوات عمرها السابقة في كنف حماية أسرية «ألم أكن أنجح مهما حاولت، أن يجد أولادي الطعام بانتظارهم وإذا نجحت دب فيهم الجوع فأسرعوا إلى شراء السندويشات نفسها». (الرواية ص 314).
جـ – الرغبة في الحياة :
إن شعلة الحياة التي ظلت متوهجة داخل كاملة وظلت تدافع عنها منذ سنوات الطفولة لا تلبث أن تتحول إلى شعلة، لا تلبث أن تخبو نتيجة ما طرأ عليها من تحولات عائلية واجتماعية، لكن كاملة تحاول الإمساك بطرف خيط من الأمل الواهي الذي تدرك أنه وهم ولن يتحقق: «لم أكن أقدم القهوة فقط بل «أبصر» وأقرأ البخت، وعندئذ أفطن إلى أني لم أعد مثل باقي النساء فلا أنتظر «إشارة» كما في التبصير وليست هناك عين تتطلع علي». (الرواية، ص 51).
«عيون الجيران حولي تلاحقني تغازلني تمامًا كما كانت تفعل وأنا ما زلت في بيتنا، كوني أرملة أضفي على جاذبية الثمرة المحرومة.. أشعر من جديد بأني مراهقة بالفعل، لكن الإعجاب وقتي رهين ساعته لا مستقبل لا زواج لا إنجاب ربما إعجاب واستلطاف» (الرواية، ص 61).
سيرة الكاتبة وسيرة الجسد
في الفصول الأخيرة من الرواية ومنذ الفصل الذي يحمل عنوان «زواج بالجملة» يتكرر ظهور الكاتبة خلال سردها لحياة والدتها، وهنا أيضًا بإمكاننا أن نضع أيدينا على فقرات من تقاطع السيرة مع السرد.
– تتزوج ابنتي حنان فجأة وأسمع أن الحاج علم بزواجها من معارف قرأوا الخبر في الجريدة (الرواية، ص 329).
– تنجب ابنتي حنان ولدها البكر فأصبحت جدة وعمري ثمانٍ وأربعون سنة (الرواية، ص330).
– لعل حنان تفهم ما أقصده وتضع النقود في شنطة يدي من غير أن أدري (الرواية، ص 91) .
– تمر علي حنان في إحدى زياراتها إلى لبنان، لم أكن أرفض طلبًا لحنان لعله الشعور بالذنب (الرواية، ص 345).
– تتذكر حنان سوق النبطية ومشاهد ذكرى عاشوراء (الرواية، ص 23).
تتأملني حنان، ابنتها تأخذ لي الصور في الفندق وترى نفسها من خلالي، تقترب مني وتضع وجهها ملاصقًا لوجهي وتسأل ابنتها إذا كنا متشابهتين؟! (الرواية، ص 29، 30).
– «آخذ في البكاء فتمسك ابنتي حنان يدي وتسألني إذا كانت العتمة التي راحت تزحف خارج السيارة وداخلها تزيد من حنيني إلى الماضي وتجعلني أبكي، ثم تخبرني أن اليوم عيد ميلادها. تقترب مني فأزيد من بكائي تعانقني فأبتعد عنها. لا أريدها أن تشم رائحة السجائر، ثم أخاف أن تفكر أني لا أريدها أن تعانقني.. ريحتي دخان فتجيبني ماما أنا بحبك، حاجة تبكي، كيف تحبيني وأنا تركتك وأنت صغيرة مش مهم كان لازم تتركي بابا فكري بالحاضر.. كيف أفكر بالحاضر وأنا أعرف أن حنان كانت تعد المرات التي تراني فيها على مر السنوات. (الرواية ، ص 353)
«أنت وأختك جوهرتان رميتكما بالتراب المعفر عندئذ تجهش حنان بالبكاء، وعندئذ فقط أتمالك نفسي لكنها ترفع رأسها بسرعة وتقول لي إنها تبكي لا لأني تركتها في الصغر بل لأنها كلما سمعتني أحاول التحدث بالفصحى يحز في قلبها أني لم أعطِ فرصة.. لو علموك كنت أنت الكاتبة مش أنا، وكانت دائماً تقص علي ما تكتبه فأقترح عليها هذا المثل وذاك التشبيه» (الرواية ، ص354).
لقد قدمت حنان الشيخ من خلال رواية «حكايتي شرح يطول» سيرة ذاتية للتاريخ الشخصي والجسدي والنفسي لوالدتها «كاملة». وهذه السيرة تنطلق من اعتبار الجسد مستندًا أساسيًّا للذاكرة؛ لذا تستعين الكاتبة بذاكرة الأم لممارسة فعل الكتابة بوصفها وسيلة للنسيان وللبوح ،بل إنها وسيلة للتحرر والانعتاق، وللكشف عن قصة وحكاية امرأة تنتمي لزمن سابق لا تتقن الكتابة والقراءة لكنها تفيض بالبوح. ولعل هذا ما وضحته الناقدة يمني العيد حينما كشفت عن أن الدور الذي يلعبه حضور الجسد في الأدب يعمل على كشف «جماليات الحفر والتواصل والعبور» كي نرى صورتنا ونلتقي حقيقتنا ونتحرر من تلك القيود التي تشل قدرتنا على عبور جسر الحياة.
ولعل ما تنفرد به «حكايتي شرح يطول» أنها تنسحب على ثلاثة أزمنة هي:
أ – زمن وقوع الأحداث في الماضي البعيد.
ب – زمن سرد الأحداث على الكاتبة في الماضي قبيل موت صاحبة القصة.
جـ – زمن الكتابة.
ومن الطبيعي أن تتفاوت الأزمنة وتتداخل ما بين الاسترجاع والاستحضار، وفي حالة «حكايتي شرح يطول» تكون العودة للماضي والاسترجاع للأحداث على دفعتين:
الأولى: عندما روت كاملة صاحبة السيرة قصتها على ابنتها حنان.
الثانية: عندما قامت الكاتبة حنان، بعد مرور سنوات على موت أمها، بكتابة ما سمعته وسجّلته في أوراقها. وطبيعي أن تتم في المرتين، خلال محاولة الذهاب إلى الماضي والاستعانة بالذاكرة لاسترجاعه وإحيائه، تحت تأثير الحاضر بمفاهيمه وتغييراته – قَصَد الساردُ أو لم يقصد – عمليات الانتقاء والاختيار والتقديم والتأخير لسَرد الأحداث، ممّا يُبعد صفة الصدق الكامل عن السيرة الذاتية التي توخّتها الكاتبة بتقديمها لقصّة والدتها. فمهما حاولَ كاتب السيرة الذاتية التخلص من أثر الزمن الحاضر، زمن الكتابة، والالتحام بالماضي فسيجدُ أنّه واهم وليس بمقدوره ذلك. (12).
تقول حنان الشيخ حول هذه السيرة: «في السنوات الخمس عشرة الأخيرة من حياة أمي، أصبحت قريبة منها جدًّا، وعرفت أنها قضت عمرها يؤنبها ضميرها لأنها تركتنا صغارًا وتزوجت من حبيبها. كنت كلما عبّرت عن حبي لها وجدتها وكأنها لا تصدق أنني أسامحها على ما فعلته معنا. صرنا نتحدث عن طفولتها، أعود معها إلى الماضي لتعي من خلال مراجعتها لحياتها سبب تركها لنا. لم يكن في نيتي عمل كتاب، لكنني اكتشفت بعد ثلاث جلسات معها أن حياتها كشجرة الصّبار التي رغم شوكها تزهر دائمًا وتبقى مزدانة بألوان أرجوانية. فكّرت أن ثمة ما يستحق الكتابة، وحين أخبرتها بأنني سأكتب قصتها فرحت كثيرًا، وقالت لي: إنها تريد للكتاب أن يصبح فيلمًا سينمائيًّا، فقد كانت ترى نفسها، طوال عمرها، بطلة فيلم سينمائي. توفيت أمي قبل ثلاث سنوات، وكنت قد بدأت حواري معها خمس سنوات قبل مرضها».
وتتابع قائلة «لم أعتمد فقط على روايتها، وإنما أعانني إخوتي أيضًا بقصصها التي يعرفونها، وأطلعوني على رسائل حبيبها محمد إليها ورسائلها إليه التي استكتبها لها آخرون، وثمة رسالة بينهما بخط أختي وهي في السادسة، إضافة إلى مذكرات حبيبها محمد. لقد سكنني الماضي وأرّقني وتعبت، وشعرت وكأنني عدّت إلى هناك لأصلح ما فسد. صرت ألوم نفسي، لماذا ابتعدت عن أمي وعن زوجها؟ ألم يكن عليّ أن أحبه أنا أيضًا لأنها أحبته؟ لقد اكتشفت هذا الرجل من كلامها، لكنني حين رأيت خطه ورسائله صرت إليه أقرب، فأنا ككاتبة أتأثر بالكلمة المكتوبة وأصدّقها. كنت أسمع أنه رجل نبيل، ولم أقدّر ما أسمع إلا حين أصبحت وحدي أمام رسائله».(13)
إن أهمية هذه السيرة بالنسبة للكاتبة تكمن في ربط الماضي بالحاضر في التحام قوي يبعد كل المعوقات السابقة، حيث نجد أن صاحبة السيرة الذاتية تفتحها على بعدَي الحاضر والمستقبل من خلال تصالحها مع ابنتيها فاطمة وحنان اللتين أهملتْهما عندما تزوجت من حبيبها محمد. ويتخذ هذا التصالح امتدادات أبعد عبر حواراتها ومناجاتها مع ابنتها حنان التي أصبحت روائية تعبر عن مشاعر تحرك وجدان أمها.
«عند هذا المستوى، يتداخل مساران، وتتعانق حياتان: حياة الأم الأمية وحياة حنان الروائية التي تعيد كتابة ما روته «كاملة» ، متذكرة ومتخيلة مشاهد ماضيها. يغدو النص – نتيجة لذلك – كأنه كتابة على كتابة وتخييل على تخييل، وامتزاج للماضي بالحاضر، وتآلف بين صوت الابنة وصوت الأم. ولعل هذا ما يجعل حنان تخاطب أمها قائلة: «لو علّموك كنـتِ أنتِ الكاتبة مش أنا». (14)
إن تجربة حنان الشيخ في كتابها «حكايتي شرح يطول» تجربة تختلف عن سائر إنتاجها الأدبي؛ لأن هذا النص يحمل خصوصية ميزته عن كونه «رواية» ليكون سيرة روائية لوالدة الكاتبة.
أولًا: لقد قالت حنان الشيخ بصراحة عبر حواراتها أو عبر استخدامها اسمها الصريح في «حكايتي شرح يطول» بأن هذا النص يندرج تحت إطار السيرة كنوع أدبي، من هنا توافرت له بالفعل خصائص السيرة الأدبية ومميزاتها التي تفرق بينها وبين الرواية، وإن غابت كلمة «سيرة ذاتية» عن غلاف «حكايتي شرح يطول» فإن الكاتبة توضح أن هذا الأمر يتعلق بالدار الناشرة للكتاب في عدم كتابة كلمة سيرة، أما هي فإنها لا تتوانى عن التأكيد على أنها سيرة أمها كاملة، ويمثل هذا الاعتراف أهم عنصر من العناصر الأساسية في السيرة.
ثانيًا: تمكنت الكاتبة من كتابة هذه السيرة بضمير «الأنا» لتحكي حكاية «الأم» وهي تتقمص شخصيتها، وقد استطاعت حنان الشيخ أن تضخ قدرًا هائلًا من الصدق الشعوري في أدق التفاصيل الشخصية في حياة الأم. إنها تكتب سيرة والدتها بضمير «الأنا» الذي تبدأ منه السيرة وتنتهي، لتحقق حنان الشيخ في نصها مزية إضافية عبر كتابة «سيرة» يتوافر فيها عنصر الصدق، وفي الوقت نفسه هي سيرة لشخص آخر. من هنا من الممكن استخلاص نتيجة تؤكد على قدرة الكاتب أن يحكي سيرة حياة شخص آخر مع وجوب شرط القرب الحميمي منه ومعرفته، وتقديم هذا الآخر لتفاصيل عن سيرته. وفي نص «حكايتي شرح يطول» يبدو عنصر الصدق العالي في البوح وكتابة الحقائق من دون زيف أو تجميل وهو أهم ما يميز هذه السيرة من وجهة نظر الباحثة.
ثالثًا: من خلال سيرة الأم «كاملة» كشفت حنان الشيخ عن وضع للمرأة في المجتمع اللبناني، وهي إذ لا تتحدث مباشرة عن القيود التي ترصد حال المرأة وتكبله فإنها عبر بوحها عن سيرة حياة والدتها، وسير نساء أخريات شاركن في صنع تاريخ الأم وسيرتها، وهن أيضًا يمثلن جزءًا من المجتمع، فإن الكاتبة تكشف عن سطوة النظام الذكوري على حياة المرأة اللبنانية، خاصة على مستوى القوانين المدنية التي لا تمنحها أي حقوق تمكنها من الدفاع عن إنسانيتها في وجه نوع من النظام الذكوري المهيمن.
الهوامش:
(1) صدرت عن دار الآداب، بيروت، الطبعة الأولى، 2005.
(2) قالت الكاتبة: «إن «حكايتي شرح يطول « ليست رواية، ولا أدري لماذا كتبت دار الآداب على الغلاف كلمة رواية، رغم أنني كنت قد شطبتها من البروفة؟ إنها سيرة حياة أمي، نقلتها عن لسانها، كانت أمية وأنا الواسطة بينها وبين القلم» ، في حوار معها أجراه محمود الورداني، أخبار الأدب، القاهرة، العدد 664، 2/4/2006.
(3) حنان الشيخ، من مواليد بيروت 1945 من أبوين من الجنوب اللبناني، تعلمت في المدارس اللبنانية، ثم المدرسة الأمريكية بالقاهرة من عام 1964 إلى 1966. عملت محررة بمجلة «الحسناء» اللبنانية عام 1967 وتنقلت بين دول الخليج من عام 1977 إلى 1985 واستقرت في لندن منذ عام 1982 وترجمت بعض مؤلفاتها للإنجليزية، والفرنسية والهولندية.. من أبرز أعمالها الروائية «انتحار رجل ميت» عن دار النهار ببيروت عام 1970، فرس الشيطان، عن دار النهار ببيروت عام 1975، حكاية زهرة نشر خاص عام 1980، وردة الصحراء عن الدار الجامعية ببيروت عام 1982، مسك الغزال عن دار الآداب ببيروت عام 1986، بريد بيروت عن دار الهلال بالقاهرة عام 1992 حكايتي شرح يطول سيرة روائية عن دار الآداب عام 2005، بالإضافة إلي مجموعة قصصية بعنوان «أكنس الشمس عن السطوح» عن دار الآداب ببيروت 1994، بالإضافة إلي مسرحية بعنوان «شاي وأكثر لبعض الظهيرة» و»زوج ورق».
(4) حنان الشيخ: (حوار) مع جريدة الشرق الأوسط، لندن، ع21 مارس 1995، ص 16،17.
(5) المرجع السابق: ص 17
(6) محمد برادة: جريدة «الحياة» اللندنية ، عدد22 يناير 2005م.
(7) د. عبدالملك مرتاض: في نظرية الرواية ، بحث في تقنيات السرد، سلسلة عالم المعرفة ، الكويت ،1998، ص120 .
(9) د. عبدالملك مرتاض: مرجع سابق ، ص 100.
(10) د. محمد برادة: مرجع سابق .
(11) تيتز رووكي: طفولتي، دراسة في السيرة الذاتية العربية، ترجمة رفعت الشايب، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 1999، ص 231 .
(12) فيليب لوجون : السيرة الذاتية والميثاق والتاريخ الأدبي، ترجمة عمر حلمي، المركز الثقافي العربي بيروت 1994 ، ص 42 .
(13) حنان الشيخ : حوار أجرته سوسن الأبطح،جريدة الشرق الأوسط، لندن، 31- 12 – 2004 .
(14) محمد برادة : مرجع سبق الإشارة إليه.