فاطمة إبراهيمي
كاتبة مغربية
كنت أقف عند إشارة المشاة حينما باغتتني السيدة التي تقف إلى جانبي بسؤالٍ صغير: هل أنتِ ذاهبة إلى مطعم؟ نظرتُ إليها بحيرة، لم يكن هنالك من مبرر لسؤالها، ولا ظرف ملائم؛ فلم يكن الحي الذي قصدته ذاك الذي يذهب إليه المرء ليأكل. كان حيًا قديمًا في غرب بلور تنتشر فيه محلات الخردوات، معارض الأثاث الرخيص، متاجر الكتب المستعملة، وقاعات موسيقى الروك المتهالكة. كانت قد مضت بضع ساعات على وقت الغداء، ولا زال الوقت مبكرًا على العشاء. أجبتها بالنّفي وجاريتها بردّ السؤال ذاته إليها، أجابت: لا. أتبعتْ جوابها بصمتٍ قصير، الصمتُ الذي يلجأ إليه المرء ليعيد ترتيب افتراضاته، ثم أردفتْ قائلة: لم يعد بإمكاني الذهاب إلى مطاعم، أنا مشردة. أمعنتُ النظر فيها، كانت سيدة خمسينية، جميلة القوام وأنيقة، ترتدي بدلة يوقا كنت أعرفُ أنها ليست بالرخيصة أبدًا. تابعتْ بعد أن شخصتْ بنظرتها بعيدًا في الشارع المجاور: فقدتُ مسكني قبل شهر، كنت قبلها قد فقدت عملي أيضًا. أصبحنا مجرد فائض في هذا المجتمع. يريدونكم أنتم الآن، أجانب ويانعين، أنتم الشعب الجديد. أعادت نظرها إليَّ باسمة، كانت نظرتها تحمل مودة كبيرة وغبطة. تابعتْ طريقها معي بعد أن سمح لنا الضوء الأخضر بالعبور، وهي تحكي تفاصيل قصتها، رغم أني لم أبدِ لها أية علامة تشجيعية على المواصلة. كان يومًا حارًا وجافًا قضيتُ معظمه في التنّقل على قدمي، ولم أكن أكيدة من أني أستطيع الشعور بالأسف تجاه حكايتها. على العكس من ذلك، شعرتُ بالاشمئزاز من فكرة المجتمعات، هذه التي تجمع اليافعين واللائقين بدنيًا كصاحبة بيت هوى، لتركلهم بعد أن يفقدوا بريقهم لدى زبائنها. لطالما شعرتُ بالاشمئزاز من فكرة المجتمعات، لكن يبدو أنّ هذا -بشكلٍ ما- لم يحل دون التسبب في إزاحة عضو من مجتمعه. هل يفترض بي أن أحسّ بالحظوة لأنّ لي قبول في مجتمع معين؟ هل يفترض بهذه الحظوة أن تمنعني من التعاطف مع أولئك الذي زلّت أقدامهم عن حدود ذلك المجتمع حينما وضعتُ أنا وأمثالي أقدامنا داخل حدوده؟ في سنوات طفولتي أردت أن أصير حشوة، حشوة مرتبة. يبدو ذلك سخيفًا، أعرف. لكن هذا ما حدث. كنت أضغط نفسي فوق مرتبتي عند النوم على أمل النفاذ إلى داخلها. أغلق عيني، أضيف ظلامًا إلى ظلام الغرفة على أمل أن يتحقق الأمر إذا اطمئن المرء أن أحدًا لا يراه. أغط في النوم أحيانًا وأصحو صباحًا لأستوعب إخفاقي على مهل. وأحيانًا أظل مستيقظة، أجد نفسي فوق المرتبة كلما فتحت عيني، وأحث نفسي: أقوى أقوى. ما المشكلة لو أراد الإنسان أن يعيش بين القطن والإسفنج والنوابض؟ وأن يقوم بدورٍ فعّالٍ جبّار، في حمل ثقل الأبدان وامتصاص تعبها؟ لماذا على المرء أن يكون مرئيًا كانعكاس محدد يتم التأسيس له سلفًا كي يكون موجودًا؟ أن يذهب كل صباح إلى المدرسة ويكون ضمن فصل ألف أو باء، ويقولون فصل ألف أهدأ وأنظف وأذكى من فصل باء، ويجد نفسه قد تورط في تلك المنظومة وقد استغلقت عليه حبائلها إلى الأبد. حاولتُ أن أكون لطيفة في توديع السيدة التي ترافقني، معتذرة بأنّ عليّ أن أغيّر اتجاهي. اتجهتُ إلى أحد معارض الأثاث الرخيص، لأبتاع أريكة. فهذا ما قصدتُ الحيّ من أجله، فوجودي الهشّ لا يسمح لي بالاستثمار في أريكة ثمينة، أعرف بأني سأضطر لتركها قريبًا.
تركت أريكتي فعلًا، بعد أربعة أشهر. ووجدت نفسي في مدينة أخرى حرارتها لاهبة. لذا اعتدت النزول للمشي بمحاذاة النهر في أوقات العشية. أعداد هائلة من الوطاويط تنشط حركتها وصراخها في ذلك الوقت. تهجع شتى أنواع الطيور في مخادع تختارها بدقة أو كيفما اتفق، كلما تفشى الليل. وتهيج هذه المخلوقات التي يقشعر بدني لرؤيتها بصريرها الذي تستفز به فكرة الليل. لا أعرف متى بدأ يظهر، لكن مذُ لاحظته، انقضت عشرة أيام إلى أن فقدته.
في أسفل الفندق التاريخي الذي يجاور مسكني مقهى يغلق في الرابعة مساءً. وقبالة المقهى، عبر الشارع، كانت هنالك على ضفة النهر محطة ريقاتا، التي تغادر آخر عبّارة منها في العاشرة مساءً. على مقاعد ذلك المقهى المظلم، كان يجلس هناك مقابلًا المرفأ، ببذلته الرسمية البندقية اللون وقبعته السوداء، وبجواره حقيبة سفر متوسطة الحجم. هذا ما خولني في بادئ الأمر للظن بأنه يجلس هناك بانتظار العبّارة. كان رجلًا قوي البنية، عريض الوجه، لطيف المحيا، لم أره قط دون ابتسامته المنمنمة. رجلٌ دقيق، قلت في نفسي. إذ لم أر شفتيه طوال تلك الليالي تنبسط بابتسامة أدنى أو أقصى من الابتسامة التي رأيتها أول ليلة. لو قيل لي آنذاك أنه شبحٌ لا يراه سواي، لصدقت على الأرجح. وجوده الشبحي كان سيفسر ربما النظرة الغريبة الثابتة على وجهه، والتي استغلق عليّ فهم كنهها. إلا أنّ شيئًا ما كان يخبرني أنها اختلطت بماء وجهه رغم مقاومة شرسة من طرفه. كم هو بليغ ومثير للإعجاب مفهوم ”ماء الوجه“؛ من جهة، ليس للمرء بدٌّ من وجهه. ومن جهةٍ أخرى، الماء شديد البساطة والحساسية إلى حدٍ يجعل التعامل معه بالغ الخطورة والتعقيد.
في الليلة الثانية، فهمتُ أنه لم يكن بانتظار العبّارة. ليس انتظارًا قصيرًا هذا، قلت في نفسي. لا، هذا رجلٌ ينتظر بجد. يحتاج المرء لأن يكون عنيدًا حتى يتقبل فكرة الانتظار، حتى يتصرف بلا مبالاة حقيقية تجاه مضي الزمن. ويكون في الوقت عينه، حاضرًا في صميم الزمن وهو يسيل، بجسارة من يصبو إلى حفظ ذاته، إلى أن يكون ندًا للزمن مهما بدا ذلك هزليًا وبائسًا. نزلت إحدى الليالي بعد العاشرة بقليل، ووجدته ساكنًا في جلسته إياها وتساءلت، إن كنّا نحن الاثنان نفعل ذلك أيضًا لأن فكرة الليل تستفز شيئًا ما في أنفسنا. انقضت تلك الليال العشر، وصرت أسائلُ نفسي عنه. هل كان رجلًا مختلًا، أو خطيرًا، أو قاتلًا مأجورًا يتربص بضحية أجيره؟ ظلّ ذهني ينشغل في نسج قصص تعالج كل ما يحيط به من غموض، وكنت أجتهد في صرفه عن ذلك؛ كل ما كنت أريد فعله هو المشي بجانب النهر والعودة إلى النوم، الذي كنت أعمل على تحسين جودته.
لم تكد تنقضي أيام قليلة إلا وصادفته من جديد. في أصيلٍ صافٍ، بدا أنّ كل ما فيه قد تجلى بأجمل ما أمكنه. لمعة الشمس على ماء النهر أحالته حريرًا مرصعًا بالجواهر. خضرة الأشجار الزاهية أوحت بالصحة والفتوة، والنسيم الرقيق أثار أجمل ما تكتنزه من عبير. أما التوليفة المكونة من صفاء الغيوم إزاء زرقة السماء، تلك التي لم تفتأ تحرك وجدان المرء منذ الأزل، كان تأثيرها طاغٍ حينذاك. مشيت في الشارع عينه الذي اعتدت النزول إليه كل مساء، لكن في الاتجاه المعاكس نحو المركز التجاري لتبضع مكونات العشاء، ورأيته. كان هناك على بعد خمسمائة وخمسين مترًا من شبحه الليلي، متجليًا هو الآخر في جلوسه أمام المركز بهيئة معاكسة لما كان عليه. اضطرب شيء ما في نفسي عند رؤيته وأخذ يتنامى ويستبدّ بي. دخلت المركز وتبضعت ما أتيت من أجله على عجل وخرجت. تلكأت عند المخرج وأنا أمعن النظر فيه. جلس هناك، في ركنٍ منزوٍ أسفل الدرج الذي يسبق المدخل، بملابس مهترئة، وشعر أشقر أشعث أراه للمرة الأولى، ناشرًا على حضنه غطاء باليًا، والحقيبة ملقاة خلفه. كان يسهم النظر في آخرين مشردين يجلسان إلى جانبه، وثغره يفتر عن ابتسامة مترهلة. توجهت إليه. توقفت قبالته، وأنا أشدّ الكيس الورقي الذي يحوي عشائي إلى جذعي، وقلت: مرحبا. رفع رأسه إلي واندفقت آخر قطرة من ماء وجهه.