تثير الأماكن توهجا عاطفيا في النفوس بقدر يتفاوت على حسب ما تحمله من ارتباط أو ما تختزنه من ذكريات وعلى حسب أيضا ما تشكله من وجدان، فلبعض الأماكن عبقها الدائم والمميز الذي تستمده من عمق دلالاتها الخاصة بها والتي تبقى ما بقيت هذه الأماكن قائمة، والبعض الآخر تبقى دلالاتها المتعلقة به راسخة في مخيلة الإنسان شاهدة على ما عرفته أرجاء المكان حتى وان زال من الوجود، وفي كلتاهما يستشعرهما الأديب والفنان أكثر من غيره ويتأثر بهما بل ويتفاعل مع تفاصيلهما وكأنها جزء منه يروي عنه معنى الحياة كما فهمها ، ومن هنا تختلف دلالات المكان الواحد لدى العديد من الأشخاص بحسب نظرتهم إليه وطبيعة ما عرفه المكان من أحداث، فللمناطق الأثرية دورها في تحريك مشاعر الانتماء والهوية والأصالة التي تنعكس في نفس المبدع روحا من الوطنية والحماسة الدافقة ، كما تترك المناطق الطبيعية الخلابة أثرها في النفوس المبدعة بالصور الجمالية التي تستقبلها العين بالمتعة وتتلقاها النفس الملهمة والشفافة بالنشوة فتنعكس إبداعات أدبية وفنية تروي حكاية الإنسان مع المكان، وكثيرا ما شغلت المناطق العمرانية بالمدن الكبرى حيزا في الأعمال الأدبية والدرامية التي تتناول جدلية الريف والمدينة، فهي من جهة باعثة على الافتخار والاعتزاز بمستوى ما بلغته الهندسة المعمارية من مهارة وابتكار وما وصل إليه علم تخطيط المدن من رقي وتطور، ومن جهة أخرى كانت في نفس الوقت محل تناول علاقة صدامية جسدت معاناة الغربة عن مكان المنشأ ومسقط الرأس وصعوبة التعايش مع متطلبات الحياة الجديدة في مكان آخر أكثر إبهارا في المدن الكبرى فكان ذلك ملهما لتناول معاني الهزيمة والضياع أو تمجيد انتصار الإرادة في اختبار الجدارة حيث تجسد الغربة هنا مقدار التباين القائم بين منطقتين من حيث إيقاع الحياة ووتيرة النشاط الدؤوب وحركة الزمن والفضاء الجغرافي والقيم السائدة، وعليه توضح العبارات الأدبية علاقة النصوص بالمكان من خلال الدلالات الكاشفة لطبيعته أي أن اللجوء إلى إظهار هذه الدلالات يمر عبر التعبير عنها بالفضاء في إطار التفاعل مع تحديات مشاكل التكيف النفسي وقضايا التأقلم الاجتماعي مع المكان .
يتجاوز الفضاء في القصيدة المساحة الهندسية المعروفة والحيز الجغرافي المعلوم ، ليتحول في خضم العمل الأدبي إلى زمان وتاريخ وحضارة وصراعات ، فقد يستدل على المكان دون التصريح به من الحدث التاريخي المميز والذي يقترن به، أو الحضارة الإنسانية التي عرفها خاصة منها الباقية آثارها شاهدة عليها، لذلك فأدبيا وفنيا من المفروض أن لا يكون استخدام المكان عبثيا بل مختارا وعلى حسب حسن ودقة الاختيار يكون جلاء معنى ووضوح الدلالة وقوة مغزاها سواء على الخراب أو العمار، البؤس أو الرخاء ، الكآبة أو الفرح، مواقف الصدام أو التوافق… ويبقى على المبدع أن يضع لمساته الخاصة به في عمله حتى لا يترك المتلقي أمام غموض علاقة ( الإنسان ـ المكان) كمعادلة جبرية يصعب حلها ، ولبعض الأماكن شهرتها التي اكتسبتها من تأثيرها المباشر في خلق الانعطافات الحادة لسير الأحداث التاريخية ففكت شفرة الشخصية ، مثل «جبل أحد» الذي لا يذكر في التاريخ الإسلامي إلا مقترنا بهزيمة المسلمين أمام المشركين لمجرد مخالفة فريق منهم لأوامر الرسول الكريم (ص) بالتزام مواقعهم بالجبل ، ثم حدثت مخالفة الأمر وتم فك شفرة شخصية المخالفين بدافع الطمع في الغنائم ، كما فشلت القيادة عمليا في احتواء هذا الانعطاف في مجريات الحرب عندما حدثت لحظة الصدمة العسكرية الحادة، وهذا ما يؤكد فرضية أنأنأأ تكتسب منطقة ما قيمتها العلمية عندما يعكس فضاؤها تاريخا وهو ما تسجله الأفلام الوثائقية وتعنى به أفلام السينما الملتزمة التي تهتم بتناول حركات التحرير المسلحة وتقرير المصير، وقضايا البيئة وحالة الإنسان في ظلال الغبن الاجتماعي وقضايا تحرر المرأة وحركة تطور المجتمعات وكلها مسائل ترتبط بالموقع والمكان الذي لا يعني شيئا بدون وجود تلك العلاقة بين الشعب والسلطة الحاكمة والتي منها يتشكل تاريخ المنطقة ، وعن طريق تحديد المكان أيضا تتحدد الهوية الثقافية التي أصبحت ثابتة ومتحركة في نفس الوقت فكما يمكن أن تطبع الشعوب بطابعها يمكن أيضا أن تنتقل بفعل الهجرة الكبيرة كأدب المهجر حتى تمثلت ظاهرة سياسية، ومنها برز مفهوم التعددية الثقافية التي تحدد الهوية الخاصة لكل جماعة بصورة جوهرية.
كثير ما تسجل الأعمال الأدبية مدى ارتباط المرأة بالمكان واستغلاله للتعبير عن ما يختلج بداخلها من مشاعر ، ويبدو ذلك في المنظر المألوف سينمائيا لوقوف امرأة خلف نافذة المنزل العائلي أو الزوجي في يوم ماطر تتأمل في حزن وحسرة حركة الحياة تدب أمامها وهي عاجزة عن المشاركة فيها بسبب قيود العادات على تصرفاتها وتشدد التقاليد تجاهها، أو لعجز عضوي أصابها وكأن السماء في هذا اليوم تبكي لحالها حين اكتفت بموقعها على هامش الحياة ترقب وتشاهد فقط ، أو تلك الشجرة الوارفة عند مخارج البلدة الشاهدة على كل لقاء كان لها مع من ألفته يغذيها بالأمل فيسري في دمها دبيب التفاؤل، هكذا يحتل المكان موقعه كامتداد لشعرية الفضاء ليفرض نفسه كمضمون أساسي في العمل الأدبي نحو تجسيد معنى الحياة الذي قد يأخذ صورة حلم ينبغي التشبث به والسعي لتحقيقه .
الشعر فن مادته اللغة التي تؤدي دورا أساسيا فيه لأنها تؤدي الوظيفة الجمالية في النص الشعري لذلك يصعب النظر إليه وتذوقه بتجاوز طبيعة مادته وخارج دلالته، وغالبا ما تتضمن الأشعار معاني الحب والتضحية والوفاء ومفاهيم السعادة ، والكثير منها يعتبر أن مصدر السعادة داخل نفس الإنسان وذاته وفي دخيلة قلبه وأن ما عليه سوى أن يعيها ويفهمها، ولكنها تعود فتربط السعادة ربطا شديدا بشاعرية المكان سواء عمدا أو عفويا وفي الحالتين يبرز الاعتراف الصريح بأثر سحر المكان في تحريك كوامن العواطف وبدوره الهام في استيفاء كافة ملامح الصورة الشعرية بكل أبعادها كشرط ضروري لاكتمال المراد منها بتمام المعنى ، وفي ذلك أقول :
* سفر على خطوط القلب
افتح لك سيدي..
قلاع أسفاري
وأكتب لك على ..
عتباتها
عنواني … وأسراري
حيتك في روضة العشق
قافيتــــي ..
فنشرتها قصائد
عبر كل الأقطار
نزلت منزل الملاك
منـي … وأنت
بستان أزهرت فيه
براعم انتظاري.
مع ملاحظة كثافة استعمال الكلمات الدالة على المكان في تلك الأبيات لخدمة معنى العشق الكبير في النص الشعري الذي لا حرج بعد شوق وانتظار أن يسمع به كل العالم، فللأماكن دورها في تعميق المعاني وجلب المخيلة للتعايش مع النص الأدبي بفضل ما يقدمه من صور ، وإذا كان الرسم يقدم لنا شعرا يرى ، فان الشعر يقدم لنا صورا تقرأ .
ويقول الشاعرالكبير نزار قباني في قصيدته «بلقيس» :
لو تدرين ما وجع المكان
في كل ركن
أنت حائمة كعصفورة
وعابقة كغابة بيلسان
حيث اتخذ المكان للتدليل على مدى اتساع المدى الجغرافي الذي تركت فيه حبيبته ألم ذكرى في نفسه وعبقته برائحة تساوي عنده في كثافتها عبق غابة .
بين المكان والإنسان علاقة جدلية ، فالإنسان أيضا بنشاطه الحي الملموس وعمله الدؤوب يكسب المكان شهرته، وبقدر قيمة عمله وعمق أثر نشاطه فيه يكون للمكان خلوده في الذاكرة الجماعية ومنها على سبيل المثال مدينة « فيرونا « الايطالية التي أصبحت قبلة للعشاق لوجود تلك الشرفة الشهيرة المطلة على حديقة واسعة جميلة وغناء التي كان يتسلق إليها «روميو» للقاء حبيبته «جوليت» فهما من صنعا قصة حبهما في تلك الشرفة التي خلدها الأديب ويليام شكسبير فأعطيا بشرفة حبهما للمدينة قيمتها ، الإنسان يصنع الأحداث والمكان يلهمه الإبداع فيها ، تماما كما خلد الأديب الكبير نجيب محفوظ في روايته « ميرامار» ذلك الفندق الواقع بأحد الشوارع الجانبية في حي شعبي بمدينة الإسكندرية من خلال صهر علاقات التفاعل بين نماذج بشرية من فئات مختلفة وطبقات اجتماعية متفاوتة تعيش في مكان واحد بقيم متباينة خلال فترة زمنية معينة، فليس اختيار الفندق كمكان مغلق مجرد ديكور وإنما سخره الكاتب ليكون بوتقة جامعة لعناصر مختلفة من البشر بعضها متنافرة تشكلت منها الأحداث في نقاط اتصالها وانفصالها ليبرز تضارب المتناقضات عن قرب .
يمتد البعد المكاني في القصائد الوطنية ليشمل الأوطان فالتغني بسحرها وطبيعتها الخلابة هو وصف يتناول التفاصيل التي تزيد في التعريف بها وهي باعثة لمشاعر الانتماء والافتخار ومؤكدة للأصالة والهوية ، وفي ذلك تتغنى بعض القصائد بالانجازات العظيمة لتخليدها والتي منها يجري تلقائيا تخليد المكان نفسه كمشروع قناة السويس نسبة إلى مدينة السويس مثلا ، أو مشروع السد العالي الذي خلد مدينة أسوان في صعيد مصر، ولا يسعني أن أخوض أكثر في التفاصيل التي قد تتناقض مع عفة الطرح الثقافي ، ومع ذلك فتخليد الأماكن التي عرفت أحداثا مصيرية وهامة في الإنتاج الأدبي والفني هو واجب وطني لأنه جدار صد وعازل يقي النشء من إحدى مخاطر وفتن ظاهرة الإفقار السياسي لعزل حاضر الأمة عن مآثر ماضيها وبالتالي يسهل استهداف أصالتها وهويتها في مقتل ، فالأعمال الأدبية من شعر ورواية حافظة لذاكرة الأمة ورابطة بين الأجيال وشاهدة على العصر زمانا ومكانا .
صبحه بغوره