ظبية خميس
حين نعود بالذاكرة إلى حرب أدمتنا وحطمت قلوبنا وكانت فاتحة لحروب وانهيارات بعدها مزقت أمة العرب وهمشتهم وأذلتهم وسرقت أرواحهم وميراثهم الحضاري وشوهت أمتهم ودينهم ونهبت متاحفهم ومخطوطاتهم وتماثيلهم وذهبهم وقتلت علماءهم ومفكريهم ونشرت الطائفية والإرهاب، فإننا نتحدث عن الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق، ذلك الذي غير كل شيء في عالم العرب الذي انهار ووصل إلى ما وصل إليه اليوم.
بين قرى النخيل والنهر وطيور العراق ورمالها وألوان سمائها ونباتاتها وعصافيرها وأهلها والمقاومة في وجه الاحتلال الأمريكي وتفاصيل العمليات العسكرية ودور الترجمة، يستيقظ شبح جلجامش بأكثر من بعد في رواية الكاتب السعودي أحمد الشويخات “الأمريكي الذي قرأ جلجامش”. وتدور الأحداث حول شخصية مترجم أمريكي من أصول إيطالية اسمه ديفيد بوكاشيو، وهو حفيد للشاعر جيوفاني بوكاشيو مؤلف الديكاميرون في زمن الطاعون الأوروبي في القرن الرابع عشر الميلادي. وديفيد رحالة ومثقف من سان فرانسيسكو وسليل عائلة ثرية ومثقفة، مترجم وعاشق للأساطير واللغة العربية. قادته ظروفه للعمل في العراق مترجما في الجيش الأمريكي، وهو مولع بكتابات وقصائد أسطورة جلجامش، ويدون أفكاره ويومياته لمشروع كتاب له، ويتأمل ما حوله من طبيعة وناس وأهالٍ وعسكر ونخل وطيور وماء ويستحضر رحلة جلجامش في واقعه ذلك. ربطته صداقة في أول شبابه بشاب سعودي اسمه رجب سمعان، كان مولعا باللغة الإنجليزية والثقافة الأمريكية والترجمة أيضا مثله، وفرقتهما السنوات، غير أن رجب استكمل حلمه فيما بعد ودرس علم اللغة وتخصص في الترجمة وهو يشبه كثيرا المؤلف الذي سار في نفس المسار، وكانت سان فرانسيسكو بمعالمها وأجوائها وطبيعتها مشترك آخر ما بين الثلاثة.
ورجب سمعان يرى أن كل أمر في الحياة هو ترجمة سواءٌ أكان قولا أو سلوكا أو فعلا. والترجمة هي البطل الحقيقي للرواية: ترجمة نصوص جلجامش من اللغات القديمة، وترجمة ديفيد لضباط الجيش الأمريكي في التحقيقات، وترجمة بائع الزهور بالورد لعشقه لأم ديفيد الأرملة، وترجمة لورا حبها لزوجها ديفيد بالصبر والانتظار الطويل لغياباته الكثيرة وغيرها.
الأحداث العسكرية الأمريكية كثيرة في العمل وهناك تفاصيل دقيقة لمجريات ما يحدث داخل المعسكر الأمريكي وأسماء وخطط ووصف تفصيلي للمكان والعمليات والتحقيقات والشخصيات واحتشاد بأسماء الضباط والجنود والمحققين، والجهل الغامر لديهم بتاريخ العراق وطبيعة أهله وتراثه وشخصيته. يتراءى جلجامش في بعض نصوصه التي يسردها ديفيد مثل:
يد الفناء قاسية لا ترحم
متى بنينا بيتا يدوم إلى الأبد؟
ومتى أبرمنا عقدا فظل خالدا؟
وتتراءى صورة جلجامش في هيئة رئيس المقاومة الذي دوخ الجيش الأمريكي وانقاد له شباب العراق ولم يقبض عليه العسكر أبدا فهو غامض مثل جلجامش وكهل له لحية بيضاء وملامح شموخ العراقيين، وقوي ومتقد وقادر على تنفيذ عملياته ضد العدو المحتل. ويتبدى جلجامش في صورة رجب سمعان المرتحل في العالم أيضا ولا يعرف بالضبط ما الذي يبحث عنه والذي انهارت حياته الزوجية بسبب ذلك ووصفته زوجته بالفاشل، والذي كثيرا ما يغني أو يصرخ أو يتوه بدون سبب، والمولع بأغاني الريف الأمريكي وكيني روجرز وقراءة التاريخ والوجوه والأمكنة، ويشاع خبر موته غريقا غير أنه يختم الرواية بإعادته لتمثال جلجامش الذي سبق أن اشتراه ديفيد في السعودية إلى سان فرانسيسكو وهو في هيئة رجل أشيب كهل يطرق باب بيت عائلة ديفيد الذين ظنوا أنه مات سابقا ولم يتأكدوا من هويته، قبيل الرجوع الأخير للمترجم ديفيد إلى بيت العائلة بعد وقت مرير قضاه في العراق واقترب فيه من الموت وتم اختطافه، وموت من معه، وتعرض للتحقيقات بعد نجاته وانتهاك مخطوطته عن جلجامش والعراق وسنواته فيها.
والرواية بها ولع خاص بمدينة سان فرانسيسكو، وتتماهى مع ذكريات المؤلف عن المكان وحياته فيها وسرد لشخصياتها الفنية وعائلاتها وبيوتها وجسرها والفيشرمان وورف وغيره من معالم تلك المدينة. غير أن الرواية تشير إلى العديد من الأماكن الأخرى وخصوصا الخُبَر والدمام وأرامكو وإيطاليا ومصر والبحرين وألمانيا وسواها.
وهناك شخصيات في العمل يفرد لها الكاتب مساحة ما، وجلها من عائلة المترجم ديفيد في سان فرانسيسكو مثل الأم صوفيا الحكاءة التي تحيك التريكو ولورا زوجة ديفيد وآل بوكاشيو وبائع الزهور جورجيو غرزياني والعم ليوناردو وزوجته وغيرهم.
وهذه هي الرواية الثانية لأحمد الشويخات، سبقتها رواية عين الرمان في أواخر التسعينيات، وكتاب بالإنجليزية عن الترجمة، وإشرافه على المشروع الكبير للموسوعة العربية العالمية، أخذت سنين طويلة من عمره. أما حلم الرواية عموما فقد راوده منذ أول شبابه وبقى معه وأظنه تحقق كما يرغب في روايته الحالية “الأمريكي الذي قرأ جلجامش” التي احتوت على بناء روائي يجمع الخاص بالعام وضمنها مرجعية ثقافية وفنية وتاريخية، ونسجها في مكان يحبه ما بين العراق وسان فرانسيسكو. وقد جعل من الترجمة محورا أساسيا للعمل، فهو حاول ترجمة روح العراق وروح الفنان وروح الذات وروح الهمجية الأمريكية في مكان واحد.
إن الجهل وسوء الفهم من أكبر أسباب الحروب والصدام بين الثقافات والأفراد ربما. الفهم هو مفتاح لأنسنة كل الصلات.
يبقى أن الشكل الذي اختاره أحمد الشويخات لروايته واللغة والوصف والشخصيات تجعل من عمله أقرب لسينمائية الأفلام الأمريكية والأدب الأمريكي بشكل ما، وهناك انتصار غامض لشخصياته خلال العمل سواء كان جلجامش أو رجب سمعان أو المترجم ديفيد أو رئيس المقاومة العراقية الكهل فراس إبراهيم ضابط الجيش العراقي السابق الذي لم يقبض عليه أبدا. وهناك انتصار لفكرة زوال المحتل واختفاء أثره إن آجلا أو عاجلا وكأنه لم يكن. والرواية تستحق الترجمة وأن تقرأها أمريكا بالتحديد، ذلك أنها تحمل زاوية نظر شرقية وعربية وإنسانية لما حدث في حقبة الحرب الأمريكية في العراق و لما سيحاسبهم التاريخ عليه من جرائم ارتكبت ولا تزال آثارها قائمة في المكان والزمان.