قبل بدء الكشوفات الميدانية وبالتالي التنقيبات الأثرية المنظمة في عموم بلاد الرافدين والتي بدأت تحديداً على أيدي الأوروبيين في منتصف القرن التاسع عشر كان الاعتقاد السائد قبل ذلك وآنذاك عند عموم المفكرين ورجال الدين الغربين وخاصة اليهود منهم بأن جميع الشرائع القديمة وقصص الأولين والأساطير والملاحم الدينية وغير الدينية منبعها (العهدين القديم والجديد)..
إلا أنه وبعد الكشف عن الأدلة النصية التي ظهرت اثناء أعمال التنقيب المنظمة والتي لا تقبل الشك, والمتمثلة بالنصوص الدينية الوضعية والنصوص الأدبية لسكان بلاد الرافدين الأقدمون أقنعت الجميع أن العكس هو الصحيح. أي أن المنبع الحقيقي لجميع الشرائع والملاحم والأساطير الدينية منها وغير الدينية هي بلاد الرافدين وليس العهدين القديم والجديد.
وكلما زادت أعمال التنقيب والتحري الأثري في بلاد الرافدين ازدادت الأدلة والبراهين على أصل الشرائع والأساطير والملاحم بما فيها قصة الخليقة ونوح الطوفان والثواب والعقاب بعد الممات والتي ورد ذكرها في العهدين القديم والحديث .
وعند مطالعتي لمجلة العالم (The World) التي تعنى بالآثار والتراث الصادره في شهر (يوليو – أغسطس ) للعام 2012، شدني مقالاً تحت عنوان (Monsters from Mesopotamia) للآثاري الأمريكي الجنسية (روبرت لبلنك-Robert Lebling).. والترجمة الحرفية لهذا العنوان بطبيعة الحال تعني (وحوشاً من بلاد ما بين النهرين).
ونظراً لأهمية هذا المقال وارتباطه بالمقدمة أعلاه فقد ارتأيت ترجمته و(بتصرف) لما له من أبعاد ومضامين تخص الأساطير والخرافات التي غزت عالمنا الحالي وبشتى وسائل الإعلام.. وبالأخص أساطير وحكايات مصاصي الدماء، والوحوش التي تشق القبور وتغزو عالم الأحياء والمعروفة باسم (الزومبي). والى جانب هاتين الأسطورتين الخرافيتين هناك أسطورة المستئذبين (werewolf) والتي من خلال سردها يتحول البشر الى ذئاب مفترسة. وغيرها من الأساطير التي يحسبها القراء والسامعين والمشاهدين بأنها من أدبيات عالم الغرب الحديث.
لقد اعتاد الناس ومنذ أمد بعيد ان يأخذوا الرعب وسيلة من وسائل الترفيه. والدليل على ذلك أن قصص وأساطيرالوحوش التي كانت وما زالت معنا منذ فجر الإنسانية تشغل جزءاً كبيرا من التقاليد والتراث الشعبي لأية أمة كانت.. والتي بدأت وفي واقع الحال حينما كانت تحكى أو بالأحرى تسرد على أولئك الجالسين حول مواقد النار في كهوف عصور ما قبل التاريخ. وحكايات الوحوش تلك. هي في واقع الحال تعرض علينا الآن كجزء من الترفيه أيضاً في أرقى الصالات السينمائية وبأستخدام أحدث التقنيات المرئية والتي منها ذات الأبعاد الثلاثة وبالصوت المجسم بدلاً من السرد النمطي الذي يسرد على مسامع عدد محدود من الجالسين حول مواقد النار.
والملاحظ أن في جميع احداث هذه الحكايات او الأساطير الخيالية يأخذ الوحوش أشكالهم وأبعادهم من مخاوفنا المجهولة أو بالأحرى المبهمة. بدليل ان تلك الوحوش تقوم بإخراج أصوات غير اعتيادية من دواخل. أو أنها تصدر من أفواه متقاتلين فيما بينهم يقطنون في بلادٍ بعيدة عنا.وقد قصها أو بالأحرى وصفها لنا الصيادون اوالبحارة اوالرحالة العائدون من رحلاتهم.
وفي واقع الحال فإن بعضا من أولئك الوحوش الذين يأتي ذكرهم اثناء السرد من المفترض أنهم قد عاشوا في اماكن بعيدة عن اثم أتوا إلى عالمنا واستوطنوا في البراري أو في الأراضي المحيطة بنا. أي أنهم ليسو بعيدين عنا كل البعد.
والملاحظ ان خلال القرون الوسطى أعتقد الأوروبيون أن الوحوش تعيش في جميع القارات دونما أي استثناء، لذلك جاءت رسوماتهم وخرائطهم تحتوي على صور لمخلوقات عجيبة تعيش في أماكن نصف أسطورية .والأدلة على ذلك كثيرة ففي خلال القرن الثالث عشر.. قام احد الفنانين الإيطاليين برسم خارطة العالم آنذاك. وفي تلك الخارطة بالذات قام الفنان برسم أنواع متعددة من أشكال الحيوانات المنتشرة حول أركان الكرة الأرضية وخاصة في شبه القارة الهندية والحبشة. وعلى سبيل المثال هناك في تلك الخارطة وفي الهند تحديداً صور تظهر مخلوقاً عجيباً يقف على ساق واحدة. وقد أطلق الفنان على هذا الرسم اسم (ذو الساق الواحدة).
كما تضم الخارطة ايضا أشكالاً لأقزام، وعمالقة، وأشكال أناس ليس لهم أفواه، وأناس على هيئة أسود أو وحيدي القرن، أو رجال لهم آذان مبالغ في أحجامها وأشكالها.
إلى جانب هذا.. وذاك تظهر ذات الخارطة رسوماً لاكلة لحوم البشر وأُناساً لهم عين واحدة ووجوهاً قبيحة جداً. أما أشكال الوحوش التي ظهرت في ذات الخارطة فقد تمثلت بأشخاص ذوي شفاه مبالغ في أطوالها وأشكال وجوه أخرى مرعبة.. هذه الأشكال وتلك تذكرنا اليوم بالأفلام السينمائية الحديثة التي تصور لنا أناس الفضاء البعيدين عنا.
اي اننا في عالم المتعة خلال القرن الحادي والعشرين نستمتع بمشاهدة أفلام على سبيل المثال تظهر وحوشاً من الغزاة الذين أتوا إلينا من الفضاء، كالأشباح، أو التنين، أو أشكال متنوعة من الإنسان الآلي تتقاتل فيما بينها لا تختلف كثيراً عن تلك التي جاء ذكرها في الخارطة الوارد ذكرها اعلاه.
إن هذه وتلك تشبه ايضاً وإلى حد كبير المومياء المصرية أو قصص (الجن) التي جاء ذكرها في كتاب ألف ليلة وليلة، إضافة إلى قصة الغول.. كل هذه الدلائل تشير إلى أن الخرافات أو القصص الخيالية هي من إبداعات (الشرق القديم) والذي له جذور عميقة في مجال صياغة وسرد احداث الاساطبر والحكايات والخرافات.
ولكننا وفي واقع الحال نريد هنا الوقوف على اصل وجذور تلك الأساطير الثلاثة الذائعة الصيت الآن. وماذا تعني تلك الأساطير الثلاثة التي لها شعبية واسعة في جميع أنحاء العالم الغربي الحديث وهي على التوالي:
مصاصو الدماء (Vampire) والمستئذبون (Werewolf) والزومبي (Zombie).
أبطال هذه الأساطير الثلاثة ما زالت ترعبنا وتأسرنا مشاهدها بطريقة ليست لها أي مثيل أو بديل. والمتتبع لها سيجدها انها في واقع الحال قد طافت وجالت المسافات الطويلة قبل أن تصل إلينا وتحديداً الى ما يعرف بالعالم الجديد . وأنها في شكلها العام الحالي اصبحت ليس لها أي علاقة أو ارتباط بالشرق القديم. كما ان الاعتقاد السائد الان أن أساطير مصاصي الدماء والمستذئبون من أصل هنغاري أو يوناني أو حتى قد تكون من بلاد رومانيا. أما أساطير الأموات الذين تعاد إليهم الحياة (Zombies)، فيعتقد أنها أصلاً من العالم الجديد أو ما يعرف (Voodoo Traditions).
ولكن وعلى أي حال هناك أدلة وحقائق على أن هذه الأساطير الثلاثة قد جاءت إلينا من أقدم اساطير الشرق القديم ومن بلاد الرافدين تحديدا. كما سنرى ذلك ايضا عند متابعتنا الدقيقة والتحري فيما يخص حكاية (الغول) العربية التي ما زالت تظهر لنا من خلال ظلال التاريخ لتجرنا ايضاً نحو مخبأ الأساطيرالعربية القديمة التي على ما يبدو جلياً أنها من ذات الأصل.
مصاصو الدماء.. (Vampire)
مصاصو الدماء هم في العادة (وحوش) يعتاشون على شرب دماء الأحياء.. هناك قسم من الخبراء يعتقد جازما أن أسطورة مصاصي الدماء أصلها من بلاد النيل، أو الهند، إلا أن هذا الجزم غير مؤكد بسبب ضعف وقلة الأدلة.
وفي واقع الحال فإن أولى الدلائل على ظهور ما يعرف (بمصاصي الدماء) وحسب المواصفات الحديثة (الغربية) قد ظهر في النصوص القديمة لمنطقة الشرق القديم وتحديداً بلاد ما بين الرافدين أي في منطقة سومر, آشور، وأكد، وبابل، وقد ظهر هذا التأكيد في وثيقة تعود إلى حضارة سومر خلال (الألف الثالث قبل الميلاد).
الا ان المتتبع لذلك سيجد أن بلاد آشور الواقعة في شمال وادي دجلة والتي دام حكمها ما بين الأعوام (2400 – 612) قبل الميلاد سيجد أنها قد تبنت المعتقدات السومرية بما في ذلك نوعان من (الوحوش). تمثل وإلى حد جدا قريب ما يعرف بأساطير مصاصي الدماء.
تلك الوحوش كانت تعرف عند الآشوريين بأسم (أكيمو وأتوكو). تمثل الوحوش الأولى (أكيمو) الأرواح الغاضبة عند الأموات الذين لم يتم دفنهم في القبور. وإن أولئك الأموات كانوا يجوبون الأرض لحين يجدوا مثواهم الأخير تحت سطح الأرض. وهذه الحالة هي في واقع الحال طورٍ من أطوار أساطير مصاصي الدماء التقليدية والحالية.
أما الوحوش الثانية (أوتوكو) فهؤلاء من الصعب تفرقتهم عن (الأكيمو). إلا أنهم في واقع الحال يمثلون أمواتاً دفنوا ونسيوا تماماً، كما أن قبورهم حُرمت من تقديم القرابين المقدمة إليهم من عوائلهم أو محبيهم. وكنتيجة لذلك فإن (الأوتوكو) يعودون من عالم الأموات لعدة مرات للبحث عن مصدر قوتهم (الدماء) من ضحاياهم. (وهذا النوع من الوحوش يشبه إلى حد كبير المخلوقات الخرافية التي تروى في أساطير أوروبا الشرقية).
وفي بعض الأحيان وحسب الروايات الآشورية فإن (الأوتوكو) يعتبرون من مصاصي الدماء وفي أحيان أخرى يعتبرون ممن (امتصوا) القوة الحياتية للبشر. وهذا النوع الثاني يظهر لنا أيضا بهيئة (Ea-Bani) أحد أصدقاء البطل الأسطوري السومري (كلكامش) كما ورد في ملحمة كلكامش.
كما أن هذا النوع من الوحوش قد وصف وصفاً دقيقاً كمصاصي دماء تحديداً وعرفوا (بالسبعة أرواح) في رقيم طيني آشوري يرتقي زمنه إلى ثلاثة آلاف عام خلت.. ومما جاء في ذلك الرقيم بهذا الخصوص ما يلي نصه:
«هم السبعة
لا يعرفون الكنف
يلوكون الأرض وكأنها الذرة
هم لا يعرفون الرحمة
يثورون على البشر
ويسفكون دماءهم كالمطر
يلتهمون أجسادهم ويمتصون أوردتهم
هؤلاء الجن كلهم بطشا..
ويلتهمون الدماء باستمرار».
وقد ترجم هذا الرقيم الطيني الآشوري عالم اللغات المعروف (كامبل طومسن) في كتابه (السحر السامي) وأطلق على هذا الجزء (الأرواح السبعة)، لما فيها من نزعة للدماء البشرية.. وارتباطها بأساطير مصاصي الدماء المرعبة التي تعود إلى القرون الوسطى.
كما لاحظ (طومسن) أن (الأرواح السبعة) الآشورية ظهرت ثانية في الأساطير والتعاويذ السحرية في بلاد الشام وفلسطين وتحديداً خلال ما يعرف بالفترة السريانية. بدليل هناك تعويذة سريانية تعود إلى ذات الفترة (القرون الوسطى) اقتبست من الأرواح السبعة وذلك من خلال القول (نحن نذهب على أيدينا كي نأكل الأجساد ونزحف على أيدينا كي نمتص (نشرب) الدماء).
أما التعويذة الآشورية وما يليها فإنها تذكر وبصريح العبارة أن (امتصاص الدماء) هو من اختصاص أولئك الوحوش التي تتبع سير العواصف. أي أنها تشبه (وحوش الرياح) وأنها تأكل الأجساد مثل أساطير (الغول) العربية القديمة.
وقبل اسطورة الأرواح السبعة الآشورية التي تذكر مصاصي الدماء. كان هناك ما يعرف (بوحوش مصاصي الدماء) السومرية، والدليل على ذلك هو وجود رقيم طيني سومري يذكر أسماء الملوك والسلالات السومرية ويعود تأريخه إلى (2400 قبل الميلاد). يذكر هذا الرقيم أن البطل كلكامش الذي انحدر منه السومريون كان في الواقع الوحش (لولو) (Lillu)، وأن هذا الوحش كان في واقع الحال واحداً من ( أربعة وحوش) ممن كانوا من مصاصي الدماء.
وأولئك الوحوش الأربعة كانوا (ليلتو) (Lilitu)، و(ليليث) التي كانت العنصر الأنثوي لمصاصي الدماء. اما الوحش الثالث فكان (أردات ليلي)، وكان يسمى أيضاً (ليليتوس). وهذا الوحش كان يزور الرجال في الليل ويرميهم بأولاد بهيئة أشباح. أما الوحش الرابع فهو (أردوليلي)، وهو (طبق الأصل) من الرجل الذي يضاجع النساء في الليل ليحملن منه.
ومن المعتقد أن (ليلتو) الوحش الأول كان وحشا جميلاً فاسقاً يشبه إلى حد كبير (وحوش) القرن الحادي والعشرون الذين يميلون إلى امتصاص دماء الأطفال والرضع والشبان.
ومن بلاد سومر وبابل وبالتالي العبرانيين الذين تبنوا هذه الأساطير وعلى ما شاكلتها. تطورت في بلاد آشور هذه الأساطير فيما بعد اي خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد. والملاحظ أيضا أن كثير من أساطير العبرانين بما فيها الحكايات الشعبية يعود أصلها في واقع الحال إلى معتقدات بلاد الرافدين ايضا وذلك حسب المعطيات الأدبية الحديثة.
وبعد هذا الطرح هناك سؤال يطرح نفسه الآن مفاده : هل أن جميع أساطير الشرق القديم الخاصة بمصاصي الدماء لها علاقة بالأساطير الأوروبية الخاصة بمصاصي الدماء أيضاً، وتحديداً وعلى سبيل المثال قصة الكاتب (برام ستوكر) الشهيرة (داراكيلا) التي كتبها في العام (1897).. وهل هذا الاعتقاد يمكن أن نجده أيضاً في أساطير بلدان شرق أوروبا الآن؟ .إذا ما أخذنا في الأعتبار أن بلاد اليونان كانت البوابة الرئيسية لعبور ذلك الثراء (الأدبي) لبلاد الرافدين إلى شرق أوروبا.
مما لايقبل الشك هناك تراكمات من الأدلة بأن بلاد اليونان قد شهدت كثيراً من الغزو الأدبي المتمثل بالحكايات الشعبية والأساطير والملاحم الرافدينية ما بين القرن الثاني عشر والقرن التاسع قبل الميلاد.. بدليل أن المؤلف (جاريس بينكلاس) يذكر في كتابه الموسوم (الميثولوجيا اليونانية وبلاد الرافدين) أن ملاحم (هومر) والأشعار اليونانية القديمة التي كتبت في القرن السابع قبل الميلاد تظهر وبكل وضوح التأثيرات الدينية لبلاد الرافدين والتي وصلت وعلى أكثر احتمال الى بلاد اليونان في مراحل مبكرة وعلى اثر الاحتكاكات المباشرة ما بين بلاد الرافدين واليونان خلال بدايات الألف الأول قبل الميلاد. ينطبق هذا القول ايضا على الأدبيات الخاصة بالأساطير المايسينية التي ظهرت خلال نهاية القرن الثاني عشر قبل الميلاد.
إما اليونانيون وعلى ما يبدو فقد طوروا ما يعرف بأساطير (مصاصي الدماء) الرافدينية وتحديداً ما يعرف بالوحش (ليليتو) والذي يطلق عليه (لامينا) تيمناً بالوحش المولود في (ليبيا) والذي أرهب أوروبا. إن هذا المخلوق العجيب له وجه والقسم الأعلى لامرأة، أما ذنبه فيشبه ذنب الثعبان، وأن هذا النوع من الوحوش يستطيع إخفاء نفسه بعد تحوله إلى هيئة امرأة.. وكان هذا النوع من الوحوش يعمد على ابتلاع الأطفال وسلب قوة الحياة من الرجال.
أن المتتبع لأساطير مصاصي الدماء التي ظهرت في شرق أوروبا سيجد أن (رومانيا) تملك إرثاً غنياً بهذا الخصوص ونظراً لموقعها الجغرافي المحاط بالجبال، فقد نشأت أو تأثرت بالأساطير القديمة والتي كان من ضمنها اسطورة (دراكيولا) التي عرضت في العام (1931)، كفيلم سينمائي والذي يعكس شخصية (دراكيولا) الذي عاش في العام (1476). والأسطورة كما يبدو مستنبطة من قيام أحد النبلاء بإعلان الحرب ضد الأتراك والذي قتل منهم أكثر من عشرين ألف جندي، (أي أنه كان متعطشاً للدماء) إلا أنه لا أحد يذكر إن ذلك (النبيل) كان من مصاصي الدماء.
وعلى ما يبدو فإن أساطير (مصاصي الدماء) في رومانيا قد تأثرت بالأساطير اليونانية والرومانية القديمة والتي اقتبستها من بلاد (بلاد الرافدين) تحديداً والأدلة على ذلك كثيرة وخاصة التعابير اللغوية.
هناك في المتحف البريطاني منحوتة حجرية ببعدين تعرف (بمنحوتة برني) تعود الى العصر البابلي القديم. على تلك المنحوتة وبالنحت البارز هناك شكل يمثل الوحش (ليليتو) والذي يطلق عليه (ملكة الليل) والتي هي عبارة عن أنثى لها جناحا طير ومخالب نسر. وكما هو معلوم فان (ليليتو او ليليث) هذه لها علاقة مباشرة باساطير بلاد الرافدين الخاصة بما يعرف بالوحوش القاتلة.
المستئذبون: (Werewolf (
إن أقدم ما جاء لنا من أدبيات خاصة بمسخ البشر وتحديداً تحويلهم إلى ذئاب يعود في واقع الحال إلى ملحمة (كلكامش) السومرية أيضا.والتي هي في واقع الحال أقدم (ملحمة) كتبها الإنسان والتي يعود تاريخها إلى أكثر من أربعة آلاف عام خلت.
كتبت هذه الملحمة أصلاً في إثني عشر رقيماً طينياً كقصة تدور حوادثها حول الملك السومري كلكامش ملك مدينة الوركاء الواقعة في جنوب بلاد الرافدين.
تذكربعض من نصوص الملحمة أن الآلهة السومرية (عشتار) حاولت كسب ود كلكامش إلا أنه رفض ذلك، بعد أن ذكرها بالمآسي التي ارتكبتها بحق عشاقها من قبله حيث قال لها:
«لقد أحببت الراعي – سيد الرعاة
والذي كان يهديك وباستمرار الخبز (المحمص) على الجمر
والذي كان يذبح لك في كل يوم (حملاً)
لقد هجرته.. ثم مسختيه إلى ذئب
ومنذ ذلك الحين حتى رعاته يطاردونه
وحتى كلابه تنهش بساقيه …»
أن عالم اللغات القديمة (يوليوس أوبرت) يؤكد أن الاعتقاد بمسخ الإنسان بهيئة ذئاب كان منتشراً على نطاقٍ واسع في بلاد آشور بعد بلاد سومر، ثم انتشر لاحقاً في بلاد بابل. وإن هذه الحالة الواسعة الانتشار كانت وما تزال تعرف (بالاستئذاب).
ومن أقدم الوصفات الطبية لهذه الحالة تعود إلى العصر البيزنطي وتحديداً في نهاية القرن السابع الميلادي. والتي جاء فيها وصفاً إلى أسطورة يونانية تذكر أن الإله (زيوس) تحول إلى ملك ثم إلى ذئب هائج محتدم.
إن هذه المعتقدات الخاصة بمسخ الإنسان إلى ذئب مثل معتقدات مصاصي الدماء ظهرت في بلاد سومر ثم في اليونان والدليل على ذلك هو المثال أعلاه.
ولزيادة في الايضاح يذكر المؤرخ الروماني الكبير (بليني) في كتابه (التاريخ الطبيعي) أسطورة أو بالأحرى معتقداً يونانياً له صلة بمسخ الإنسان إلى ذئب. حيث تقول تلك الأسطورة إن رجلاً من عائلة (انتائس) الذي وقع عليه الاختيار من كثير من الناس أخذوه إلى بحيرة (أراكاديا)..
وعند وصوله إلى البحيرة خلع ملابسه وعلقها على شجرة ثم باشر بالسباحة، باتجاه الضفة المقابلة للبحيرة.. وعند وصوله إلى هناك تحول إلى ذئب.. لقد تعجب لشكله هذا لمدة تسع سنوات متتالية عاش خلالها مع قطيع الذئاب.
وخلال تلك السنوات المنقضية لم يهاجمه أي إنسان.. بعدها عاد سباحة من حيث أتى وعاش في مدينته (أراكاديا) عيشة راضية.
كما أن المؤرخ الكبير(بليني) كتب عن مسخ الإنسان إلى ذئب في كتابه الموسوم (التاريخ) والذي وصفه بأنه تقليد (شائع) بين (أقوام نيوري) والذين هم على أكثر احتمال من سلالة (السلافك) الذين كانوا يقطنون شمال شرق منطقة (سكتيا) والذين تبنوا عادات (السيثيون).
كما يذكر (هيرودتست) أن أولئك القوم مارسوا السحر بدليل أن من بين معتقداتهم تحولهم مرة في كل عام ولعدة أيام معدودات إلى (ذئب).
وقد علق هيرودتست بالقول (إنني لا أؤمن بهذه الحكاية.. ولكن تقال على لسان كل واحد منهم والبعض يقسم أنها حقيقية وليست خيال). وهذه المعتقدات لها جذور عميقة في بلاد الشرق القديم أيضاً.
وبعد الدراسات تبين كذلك أن أساطير (المستذئبين وأساطير مصاصي الدماء) القديمتين كانتا لهما جذور واصول تعود الى الادب السومري لا محال. ثم تبناهما من بعدهم البابلين ثم الاشورين قبل انتشارهما في انحاء الشرق القديم وظهورهما ثانية خلال ما يسمى بالعصور الوسطى ومن بعدها العصر الحديث.
وقد ظهرت بوادر هذه التأثيرات وعلى سبيل المثال لا الحصر خلال انتشار وباء الطاعون في شرق أوروبا. وقد أطلق على تلك السنوات (سنوات الطاعون) والتي حدثت ما بين (1300 – 1700). وخلال ذلك الوباء كانت جثث الأموات من البشر تحرق ظناً منهم بأنه قد تعاد لها الحياة ثانية وتتحول إلى (مصاصي دماء) أو إلى (ذئاب مفترسة). وهذا الأعتقاد في راينا لم يأتي من فراغ .اي ان له جذور تمتد الى الأعماق ااتت اليه من بلاد الشرق.
بدليل وعلى ضوء هذه الأحداث يذكرلنا كاتب (الفلكلور الفكتوري) – سابن برنك – كولد : أن أساطير أو حكايات مماثلة قديمة منها حكايات (الغول) العربية قد ظهرت الى الوجود في ذات الوقت ايضا . أما المؤرخين الآخرين فيذكرون حكايات مشابهة والتي منها.
أنه بعد الحرب الطويلة في بلاد الشام خلال العصور الوسطى كانت تظهر خلال الليل مجاميع من الأرواح الشريرة الأنثوية في حقل المعركة. وكانت تلك الأرواح تنبش بسرعة مطلقة جثث القتلى من الجنود وتلتهمها بالكامل. وكان الجند يلاحقونهم ويقتلون البعض منهم، ولكن واثناء النهار فإن تلك (المخلوقات) كانت لها هيئة الذئاب أو الضباع.
وعلى ما يبدو فأن العرب لهم أيضاً أساطير الاستذئاب في حكاياتهم الشعبية (كالقطرب) وأن هذه الكلمة أو الوصف هو في الأصل مشتق من كلمة يونانية (ليكاثروبوس) (Lycanthropes) أو الرجل الذئب.
كما يذكر(أدوردلين) عند ترجمته لكتاب (ألف ليلة وليلة) أن فحل الغول يسمى بهذا الاسم في (ألف ليلة وليلة). وفي المعتقدات السائدة (بالقطرب) هو إما رجل أو امرأة (الذي) يتحول او تتحول إلى ذئب مفترس والذي كان يقتات على جثث الأموات إلا أنه ليس ذئباً في حد ذاته.
وفي الواقع فإن (القطرب) كان المصطلح العربي لما يعرف بـ (Lycanthropes) خلال بدايات القرن العاشر الميلادي، بدليل أن أحد الكتاب كتب في دائرة المعارف الطبية أن الطبيب العربي أبوبكر محمد الرازي قد وصف كغيره (Lycanthropes) بأنها حالة إخلال في الدماغ أو أنها بالتعبير الطبي (psychosis) اي (غير الواقعيين ) أكثر من كونها تغير طبيعي.
لقد وصفها الطبيب العربي( الرازي ) بأنها حالة من الجنون. يعتقد المبتلى بها أنه (ذئب) ولعلاج هذه العلة هو إعطاء المريض بها الأفيون كي يرقد المصاب بها طويلاً إضافة إلى الاستحمام، إضافة إلى إشعاره بالسعادة المفرطة للعمل على إنعاش المخ.
من هذه المدلولات تم التأكيد أيضاً أن ما يعرف بأساطير المستذئبين تعود جذورها أصلاً إلى بلاد الرافدين والتي منها انتقلت عبر اليونان إلى أوروبا ومن ثم إلى( العالم الجديد) الذي تبناها وروج لها عبر وسائل اعلامه المتطورة حديثاً.
الزومبي : Zombie
إن معنى مصطلح الزومبي في الأساطير القديمة يعني إحياء السحرة والمشعوذين للأموات. والملاحظ أن طريقة الشعوذة هذه ما زالت تستعمل في بعض مناطق غرب القارة الأفريقية. وعند قيام الأموات من قبورهم (بقوة) المشعوذين والسحرة يكونون وفي العادة كلياً تحت سيطرتهم بدليل أن بعضهم يقوم بحراسة الممتلكات، أو إرهاب الناس أو توجيههم للقتل في بعض الأحيان.
ولقد عرف تعبير (زومبي) على نطاق واسع في الولايات المتحدة تحديداً في العام (1929) من خلال رواية نشرت تحت عنوان (الجزيرة السحرية) التي تسرد أبعاد (الزومبي).
وفي عالمنا الحالي نرى أن كثير من أساطير الزومبي تعرض على شاشات الأفلام السينمائية والتلفزيونية وحتى أشرطة الفيديو إلا أن هذه المشاهد هي في واقع الحال لا تعكس ذلك المخلوق الذي ورد وصفه في الأساطير القديمة.
والمتتبع لأحداث قصص (الزومبي) الحديث التي تعرض في الأسواق بجميع أشكالها وأساليبها وسياقاتها سيجدها جميعها تجارية بحتة والأدلة والبراهين كثيرة على ذلك.
ولكننا إذا ما أعدنا تقييم هذه الأسطورة سنجد أن لها تأريخ عميق يرجع كأسطورة (مصاصي الدماء، والمستذئبين ) إلى ملحمة (كلكامش) السومرية، بدليل أن توترات الملك كلكامش مع الآلهة (عشتار) أفرزت وصف كلكامش لها أحد ممرات العالم السفلي بالقول الآتي:
«إذا (الإله) لم يفتح لي البوابة للولوج منها
سأقوم بكسرها والقفل
كما سأحطم اعمدتها
واقتحم البوابات
وسأجلب الأموات كي تأكل الأحياء
وأن الأموات سيكونون أكثر عدداً من الأحياء ..»
والملاحظ أن بعضاً من كتاب القصص الخيالية قد اقتبست من ملحمة كلكامش فيما يخص هذا السياق بالقول (عندما لم يكن هناك مكاناً للأموات في الجحيم ستسير الأموات إلى الأرض) «كتاب: فجر الأموات» Maberry. J»
إن كثير من الباحثين في الأساطير العربية الكلاسيكية وجدوا مخلوقاً غريب الأطوار يعرف (بالجني) والذي أدخل في قواميس اللغة الإنجليزية بهيئة (جيني) Genie.
إن هذا المخلوق تتغير أشكاله لعدة قوى بشرية خارقة والتي جميعها على الأغلب لها علاقة مباشرة بالسحر والشعوذة. ولكن وفي ذات الوقت تذكر تلك الأساطير أن هناك جني (Geni) صالح وآخر طالح، أما (الغول) فهو المصدر الأكثر إيذاءً.
والملاحظ أن كثير من (الغول) تظهر أو بالأحرى توصف أو تصور في التقاليد العربية الكلاسيكية أنها تكمن في الكهوف وفي الصحاري النائية وهي بانتظار لابتلاع المسافرون .
أما أنثى الغول (الغولة) فهي محببة في الحكايات الشعبية العربية والتي يتحول شكلها إلى امرأة جميلة والتي تتزوج من رجل فاق كل التوقعات وتنجب منه الأطفال.
وفي ذات السياق كتب (جيرالدوو فوناري) في العام (1846) كتاباً بعنوان (تاريخ الشعوذة) يذكر فيه حكاية أسطورية حول غول في (العراق) عاش خلال القرن الخامس عشر للميلاد. ومن بين ما جاء في تلك الأسطورة أن أحد أبناء تجار بغداد تزوج من امرأة جميلة دون مباركة أبيه لزواجه.
وبعد مدة من زواج ذلك الابن العاق اكتشف أن عروسه كانت تقوم بزيارات مشبوهة إلى إحدى المقابر القريبة. وفي إحدى الليالي الظلماء تبعها سراً كي يقف على ما تقوم به دون علمه لحين وقفت عند أحد الاضرحة.. وهناك وجد عند الضريح مجموعة من (الغول) يعبثون بالقبور وينهشون بأجساد الأموات ومن بينهم كانت زوجته. ومن هذا المشهد أدرك الزوج لماذا لم تأكل زوجته أي طعام من عشائها.
في اليوم التالي واجه زوجته بالحقائق وإنها كانت مثل( مصاصي الدماء)، إلا أنها حاولت اقتحام شرايينه كي تمص منها دمائه، إلا أنه طرحها أرضاً ثم قتلها بضربة قاضية.
وفي اليوم التالي قام بدفنها، وفي منتصف ليلة اليوم الثالث من بعد دفنها ظهرت له ثانية وحاولت مص دمائه مرة أخرى. إلا أنه هرب منها، وفي اليوم التالي وجدها مقبورة في قبرها.
وبعد أن أخرجها من قبرها أحرق جثتها ثم نشر رمادها على ضفاف نهر دجلة وبذلك تخلص من شرها.
إن مثل هذه الحكاية الخيالية والتي يعود تاريخها إلى القرون الوسطى وما قبل ذلك كثيراً ما تعكس العبث بالأموات وأعمال (الغول) المرعبة كما يقول الكاتب (بارنج جولد) وهناك مثال آخر على ذلك يذكره الكاتب وهو موضوع الأساطير المرعبة المسردة بطريقة رومانسية كما ورد في النص أدناه.
«هناك على ضوء القمر أشكالاً غريبة الأطوار أراها تسرق القبور.. بعد ان تحرث بمخالبها التراب كي تصل إلى جثث الأموات، ثم تحرث وتحرث حتى تصل الى الأعماق .انهم يبحثون عن أجساد الأموات لعمل تعويذة أو أعمال سحر إلا أن في عملهم هذا يوقظون الأموات من سباتهم ويقلقون راحتهم.
وهناك ايضا أمثلة كثيرة متشابهة ومتطابقة مع بعضها فيما يخص عبث (الغول) بالأموات في الأساطير العربية القديمة إلا أن أهمها على ما يبدو ما جاء منها في القصة الشعبية اليمنية المعروفة ب(سيف بن ذي يزن) والتي وقعت احداثها وحسب الروايات ابان حكم الدولة الحميرية اي خلال القرن السادس الميلادي.
والذي جاء فيها: «وعندما أبصر بعينيه شاهد شيخاً يقترب منه، كان ذلك الرجل يبدو بشعاً حيث كان وجهه مستديراً كالدرع وفكيه وأنفه أشبه ما تكون بحجم فكي وأنف الجاموس وله أنياب بارزة كالكماشة، وأذناه كانتا أشبه ما تكونان بالمنجنيق، وله (مخالب) وكأنها خناجر. أما الشعر الذي يغطي جسده فكأنه الحسك.. أما عينيه فكانتا تشبهان شق اللهب الأحمر، كانت ابتسامته تنبع منها الشر والبشاعة.. وكان وجهه عموماً يشع بشاعة وشراً.»
إن هذا الوصف في واقع الحال لا يشبه (الزومبي) الذي نشاهده في الأفلام السينمائية في الوقت الراهن.. إلا أن تاثيره قريب جداً إلى تاثير (الزومبي) الحديث بصورة عامة.
وفي الختام وبعد هذه الوقفة السريعة على اساطير (مصاصي الدماء، والمستذئبين والزومبي) والتي سلبت ولا تزال تسلب ألباب الغرب كماغزت مكامن ثقافتهم الخاصة بما يعرف بالأدب الشعبي الغربي وقفنا وبكل الأبعاد على اصل هذه الأساطير الثلاثة فوجدناها انها تعود اصلا إلى آداب بلاد الرافدين وتحديدا الادب السومري القديم.. قبل ان تعم مختلف مناطق العالم القديم مروراً بالأدب اليوناني والروماني والآداب العربية القديمة الخاصة بالأدب الشعبي ثم اجتازت المراحل التاريخية لتصل إلى يومنا هذا بأبعاد جديدة وتقنيات حديثة كي تشد المشاهد اوالقارىء اوالسامع اليها بكل الأبعاد وعلى حد سواء.
والملاحظ أنه خلال تجوال هذه الأساطير الثلاثة (السومرية الأصل) في بلدان وأصقاع مختلفة الابعاد الثقافية والجغرافية والعرقية عبر الدهور والأزمان فإن كل بلد من تلك البلدان أدعى أو يدعي أنه صاحب الفضل بنشر أو بابتكار تلك الأساطير
ناسين أو متناسين أن سطور التاريخ بهذا الخصوص هي أصدق أنباء من أي ادعاءات ليس لها اي اصول او جذور ثقافية تمتدان في اعماق التاريخ….
د.منير يوسف طه