عتبة: عتبة: تعددت مرجعيات الروائي العربي المعاصر، واختلفت اتجاهاته الفنية والموضوعية؛ فهناك من اتخذ التاريخ ملجأ، وهناك من عاد إلى النصوص الصوفية، وهناك من تناصَّ مع الكتب التراثية السردية مثل المقامات وأدب الرحلات وأدب الفكاهة وأدب الشطار والعيارين، وهناك من اتجه إلى السوسيولوجيا والأديان والاقتصاد والفلسفة، مثلما أن هناك اتجاها روائيا، انتحى طريق علم النفس والسيكولوجيا باعتبارهما مدخلا شاملا لفهم طبيعة الإنسان العربي المعاصر في علاقته المعقدة مع الطفولة والواقع والحلم. يتكوّن الروائي، من جملة ما يتكون فيه، كي ينجح في تشييد عوالمه التخييلية الباطنية، في القضايا السيكولوجية المعاصرة والأسئلة المقلقة التي تصادف تشكلها، فضلا عن معرفة المفاهيم الجوانية، في محاولة لفهمها وضبط أسباب النفسي الإكلينيكي، مع الاستعانة بخدمات بعض الأطباء النفسانيين والباحثين السيكولوجيين ولم لا الاستماع لبعض الحالات والتعرف على ملفاتها عن قرب واتخاذ أصحاب هذه الحالات شخوصا روائية بعد تشذيب معطياتها وملامحها بما يقتضيه العمل الفني وسياق التخييل والرسالة الناظمة للعمل. لقد تجلت بعض الظواهر النفسية والمجتمعية عقب النكسات التي عرفها العالم العربي على كل المستويات بالموازاة مع الغزو الإعلامي وهيمنة المد البصري، واستئساد الشبكة العنكبوتية، وما صاحب ذلك من مفارقات وتداعيات على مستوى الإنسان العربي التي تفدُ عليه التطورات متعاقبة بشكل سريع دون أن تكون لديه فرصة لاستيعاب ما يجري من انتقالات ومنعطفات سريعة ومفصلية. وأدت طبيعة الاستهلاك السلبي لهاته السلع الوافدة إلى تفاقم الوضعية السيكولوجية للإنسان العربي، خاصة وأن آثارها الوخيمة تمس جوهر الكيان، وتخلق فوضى في منظومة القيم المشكلة للهوية الفردية والمجتمعية. ولم تكتف تجليات هذا التأثر على السمات الفيسيولوجية مثل التقليعة والموضة واللباس واللغة ومائدة الطعام… بل امتد ليشمل المظاهر النفسية للفرد؛ فكثرت العُقد، وتراكمت الخيبات، وتراجعت الثقاة بالنفس، وتهاوت الهمم الفردية والجماعية، وغامت الآفاق، وضاقت بالأنفس الأرض على اتساعها، وساد السواد على المصائر، فسارع الشباب إلى معاقرة السموم والبلاوي من حشيش وعقاقير الكوكايين ومخدرات على أنواعها، وتفشت ظاهرة الانتحار والهجرة السرية، مثلما طفت على السطح المثلية والشذوذ الناجمين عن الخواء الروحي والثقافي وتدني مستوى الوعي، وتراجع دور التعليم والتربية وتزعزع استقرار الأسرة، ناهيك عن ظهور التطرف باعتباره وجها آخر من أوجه الرفض والاحتقان والتمرد وعدم الرضا عن الحال والمآل.وكان لا بد للرواية باعتبارها الجنس الأقرب إلى الإنسان العربي في يوميه وأسئلته وتحولاته، أن تلج هذا العالم وتسائله من الداخل، وكان على الروائي ان يلج بواطن الإنسان المعاصر لتشخيص الأحلام والآلام وتشريحها في محاولة لفهم الأسباب والدواعي، وطرحها لنقاش عام من اجل البحث عن السبل الوقائية والتصحيحية للخروج من الوضع المأزوم للشخصية العربية في بعدها السيكولوجي الذي لا ينفصل عن الأبعاد الأخرى ومنها الاجتماعي والاقتصادي.إن من خصوصيات الرواية العربية الجديدة هو هذا التدخل في الأعماق، فبعدما ظلت، عقودا من الزمن مرهونة بالحومان في السياق السوسيولوجي والمحيط الخارجي للشخوص، حولت اهتمامها إلى دواخل الشخصيات، ساعية إلى الإطلال على الوضعيات النفسية لها، التي هي في نهاية المطاف، تعبيرا عن الفرد البشري والإنسان بصفة عامة. وقد استرشد الروائيون عموما في مقاربة هذا الأسلوب في الكتابة مجموعة من الأدوات منها: التماهي مع الذات (الراوي-الشخصية) عن طريق تبني الحكي بضمير المتكلم. الكتابة السير ذاتية التي تضع تجربة الكاتب أو غيره أو جزءا منها على المحك رهن إشارة الرواة، وبين يدي القارئ. اعتماد أسلوب الاعتراف والبوح والمونولوج الداخلي. اللجوء إلى الكراسات أو اليوميات أو الآثار الفنية التي تكون بمثابة المرآة العاكسة لدواخيل الشخوص. الرجوع إلى علم السيكولوجيا، وما راكمه علماء النفس والأطباء والروحانيون من ملفات ودراسات حول الإنسان المعاصر (الأرشيفات وملفات المرض). الذات: الانتقال من صورة الضحية إلى صورة المنقذ: تجسد رواية «فراشات الروحاني» مختبرا لتحرير الذات من هواجسها وقلقها، والمنغصات الآبدة التي تكبح جماع انطلاقها، وخروجها من وطأة الجمود والانزواء. وبقدر ما تكون عملية الكتابة استفراغا للذات من ركام النفايات المشوشة للوعي، فإن عملية القراءة أيضا تغدو مستحما مطهرا لذات المتلقي مما يعلق بها من تفاصيل مدمرة؛ أي كلّ ما يسبب الإحباط والقلق وتراجع العزيمة؛ وأكثر من ذلك، تصبح استشفاء من كل الأمراض النفسية، والعقد السيكولوجية مهما كان نوعها، وهذا ما تشير إليه كلمة ظهر الغلاف: «عن طريق المعالج الروحاني سعيد هاشم والحالات التي يعالجها، يجد القارئ –مهما كان مستواه الاجتماعي أو الثقافي- علاجا روحيا لما يعانيه من أمراض وانجرافات، قد يخجل من البوح بها. فمستوى الحوار بين المريض والمعالج يتنوع بتنوع الشخص المريض وطبيعة الأزمة النفسية التي يعاني منها. فطريقة العلاج متميزة ومفاجئة، وتجعله يصطدم بمقدرة المعالج الروحاني، فيكسب ثقته، ويستسلم له. إنها ممارسة العلاج الروحي بالاعتماد على التخيل والاستعارة، وخلق واقع جديد وشخصنة المعنوي والجماد، بأسلوب مشوق وطريقة جذابة، يفوق ما يقدمه شيخ واعظ أو متخصص بالتنمية البشرية، مما يوحي بخبرة لا مثيل لها بهذا النوع من العلاج» (1).إنّ الذات في النص الروائي (ذات الروائي- الشخصية) تتمظهر، في البداية مهزومة أمام أعاصير الدنيا، منكوصة للمعنويات، تعاني اضطرابات سيكولوجية، وتوترات عصبية تخلق لها إشكالات كبرى على مستوى تحقيق التوازن الذاتي مع المحيط، والانسجام مع قيم المجتمع، وبعد لحظة هروب وصفاء، تطهرت هذه الذات من كل الأدران التي علقت بها، لتعود إلى الحياة معبأة بحيوية جديدة، وحماس عال، ثم تنخرط في مساعدة الناس على التحرر من العلل الروحية. فراشات الروح: القوة الباطنية لتحرير الذات:اختار محمود الرحبي، الروائي العماني لروايته «فراشات الروحاني» عنوانا آسرا يوحي بتناول غير مطروق لموضوع حساس جدا، ويتعلق بالوضع الجواني للشخصية الروائية باعتبارها تجليا للشخصية الإنسانية في بعض أبعادها. وهو موضوع طالما ظل مهمشا ومسكوتا عنه في المحكيات السردية، إلا أن ظهور الأوتوبيوغرافي والسرد الذاتي والاعترافات والبوح، واجتياحهما لعالم الرواية بصفته نوعا متخللا من قبل انواع وخطابات متنوعة ومختلفة، حرّر نوعا من، وبالتدريج، الكتاب والسُّراد على انتهاك الجواني، والمقموع، والمصرور في الأعماق الدفينة، وجعله موضوعا للحكي. وقد استغل الروائيون بروز نظرية الترهينات السردية التي تميز بين الكاتب الفعلي والراوي، وتمنح للروائي نسخة التصرف في تجاربه الشخصية وميولاته وأهوائه وغرائزه، واتخاذ مسافة معقولة عنها حتى يتمكن من النظر إليها بحيادية دون التدخل لتغليب شعور أو موقف على حساب مشاعر أو مواقف أخرى شبيهة أو مناقضة، ودون الإحساس بالحرج من طرق عوالم مجهولة أو منسية في ذاته التي لا يعرف عنها الآخرون أي شيء. لقد أصبح الروائي ينشر غسيل الذات ومكبوتاتها بين أيدي رواته للتصرف فيها، وكأنها متعلقة بحيوات أناس آخرين. لكن هذا لا يعني ان الروائي يكتب عن ذاته دوما، بل إنه يجتهد ليتضمن عمله صورا إنسانية عامة يحتك بها ويتعرف عليها من خلال خبرته بالمحيط الاجتماعي والإنساني. أما في رواية «فراشات الروحاني» فالروائي تعامل مع الأرشفة كاشتغال مسندي، بخول له جعل الوثائق والحالات الإنسانية تتحرك، وتخرج عن صمتها المريب إلى الإصداع بالقول، والجهر بالبوح، علما بأنها ظاهرة صحية تستطيع تطهير الشخصية من عذاباتها الجوانية التي تقهرها، وتقض مضجعها، ولم يعد من اختصاص المعالج الروحاني وحده الإنصات إلى هذه العوالم والحالات، بل أضحى من حق القارئ على اختلاف فصائله ومستوياته الاطلاع عليها والتطهر بها من الحالات نفسها. وهنا تصبح الحالة مفصولة عن ضحيتها التي قد تكون الكاتب أو القارئ نفسيهما. تبدأ رواية «فراشات الروحاني» مسردها بحالة نقص يعاني منها البطل الذي وجد نفسه في وضعية حرجة لارتباطه القوي بأمه وامتثاله لأوامرها، وخوفه منها شبه المرضي الذي يطارده في حياتها، وحتى بعد رحيلها إلى العالم الآخر. وبعد وفاتها، وجد نفسه، أمام وضع درامي، عرّى فراغا روحيا يجثم على أنفاسه وأعماقه السحيقة، ورغم المساعدات التي قدمتها له صديقته التي تحبه، وتحميه في العمل من الطرد المتربص به نتيجة تقصيره المتوالي في الانضباط لقوانين الشغل، مما جعل إدارته تعزله مؤقتا، وتبعثه في مهمة عمل كموظف معار على أساس يزاول حصص الاستشفاء هناك، في مارستان دولي مشهود له بالدقة والمصداقية والفعالية. وهناك أيضا، واصل البطل سعيد هاشم استهتاره بعمله، مطاردا فراشات روحه العصية على الإمساك، ليجد نفسه أمام أمر العودة الاضطرارية بعد كثرة الشكايات والتقارير السيئة التي تصل إدارة شغله الأصلي. وتنتهي الرواية بحالة انسجام البطل مع الذات والعالم، حيث أصبح نجما في مجال كون فيه نفسه بنفسه، وهو المجال الروحي النفسي، ومساعدة الناس على الخروج من ورطاتهم السيكولوجية بأسهل السبل، ودون تكاليف كبيرة.
شكل: التحولات السردية التي عرفتها الذات.
إن حالة استعادة القوة بالنسبة للشخصية الرئيسية في هذه الرواية، لم يأت إلا باجتياز حالة النقص (الضعف السيكولوجي) الناجم عن فقدان الأم ونشوء حالة التماهي معها التي تعادل دلاليا افتقاد الشخصية الذاتية والمبادرة الحرة في اتخاذ القرارات المصيرية التي لها علاقة بالذات، ذلك أن هناك آلاما مبرحة يصعب مقاومتها مثل فقدان شخص عزيز، لكنّ الإحساس المضاعف بالألم لن يزيد الطين إلا بلة، ومواصلة التفكير سوف لن يزيد الوضع إلا تعقيدا، وهنا يأتي دور الاعتقاد الديني…2 ولم يتحقق للشخصية الرئيسة في الرواية تجاوز ذلك الوضع إلّا عبر التوقف لحظة مع الذات من أجل تأمل الوضعية النفسية، ومن أجل الاغتسال والتطهر من أدران النفس وعللها، والاستشفاء من الضعف والهوان الذي جعل البطل يفشل في تحقيق الانسجام مع العالم، فكان يلزم أن تغير الذات محيط العمل، وفضاء العيش، وأن تبتعد عن المكان الذي تولدت فيه المأساة، ولما عاد سعيد هاشم إلى المكان الأصلي، عاد بروح معنوية عالية، وبحماس مرتفع من أجل أن ينهمك في تحقيق أحلامه بعد التطهر من تبعات التربية الأميسية ونكوصاتها، فاختار محيطه الشخصي، وعمله الجديد الذي يتناسب مع موهبته وتطلعاته الشخصية، حيث فضل فتح عيادة للطب النفسي بدل العمل في الإدارة التربوية أو في مجال التدريس. ذاك أن التطهر من ذكريات الماضي، خطوة فعالة لاستعادة التوازن النفسي والاجتماعي، لأنها تترسب في اللاوعي الذي يصبح قوة محركة تفلت من سيطرة الشخص وإدراكه الواعي. ولا يقتصر تأثير القوى اللاواعية على الظواهر المرضية وحدها، بل يمتد إلى الظواهر النفسية السوية. وهي القوى الفاعلة في اللاوعي التي يُصطلح عليها بالمكبوتات، وأبرز تجلياتها النزوات الأولية، وخبرات الطفولة القاسية عالية التوظيف الانفعالي. وعي تكبت لأنها مؤلمة، أو لأن الوعي بها يهدد صورة الشخص عن ذاته، ولذلك تمارس الرقابة النفسية ضغوطا شديدة على ظهورها، بينما تلح هي من جهتها على البروز إلى حيز الوعي، وظهورها يرتبط بتوليد القلق، ولذلك، فإنها تتجلى في الوعي والسلوك والعلاقات على شكل تسويات وتحويرات وتمويهات يكون الحلم أبرز تمظهراتها(3).استعاد البطل ثقته بعد مرحلة انتكاسة، وبعد مرحلة نقاهة بعيدا عن المكان الأصلي لعيشه المأساة، استطاع أن يراجع تصوراته، ويبني توازنه من جديد، مستعينا بطاقاته الشخصية الكامنة بعد أن فشل الطب الإكلينيكي في تحسين وضعه، وأول ما فعله البطل عند اختلائه بذاته هو فتح سجل الذاكرة، والعودة إلى مراحل حياته الأولى خاصة الطفولة، وهي اللحظات الحاسمة في تكوين شخصيته، تلك التي تركت ندوبا غائرة في روحه، ومنها، على الخصوص: وفاة والده غرقا، وتركه يتيما (غياب الأب شكل عقدة كبرى في حياة سعيد البطل الروائي)، يقول الراوي: «لم ير أباه يتحرك سوى في ذاكرة أمه وجدته، وتأمل مرارا صورته المعلقة في بهو البيت، ورأى نفسه كيف يكبر ويقترب من مطابقتها. جسد يتحرك في مقابل تلك الصورة الجامدة»(4).تختينه وهو كبير: الوعي بمشكلة الجنس، الإحساس المفرط بالألم كان لهما أثر سيئ على فهم الفروق الشخصية بين الذكورة والأنوثة، وفي فهم الذات واتخاذ مسافة كبرى من الأنثى، وتحقير الجسد الذاتي، وانحدار الإحساس بالثقة. يقول الراوي: «وهو يكبر وخوف الختان يكبر معه، ويتذكر اليوم الذي صرخت فيه جدته من أمه في وجه ابنتها وهي ترتعش:- ختنيه حالا. وإلا لن أدخل هذا البيت ما حييت. لم ير المسلمون إيرا بهذا الحجم لم يختن.وتحت ضغط ذلك الصراخ، أخذته أمه إلى الطبيب. ويداها ترتعشان. كان الخوف يحيط جسدها كزوبعة. صرخ بأعلى صوته، وهو في عمر الثامنة، حين وضع المخدر على جلدته، والتقطت ذاكرته مقدما كل تفاصيل ذلك الألم الراكد»(5).تفويضه أمر زواجه لأمه التي اختارت له زوجة على مقاسها دون أن تراعي خصوصياته النفسية والجسدية، الأمر الذي جعل قبوله لمسرحية الزواج هاته، إرضاء لرغبة أمه، وجبرا لخاطرها، إذ كانت تصر على التدخل في كافة مناحي شخصيته من اختيارات وقرارات، وكانت تهيمن عليه بقوة حتى أنه كان يجد صعوبة في التنفس، ومع ذلك، كان مطمئنا لهاته الهيمنة لأنه تعود على وجود متكأ يستند إليه بعيدا عن تحمل المسؤوليات وأعباء تبعات الاختيارات. تقول الرواية: «تزوج من أجلها وليس من أجله، واختارت له ابنة جيران، لم يقل رأيه فيها، بل استعان برأي أمه: «طالما أنك تحبينها فأنا سأحبها يا أمي» ثم أردف: «وإذا كرهتها سأكرهها». لم يشعر يوما بأنها تزوجته، قالت بأنها وافقت لأنها سمعت عن شاب متفوق في دراسته، ويعمل بسبب ذلك معيدا في الجامعة، فردّ عليها: «إذن أنت تزوجت تفوقي!» فضحكت»(6).وفاة الأم: برحيل الأم، انهار السدّ الذي كان يلوذ به البطل سعيد هاشم، ويحتمي به، فتعثرت شخصيته أمام هذا الغياب المفاجئ لشخصية شكلت محور الارتكاز في حياته الشخصية، وتكشف له الظلام الدامس يحوطه من كل المناحي، فارتجت حياته، واختل التوازن لديه، وأصيب، نتيجة ذلك، بإحباط شديد، تولد عنه ما يشبه الجنون. هذا الجنون كان منعطفا حاسما في تشكيل ذاته، لأنه سيقطع مع فترة وصاية شلت كل قوى المبادرة لديه، وكأنه وُلد من جديد، هذا الارتجاج جعله يستفيق من غيبوبة صارت منه عمرا ليس بالسهل تجاهله، فكان سببا للتحول في شخصيته ككل. يقول الراوي: «حين ماتت أمه، اتسعت هوة الفراغ بينه وبين العالم، ودخل في غيبوبة ذهنية كادت أن تفقده وظيفته، ليعيش في حالة بين الوعي والغياب. تجمدت حياته في زمن حياة أمه، لا ينطلق إلا من خلال ما كان يشعر به في ذلك الزمن الماضي. فغدت خطواته وأحاسيسه مبرمجة وبلا ردود فعل. عليه أن يذهب لأنه كان يفعل ذلك في الماضي، وعليه أن ينام لأن ذلك ما كان يفعله، وعليه أن يكون في ساعة ما في عمله لأنه هكذا كان يفعل من قبل. أحيا أمه في ذاكرته ورفض فكرة موتها»(7). وفرض أمر استعادة الذات لتوازنها النفسي، ولقدرتها على المبادرة واتخاذ قرار التضحية بعدة أشياء؛ منها: تغيير الفضاء: السفر إلى بلاد غير البلاد الذي ولد فيها، وتشكلت عقده الشخصية؛ وكما هو معلوم، فهجرة من مكان إلى مكان آخر، يقوي الإرادة، ويساعد على نسيان الفجائع المرتبطة به أساسا، ويدعم البدايات الجديدة بعيدا عن الذاكرة البئيسة (المليئة بالذكريات السود) فالمكان الجديد يحمل الحماس، ويجدد النشاط، ويمحو الآثار الوخيمة التي تزلزل الكيان، وتجثم على العزيمة، وتحد من قدرات الذات على اجتياز محنها، وتفشل طموحاتها، وتحبس أنفاسها. التضحية بزواجه الأول الذي كان إرضاء للأم الراحلة، وكان زواجا فاشلا بكل المقاييس، لذلك فقد كان أمر التخلص منه سهلا للغاية ما دام الرابط بين الزوجين، وما دام وازع الإبقاء عليه، الذي هو الأم، لم يعد موجودا. كان الزّواج التزاما قهريا بالنسبة للبطل سعيد، اتجاه الأميسية. وهذا أمر كاف ليجعله يبادر إلى فك هذا ارتباط الصوري الذي انتفى شرط وجوده الأصلي (الأم)، وبداية البحث عن علاقة جديدة تسهم في استرجاع الكيان الشخصي. يقول الراوي: «لم تطق الزوجة هذه الحال فهجرته إلى بيت ذويها، وهو لم يسأل عنها بعد ذلك»(8). التخلي عن المحبوبة التي لم تذخر جهدا في أن تحفظ له كيانه داخل العمل، وتحرص على توازن علاقاته مع رؤسائـه، وعلى عدم ضياع هويته الشخصية. قال الراوي: «حاولت ريم ثنيه عن التوهان في عالم أمه، وجره إلى ساحتها. زينت له متعة أن تكون له فتاة ترعاه وتحرسه. ابتكرت طرقا عديدة من أجل ذلك، كأن تقلد تفاصيل من عواطف الأم وانفعالاتها وتستخدم نفس عطرها، ولكن كل ذلك لم يجد نفعا لامتلاك قلبه. فهجرته متجهة لشاب آخر، رآها معه، يوما فحياهما بمرح من تخلص من عبء كان يثقل كاهله»(9).ترك عمله بالجامعة، والاستعاضة عنه بعمل حر، تكون فيه ذاتيا، ليحقق فيه تدريجيا الأهداف التي رسمها في حياة، مبتدئا كخطيب روحاني هاو ومنتهيا كخبير سيكولوجي شهير يقصده الناس من كافة المستويات من أجل العلاج والاستشارة، فبما أن العمل الممارس سابقا جزء من الهوية الفردية، فالبطل مطالب بتغييره لأنه كان في حاجة إلى تقويض كيان بأكمله لتطهير ذاته من شخصية ملتبسة تسكنه، شخصية مستعارة لا تنسجم مع مواهبه وتطلعاته ومواقفه وقراراته الشخصية. إنها مثل القناع المموه لحقيقته، ووجهه الأصيل. وحيث إن المقصود هو العلاج أو الصحة النفسية، فإن ضبط العوامل الاجتماعية، الثقافية، الاقتصادية، والسياسية، يؤثر في العوامل الذاتية، ومن ثم تتوفر إمكانيات تحقق التكيف النفسي والاجتماعي المنفتح(10). يقول الراوي: «تبدأ الحياة عنده بالانعتاق الكلي في عمله، ليس لكونه المبرر الوحيد للبقاء، بقدر ما يوفره كل ذلك من مهرب مضمون. غريب يهرب من فشله ليبرهن كل يوم- لنفسه قبل العالم- بأنه شخص لو كان أتيح لماضيه ظروف جيدة فلن يكون فاشلا»(11).لقد هيأ الكاتب شخصية سعيد هاشم لتكون نموذجا لّلإنسان الذي يمتلك قوة هائلة على استعادة كيانه المخلوع، وهذه القوة تنبع من الداخل ولا تأتي من الخارج. وقد عبر الكاتب عن ذلك بفراشات الروح: ذلك السرب من الفراش الملون الذي يجتهد البطل سعيد للاختلاء به والتحليق معه في سويعات صفاء وتشده إلى قواه الباطنية وإلى عالمه العلوي. وهذا ما يسمى لدى علماء النفس الإيجابي بـ«الاستغراق الباطني أو الجواني أو الرّوحانيّ»، حيث تتضافر الانفعالات الإيجابيّة مع المرونة الذهنيّة لتحرّر فعالية التّفكير في الوضعيّات الصّعبة وتنشيط النظام العصبيّ الحيويّ الميسّر للسّلوك، وتحويل تلك المكبوتات إلى قوى حيوية تصادر خارجيا عن طريق سلوكات إيجابية. ولا تقتصر آثار هذا الجهد على الحدّ من الانفعالات السلبية ومنغصاتها ومعوقاتها والقيود التي تفرضها على الوجود، وإنما هي تفتح باب النماء والبناء والتوسع وحسن الحال والسعادة(12).تكمن القوى التطهيرية، عبر الرواية، في الجوانب الداخلية المتعلقة بالجوانب الوجدانية والقدرات الباطنية للروح التي لا حدود لها، بعيدا عن الدخيل الخارجي والنوازع البرانية: هناك طاقة كامنة في الداخل لا تصد ولا ترد، لكن الإنسان لا يستغلها ويقصد أضواء خارجية يكون، في الغالب، مفعولها ضعيفا بالمقارنة مع كفاءة البعد الجواني. وهذه الفكرة أو الاقتناع هو ما استثمره البطل سعيد في تخليص ذاته من براثن الاستيلاب الهوياتي، واستعادة وضعه الطبيعي المتوازن، ثم فيما بعد، توصيف هذا المعطى والمكسب لمعالجة الزبناء والحالات النفسية، وذلك عبر جعل أعماق الفرد المريض أو المأزوم تنطق وتفصح، قبل أن تجيش عبر تأملات وتهييجات باطنية، القدرات الدّاخلية كي تتصدّى للدّخيل والمشوّش النفسيّين. فبداية التخلّص من المعاناة اكتشاف الأسباب، والبحث عن مكامن السّعادة في الدّاخل، وليس في الخارج، وتجاهل الأسباب أو سوء الفهم يؤدّي إلى استمرار المعاناة13.تحليل الوضع السّيكولوجي للإنسان العربيّ:يضع المتن الروائي بين أيدي القراء أرشيفا باذخا من الحالات النفسية التي يعانيها المجتمع العربي، والتي لا تحتاج، في عمقها إلى أية أدوية أو عقاقير مادية، بل كلّ ما تحتاج إليه: كلمات تزرع الثقة، وبوح يطهر الذات من المنغصات اليومية المتكالبة على الروح، والتي غالبا ما يكون السبب فيها المحيط الخارجي بما يزخر به من إحباطات وخيبات وإخفاقات. يورد الروائي حوالي ست عشرة حالة، كل حالة تختلف عن الأخرى من حيث الأسباب والتمظهرات والنتائج، حيث يسعى المتن إلى تغطية القلق المجتمع كله في محاولة للقبض على الأسئلة المحيرة التي بإمكانها العثور على أسباب الشفاء وخلق التوازن في الذات العربية، بما يجعلها تتصالح مع ذاتها، وتحقق الانسجام مع الواقع، والسعي إلى تخطي عوائق التنمية ثم الانطلاق والتوثب والمبادرة. حالة الراوي- الشخصية:وأول حالة يستعرضها ويضعها بين أيدي المتلقي، ويجعلها معطى سرديا في حالته الشخصية: معاناته من فقدان الثقة والهشاشة، وعدم القدرة على اتخاذ القرار ثم حالة الشرود الذهني وزهوق الوعي، إن صح هذان التعبيران… وهي تقنية ذكية من الكاتب، يسعى من خلالها، إلى إشراك الذات في الوضع العام المعالج، أو الانبثاق عن الذات، ثم العبور إلى الآخرين، وبالتالي، لم يكن الكاتب أو الراوي أو المؤلف الضمني بما بينهم من اختلاف على مستوى الترهينات السردية ووظائفها وتموقعها ضمن العالم الروائي، بمعزل عن مجتمع الشخوص المتناولة بالتشخيص السيكولوجي في المتن. إن الراوي فاعل ومنفعل، ذات وموضوع، مريض ومعالج في آن واحد. إن تبئير حالة الراوي على مستوى تسريد حالته وتوصيف ورطته النفسية، يروم، على مستوى السياق الدلالي، الكشف عن قوة الجانب الروحي في الإنسان، وإمكانياته الذاتية في التصدي لحالات القلق والإحباط والاستيلاب. واعتراض علل الاكتئاب والنكوص الداخليين اللذين يجثمان على المعنويات ويكبحان جماح القوى الكامنة، ويشلان حركة الكائن، في صراعه مع الطبيعة ومع السياقات اليومية التي تكبل خطاه. بفعل هذه الدوافع التي توفر عليها أي إنسان، تتقوى العزيمة، وتشتد الشكيمة في مواجهة الأعاصير والعواصف إن هي استغلت بالشكل اللائق. وتعد هذه الالتفاتة إلى ما هو جوهري في الداخل نقدا صريحا لسلوكات الإنسان العربي في التعامل مع جسده ومع ذاته، فهو يجهلهما ولا يدرك قدراتهما وخباياهما، مما يجعله يخاصمها مدى العمر، ولا يتثمر معرفته بخصوصياتها، وحتى إذا حدث له ما ينغص عليه عيشه، وينبهه إلى هذا التجاهل، بات يبحث عن حلول خارج كيانه؛ وبعيدا عن تفاصيل جسده وروحه، علما بأن الطب الحديث يؤكد على أن نصف الدواء يكمن في ذات الفرد، وأنه لا شفاء يرجى في غياب الاستعانة بقوى الذات الباطنية، وكيانها السيكولوجي الذي يمدها بالصلابة اللازمة إجابة المشوشات الخارجية ومنغصات الحياة. حالة المروي له الغامضة:يحضر المروي له بشكل من الأشكال في متن الرواية، إن لم يقل إن الرواية برمتها ظلت تتقصى أثره مطاردة الحالات والتحولات، ساعية إلى القبض عليه أو ملامسة جانب من جوانب شخصيته، ومع أننا لا نستطيع، بالتدقيق، تحديد ملامح هذا المروي له الساكن في أظلع متخيل الرواية. وهذا شيء مقصود من لدن الكاتب، لأنه يسعى إلى جعله متعددا، لا محددا، لا نهائيا… غير محصور على حالة بشرية واحدة في سياق معين. لقد اجتهد المتن ليغطي عير الحالات المرصودة التي تشملها الرواية بالرعاية، خصوصا تلك التي تصادف تماثلا من نوع النكوص الذي يشغل بال القارئ ويؤرقه، أو تحاذي مرحلة من مراحل الإحباط أو القلق أو الاضطراب النفسي أو التوتر الذهني، أو يجد فيها إجابة كافية عن الأسئلة التي تقض مضجعه دون أن يستطيع العثور على حل شخصي لها. وبهذا تتحول الرواية إلى وصفات متعددة للشفاء والتطهر، يلفي عبرها المتلقون، على اختلاف حالاتهم الاجتماعية ووضعهم النفسي، ضمادا لجراحهم البليغة حتى تلك التي لا يسيل الدم منها. تغدو عملية القراءة ذاتها سفرا استشفائيا أو وصفة ناجزة للقارئ العربي الجاهل لجوانيته ودواخله، حيث بواسطتها يكتشف أناه الخفية، ويشخص أمراضه المقبورة، بل ويكتشف لها الأدواء والمسكنات. تصح القراءة، كما تؤسس لها هاته الرواية الطبيب المداوي، والحوار الصامت مع الروح، في محاولة إخراجها من دوامة القهر الجاثم على أساريرها الكامنة. ومهما كانت دواعي وأسباب الإحباط والنكوص والقلق، فإن المتلقي، يجد لها الوصلة المناسبة ليس للتسكين اللحظي فحسب، بل، أيضا للاجثثات والاستئصال. وهذا ما يرومه الكاتب من رواية «فراشات الروحاني» التي صُمّم متخيلها، أصلا، لهذا الغرض، وبذاك تكون متفردة ومختلفة عما دونها من نصوص.
حالة الشخوص/ الزبناء المتعددين:فضلا عن حالات الذات (سعيد هاشم) وحالة (كرمة) المرآة الثانية للذات، وحالة المروي له الغامضة، نجد رصدا متواصلا لمجموعة من الحالات النفسية المختلفة التي تستعرضها الرواية باعتبارها تجارب حياتية طرية تُعرض على الطبيب الروحان (سعيد هاشم)، والتي تعتبر، في نهاية المطاف، أوجها مختلفة، ومرايا متعددة الذاتي كل من الراوي والمروي له والقارئ: أليس الإنسان في الأخير هو المقصود؟ وسوف أعرض بتركيز أهم الحالات السيكولوجية المسرودة نصيا، والتي تجد لها عند العامل- الذات (سعيد هاشم) المعالج الروحاني شفاء آنيا، وبأسهل الأساليب، ذاك أنه لا يتوفر على أدوية وعقاقير، بل كل ما يحتاجه، هو تجرد الضحية للإنصات إلى الدواخل عبر تهييج الذاكرة والمنبهات الداخلية، والقدرة على السفر في عوالم الروح أملا في القبض على منغصاتها وترويض عفاريتها المتحكمين فيها بإخراجهم إلى برانيتها عبر البوح الصادق، ومن ثمة القضاء عليهم وطردهم نهائيا، وذلك لتحقيق الصفاء الروحاني المنشود. رجل لوطي”ٌ يستسلم لرغبته الشاذة، وينصاع لمتاهات الجسد ومتطلباته التي لا تنتهي، وهي خارج المعتاد البشري، لذلك يعود الروحاني بهذا الرجل إلى ذاكرته وطفولته منقبا فيها عن الآثار وبؤر التصدع التي انتهجت بالذات هذا السبيل، ومعتمدا على قوى الداخل في شخصية الحالة. رجل يعاني من انقلاب أسرته ضده بتحريض من الأم مستغلة الفراغ الذي يتركه الوالد في روح أبنائه، حيث يظل طيلة النهار يلهث خلف العمال والمال، جاعلا منهما كل حياته وفلسفته في الوجود. وقد وجه له الروحاني مجموعة من الإجراءات والتدابير الجديدة الكفيلة بإعادة المعنى لحياته، والدفء إلى سالف علاقته مع زوجته وأبنائه. صاحب تاكسي لا يعرف ماذا يريد من الحياة ويخلط الحلم بالسعادة، ويرغب في الثراء دون أن يعرف لذلك الوجهة الصحيحة. عجوز أعمى يرى الدنيا ظلاما، ويعيش حالة نقص مأساوية تعكر عليه حياته دون أن يدري أن للجسد طاقات أخرى يعوض بها البصر، وهي البصيرة، والنور الروحاني (الإنسان يرى بنور قلبه وروحه لا بضوء عينيه).رجل في صراع قوي مع جسده، يعيش حالة انفصام مدوية تجعل منه حلبة عراك شديد بين الجسد والروح. طبيب يعجز عن مساعدة زبونه، وتقديم الدعم النفسي والمعنوي له كي يخرج من حالة النكوص والإحباط والفشل. إنسان له طول قامة فارع، يعيش بفعل ذلك، حالة قلق مزمنة، ترتبت عنها نكسة نفسه، وشعور دائم بالنقص، وفي حاجة ماسة إلى الرفع من معنوياته، وفهم القدرات الكامنة في جسده، وترويض هذا الوهم الزائد. زوجة انقلب عليها زوجها بعد أن كانت تهيمن عليه بشكل ديكتاتوري، وتريد أن تسترد هذه الوضعية، دون أن تعلم أن الضغط الذي مارسته على الزوج طوال سنين هو الذي أجج تمرده، أي ان مبالغتها في التسلط أوجد توازنه وهدوءه. فتاة جميلة تمتلك كافة المواصفات الجسدية، لكنها تعاني من كثرة الضحك، هذا الإفراط في خلط الجد بالهزل، جعلها في موقف لا تحسد عليه، حيث أصبحت في حاجة إلى الروحاني كي تستشيره في بعض السلوكيات البسيطة التي تؤطر علاقتها مع أصدقائها وصديقاتها. زوج يعاني من النكد الدائم الذي تسببه له زوجته: حالة نزاع دائم، وتوتر مستمر لأتفه الأشياء. ويريد أن ينقذ ما يمكن إنقاذه في هاته العلاقة الزوجية. مسؤول حكومي يقوم بواجباته الدينية على أتم وجه، لكنه ضعيف أمام غرائزه الجنسية، ويريد تبريرا لقلقه الوجودي، وترويض ذاته على تقبل هذا السلوك على انه طبيعي، أي انه يعيش اضطرابا مريرا بسبب صراع الضمير مع الضعف في الشخصية على اتخاذ القرار المُرضي للضمير الداخلي المتيقظ. وهذا ما رفضه الطبيب الروحاني، مشترطا عليه الاستقامة، وكونه لا يساعد الناس على تقبل الفاحشة والسلوك السيئ. الشيء الذي أقلق المعاود، وجعله ينسحب. رجل فقد الأمل في الحياة، وينتظر الموت يعد مضي ثلاثة أشهر. يقوم الروحاني بمساعدته على محنته تلك، بدعمه نفسيا، ومؤازرته، طالبا منه الإقبال على الحياة وحبها، والانخراط في التفاعل معها بإيجابية بدل تضييع الوقت في التفكير في الموت الذي لا احد يعرف مكان او زمان مجيئه. امرأة جميلة وثرية يعذبها نحس الجسد الذي يحيطها به الناس، ينصحها «سعيد» الطبيب الروحاني في محبة الناس والتواضع إليهم والتودد للأقارب والجيران، وضرورة إخفاء كل ما يحسسهم بنقصهم، خاصة ما يتعلق بالفوارق الاجتماعية التي تحرض نقمتهم الحسدية. شاب مدمن على الخمر، ويرغب في الإقلاع عن هذه العادة التي هدمت جسده، وخلخلت قناعاته، وصدعت علاقته مع الناس، وجعلته يفقد مودة أقرب الناس إليه واحترامهم. شابة في مقتبل العمر (قاصة) تعاني مشاكل أسرية ولّدت لديها قلقا وإحباطا مزريين تسلطا على عقلها وجسدها واستقرارها، وباتا يطاردانها حتى وهي بعيدة عن الأسرة، حتى وهي في لحظات إشراق نادرة. في البدء كانت الذات، وفي المنتهى: يلعب المحكي الروائي على فكرة أساسية مفادها أن قوى الذات في الأصل، وأن ما يجتلب خارجها ما هو سوى صدى عميقا لرناتها الجوانية. فالسمفونية الكبرى للحياة التي يعيشها الشخص طيلة عمره، إنما تصمم وتدون في العمق الداخلي قبل أن تعزف في الخارج جاهزة بلا أدنى ارتباك. ويجدر بنا التنويه بهذا التوجه الذكي من الروائي صوب هذه الجزيرة المعزولة التي يكاد المرء يظل بعيدا عنها طوال حياته مركزا على المشوشات الخارجية، والاطمئنان إلى قيادتها العرجاء التي لا تكاد تستقر على حال تقفز به إلى حال أخرى، منتهزة، في ذلك، سلطة الغرائز، وتمكن الأهواء من النفس (مداخل الشيطان). وينسجم هذا التصور الواعي من الروائي مع نتائج علم السيكولوجيا الباطنية التي نمجد، في أغلبها، قُوى الداخل، وتؤمن بأهمية الاقتناع بمكونات الشخصية الفردية ومقوماتها، وتُميل كفة الروح على حساب كفة الجسد ونوازعه التي تبدو واهية، مهما تقوت شوكتها، أمام إصرار العزائم، وتصلب الهمم، ومتانة المواقف، واشتداد حبال الإيمان بقوى الروح والثقة في إمكاناتها على حماية الجسد والكيان الداخلي للإنسان من الفيروسات المسلطة عليه من الخارج، وصمودها أمام عواصف الرياح المتكالبة عليه أبدا. ولا يدخل هذا التصور في باب ما يسمى بالترويج للنزعة الفردانية التي تدعو إلى التقوقع والعزلة والابتعاد عن المحيط، فتلك فلسفة أفرزت في سياق معين، وأملتها ظروف إنسانية قاهرة. أما هذا التوجه الأدبي السردي، فهو، عكس ذلك، يدعو إلى الانخراط في العمل الجماعي، والتعالق مع مكونات المجتمع، والنزول إلى القاع للإنصات إلى نبضه وتفاعلاته، لكن دون الانجرار إليه حد التماهي أو الاستيلاب أو الضعف والانسياق خلف جلبته ونزوعاته الشهوانية والإغرائية التي تدبرها بذكاء شركات عملاقة تزرع القيم الفاسدة حفاظا على مصالحها، ولو على حساب الفرد/ الإنسان وقيمه النبيلة التي تميزه عن باقي المخلوقات في هذا الكون. إن الانغماس في الحياة، تبعا للطرح الروائي، يكون مُؤطرا برؤى الذات، وبإيمانها المطلق باقتناعاتها الشخصية، ومبادئها التي تنسجم مع قيمها الجوانية بما يحفظ لها كيانها الشخصي، وبذلك تؤسس الرواية لتصور يعمق الاهتمام بالجواني، ومنحه فسحة كي يسهر على تدبير التزامات الجسد وتحركاته في سوق اليومي. كل الحالات السيكولوجية المعروضة نصيا تعاني أعطابا على مستوى تدبير إمكانيات الذات الداخلية، وتصريف النوازع العدوانية والشهوانية في الجسد الذي تهيئ له مطبات وفخاخ محكمة من أجل إسقاطه في هاوية المحظور والضار والمتاهي. وحتى حينما وقعت هذه الذوات المستعرضة في أسلاك الضياع، فقد لاذن بدواخلها من أجل الفكاك والخلاص بمساعدة من المعالج الروحاني سعيد هاشم الذي لم يعمل شيئا سوى تهييج المناعة النفسية الكامنة لدى كل شخص- حالة، ودفعها إلى الاشتغال بعدما كانت مرقدة ومخثرة وراكدة، وحتى المعالج سعيد نفسه لم يلجأ إلى هذه المهنة إلا بعد استكشاف الأداء الفعال لهذا النهج في التعامل مع البواطن وتجريبه مع ذاته. وإذا كانت أغلب الموسوسات المهيِّجة للاضطراب والقلق لدى الحالات الواردة في النص تعود إلى الواقع- المرجع أو السياق الذي يعيش فيه الفرد، ويتفاعل معه وينساق إلى مؤثراته الخارجية السالبة والموجبة، وتجد هاته الشواغل البرانية مرتعا في الجسد، واستجابات سريعة منه، خاصة في غياب الصمامات الرادعة، وعدم اشتغال المناعة النفسية المحصنة للجسد. فتلين الرقابة شيئا فشيئا أمام إصرار المنبهات والمهيجات التي تتقن مغازلة الدواخل والمثيرات، فتستسلم في الأخير، وتقع في الشباك. وبعد مرور مدة على هذا الوقوع، يستعيد الباطن وعيها المتأخر، ويبدأ الصراع المرير بين الذات والجسد وتاريخ الفرد في علاقاته مع كل السياقات المؤسسة للتفاعل من أجل الخروج من الورطة (هنا لا فارق بين الفرد المستهدف، الطائر الذي يجد نفسه طريدة في فخ الصياد، ولا ينفعه وعيه بما حصل بعد ذلك). إلا أنه للأسف في غياب المعرفة بالروح والجسد وطبيعتهما، يصبح، بالنسبة للصحة، المسبب للداء هو الدواء، فيزداد الحال تدهورا، ويعجز الفرد الضائع عن إعادة الوهج لحياته، واسترداد التوازن المخلوع، يترنح الجسد في محاولات يائسة لاستعادة توازنه، إلا أنه في ظل تغييب إشراقة الروح، وابتعاد سرب فراشاتها يصعب النهوض مرة أخرى من الانتكاسة، ويتعذر الفكاك من مخالب هاويتي الجسد والمنغصات البرانية. وهذا الطرح هو ما تسعى الرواية إلى إيصاله للمتلقي. الحب المستحيل والحلقة المفقودة: بتأمل المسار السردي للبطل سعيد هاشم، نجد أن استيقاظ لوعة الحب في جسده وروحه لم تتشكل إلا بموت الأم التي كانت تحتل مرتبة مقدسة في نفسه، بما لا يجعل في ذاته أي مجال لحب امرأة أخرى، والتقائه بكرمة في فندق قصر السراب إبان رحلة استراحة من أعباء العمل اليومي. إنه، وهو يعالج حالات مرضاه ومعاوديه، إنما يسعى لبلوغ التطهر الذاتي، وكنس بقايا العلل التي تعرض لها في حياته، فكلما ساعد مريضا على محو إشكاله النفسي، ارتقت معنوياته التي تغيب عنه كلما ابتعدت الفراشات الروحانية. ويبدو أن «النقص في الحب» هو الوتر الحساس في شخصيته، فالبطل سعيد لم يرتعش قلبه سوى لأمه، وحتى زواجه الأول لم يكن عن اقتناع، بل فُرض عليه فرضا، انسياقا لرغبات والدته، وسعيا للاندماج في المجتمع، لكنه لما التقى القاصة المبتدئة ترنّح شعوره حسيا وروحيا، وامتلأ كيانه بوجودها، وحتى، وهو في لحظات الانهيار القصيرة التي عقبت هذا الامتلاء الروحي والسعي إلى إجهاد حالة التماهي مع هذا الشعور، ظل قلبه ينبض بذكرها، لتنتهي القصة/ قصة الرواية، وهو ينسجم معها في وصل حميم ببيروت، بعد أن ساعدها على حل معضلة أخيها، وتجاوز محنتها الشخصية، وكأنما العوالم التخييلية كلها أسست على هذا الأساس، وكانت تمهيدا لحالة الاتصال بين البطل سعيد ومعشوقته (كرمة) التي أعادت لحياته التوازن المفقود الذي خلفته فجيعة الأم، وانتكاسة الذات، والإخفاق في العمل وإيجاد الخيط الناظم لعلاقاته بنمط الحياة والمجتمع. وعموما؛ فالاستعداد الذّهني الباطنيّ هو الذي يحدد درجة معاناة الشخص، ودرجة انخراطه في مقاومة الضغوطات القهرية الجامحة على الأنفس14.
هوامش وإحالات:
(Endnotes)1 – انظر كلمة ظهر الغلاف الواردة في الرواية، وأظنها كلمة الناشر. 2 – Sa sainteté le Dalai- lama, conseils du cœur, traduit par Christian bruyat, éd. France loisirs, paris- France, 2001, p. 95.3 – مصطفى حجازي: إطلاق طاقات الحياة؛ قراءات في علم النفس الإيجابي، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2012م، ص. ص. 152- 153.4 – محمود الرحبي: فراشات الروحاني، دار فضاءات للنشر والتوزيع، الأردن، الطبعة الأولى، 2013م، ص. 15. 5 – فراشات الروحاني، مصدر مذكور، ص. 16.6 – المصدر نفسه، ص. 17.7 – فراشات الروحاني، مصدر مذكور، ص. 19.8 – المصدر نفسه، ص. 17.9 – المصدر نفسه، ص. 19.10 – علي زيعور: تفسيرات الحلم وفلسفات النبوة، دار المناهل للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط.1. 2000م، ص. 350.11 – فراشات الروحاني، مصدر مذكور، ص. 21.12 – مصطفى حجازي: إطلاق طاقات الحياة، مرجع مذكور، ص. 279.13 – Sa sainteté le Dalai- Lama: conseils du cœur, op. Cité. p. 92.14 – Sa sainteté le Dalai- lama, op. Cité. p. 94.
إبراهيم الحجري