محمد آيت حنا
أوائل الترجمات التي نقلت ديوان بودلير الشّهير إلى العربية، (وأفكّر هنا تحديدًا في ترجمة المصطفى القصري) حملت عنوان “زهور الألم”، ثمّ سرعان ما أخلت “الزهور” المكانَ، في الترجمات اللاحقة، لمرادفتها “أزهار”، كما أخلى “الألمُ” مكانَه للـ”شّر”.
لا يتعلّق الأمر بمجرّد اختيار لهذا المترجم أو ذاك، أو سوء فهمٍ لطبيعة الكلمة أو معناها، إنّما في الترجمتين دليلٌ على انشطار دلالتين في هذه اللغة، واجتماعهما في تلك. ذاك أنّ كلمة Mal الفرنسية “المذكَّرة” تستعمل للدّلالة على الألم والشرّ بكلّ مستوياتهما وأطيافهما، من وصف ألم الأسنان إلى تعيين الشّيطان (رمز الشّرور)، مرورًا بطيف واسعٍ من الأحاسيس والوضعيات التي تقع في جهة السّلبِ من الرّاحة والاطمئنان، فيتمّ التعبير عن الغربة، ودوار البحر، وألم الفراق، وقلق الوجود، ورداءة الخطّ، وسوء الحظّ… كلّها بإضافة كلمة Mal.
****
تستعمل الفرنسية كلماتٍ أخرى للدلالة على الألم، لعلّ أبرزها souffrance وdouleur،اللتان تستعملان تواليًا للدلالة على عذابات النّفس وأدواء الجسد. لكن لا واحدة من الكلمتين تملك قوّة كلمة Mal، واتّساعها الدّلالي.
****
يكفي أن تضيف Mal إلى أيّ كلمة لكي تعبر من ضفّةٍ إلى أخرى.
****
لا يشير العبور إلى عملية انتقال متكافئة. لسنا نقفز من أرضٍ إلى أرضٍ، أو ننتقل من يابسة إلى يابسة، إنّما تجربة الألم هي الإحساس بانعدام الصلابة، بانعدام الأرض الثابتة تحت قدمينا. أن تتألّم هو أن تشعر بالخسارة؛ وأن تفكّر في الألم هو أن تسعى إلى تجاوز الخسارة، ليس إلى ما بعدها، بل “في الغالب” إلى ما قبلها. أن تستعيد صلابة الأرض، وثبات القدمين.
****
“الألم هو الفراغ”
-جان بول سارتر-
****
فراغٌ هو قدرُ الإنسانِ، لأنّ الحياة سلسلة لا تنقطع من تجارب “السّلب”، من حالات التقلّب، ومن السّعي الدّائم إلى استعادة الثبات، أو بالأحرى “وهم الثبات”.
****
“أيّامُ الإنسان كلّها منسوجة بإبرة الألم”
-يوربيديس-
****
يدفع شوبنهاور بهذا الحالة القلقة، حالة “الفراغ الدائم”، إلى حدودها القصوى، حتّى تتحوّل إلى الأرضية الصّلبة التي يقف عليها الإنسان. حياةُ الإنسان وقوفٌ دائمٌ على ساقين، ساقِ الرغبة وساقِ الملل؛ كلاهما وجه من وجهَي عملة “الألم”، وما السّعادة بينهما سوى لحظةٍ زائلةٍ، ووهمٍ عابر؛ أتألّم لأنّني أرغب في موضوعٍ لم أحصل عليه بعد، فإن حصلت عليه أتألّم لأنّني ما ألبث أن أمَلَّه. لشدّ ما أحببت هذه المرأة، ولشدّ ما تألّمت حبًّا، لأنّني كنت أرغب فيها، رغبتي تؤلمني لأنّها تصبو إلى التحقّق، لكن لمّا أصبتُ المرأةَ تغيّر كلّ شيءٍ، آلمني الملل.
****
يظلُّ ثمّة اختلافٌ جوهريّ بين ألم الرغبة، وألم الملل. ألم الرغبة، ألم دينامي، ألمٌ متحرِّكٌ ومحرّك، وألم الملل سكوني ثابتٌ؛ كلّما اشتدّ ألم الرغبة زاد فرطُ الحركة والسّعي إلى إصابة الموضوع المرغوب، وبالمقابل كلّما زاد شعور الثبات والسّكون زاد فرط الإحساس بألم الملل!
****
هذا الشعور بالألم، بما هو السّعي إلى إصابة ما لا يدرك، عُدَّ بالنّسبة إلى كثيرٍ من المبدعين بمثابة الزّخم الدّافع؛ حيث لا إبداع إلّا حيثما ينعدم الإشباع. الإبداعُ جوعٌ لموضوعٍ. الإبداع هو وسيلة الألم لمجاوزة السلب، لمجاوزة نفسِه. عبر الإبداع يسعى الألم إلى تقويض ذاته. غير مدركٍ، أو مدركًا، أنّه إذ يصيب إشباعَه، ويدرك موضوعَه، ينتفي، وبانتفائه تنتفي وسيلة تعبيره عن نفسه، أي الإبداع. ولعلّ هذه هي مفارقةُ “الألم” الأبرزُ. إنّه يكاد يكون الدّافعَ الوحيد الذي يتقوّى من سعيه إلى أن يتبدَّد، يتغذّى ممّا يفترض أنّه الطّريقُ إلى فنائه.
****
تتجلّى تلك المفارقة، -أشدَّ ما تتجلّى- في آداب العشق. هل كان لأحمد رامي أن يواصل الكتابة، بنفس القوّة وعلى نفس المنوال، لو كُتب له الزّواج من أمّ كلثوم؟
****
“هاتي املئي كأس الشقاء فإنني *** أستمري الأحزانَ يا أيامي
الحزنُ أدّبني وهذّب خاطري *** وأنالني أُفقَ الخيال السامي”
-أحمد رامي-
****
تتعارض الملاحظة السابقة مع الخطابات السّائدة حول الألم، أو على الأقلّ مع الخطابات التي تُنسج في مواجهة الألم؛ وهي، في الغالب الأعمّ، خطابات من لا يتألّمون إلى من يتألّمون. إذ غالبًا ما تضفي تلك الخطابات على الألم طابعًا تطهيريًا، مرحلة ينبغي تقبُّلها لتجاوزها نحو ما هو أفضل؛ الألم يصيّرنا أقوى، أو يعالجنا… وهي في الغالب خطابات لا تنظر إلى الألم كحركة بقدر ما تنظر إليه كسكون، وحتّى إن نظرت إليه كحركة، فإنّها لا تعتبره في ذاته، بقدر ما تبحث له عن دورٍ، عن غايةٍ، عن هدفٍ، فهو تارةً الجرعة المرّة الضرورية للشّفاء، وطورًا العامل المحفّز للنّضج…
****
“هذا الكثير من آلامكم هو الجرعة الشديدة المرارة التي بواسطتها يشفي الطبيب الحكيم الساهر في أعماقكم أسقامَ نفوسكم المريضة”
-النبيّ/ جبران-
****
“دور الألم، والخيبات، والأفكار السّوداء ليس هو إفسادنا، وإفقادنا قيمتنا وكرامتنا، بل دوره إنضاجُنا وتطهيرنا”.
-هرمان هيسه-
****
في هذا الإنضاج والتطهير تجد معناها إحدى أقدم نظريات الفنّ، النظرية الأرسطية؛ كان أرسطو يرى أنّ غاية الفنّ، في شقّه المأساوي، التراجيديا، هو أن يمنح المتلقّي إمكان تجربة التماهي مع البطل التراجيدي، وإذ يتماهى معه يخبر أقسى درجات المتعة والألم، ألمٍ يعيده إلى شرطه البشريّ، كائنًا ضئيلًا، هيّنًا في سلّم الوجود، رهنًا لتقلّبات الدّهر وأرزائه. وإذ يتقبّل الإنسان وضعَه ذاك، يتطهّرُ من الألم عبر الألم، ومن الشرّ بواسطة الشّر، تلكم هي تجربة “الكتارسيس” التي تعني لغويًا “تمييز الخبيث عن الطيّب”.
****
استعادةٌ للسّكينة، أو حركةٌ منتجة، أو دافعٌ منضِج، أو جرعةُ دواء… لا ينفصل الألم عن الزّمان، بل إنّ الزمان هو ما يمنحه معناه، إنّ الألمَ بالأساس علاقة بالزّمن؛ بين من يماهيه بالانتظار، على شاكلة الفيلسوف الفرنسي المعاصر نيكولا غريمالدي الذي اعتنى كثيرًا بانفعالات النّفس، وفي معرض دراسته لتقلّبات الحبّ، بسط القول في ألم الانتظار وعذاب اللاكتمال، والسّعي الدائم إلى شيءٍ لا نكاد ندركه؛ وبين من يراه التوأمَ الملازم للوجود، التوأم النّقيض لفرح الحياة، وهو ما يعبّر عنه أجمل تعبير بيت بودلير “أيا أيّها الألم، أيا أيّها الألم، إنّ الزمان يأكلُ الحياةَ!”؛ أو من يرى فيه الدّافع لبلوغ شقيقه-النّقيض “الأمل”!
****
إنّ الحكمة البشرية بأكملها تتلخّص في هاتين الكلمتين:
“الانتظار والأمل!”
دوما- كونت مونت كريستو
****
الأمل، هل هو حقًا علاج الألم؟
تحكي الأسطورة اليونانية أنّ أوّل امرأة أتت بها الآلهة إلى هذا العالم هي باندورا. حينَ خُلقت أمرَ زيوس بقيّة الآلهة أن يهادُوها. وهبتها أثينا ملابس جميلة (لماذا لم تعطِها الحكمة؟). وأعطتها أفروديت الرقّة والجمال؛ وحباها هيرميس بأهمّ ما يميّزنا نحن بني البشر، الفضول.
أمّا زيوس، فقد عهد إليها بصندوقٍ غامضٍ، وأمرها بألّا تفتحه… لكنّها لم تستطع مقاومة الفضول، ففتحت العلبة؛ ومن العلبة خرجت الشيخوخةُ والمرض والحرب والمجاعة والجنون والموت… باختصار، خرج كلّ شقاء النّاس وآلامهم. لم يبقَ في العلبة إلّا الأمل.
هكذا تفسّر الأسطورةُ أصلَ الشّرور في العالم… خروج كل الشّرور من علبة باندورا…
هل بقيَ الألمُ حبيسَ العلبة إلى الأبد؟ كلّا، فقط أبطأ الخروج، هذا ما يفسّر طبعه المتلكئ أبدًا، النّاسُ يتجاوزون كلّ شيءٍ سوى الأمل… الأمل يلتصق بك التصاقًا، يرفض مفارقتك، يوسوس لك إلى الأبد بأنّ تَجاوُز أسباب الشّقاء ممكن!
لكن، إن كان الأمل عزاءَنا الأبديّ، فما الذي كان يفعله أصلًا في العلبة بين الشرور والآلام؟ ربّما لأنّه أبو الآلام والشرور جميعًا، الشرّ المخاتل، الشرّ الذي يمنعنا من أن نطوي الصّفحة وننتقل إلى شيءٍ آخر… في وجود الأمل (الألم الأعظم) يصير باهتًا كلّ شرٍّ وكلّ ألمٍ!