«أنا مريض». يقول ذلك باستمرار.
«العجز الذي تعاني منه ليس فيزيائياً. إنه نفسي. أنت تنسحب من واقعك إلى المرض، أنت تهرب». هذا هو ردّ الطبيب النفسي الذي لجأ إليه بعد أن فشل كل الأطباء الآخرين في تشخيص مرضه.
كان قد راجع طبيبَ قلبٍ وطبيبَ أعصابٍ أيضا، لا بل أطباء من كل التخصصات ما عدا طب الأطفال والأمراض النسائية. لم يفلح أحدهم في نسبة مرضٍ جيدٍ إليه. كان مستعدا لتقبل أي مرض، لكن الأطباء جميعاً لم يتعاملوا مع آلامه بجدية، أو بالأحرى فشلوا أمامها. كان الحل الوحيد أمامهم هو تسخيف آلامه ونسبتها إلى علّة نفسية.
لا يستطيع الأطباء على ما يبدو التعامل مع مرض جديد لم يدرج بعد في كتب الطب الغليظة، ولا يريدون تكبد عناء البحث فيها للعثور على ذلك المرض النادر الذي تنتظم تحته الأعراض المشتتة التي يعاني منها.
اغتاظ. فقد أراد أن يكون مريضاً فعلاً حتى يكون الحلّ هو تناول كميـة من الأدويـة أو النـوم في المستشفى بعيداً عن البيت لبضعة أيام ليشفى بعدها، ويبدأ حياتـه من جديد. أما أن يقول له الطبيب «أنت تهرب»، فكيف بوسـعه أن يتوقف عن الهروب إن كان يهرب فعلا؟
بدا له أن الطب النفسي علم عديم الجدوى، فبدأ يسخر من ممارسيه، ويقول إنه يستطيع أن يفتح عيادة للطب النفسي ليتسلى بالاستماع إلى الناس وهم يحدثونه بألم شديد عن أخصّ خصوصياتهم وتفاهاتهم النفسية، وبعد أن يملّ من تكرارهم للقصة، ذلك التكرار الذي يتوهمون أنه يجعل آلامهم جديرة بالتصديق، يلخص لهم الأمر بأنهم يهربون، ينسحبون من الحياة، يعودون القهقرى إلى رحم أمهاتهم.
يعرف أنه، وهو الفنان المثقف، يجب أن يكون سعيداً إذا ما اكتشف الطبيب النفسي أن لديه عقدة أوديب، فذلك يعني أن شلال الإبداع عندما يتدفق سيغرق الشارع. أما وأنه ليس متعلقا بأمه في واقع الأمر بل يهرب دائماً من شتائمها وقسوتها وأميتها، فهو متأكد أنه لا يعاني من عقدة أوديب. فكيف يمكنه أن يعشق أما ًكانت تقول له كل صباح وهو خارج إلى العمل: «الله يغضب عليك.. سوّدت وجهنا بمنظرك..»، ذلك لمجرد أن شعره طويل؟ لن يقصه نكاية بها وبكل نساء الأرض اللواتي يعتقدن أن الرجال ذوي الشعر القصير أكثر رجولة منه. فليكلن إليه التهم كما شئن. لن يضيره ذلك شيئاً.
«يجب أن يتحمل الفنان رفض المجتمع لحريته». يقول ذلك ليهزأ من نفسه، فهو يعرف أن الفنان الذي يتحدث عنه ليس لديه فنّ بعد؛ لديه شعر طويل فقط. إنه قادر على السخرية حتى من نفسه، فهو يفهمها ويطلّ عليها جيدا.
يتذكر طفولته دائماً: يعبئ جيوبه الصغيرة بالتراب قبل أن يعود إلى البيت. يفعل ذلك كل يوم رغم يقينه أن أمه لن تتوانى عن ضربه وتوبيخه مرة أخرى. لكنه يتأمل في كل مرة أن تســتقبله بحبّ رغم قذارته، لكن دون جدوى، فحبها لكل الناس، ولا سيما لأبيه، كان دائماً ذا شروط صارمة.
الأسوأ من ذلك هو أن أمه لم تكن تعرف للفرح طريقاً، رغم أنها ذات وجه نَضِر متورّد يشي بأنها امرأة لن تموت. أما ملابسها فكامدة الألوان دائما، وأحاديثها ليست إلا استجلابا للنكد والغم. وإذا ما نفدت من أعماقها مبررات الحزن المباشرة وغير المباشرة، فبإمكانها أن تفتعله بأن تحزن على الأسماك التي تبتلعها الحيتان في المحيطات البعيدة، لكن ليس لأن قلبها متقد بالرحمة بل لمجرد ولعها بالحزن لذاته.
راقب أمه وهي تمتص روح الحياة من أعماق أبيه المسكين رويداً رويداً عبر السنوات بنكدها وحزنها الدائمين واحتقارها المبطن له إلى أن مات.
إن أمه قاتلة. لكنه يحاول أن يتناسى ذلك.
استعار في أحد الأيام بذلة سوداء من أخيه ليتمكن من حضور عزاء أم صديقه جورج في الكنيسـة لأن بعض المسيحيين، حسـبما قيل له، يتركون وجه الميت مكشوفاً ليراه المعزون لآخر مرة. لم يفعلون ذلك؟ هل يمتعهم أم يحزنهم تأمل شحوب الموت الجميل؟
لطالما تساءل حول إصرار الناس على إلقاء نظرة أخيرة على موتاهم. بدا له وكأنه سلوك لا علاقة له بالحزن. إنه يشبع غريزة ما، غريزة تداعب خوفنا من الموت في اللحظة التي نطلّ فيها عليه من خلال وجه نعرفه جيداً وقد تجمد في لحظة شحوب أبدية تشبه في جمالها تلك اللحظات التي يلتقطها الفنان المبدع ليخلدها بريشته.
هروب!
هروب من ماذا؟ إنه مقتنع أنه على الأقل لا يهرب من زوجته هيفاء، بل يهرب من الاستسلام لنموذج النساء الذي اكتشف بعد فوات الأوان أنها تمثله. فكر للحظة أنه ربما كان يحول الهرب من الرسم، لا من هيفاء، إلى مرض يحملها مسؤوليته. ثم يفكر أكثر، ويقرر أنها بالتأكيد غير مسؤولة عن عجزه عن الرسم، فهو قادر على إنصافها في تفكيره حتى عندما يكون غاضباً، لكنه في المقابل لا يجد متعة في تذنيب نفسه وجلدها أكثر من اللازم، فهو متأكد أنها مسؤولة عن تعاسته كرجل، فقد خدعته. تبين له بعد زواجه منها أنها ليست تلك المرأة التي شدته يوما ما، يوم التقاها صدفة، وهو نازل على الدرج من بيت صديقه. كانت هي تذرع الدرج صعوداً ببنطالها الجينز وبعينين مثبتتين على موطئ قدميها، فارتطمت به أو كادت. قالت بصوت مكبوت لاهث: «آسفة..»، وأزاحت بيدها خصلةً من شعرٍ غطت عينيها. لفت نظره الإهمال في تمشيط شعرها، وشحوب وجهها، والزغب الذي يغطي يدها الممسكة بالدرابزين والذي يشبه وبر الحيوانات، والأهم من ذلك كله رائحة العرق الخفيفة التي ارتطمت بأنفه وحركت شياطينه. أسرته تلك الصورة للمرأة العفوية الطبيعية ذات الأنوثة المهملة، فأيقن أنها اللبؤة التي ستستطيع العيش مع الأسـد في مغارة بعيدة بشروط الغابة فقط. إنها المرأة التي سـتوقظ شيطان الفن النائم في أحشائه.
يسأل نفسه الآن: «أين هي تلك الأنثى؟». كل شيء في بيتهما وعلاقتهما لا يمت إلى الطبيعة بصلة. تفوح رائحة الصابون من كل شيء. لم يعد لفراشه رائحة خاصة. حتى عندما يخلع حذاءه لم يعد يشتم تلك الرائحة المميزة لجواربه، فقد أصبحت بعد الزواج من القطن الفاخر.
فقدت الحياة رونقها.
سمع زوجته تنصح جارتها: «لا تستعملي الكلور لتلميع السيراميك. يصبح باهتاً بدون لمعة. الصابون يكفي».
يتساءل: كيف يمكن للفنان أن يحتمل الاستماع إلى أحاديث كهذه كل يوم؟ وكيف يستطيع أن يتجرع حياة مشبعة برائحة الصابون؟
الأهم من ذلك كله أن المال الذي ورثته هيفاء مؤخراً لا فائدة ترجى منه في حياتهما المشتركة سوى تأكيد فقره إزاءها. إنه مال لا يضيف لحياتهما أي سعادة، فهو لا يستثمر إلا في إذلاله. كم كان صديقه رؤوف محقاً عندما قال إنه يجب أن لا يسمح للنساء بالتملك، لأن المال يجعلهن متجبرات. فلا يحق مثلاً للرجل الذي ينتفع من مال المرأة أن يكابد حالة من تبدل المشاعر أو الفتور العاطفي تجاهها. هي تتوقع منه التظاهر بالوله الشديد تجاهها في السر والعلانية ليرضي غرورها الخاص والعام، رغم أنه لا يمكن للرجل أن يحب بصدق امرأة تشتري له جوارب فاخرة من فلوسها، كما لا يمكن للفنان أن يبدع في مرسم أول شروط الإبداع فيه هو رفع شعار الولاء للمرأة التي أوجدت ذلك المرسم، وتستطيع حرمانه منه في أي لحظة.
خصصت له هيفاء غرفة للرسم، غرفة ستصبح للأطفال فيما بعد، عندما يسقطون بأمر إلهي من السماء. هو يعرف أنها تحمله مسؤولية خلو بيتهما من الأطفال، وتذكره بذلك بصفاقة كلما احتضنت تلك الدمية البلاستيكية الكبيرة لطفل رضيع ببلاهة فتاة في التاسعة.
مرسمه لا يحفزه على الرسم، فهو نظيف أكثر مما تحتمل ريشة فنان يريد أن يأتي قماشته بوحشية. كيف يمكن للرسام الحرّ أن يحسب حسابا للنظافة؟ من الصعب أن يبدع الفنان تحت هاجس عدم توسيخ المكان.
ما من مرسم نظيف. إنه متأكد أن مراسم الفنانين الكبار لا تعرف النظافة. لكنه رغم ذلك التزم بأوامر هيفاء، ولم يلوث شيئا. تجرأ وعلق على جدران مرسمه ملصقين كبيرين لمونش، أحدهما للوحة «الطفلة المريضة» والآخر للوحة «الصرخة». فكم يحب شحوب المرض وشحوب الخوف، وكم يودّ لو استطاع أن يرسم وجوهاً رومانسية شاحبة وملتاعة بروعة تلك الوجوه المحتضرة التي يرسمها مونش وغيره من الفنانين الكبار.
يتأمل لوحاتهم ويشعر بالعجز والصغار إزاءها.
أكثر ما يثير أعصابه هو إحساسه بأن هيفاء تستمتع بإعطائه دروساً عن دور الإرادة في النجاح لأنه يعتبر أن الهدف الخفي وراء تلك الموعظة البالية هو تذكيره بأنه غير قادر على استجماع قواه لرسم لوحة واحدة في الوقت الذي بدأ فيه زملاؤه بإقامة العديد من المعارض الشخصية، وبدأت لوحاتهم تدر عليهم نقوداً. أما هو فلا زالت القماشة المنصوبة على قائم الرسم بيضاء وشاحبة منذ تزوجا.
يدعي أنه سيصبح أهم رسام في العالم، لكن تمر الأيام والشهور وهو بعد لم يرسم سوى خربشات. تركز هيفاء النظر في عينيه وتقول له: «ارسم»، فيقول في نفسه: «ما أنا براسم!» لأنه يُستفزّ عندما تفعل ذلك، وتتكسر الريشة في يده من شدة الغيظ، فهو لا يريد أن يرسم شيئاً بوحي منها أو انصياعاً لأوامرها. يريدها أن تكف عن حثه على الرسم. فإذا كان الرسم سيجعله جديرا بها، فهو بالتأكيد لن يرسم لأنه لا يريد أن يرسم من أجلها، ولا يريدها أن تتوهم أنه يحاول أن يكون جديراً بها، بل يريدها أن تشعر رغم ثرائها، ورغم عجزه وفقره، أنها غير جديرة حتى بفشله.
يريد للرسم أن يكون حربه الضروس ضدّ زوجته وعالمها المادي، خيانة لها، خيانة لمديره في العمل الذي لم يوص له بزيادة في الراتب منذ أعوام، خيانة لكل الأنذال الذين يضعونه في مرتبة ثانية دون وجه حق. يجب أن يكون الرسم كفراً بما يمثلونه، يجب أن يكون تمرداً على سـطوتهم.
يفكر: عندما يصبح فناناً معروفاً ستتهافت النساء عليه كما كن يتهافتن على بيكاسو ودالي وغيرهما. فالمرأة لا تؤاخذ الفنان عندما يكون نذلاً، لكنها تحاسب أي رجل آخر حساباً عسيراً على خياناته لأن الفنان وحده هو القادر على إنقاذها من الفناء بعد الموت من خلال أبدية الفن.
يحاول أن يخون زوجته، لكنه لا يستطيع أن يرتكب خيانة كاملة، فحتى الأخريات بعد أن يصبحن قريبات أكثر من اللازم يولدن لديه شعوراً بالاختناق. يهرب من الحصار الذي يفرضنه حوله. يهرب من رائحة عطرهن الفاخر. لا يطيقه لأنه يعني أن الحب معهن يجب أن يكون مرتباً كوجبة أنيقة في مطعم فاخر يُطرد من لا يأكلها بالشوكة والسكين. تفسيخ الأكل باليدين وعضعضته بوحشية طقوس تخص أسود الغابة فقط.
يقرر أن يبدأ برسم وجهه الشاحب في المرآة، لكنه يتضايق، ويجد لنفسه ألف عذر لهجر قماشته التي كانت أكثر شحوباً من وجهه.
يقول إنه يحتاج إلى مكان معزول وهادئ للرسم لأن الضجة التي تحدثها هيفاء في البيت، ابتداء بصوت قرقعة الأواني وهدير غسالة الملابس وانتهاء بصوت التلفزيون، تعكر مزاجه الفني. لكن بياض الورق وشحوب لون قماش الرسم يرعبانه عندما يتاح له أن يكون وحيداً في البيت. فتجتاحه نوبة من الجوع، فيدس رأسه في الثلاجة بحثاً عن الأطعمة أو يهرول إلى السوبر ماركت ليبدأ بالتسوق وشراء ما يلزم وما لا يلزم، وربما المزيد من الألوان والفراشي، حتى لا يكون عدم توافرها أو كفايتها سبباً في عدم تمكن شيطان الفن من الانطلاق إذا ما قرر أن يستيقظ في ساعة متأخرة من إحدى الليالي. وبعد أن يتعب من التسوق يتحدث بالهاتف مع أصدقائه، ويرتب مواعيد لتضييع الوقت معهم في المقاهي. يبحث في وجوههم عن ذلك الإحباط الخفي الذي لا تلتقطه إلا عين الفنان، فهو يكاد يجزم أنهم جميعا يتظاهرون بالتمرغ في العسل، وأنهم ليسوا إلا أسوداً في غابات وهمية. كما أنه يعتقد أن صديقه علي هو الأكثر تعاسة بين أصدقائه جميعاً لأنه لا يجرؤ على مخاطبة زوجته أمام الملأ بغير كلمة «حبيبتي». إنه لا يستبعد أنها تذكره بعيد ميلادها كل عام لئلا ينسى أن يرسل لها زهوراً إلى مقر عملها لتعتقد زميلاتها أن العشق في حياتها مادة لا تفنى لكنها تُستحدث باستمرار.
هروب إذن!!
أيجب أن يطمئن المريض عندما يقول له الطبيب إن مرضه مجرد هروب من المواجهة. مواجهة ماذا؟
يا لتفاهة أطباء النفس. إنه يعتبرهم الأكثر مرضاً وعجزاً لأنهم الأكثر إطلالاً على عُقَدِهم. ينتقمون لأنفسهم من خلال كل مريض يدخل إلى عيادتهم ليعترف لهم بأنه عاجز. هو يكاد يقسم أن الطبيب يفرح عندما يكتشف أن عدد العاجزين في العالم في ازدياد مستمر. يطمئنهم ذلك على أنفسهم.
هل يعتقد ذلك الطبيب التافه أنه خائف من مواجهة زوجته، تلك المرأة التقليدية؟ لو كانت امرأة متمرسة في شؤون الحب أو قادرة على اللعب ولو قليلا لربما توجس من بدائية مناوراته الغرامية، أما مع امرأة تريد للحب أن يكون مؤدبا بمواصفات ومقاييس معينة وضمن حدود صارمة رسمتها أمها لهما مسبقاً، فمم يخاف؟ ولم يعرض رجولته للمهانة؟
يربت على كتف شيطان الحبّ في أعماقه لينام نوماً عميقاً عندما تطالعه هيفاء ليلاً بابتسامتها البلاستيكية مرتدية ثياباً يفترض أن تكون مغرية. إنها بعد لا تعرف كم يكره اللون البنفسجي لكنها ترتديه بإصرار. جلدها تحته يبدو أزرق اللون مما يشعره بالغثيان. إنه لا يزال يذكر زميلاته في الكلية اللواتي كن يرتدين بنطلونات الجينز ويجلسن على الأرض. إنهن نموذج الأنثى التي يحب. أما المرأة التي تطلي نفسها ليلاً بالمساحيق وتدسّ نفسها في بقايا ثوب فإنها تغيظه برخْصها الذي يجعلها مستعدة في كل الأوقات لتأدية واجبها تجاه زوجها امتثالا لنواميس المجتمع الذي يراقبهما من الشباك ليتأكد أن كل شيء بينهما يسير كما يريد. إنه متأكد أن أم هيفاء، وجاراتها لغاية سابع باب، وفتحية، وفايزة، ولينا، ورابحة، وربما أخريات، يعرفن تفاصيل التفاصيل عن كل ما لا يجري في عش الزوجية. كلهن يؤدين دور المومس الفاشلة في آخر الليل لذلك الذكر الذي دوَّن اسمه في عقد الزواج. أما هو فإنه عندما يطلب من زوجته أن تكون امرأة حرة كلبؤة برية، فإنها تنظر إليه ببلاهة واستنكار، وكأنه يدعوها إلى الانحلال الخلقي.
يقرر أنه لا يستطيع أن يحب المرأة التقليدية التي تحضر بصفاقة، فهو يحب المرأة الحرة التي لا تحضر بسهولة، وربما المرأة المستحيلة باهتة الملامح التي يجب أن ينتظرها إلى الأبد. رجولته تحتاج إلى مناورات ذهنية وألاعيب حسية لم تسمع عنها زوجته.
إن هيفاء تعرف أسماء صديقاته وتفاصيل كل خياناته لها، لكنها تتمســك به رغم ذلك ورغم تهديده المستمر لها بالطلاق.
يتساءل: أهو الحب الذي يجعلها تتشبث به أم خوفها من أن تصبح مطلقة؟ إنها لا كرامة لها حقا. يقول لنفسه دوما: «لو كنت مكانها لهجرت ذلك الرجل، الذي هو أنا، منذ زمن بعيد». أيجب أن يكون ممتنا لتمسكها به رغم كل خياناته لها؟ حسـنا، سيشعر بالامتنان، أما الحب فلا. إنه ليس بائع هوى.
كيف يمكنه أن يتودد إليها بدافع الامتنان؟ قد يكون نذلاً وخطاء، لكنه بالتأكيد ليس رخيصاً.
يحلم: سيرسم لوحة عظيمة يفوز بعدها بجائزة مالية كبيرة. سيصبح ثرياً وسيكون بإمكانه أن يستأسد. حينئذ ستخاف هيفاء أن يكون تهديده لها بالطلاق حقيقياً. سيتكسر قناعها الزجاجي. وستخاف أن يتزوج امرأة أخرى أجمل، امرأة تعبد الفنان في أعماقه وتفهمه. ستغزو الكآبة حياتها، وستبدأ هي بزيارة الطبيب النفسي بينما يتسلى هو بالرسم على الشرفة، والردّ على رسائل المعجبات، وإجراء اللقاءات الصحفية، والهروب من عين الكاميرا التي تلاحقه في كل مكان.
رنّ الهاتف بينما كان جالساً في أحد الأيام في مرسمه عند النافذة.
– زوجتك في العناية المركزة. أصيبت في حادث سيارة.
نهض كالملتاع وشعر بوخز الكثير من الإبر في وجهه وصدره وجنبيه، وكأنه هو المسؤول مسؤولية مباشرة عن مصابها.
يتساءل: أيمكن لشعور الإنسان بالذنب عند سماعه خبر سقوط إنسان يقف في طريق حريته أن يلقي به في بئر من الحزن ليس له قرار؟ ألهذا الحد لا يطيق الإنسان التحديق في بشاعته، فيرتدي قناعاً في الحال؟ لكنه يقلّب حزنه جيداً في عقله وقلبه ليكتشف أنه حقيقي بأكثر مما يطيق.
تأمل وجه هيفاء الشاحب في غرفة العناية المركزة، وتمنى لو كان ممدَّداً مكانها ليحظى بعناية طاقم من الأطباء وهو على حافة الموت وفي قمة الشحوب. تذكر لوحة دي جيريكو التي رسم فيها ذلك الوجه الشاحب الرائع لجثة ميتة، وجه طالما تمنى لو أنه هو الذي رسمه.
ماتت زوجته.
لم يتمكن من رسم وجهها الشاحب الذي انطبع في مخيلته، ليذكّره بإلحاح بذاك الوجه الذي أطلت به عليه على الدرج لأول مرة قبل زواجهما.
يقرر أن استيقاظ حبه لهيفاء بعد فقدانه المفجع لها هو الذي سيوقظ الفنان النائم في داخله. فالحزن ضروري للفنان. لذا كان يستحضر وجودها في البيت دائما كالمجنون لدرجة أنه غسل شرشف السرير بالصابون. نعم، لقد اشتاق لرائحة الصابون. يبدو أن هيفاء قد تمكنت من جعله يتآلف مع رائحة الصابون، لدرجة أنه لم يعد قادرا على التآلف مع رائحة جواربه القذرة مرة أخرى.
يتساءل: هل هذا تطور إيجابي في حياته فناناً، أم أنه مجرد خضوع لبريق الحياة البرجوازية؟ ترى هل أفلحت هيفاء في قتل الأسد في داخله إلى الأبد؟ هل أحالته إلى قطة لا مخالب لها؟ هل قتلته قبل موتها؟ هل هو الذي تعرض لحادث سيارة وانتقل إلى عالم آخر فيه كل شيء ما عدا زوجته؟
نظر إلى الأفق البعيد. اغتاظ من لون السماء البنفسجي. فقد كان جميلا بإلحاح، فأشاح وجهه عنه، وكأنه عورة لا تجوز إطالة النظر فيها.
سيرسم اليوم.
ماذا سيرسم؟
اليوم سيبدأ. سيضع حدا لهذا الموات الذي يلفه.
الفنان في داخله يجب أن يولد. تأخر المخاض. لن ينتظره بعد. سيجري للفنان المتواري في أحشائه عملية قيصرية لئلا يموت جنين الفن اختناقا. فقد طالت فترة الحمل أكثر من اللازم، واستبد به اليأس من غيوم سماء أيلول البنفسجية التي تنذر ولا تمطر.
أحضر مِشرطاً، ونظر إلى قماشة الرسم العذراء. أخذ نفساً عميقاً، وأغمض عينيه، وقال في نفسه: «سأبدأ…».
—————–
سوسن عصفور