تباينت مواقف اللغويين والنحويين من مبدأي الائتلاف والاختلاف في اللغة. فكان في مقدمة اختلافاتهم وتباين آرائهم ومواقفهم:
أ- اختلافات جمعية، حول مباحث وظواهر وقواعد لغوية بذاتها. ومن أقوى تجلياتها، اختلافات البصريين والكوفيين.
ب- اختلاف في الحكم على بعض التقابلات الخلافية في اللغة، مثل الأصل والفرع، والأقوى والأضعف، هل الاسم أم الفعل، أو حول الأثقل والأخف(1).
ج- الاختلاف في الحكم على مؤتلف اللغة ومختلفها، كالمترادف والمشترك والمتواطئ ومقابلها، المتباين والمتضاد… إلخ. أي ما سماه ابن فارس «أجناس الكلام في الاتفاق والافتراق»(2). ويعد نظام الائتلاف والاختلاف من أسس الأنظمة اللغوية، وعلامة على ديناميتها واتساعها المعجمي والدلالي في التعبير.
ويمكن عد التقابل بين المؤتلف والمختلف من مبادئ تقابل آخر، هو الوحدة والتنوع في اللغة. ذلك أن اللغة وإن نظر إليها في نظام وحدتها، فقد كانت تتضمن أيضا مظاهر عدة للتنوع، منها:
أ- تنوع كمي، ككثرة مفردات العربية وبدائلها في الترادف والمشترك اللغوي والنعوت التفصيلية للأشياء. وهو ما مثل حافزا لوضع معاجم المعاني مثل «المخصص» لابن سيده، و«فقه اللغة» للثعالبي.
ب- تنوع في ذخيرة المقدرة التعبيرية للغة أي ما ترجم عندهم بمصطلحي «خصائص العربية» و«سعة العربية».
ج- تنوع في أساليبها وأنواعها الأدبية.
د- تنوع في ما أضيف إلى أصلها المفترض، مثل المصنوع والمولد.
هـ – تنوع يرجع إلى الأصل المفترض ذاته، أي إلى علاقة العربية باللهجات أو اللغات. وقد كان للعلاقة الأخيرة دون شك أثر واضح في التنوع الكمي والكيفي للعربية ومقدرتها التعبيرية، فضلا عن قواعدها ومجاري خطابها.
إن الائتلاف في هذا المعطى هو وحدة العربية، والاختلاف فيه هو تنوع روافدها اللهجية واللغوية. وقد مثل التقابل بين الطرفين، أحد أهم العوامل التي تحكمت في كل ما ترتب على «كلام العربية» من أحكام قيمة وتقعيد أُسس، فضلا عن عكسه لجدل تعدى حدود وصف وتقعيد اللغة، إلى الدفاع عن مفاهيم خارجة عن قواعدها، مثل الجنس، والدين، إضافة إلى امتدادات مفهومية أخرى مثل «الاحتجاج» و«الصحة» و«اللحن» و«الأعجمي» و«الشعوبي» و«الشاذ» و«الفاسد» و«المستقيم»، وغيرها من المفاهيم والأحكام التي ارتحلت في حركة مراوحة بين اللغويين والبلاغيين والنقاد.
ويهمنا بدءا أن نؤكد أن الوعي بمبدأ الائتلاف والاختلاف، والوحدة والتنوع، كان حاضرا عند القدماء، لكن كيفية إدارتهم لصراعه، وتصريفهم لخطابه، تما بإحكام مكنهم من استيعابه وتوجيهه لتدعيم أطروحتهم المركزية، وحدة العربية وتفوقها على ما عداها من اللغات. فقد عمل ابن جني مثلا على استيعاب ذلك الخلاف والتقليل من أثره على التعدد اللغوي مقابل مركزية «كلام العرب» ممثلا في «العربية» بوصفها اللغة الرسمية المركزية، فذكر أن الخلاف بين الحجازية والقرشية والتميمية محدود، وأنه «لقلته ونزارته، محتقر غير محتفل به، ولا معيج عليه، وإنما هو في شيء من الفروع يسير فأما الأصول وما عليه العامة والجمهور، فلا خلاف فيه ولا مذهب للطاعن به. وأيضا فإن أهل كل واحدة من اللغتين عدد كثير، وخلق من الله عظيم، وكل واحد منهم محافظ على لغته، لا يخالف شيئا منها»(3).
ومن المعروف أن ابن جني توفي عام 392 هـ. وهذا يعني أنه إلى ذلك التاريخ، كان الواقع اللهجي سائدا بحدة في الاستخدام اليومي للكلام، وأن التميميين بصفة خاصة، لم يخضعوا لغويا لكلام «العربية»، بل حافظوا على تنوعهم الكلامي. ولما كان الخلاف كذلك، ألا يكون ابن جني وقع في تناقضات متتابعة، مردها إلى دفاعه عن المركزية اللغوية وسيادتها على غيرها؟ إذ كيف يكون الخلاف بين التميمية والحجازية يسيرا وقد شغل النحويين؟ وكيف يكون الائتلاف جاريا بين العامة والجمهور، وهؤلاء متمسكون، كل بلغته، محافظ عليها لا يرى عنها بديلا؟(4). ثم كيف تكون تلك الاختلافات يسيرة، ولها أوجه عديدة تتعدى حدود المعجم إلى اختلاف في بنية الكلمة وتركيبها والنطق بها؟ وقد ذكر ابن فارس ذلك في باب سماه «باب القول في اختلاف لغات العرب»، كما عقد بابا آخر سماه «باب انتهاء الخلاف في اللغات»(5).
وقد حدد ابن فارس من أوجه اختلاف اللغات أو اللهجات: الاختلاف في الحركات، وإبدال الحروف، والهمز والتليين، والتقديم والتأخير، والحذف والإثبات، وإبدال الحرف الصحيح حرفا معتلا، والإمالة والتفخيم، والحرف الساكن يستقبله مثله، والتذكير والتأنيث، والإدغام، والإعراب، وصورة الجمع، والتحقيق والاختلاس، والوقف على هاء التأنيث، والزيادة، والتضاد.
لكن بيْن ابن جني وابن فارس فرقا في درجة احتواء التعدد اللغوي في كلام العرب. فابن جني بمحاولته التقليل بين فروق المركزي والهامشي، لفائدة المركزي، عبر في الوقت ذاته عن رأي لامع، هو قوله بـ«اختلاف اللغات وكلها حجة»(6)، لكنه كغيره لم يستطع الإفلات من أسر الخطاب السائد وإن سعى للإقرار بالمسود، فأثبت له حجيته، مع إرشاد المتكلمين لما نعته بـ«الخير»، أي «العربية» في صورتها التي رسمها النحو.
أما ابن فارس فعقد للهامشي المتمثل في «كلام العرب» السابق لـ»كلام العرب» المعاصر له بابا محملا بأحكام قيمة سلبية هو «باب اللغات المذمومة»(7). ما الذي جعلها إذن مذمومة، إن لم يكن الخطاب المركزي للعربية الموسعة المعدلة؟ ولربما وجب أن نتساءل عن الفوارق بين «عربية قريش» مثلا و»عربية النحويين» التي وضعوا قواعدها، وإلى أي حد تتسع أو تضيق؟ أما الخطاب السائد، فقد قرن بينهما ليُكسب العربية سندا دينيا وقبليا وتاريخيا(8).
لقد ترجمت عملية صناعة العربية منذ بدايتها لعقدة لم يكتب لها أن تنحل، هي الخوف من الآخر، مقابل استهلاك الذات والانكفاء على شروطها، إذ تجلى ذلك في إخضاعهم عملية صناعة كلام العربية لما اعتبروه أصلا نقيا لا تشوبه شائبة دخيلة. يقول الفارابي عن تلك العملية محددا المصادر التي أُخذ عنها اللسان العربي: «لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم، فإنه لم يؤخذ عن لخم، ولا من جذام، لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة وغسان وإياد، لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية، ولا من تغلب واليمن، فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا من بكر، لمجاورتهم للنبط والفرس، ولا من أهل اليمن، لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وأهل الطائف، لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز، لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدأوا ينقلون لغة العرب، قد خالطوا غيرهم من الأمم، وفسدت ألسنتهم»(9).
وإذا تصورنا أن عدد سكان شبه الجزيرة العربية بكاملها كان عددا محدودا، وأن كل تلك القبائل والمناطق أقصيت منه، فكم يا ترى عدد من بقي منهم في بوادي الحجاز؟ لكن الذي حدث بالتأكيد هو أن «العربية» الجديدة، المختارة والمنتخبة، لم تكن هي عربية التكلم اليومي، وأنه تم تغليبها على لغات المسلمين من الأمم الأخرى كالهند والفرس والحبشة. أما متكلموها الأصليون المفترضون فتحولوا مع الزمن إلى مولدين. بل إن هؤلاء المتكلمين الذين يفترض أن «العربية» عربيتهم، واجهوا مشاكل في التكلم بها. وهو ما تدل عليه إشارة القدماء بوجود اللحن في صدر الإسلام، مع الإشارة إلى أن اللحن يفيد في هذه الفترة، أن اللغة الأم لم تكن هي لهجة قريش.
كما نتج عن الكيفية التي تمت بها صناعة العربية، ذلك الصراع الذي لم يحسم أبدا، بين قواعد النحويين وكلام العامة غير الخاضع لمعاييرهم، فضلا عما واجهوه في امتدادات لهجات شبه الجزيرة العربية في الكلام البليغ، ما بين القبول بها أو رفضها بدعوى مخالفتها لـ«سنن العربية». يقول ابن جني في هذا الموضوع متبنيا رأيا معتدلا: «إلا أن إنسانا لو استعملها لم يكن مخطئا لكلام العرب، لكنه يكون مخطئا لأجود اللغتين، فأما إن احتاج إلى ذلك في شعر أو سجع، فإنه مقبول منه غير منعي عليه… فالناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ، وإن كان غير ما جاء به خيرا منه»(10).
ما ذكره ابن جني يعبر عن الصراع الذي كانت تواجهه العربية الرسمية مع العربيات غير الرسمية، صراع بين السائد والمسود في اللغات، حيث يتبين منه أن العربية الرسمية كانت حتى ذلك الوقت عاجزة عن الوفاء بكل ضرورات التعبير في الكلام البليغ. وسبب ذلك العجز راجع بالتحديد للإطار المغلق الذي سعى اللغويون والنحويون لوضعها فيه، وتوجيهها بمقولات إلزامية يطالعنا منها في نص ابن جني السالف: الخطأ والصواب والجودة والمقبولية والقياس والمذهب والخير. وهي مقولات ضمن مدونة قيمية أوسع، شملت مفاهيمهم لمجادلات العالي والمنحط، والخاصي والعامي، والمقبول والمردود، والمهمل والمستعمل، والمطرد والشاذ… إلخ، كما انعكست في شروطهم لرواية اللغة ومصدرها ونوعية رواتها(11).
إن الائتلاف والاختلاف في نظام اللغة ظاهرة طبيعية تتعرض لها لغات الأمم، لأنها علامة على حركية الاختلاط بين شرائح الشعوب وأصنافها الاجتماعية، وعلى اختلاط الشعوب في ما بينها وتلاقحها ثقافيا ولغويا. كما أنها علامة على ما يحدث فيها من تحولات وصراع قيم وتيارات وخطابات ومواقف، فضلا عن القوانين التاريخية العامة التي يتجادل داخلها السائد والمسود، فتتحول اللهجة إلى لغة أو تهيمن لغة على لغة بإقصائها أو باحتوائها، أو بدفعها للانقراض، سواء أتم ذلك على مستوى الهيمنة في خطاب النظام السياسي والثقافي السائد، أم في قاعدة الاستخدام اليومي والشعبي للغة. وتنساق هذه المعطيات مع ميل الشعوب والأمم ميلا عاما لاختيار لغة قومية وتكريسها بدوافع يتضافر فيها العرقي والقبلي بالسياسي والتاريخي والاقتصادي والجغرافي والديني، وبالكفاءة التعبيرية ومناسبة حاجيات المرحلة.
وتتعرض اللغة عادة لتأثير ما يستجد في الجدل الثقافي والمعرفي لمتكلميها، فتنزع نزوعا طبيعيا إلى التغير لتستجيب لأغراضهم في التعبير والتواصل والتفكير. وقد عرفت العربية ذلك معجميا مثلا، في ما سمي بـ«المولد» و«المحدث» و«المعرب»(12). ونشأت عن ذلك مجادلات عديدة. يقول عادل عبد الجبار زاير عن حركة التحديث اللغوي بأنها شهدت «كثرة المنازعات والمجادلات الفكرية حول وضع بعض هذه الألفاظ في حدود اصطلاحات معلومة… إنها كانت تعكس صورة التقدم الفكري والحضاري للمجتمع الإسلامي»(13).
ولم تكن المنازعات والمجادلات الفكرية بمعزل عن أصولها الاجتماعية التي تأثرت بتوسع رقعة الدولة الإسلامية وتداخل أجناسها وتكون فئات وطبقات اجتماعية جديدة، فضلا عن التي وجدها الإسلام قائمة في تلك المجتمعات. لقد كان هناك تصادم لم يذوبه الإسلام في بدايته، بين أرستقراطية العرب وأرستقراطية الفرس خاصة، مما انعكس في مظاهر التفاخر بين الشخصية العربية والفارسية. كانت الأرستقراطية العربية متفوقة لأنها السائدة طبقيا وسياسيا ودينيا وخاصة قبل بداية تفكك الدولة العباسية واعتمادها على الفرس في القرن الهجري الرابع تحديدا وخاصة بعد سيطرة البويهيين على بغداد. لذلك تعصبت للغتها ورأت في التوليد والتعريب ما من شأنه أن يفقدها امتيازها اللغوي، حتى فضلت لغة الأعراب والبدو على لغة الحضر الجديدة. يقول محمد شكري عياد: «وفي ظل أرستقراطية النسب التي احترمها المجتمع الإسلامي يقصد العربي الإسلامي كان من الطبيعي أن ينظر للغة المولدين مهما بلغت منزلتهم في المجتمعات الحضرية الجديدة، على أنها أدنى من لغة الأعراب»(14).
إن موقف النحويين المتشددين من المرجع اللغوي غير العربي يعبر عن «حساسية» ما تجاه كل أجنبي. لأن تأويل صفة «العربي» أخذ عند بعضهم طابعا قبليا ضيقا، فيه قصور إدراك لمغزى صفة «العربي» الواردة في القرآن الكريم. وليس قصدنا هنا الاستناد إلى القرآن في تحديد مفهوم العربي من غير العربي، وإنما ينحصر قصدنا في الإشارة إلى أحد مرتكزات خطابهم الثقافي الإيديولوجي، الذي لم يكن التقابل بين الأصيل والدخيل لغويا سوى واحد من تجلياته وتمثلاته. لأن التقابل المذكور كانت له صلة بقيم ثقافية تعدت كلام التخاطب العادي إلى كلام التخاطب البليغ ومنجزاته الإبداعية عامة. حيث نقف لتقابل الأصيل والدخيل على حالتين هما الأصيل العربي في مقابل الدخيل الأعجمي، والأصيل العربي في مقابل الدخيل الشعوبي.
ولقد تفاعلت في تشكيل صورة الآخر الأعجمي عند العربي، عدة مواقف في مقدمتها ثلاثة هي:
أ- الأعجمي ناقص بلاغة: وكان مما غذى هذه الصورة ترويج جل العرب لفكرة أن البلاغة والبيان فضيلة تخصهم دون غيرهم من الأمم. ووجدوا لهذه الفكرة مجالا في «العربية» فخصوها بهاتين الصفتين وقصروهما عليها. وكان هذا هو المذهب السائد بينهم، وإن ظل يقابله مذهب مسود، يرى في فعلي الإبانة والتبليغ وظيفتين للغة عامة وليس لـ»كلام العرب» وحده. ولم يوصف الأعاجم بالنقص البلاغي في حالة مخاطبتهم للعرب فحسب، بل حتى في مخاطبتهم لبعضهم، بحيث وصفت لغتهم بأنها ناقصة أصلا وسياقا تخاطبيا. أي أنها مزدوجة النقص مقابل «كلام العرب» المبني على التفوق البلاغي أصلا وسياقا تخاطبيا معا. لقد عامل العرب «العجمة» باحتقار شديد وعدوها من عيوب النطق والتكلم. وكان مما غذى أطروحتهم هذه تأويلهم لقوله تعالى: «لسان الذي يلحدون إليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين»(15). مع العلم أن هذه الآية في تقديرنا لا تفيد أن اللسان الّأعجمي غير مبين إذا تخاطب به الأعاجم. كما أن وصفها للسانهم بأنه أعجمي، ليس قدحا فيه، بل لوصف عدم تحقق شرط التبالغ بين الطرفين المتكلمين، أي الرسول الكريم ومكلمه الأعجمي المختلف في اسمه وجنسه(16).
ب- الأعجمي ناقص علما: مرد هذه الصورة إلى ربط العرب بين العلوم والجانب الغيبي الأخروي في الدين، فوصفوا علوم الأوائل والأعاجم عامة، بأنها دنيوية ناقصة لا تهدي المسلم إلى العاقبة الحسنة في آخرته. وقد تضاربت في هذا الموضوع الآراء وزوايا النظر، وتجادلت فيه المذاهب والثقافات. بين من يرى تلك العلوم مساعدة على فهم الديانة وبين من يراها محرفة لها. بين من يرى أن العملي منها، وإن لم يكن أخرويا، فله نفع للإنسان في دنياه، ومن يرى خلاف ذلك. ولم تقتصر تلك الخلافات على أهل المذاهب والعقائد ممن ألفوا في أصولي الدين والفقه وعلوم الحكمة، بل امتدت جذورها إلى الأدباء والبلاغيين أيضا، حيث تجادلوا بدورهم في حاجة علوم العربية وآدابها لتلك العلوم.
وقد مثل الاتجاه المضاد لعلوم الأوائل- فلسفة وحكمة- ولمن اشتغل بها من العرب والمسلمين علماء كثيرون، نذكر منهم في علم «العربية»، أبا سعيد السيرافي17، وفي النقد والبلاغة ضياء الدين ابن الأثير الذي اعترض على أحد مخاطبيه منتقدا ما وضعه ابن سينا عن الشعر بقوله: «فلما وقفت عليه استجهلته، فإنه طول فيه وعرض، كأنه يخاطب بعض اليونانيين، وكل الذي ذكره لغو لا يستفيد به صاحب الكلام العربي شيئا»(18). كما مثل هذا الاتجاه في المعارف العربية إجمالا، ابن قتيبة بقوله: «ولو أن مؤلف «حد المنطق» بلغ زماننا حتى هذا يسمع دقائق الكلام في الدين والفقه والفرائض والنحو… لأيقن أن للعرب الحكمة وفصل الخطاب»(19).
ومثل الموقف نفسه فلسفيا، أبو حامد الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة»، ومثله منطقيا ابن تيمية، في كتابين له هما «الرد على المنطقيين» و«نقض المنطق». وفي كتابه الأخير بخاصة، انتصر لعلماء أهل الحديث والسنة، واصفا غيرهم من الفلاسفة والمتكلمين بالحشو وقول الباطل وتكذيب الحق والشك والاضطراب، والضعف يقينا وعلما. ومما قاله ابن تيمية: «مذهب الفلاسفة الملحدة دائر بين التعطيل، وبين الشرك والولادة، كما يقولون في الإيجاب الذاتي، فإنه أحد أنواع الولادة، وهم ينكرون معاد الأبدان». أما عن جهلهم بالإلهيات خاصة، فيقول: «للمتفلسفة في الطبيعيات خوض وتفصيل، تميزوا به بخلاف الإلهيات، فإنهم من أجهل الناس بها، وأبعدهم عن معرفة الحق فيها، وكلام أرسطو، معلمهم فيها، قليل، كثير الخطأ»(20).
لقد اتصلت هذه المجادلات بالأخذ إما بمذهب النقل أو بمذهب العقل، فأنصار المذهب العقلي كانوا يرون أن حاجة العرب والمسلمين لتلك العلوم حاجة حضارية معرفية، وأن علومهم لا يمكن لها أن تكون علوما حقيقية، وخاصة منها العلوم المفتقرة إلى الحجة والبرهنة، إلا إذا أخذت بأسباب العلوم الأخرى، وفي مقدمتها علم المنطق الذي عد عندهم علما للعلوم العقلية، من حيث انبناؤها عليه في مبادئها وتحديد موضوعاتها ومقولاتها وأسسها. لكن أنصار النقل أنكروا ذلك كله، رابطين بين صفة النقص في العلوم «المعادية» وبين جهل أصحابها وفساد ديانتهم أو كفرهم.
ج الأعجمي عدو: يفهم من جملة النعوت التكفيرية التي نعت بها أهل السنة والحديث من المحافظين النقليين المشتغلين بالعلوم الفلسفية، أن تلك العلوم تستهدف الإسلام لحقدها عليه، والطعن في أخلاق العرب لحقدها عليهم أيضا، وأن أصحابها أعداء، مراميهم منها تحريف العقيدة وإشاعة المفاسد والتفرقة. وكادت صورة «الأعجمي العدو» تتحول من ثمة إلى ثابت في «العقلية العربية» يتبناها حتى عدد من المعدودين على مذهب العقل، وإن بدا أن هؤلاء، في هذه الحالة يتصرفون في كيفية وموضوع تطبيقها كما نرى في موقف الجاحظ الذي لم يجد حرجا في الأخذ ببعض مقولات العلوم اليونانية لكنه وقف موقفا متشددا من الفرس، ونعتهم بالشعوبية.
وقد وسع الاتهام بالشعوبية صورة «الأجنبي الأعجمي العدو»، فاتخذ هذا الحكم بعدا عرقيا وثقافيا معا، واتهم به كل المخالفين للنمط التقليدي الموروث عند العرب، حتى الجاهلي منه، أو طعن في «العربية» وفضلها الديني والأدبي والمعرفي. يقول محمد زغلول سلام أنه قد «ظهرت بعض الاتجاهات الأدبية تدفع بالذوق الأدبي إلى ناحية غير عربية وتنأى به شيئا فشيئا عن طريقة العرب، أو طبيعة العرب وهذا ما تنبه له جماعة من كبار الكتاب والمفكرين منذ القرن الثالث الهجري، عندما استفحلت حركة الشعوبية والزنذقة، وبدت آثارها بوضوح في الشعر العباسي، فناهضها الجاحظ وابن قتيبة، وإن اختلفت سبيل كل منها»(21).
لكن محاولات الوقوف في وجه ذلك المد التجديدي لم تنجح، لأن انخراط «الأعاجم» في إنتاج الثقافة الجديدة كان أقوى من حركة الحد منها، وبخاصة بعد أن أصبحت هذه الثقافة ملكا لـغير «العرب» أيضا بعد أن أسهموا في إنتاجها شعرا ونثرا وعلما. وحدث بذلك تنازع حول «طريقة العرب» و«طبيعة العرب» و«ذوق العرب». وبالتحديد من جهة التساؤل عن أي عرب هم الأهل بهذه النعوت، عرب التيار التعريبي الشمولي المحافظ، أم عرب التيار التجديدي المنفتح لعطاء غير «العرب»؟
لقد سعى غير العرب بدورهم للدفاع عن مقومات هويتهم لكن مساعيهم كانت تفسر في الغالب تفسيرا سلبيا. وسار على هدي هذا التفسير أكثر من واحد من المعاصرين، ففسروا «الشعوبية» بالعنصرية، غير متسائلين عن مدى وجود «عنصرية» في مقابلها. يقول محمد زغلول سلام مثلا: «كذلك اشتدت العنصرية الفارسية، كما بدأت القوميات التي أذابتها الفتوح العربية تتحرك من جديد لتثبيت وجودها، وتقوم، وتناهض مناهضة سياسية وثقافية الكيان العربي السياسي والثقافي، وكان من النتائج المباشرة لذلك، تسلط الثقافات غير العربية على الفكر العربي، والسير به في اتجاه قد لا يخدم، أو يرى فيه العرب أنه لا يخدم المقدسات والقيم العربية. واتضح ذلك في الجانب الديني في ظهور بعض النحل والملل والمذاهب والعقائد والبدع بصورة لم يسبق لها مثيل، كانت دون شك صدى لعقائد غريبة عن الإسلام، فارسية، ونبطية، وهندية، ويونانية… إلخ(22).
وإذا كانت روافد من التراث الذي خلقته «الشعوبية»، تحتمل أن تفسر بالنيل من العربية ومن تراثها ومتكلميها الأصليين، فإن موضوع ظهور نحل وملل ومذاهب مخالفة للإسلام، ليس فيه شك. لكن تهم «الشعوبية» و«الزندقة» بالتحديد يجب أن يعاد فيها النظر، في ضوء مجادلاتنا الجديدة مع التراث، لا بناء فقط على ما أقره القدماء في هذا الباب، حتى نستطيع أن نتبين ما قام من ذلك على «حق» وما قام منه على «باطل». لأن ما وُجِّه للشعوبيين والزنادقة من تهم، وجه أيضا إلى عدد من أئمة الإسلام وعلمائه، كما وجه لعدد ممن أثْروا «كلام العرب» بشعرهم ونثرهم.
إن الصور التي أنتجت عن «الأجنبي الأعجمي» يجب وضعها في السياق العام لجدل السائد والمسود، بوصفه صراع ثقافات وقيم، فيها الأصلي والطارئ، ومنهما الأصلي المتحول والأصلي الجامد، والطارئ الدخيل الذي تولد في خضم التحول واتخذ صفته هذه بالمقارنة بالأصلي الجامد، والطارئ الدخيل الذي اقترض بالفعل من أمم أخرى وأخضع لتعديل وتعريب… إلى غير ذلك من علامات وشروط الجدل التي تحدث في صلب كل ثقافة، وخاصة إذا كانت وتيرة التحول فيها سريعة كما حدث بالنسبة للثقافة العربية والإسلامية التي شهدت في قرون محدودة حركات كبرى وقوية، بحيث شكلت منعطفات تركت آثارها واضحة في أشكال الصراع بين أطرافها، حول أحقية السيادة على الغير. وفي هذا المساق بالتحديد، نضع الموقف المحافظ الذي تعدى الشك والارتياب في نظرته للدخيل إلى موقف المواجهة والتصدي له.
وإذا كان تقابل الأصيل دل على أن جدل الائتلاف والاختلاف كان متجذرا في الثقافة العربية الإسلامية، في أبعادها الفكرية والدينية والأدبية والإيديولوجية، فإن أحد تجلياته الأخرى يمكن الوقوف عليها في التقابل بين نظام العربية المرجعي وبين استخدامه في التكلم اليومي والتكلم البليغ. وإذا كنا قد أشرنا إلى أن اللغة من قوانينها التطور والاقتراض من اللغات الأخرى، المحلية والأجنبية، بحسب العوامل التاريخية والحضارية عامة، فإن الاستخدام اليومي، ونظيره البليغ، يعدان مقياسا لدرجات الائتلاف والاختلاف التي تحدث بين النظام المرجعي القاعدي للغة، وبين إخضاعها للاستعمال في السياقات والمقامات المتعددة، بحيث يمكّن هذا الاستعمال من قياس درجة الاتساع بين مستوييها.
وحين نراجع بالنظر هذين المستويين عند اللغويين القدماء نلاحظ فيهما ثلاث حالات:
أ- اللغة تتسع للإضافة: وقد مثلت هذه الإضافة، بصرف النظر عن مقبولية الاحتجاج بها، ثلاثة مصطلحات أساسية هي: المولد أو المحدث، والمعرب، والمصنوع. ويدل المصطلح الأخير عندهم على ما «يورده صاحبه على أنه عربي فصيح»، لذلك لم يعدوه من «كلام العرب». وأرجعوا وضعه إلى «إرادة اللبس والتعنيت»(23).
ب- اللغة تتخلى عن بعضها: ولد هذا التخلي عندهم مصطلحات أخرى أساسية أيضا، في مقدمتها: الشاذ، والمهمل، والحوشي، والغريب، والنادر. ومقياس ذلك كله، عدم الاطراد في الاستعمال، بحيث اعتبر اللجوء لما انطبقت عليه المصطلحات المذكورة غير مقبول حتى عند مقعدي اللغة. فوصفوه بالضعف والمنكر والمتروك من اللغات، على حد ما نفهم مثلا من قول السيوطي: «الضعيف ما انحط عن درجة الفصيح، والمنكر أضعف منه وأقل استعمالا. بحيث أنكره بعض أئمة اللغة ولم يعرفه، والمتروك: ما كان قديما من اللغات، ثم ترك واستعمل غيره»(24).
ويحملنا هذا، على التساؤل عن الموقف المتردد لأئمة اللغة من التحول والتطور فيها. كيف يقبلون بمبدأ تحولها من جهة تخليها عن بعض عناصرها، ثم يرفضون في الآن عينه، مبدأ تحولها من جهة تقبل الدخيل فيها؟ كيف للغة أن تنمو إذن إذا ظل نموها محصورا في مبدأ التخلي لا متسعا لمبدأ الإضافة، ألا يقود مبدأ استهلاك اللغة لذاتها إلى الانقراض والموت؟
ج اللغة تتعرض لانتهاك الاستعمال: أي أن يقوم المتكلم بمخالفة قواعد اللغة في النطق والتركيب والتصريف والإعراب والكتابة… وقد عبر القدماء عن فهمهم لهذه العملية، بمصطلحات أخرى، في مقدمتها: اللحن، والتصحيف، والتحريف. ولا تتحدد الظواهر التي تدل عليها هذه المصطلحات سوى في مقابل معيار محدد هو «كلام العرب» الذي ليس هو مطلق كلام العرب، بل المحصور في «العربية» من حيث كون «العربية»/ الكلام، صيغت بواسطة «العربية» / العلم صياغة خضعت لمقاصد وشروط بعينها. فأصبح «كلام العرب» المحدد هنا، بعضا من «كلام العرب». أي أنه انحصر في الكلام الذي تم تبنيه والدفاع عن سيادته وتمركزه في الخطابات المختلفة بعلومها وآدابها. وكان النحو هو الساهر على حفظ ذلك الكلام. فربطه ربطا لم يتقبل وجود فرق بين «كلام العرب» الذي هو بعض كلامها، و»كلام العرب» الذي هو كلامها بصفة الإطلاق واحتواء الأصيل والدخيل معا.
وقد كان تشدد النحو سببا في ظهور درس لغوي جديد مواز له، موضوعه النظر في ظواهر اللحن والتصحيف والتحريف. حيث ناب هذا الدرس عن النحو في «مراقبة» تمثل المتكلمين لـ«سمت كلام العرب». لكن هذا الدرس، عوض أن يعمل على فهم حقيقة «المخالفات» اللغوية وأسبابها، عمل كسلفه الأصلي، النحو، على قياسها بالقواعد القبلية التي وقع بين النحاة اضطراب في تحديدها. وقد أقر ابن الجوزي (ت 597 هـ) بالنتائج السلبية للعلم الجديد، وهو واحد ممن تصدوا لموضوع اللحن في التخاطب اليومي في مقدمة كتابه «تقويم اللسان»، بقوله: «قد أفرد قوم ما يلحن فيه العوام، فمنهم من قصر، ومنهم من رد ما لا يصلح رده»(25).
ومن خلال نظرنا في هذه المسألة نستنتج ما يلي:
أ اللحن- مقصودا به الخطأ- سابق لوضع «العربية». ومعنى ذلك أن «العربية» قبل مرحلة التقعيد، كانت تعمل بواسطة متكلميها على ترسيخ معياريتها وموقعها بوصفها لغة مركزية.
ب شيوع اللحن والخطأ بين الخاصة والعامة بعد مرحلة وضع «العربية»، بل في سياقها نفسه، حتى قال ابن حنبل: «ومن يعرى من الخطأ والتصحيف»(26).
لقد وقع في الخطأ إذن «جماعة من الأجلاء من أئمة اللغة والحديث»(27) كما وقع فيه القراء والرواة والشعراء(28) وغيرهم من الفقهاء والكتاب، حتى أفرد بعض أئمة «اللحن» أخطاء الخاصة بكتب، مثل أبي هلال العسكري في كتاب «لحن الخاصة»، والحريري في كتاب «درة الغواص في أوهام الخواص»، وغيرهما من الكتب المفقودة أو المنشورة التي أكدت شيوع الخطأ في التكلم والكتابة بين خاصة أئمة اللغة والأدب والدين. يقول صلاح الدين الصفدي: «التصحيف والتحريف قلما سلم منها كبير، أو نجا منهما ذو إتقان ولو رسخ في العلم رسوخ «ثبير» أو خلص من معرتهما فاضل ولو أنه في الشجاعة «عبد الله بن الزبير» أو في البراعة «عبد الله بن الزبير»(29)، خصوصا ما أصبح النقل سبيله، أو التقليد دليله، فقد صحف جماعة هم أئمة هذه الأمة، وحرف كبار بيدهم من اللغة تصريف الأزمة»(30).
وقد ذكر الصفدي أمثلة للمصحفين والمحرفين، فمنهم من أئمة البصرة: الخليل بن أحمد، وأبو عمر وابن العلاء، وعيسى بن معمر، وأبو عبيدة معمر بن المثنى، وأبو الحسن الأخفش، وأبو عثمان الجاحظ الذي تحدث عن اللحن في «البيان والتبيين»، والأصمعي، وأبو زيد الأنصاري، وأبو عمر الجرمي، وأبو حاتم السجستاني، وأبو العباس المبرد. ومن أئمة الكوفة ذكر الصفدي الكسائي، والفراء، والمفضل الضبي، وحمادا الراوية، وخالد ابن كلثوم، وابن الأعرابي، وعلي الأحمر، ومحمد ابن حبيب، وابن السكيت، وأبا عبيد القاسم بن سلام، وأبا العباس ثعلب، واللحياني، وأبا الحسن الطوسي، والطوال، وابن قادم.
ويعد المذكورون أعلاه من واضعي «العربية» ومقعديها. بل إن الكسائي (ت 189 هـ) المذكور بينهم، وضع أول كتاب في موضوع اللحن بعنوان «ما تلحن فيه العامة»(31). ويفيد عنوان هذا الكتاب أن الخطأ في اللغة ومخالفة قواعدها في التكلم نسب في بداية النظر فيه للعامة لا للخاصة، مع أن الخاصة لم تكن بسالمة منه. لكنها لم تقر به في الغالب، إلا إذا احتجت به لأغراض الطعن والقدح، تبعا للخلافات الشخصية والمذهبية.
ج تداخل الخطأ والصواب: لا يعد كل ما أدرج في باب اللحن والخطأ خطأ بالفعل، لأن المعيار الذي قيس الخطأ بمخالفته كان في حد ذاته موضع خلاف. ويتمثل ذلك في تخطئة النحويين واللغويين لبعضهم. وجملةٌ مما عدوه أخطاء مصدره الأساس تقابل «العربية» باللغات المحلية والقديمة. لذلك قال ابن الجوزي محتجا بالفراء: «وإن وجد لشيء مما نهيت عنه وجه فهو بعيد، أو كان لغة، فهي مهجورة. وقد قال الفراء: وكثير مما أنهاك عنه، قد سمعته. ولو تجوزت لرخصت لك أن تقول: رأيت رجلان، ولقلت: أردت عن تقول ذلك»(32).
وقد وضع ابن مكي الصقلي (ت 501 هـ) في كتابه «تثقيف اللسان» بابا سماه «باب ما تنكره الخاصة على العامة وليس بمنكر»، ذكر فيه أمثلة لما أدرجته الخاصة في الخطأ وليس بخطأ، مثل إنكارهم قول «معوج»، وقد أنكره الأصمعي وابن الجوزي، لكن أجازه علماء آخرون. وكذلك في إنكارهم قول «حوائج». أنكره الأصمعي وأبو هلال العسكري بحجة أنه «ليس مما تعرفه العرب ولا يوجبه القياس»، لكن أجازه آخرون(33).
لقد واجه النحاة أفعال التكلم بأحكام الإباحة والنهي والإجازة، وكأنهم بمثابة فقهاء يواجهون نوازل يحكمون عليها بأدلة شرعية أو بقياس أو بإقرار إجماع. وكان دافعهم الطبيعة المعيارية للغة التي وضعوا قواعدها وألزموا المتكلم بالانضباط لها. لقد «تعلقت تلك الإباحة وعدمها بقواعد معيارية تفرض نفسها على الاستعمال وعلى المسموع. وكان توصل النحاة إلى هذه القواعد نتيجة نشاط استقرائي تحليلي للغة، سواء في ذلك مفرداتها وتراكيبها. ولكنهم بعد نظرهم إلى ما ارتضوه من قواعد، جعلوا هذه القواعد «أحكاما»، فكانت في نظرهم أولى بالاعتبار مما خالفها»(34).
لكن السؤال المطروح في هذا المساق، هو عن أية عرب وأية «عربية» يؤخذ المعيار ويحكم بالقياس وتوضع القواعد؟ أية عربية هي الصحيحة، وأية عربية هي الفاسدة؟ فإذا كان الكسائي نُعت بأنه «أفسد النحو»، والخليل بأنه «لا يحسن النداء»، وسيبويه بكونه «لا يدري حد التعجب»(35)، وإذا كان «كتاب العين فيه من التخليط والخلل والفساد… وكذلك كتاب (الجمهرة)»(36)، وكان كتاب «الصحاح» لاحقا بالعين والجمهرة في ذلك(37)، فكيف نطمئن إذن لأحكام أئمة اللغة والنحو في صحة العربية، ولجدوى مبادئهم في السماع والقياس والاحتجاج؟
يقول رمضان عبد التواب عن الحقيقة الأولى لوضع «العربية»: «كان الهدف هو وضع قواعد للغة الفصحى، أو بعبارة أخرى، للغة الأدبية المشتركة بين العرب جميعا، فلم يكن الفرق بين اللغة المشتركة واللهجات واضحا في أذهان اللغويين في هذه الحقبة من التاريخ وضوحا تاما. ولذلك سعى البصريون للأخذ عن قبائل معينة، وهدفهم هو الوصول إلى تقعيد اللغة الأدبية المشتركة، غير أنهم لم يفرقوا فيما أخذوه عن هذه القبائل، بين تلك اللغة المشتركة، ولهجات الخطاب. ومن هنا جاء الخلط والاضطراب، ورأيناهم يؤولون كل مثال شذ عن قواعدهم. ولم يكن الكوفيون أقل منهم حظا في الاضطراب والخلط، لأنهم أخذوا اللغة عن كل العرب، ولم يفرقوا كذلك بين اللغة المشتركة ولهجات الخطاب»38.
نستنتج من ذلك، أن «العربية» المبنية على «الاضطراب والخلط»، لا يمكن الحكم على تكلمها بالاستقامة والصحة والفساد، أو إباحة انتهاكها أو النهي عنه، إلا نسبيا. لأن ما اعتبر سمتا وقوانين وسننا لها، مسائل افتراضية قابلة للنفي أو التغيير، فالائتلاف فيها قائم على الاختلاف، ودخيلها مجادل لأصيلها سواء من حيث نظامها القاعدي المجرد، أو من حيث خضوعها لشروط المقام التعبيري في بعديه، العادي والبليغ.
وفي حالة الأخير بالذات، تقبل المسافة بين النظام والمنجز مزيدا من الاتساع. لأن الكلام البليغ لا يفترض فيه الحرص على التوافق الكلي مع المعيار. فمواجهته للمعيار مزدوجة، إذ يواجه معيار النظام اللغوي، كما يواجه معيار طرق القول البليغ كما حددها المتبالغون به ونقادهم وعلماؤهم. وبذلك تكون الأحكام التي تطلق على الاستعمال العام للكلام، كأحكام الصحة والصواب والخطأ والفساد والاستقامة والاعوجاج أكثر إثارة للجدل حين إطلاقها على الكلام البليغ. لأنه كلام يُخضع لطرقه الكلامَ العام، بحسب حاجيات التعبير ومقاماته. فتكون تلك الأحكام من جملة أحكام القيمة التي يراعى فيها الحفاظ على الثوابت السائدة، أو إشاعة أخرى تجادلها سيادتها.
هوامش الدراسة
1- الأشباه والنظائر في النحو للسيوطي 1/(79، 80، 180) والخصائص لابن جني 2/30.
2- الصاحبي لابن فارس ص (201، 269) وينظر أيضا: المزهر 1/ (115، 369، 387، 402)، وكذلك كتب الأضداد والفروق اللغوية وخاصة منها: الأضداد في اللغة، لمحمد بن القاسم الأنباري (ت 328 هـ). القاهرة. مصر 1325 هـ. وكتاب «الأضداد من كلام العرب» لعبد الواحد بن علي أبي الطيب اللغوي (ت351 هـ). تحقيق عزة حسن. مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق 1963.
3- الخصائص 1/ 244.
4- ينظر مثال للتمسك باللغة القديمة دون كلام «العرب»: الخصائص 1/242
5- الصحابي ص (48، 72)، والمزهر (1/55)
6- الخصائص 2/10
7- الصاحبي ص 53.
8- ينظر في هذا الفهم : الصاحبي ص 52
9 المزهر 1/(211-212).
10- الخصائص 2/12 والحكم بـ «الخير» في هذه القولة، مماثل لما حكم به أبو الأسود الدؤلي، حين وصف كلام مخاطبه بأنه لا خير فيه: أخبار النحويين البصريين للسيرافي ص 37
11 ينظر في هذه التقابلات والأحكام: المزهر 1/(75، 137، 226، 240)، والخصائص1/96، والاقتراح للسيوطي ص (58، 75) وسر الفصاحة للخفاجي ص (27، 37) كما ينظر في نشأة عربية جديدة سماها يوهان فك «العربية المولدة» كتابه: «العربية: دراسات في اللغة واللهجات والأساليب» ترجمة رمضان عبد التواب. مكتبة الخانجي مصر1980 وكتاب «المولد في العربية» لحلمي خليل.
12- أورد السيوطي للمولد هذا التعريف: «هو ما أحدثه المولدون الذين لا يحتج بكلامهم». واستشهد بمصدرين آخرين في ذلك، ناقلا ما يلي: «وفي مختصر العين: المولد من الكلام: المحدث. وفي ديوان الأدب للفارابي: هذه عربية وهذه مولدة» المزهر 1/304. وينظر في أثر التوليد في اللغة قديما: معجم ألفاظ العلم والمعرفة في اللغة العربية لعادل عبد الجبار زاير. أما «المعرب»، فكان يقصد به: «ما استعملته العرب من الألفاظ الموضوعة في غير لغتها»: المزهر 1/ 268. ويرجع في الموضوع أيضا: لفقه اللغة للثعالبي ص (272- 276) وجمهرة اللغة لابن دريد. جزء 3 باب «ما تكلمت به العرب من كلام العجم حتى صار كاللغة». دار صادر. بيروت. لبنان (د.ت). ومقدمة «تاج العروس» للسيد مرتضى الزبيدي، دار الرشاد الحديثة ودار الفكر. بيروت لبنان 1/9 و»المولد في العربية» لحلمي خليل ص 113.
13 معجم ألفاظ العلم والمعرفة ص 264.
14 المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب والغربيين لشكري محمد عياد. سلسلة (عالم المعرفة). الكويت. العدد 177/1993 ص207.
15- النحل / 103
16- ينظر في تفسير هذه الآية وأسباب نزولها: تفسير الجلالين لجلال الدين محمد بن أحمد المحلي وجلال الدين السيوطي. مكتبة السلام الجديدة البيضاء. المغرب (د. ت) ص 206 و»لباب النقول في أسباب النزول، للسيوطي بهامش المصدر السابق ص (248-249). ويرجع في موضوع عجمة اللسان للمعاجم القديمة، والخصائص 1/ 244، 3/75، والاقتراح للسيوطي ص 45 وسر الفصاحة للخفاجي ص 18.
17 يرجع لنص مناظرته مع متى بن يونس في «الإمتاع والمؤانسة» لأبي حيان التوحيدي 1/108-128.
18- المثل السائر لابن الأثير. تحقيق أحمد الحوفي وبدوي طبانة. دار نهضة مصر بالفجالة. القاهرة مصر (د.ت) 2/6.
19- أدب الكاتب لابن قتيبة. تحقيق محمد طعمه الحلبي ط 1/ 1997 دار المعرفة. بيروت لبنان ص.17 ولقد كان للاختلاف في العقائد والمذاهب أثر في وضع قواعد العربية ينظر «كلام العرب» حسن ظاظا. دار النهضة العربية. بيروت لبنان 1976 ص 159
20- نقض المنطق لابن تيمية تحقيق محمد بن عبد الرزاق حمزة وسليمان بن الرحمن الضبع. المكتبة العلمية. بيروت لبنان (د.ت) ص7 من مقدمة التحقيق ومتن الكتاب ص (24-25). وينظر أيضا لابن تيمية كتابه «الرد على المنطقيين» تحقيق رفيق العجم. دار الفكر اللبناني. بيروت لبنان 1993
21- تاريخ النقد الأدبي والبلاغة لمحمد زغلول سلام. منشأة المعارف بالإسكندرية. مصر1982 ص 268. وينظر أيضا: شرح المفصل لابن يعيش 1/ (8-10)، والبيان والتبيين للجاحظ تحقيق عبد السلام هارون. مكتبة الخانجي. القاهرة. مصر ط5/1985. 3/5
22- تاريخ النقد الأدبي والبلاغة ص 268.
23- المزهر1/ (304، 171).
24 المصدر السابق 1/214 والمولد في اللغة العربية ص (141-151).
25- تقويم اللسان لابن الجوزي. تحقيق عبد العزيز مطر. ط 2 دار المعارف مصر (د. ت) ص 55. وللتوسع في هذا الموضوع ومعرفة كتب القدماء فيه وفي التصحيف والتحريف، يرجع لمقدمة تحقيق «تقويم اللسان»، وبيبليوغرافيا كتاب «تصحيح التصحيف وتحرير التحريف» لصلاح الدين الصفدي (ت 696 هـ) تحقيق السيد الشرقاوي مكتبة الخانجي. القاهرة. مصر ط1/1987. كما يرجع إلى الصاحبي ص 64 والخصائص 3/ 245، و 2/5، والاقتراح للسيوطي ص 49 وأدب الكاتب لابن قتيبة (201 –268) والبيان والتبيين 2/216. و»العربية» ليوهان فك ص (243-255).
26 المزهر 2/353.
27- المصدر السابق 2/372. وينظر أيضا: تصحيح التصحيف وتحرير التحريف للصفدي ص (15-18).
28- المثل السائر لابن الأثير 1/ 45 وينظر أيضا «العربية» ليوهان فك ص (69-92)
29- عبد الله الأول صحابي، والثاني شاعر شيعي، وثبير، جبل بمكة
30- تصحيح التصحيف ص 4
31- ما تلحن فيه العامة للكسائي. تحقيق رمضان عبد التواب مكتبة الخانجي. القاهرة. مصر ط 1/ 1982.
32- تقويم اللسان لابن الجوزي ص (57-58).
33- يرجع لمقدمة تحقيق «تقويم اللسان»، ص (26-27).
34- اللغة العربية، معناها ومبناها لتمام حسان ص 13.
35- تقويم اللسان ص (58، 62).
36- المزهر 2/372.
37- المصدر السابق، 2/ (390 393)، ويرجع إلى المصدر نفسه في موضوع غلط العلماء، 1/(78، 117)، وكذلك مقدمة «لسان العرب»، وباب «في أغلاط العلماء» ضمن «الخصائص» 3/(273 –282).
38 – يرجع لمقدمة تحقيق «ما تلحن فيه العامة» ص59. كما ينظر أيضا في تأثر «العربية» من جهة قواعدها، بالاختلافات في العقائد والأحكام، وبانتحال الشعر، واختلاق الألفاظ والتعبيرات: حسن ظاظا: كلام العرب، ص 159.
ناقد من المغرب