“إني أرى! إني أرى!”، بهذه الجملة المكررة ذات الإيحاءات المادية (البصر) أو المعنوية (البصيرة) ينهي الإيطالي غابرييل دانُّوتسو مسرحيته المعنونة “المدينة الميتة” (la cità morta)، والتي نقلها عن الإيطالية مباشرةً الشاعر السوري أمارجي، وأعاد عنونتها بـ “الأرض الميتة” (دار طوى للثقافة والإعلام والنشر، لندن- 2012).
إحياء الأسطورة:
انطلاقاً من القدرة على توظيف الثوابت السابقة في التعبير عن فكرته، وبخطّين زمنيين واضحين استطاع الكاتب أن يأخذنا نحو الميثيولوجيا من حيث مكان الأحداث في المسرحية والتي تركزت في الأرض الإغريقية (اليونان)، وأسماء المدن القديمة التي حملت أسماء أشخاص أسطوريين، وببراعة العارف ربط هذين الخطين الزمنيين عبر شخصيتين رئيسيتين في مسرحيته وهما (ليوناردو) منقّب الآثار الذي يبحث عن شيء محدد في تلك الأرض بتصميم خيالي وقدرة تحمّل فائقة في المرتبة الأولى، والشاعر (ألسّاندرو) الذي يبحث في أرض غريبة عن منفذ جديد لروحه لينطلق منها الشعر مجدّداً بنَفسٍ مختلف، بعد جفاف معطياته.
استطاع الكاتب من خلال شخصيات رئيسية أربع في المسرحية أن يقدّم مخزونه الثقافي المتنوّع والتاريخي بسياق شاعري وغنائي في كثير من المواقع. رغم أن هناك شخصية خامسة هي الشخصية النمطية الحاضرة في أغلب الروايات والمسرحيات القديمة وهي شخصية المربية وكأنها أيضاً في مكانٍ ما صلة وصل مع التاريخ الملكي والأسطوري.
الثيمة:
الثيمة أو الفكرة الرئيسية في النص المسرحي كانت الحب ممزوجاً بروافد الهروب بطريقة أو بأخرى، هروب الأخ (ليوناردو) من أخته (بيانكا ماريّا) بعد أن خالجته الرغبة أمام صفائها وجمالها وبدأت الخطيئة تسكنه في صراعٍ لم يهدأ البتة، بل تصاعد حد اللاوعي، وهروب (بيانكا ماريّا) من (ألسّاندرو) زوج (أنَّا) الزوجة التي فقدت بصرها دافنةً مشاعرها كي لا تنال من تلك الزوجة المأزومة سلفاً وكي لا تخذل نفسها وتلوّث طهرها أخلاقياً بالخيانة وتخذل أخاها باعتباره الوصيّ والرفيق الدائم والتي عاهدته على الترحال معه أينما أراد، وهروب (ألسّاندرو) بدوره من حبه لـ(بيانكا ماريّا) لذات الأسباب ولكن إلى حين حيث استفاض به الوله حدّ الإفصاح.
المواءمة:
باتّساق نمطي في أبعاد الشخصيات من حيث الوصف الجسدي (الفيزيولوجي) والاجتماعي (السوسيولوجي) متبوعين بالنتيجة التلقائية لهما والتي هي نتاج طبيعي للعامِلين معاً وثمرتهما الوصف السيكولوجي (النفسي)، استطاعت الشخصيات أن تقدّم ذاتها بتوازن واضح وبلا مواربة ضمن مؤثراتها الثقافية والبيئية والإيديولوجية، مكثّفة ومبلوِرةً مادة النّص لتقدّمها للقارئ لكأنها الحدث الحتمي الذي لا بدّ منه بلا غبشٍ وبوضوح تام.
هذا الاستقرار والثبات جعل من الإقناع لعبةً سهلة لكأنَّ الحدث واقعيّ مرئي، وذاك المكان المحفوف بالشمس والغبار والجفاف صار حقيقياً حدّ إدراكه والتأثر به.
التصاعد:
الحدث الذي تتسارع وتيرته عابراً عنصر التشويق والتنبؤ مترافقاً بالأمل والخوف حتى الذروة والتي تكون خلاصة التّقدمة المنطقية ولكنها بالرغم من ذلك وبحبكة محكمة تأخذك بعيداً لتشعر وكأنَّ الخاتمة غريبة وغير منطقية، وذلك بحواراتٍ تحمل من الشاعرية الغنائية ما يدفع إلى تطوير الحدث التراجيدي نحو مساحة أخرى تتعلّق بالتعاطف والغضب والحب ولربما تضمين شخصية شاعر في صلب المسرحية هو أحد الإيقاعات المقصودة، غير مدركين لم تحمله من تبعاتٍ واكتشافات ستظهر بتسارع غريب وتعقيد مفاجئ نحو النهاية.
ويبدأ هذا التوتر المتسارع حينما تبوح (أنّا) لـ(ليوناردو) بأن علاقة حب تجمع زوجها بـ(بيانكا ماريّا): “أنت تعرف بأيّ احتراسٍ مثابر ينقِّب فيما حوله ويتشرّب كل شيء من شأنه أن يضاعف ويسرّع القوة الفعالة لروحه، كرمى لصنعة الجمال التي عليه إنجازها”.
جرعة الموت:
في أرضٍ يسكنها اليباب وتكسوها التربة المتشققة والغبار في غياب الماء، لا مكان سوى للموت والموتى، اختفاء الحياة والاحتفاء بالموتى في قبور تم الكشف عنها لأحد أبطال حرب طروادة، هذا الكشف المُنتَظر كم قبل (ليوناردو) وأخته، كان لابد أن يجلب معه انتهاء المعاناة بانتهاء الإقامة في منطقة مهجورة، لكنه جلب معه حالةَ الكشف الأخرى عن حب (ألسّاندرو) لـ(بيانكا) واشتعال الأخ (ليوناردو) الذي يكنّ لها حباً جنونياً يفوق الحب الأخوي، وذاك الطقس الذي يذكّرنا بـ(مورسولت) في رواية (الغريب) لألبير كامو، ذاك اللهب المتصاعد وزاده الغبار الذي يكسو جسد (ليوناردو) والجمر المختبئ في صدره تحت رماد الأخوة، جعل من مقتل (بيانكا) على يد أخيها نهاية تحمل من الألم لشخصيات المسرحية الرئيسية ما يفوق الاحتمال، (أنّا) التي شعرت أنها السبب وكونها كانت تحب (بيانكا) كأخت، و(ألساندرو) العاشق الذي وجد إكسير الشعر في وجود (بيانكا) الذي أعاده للحياة بعد سبات طويل، والأخ الذي فقد شريكة حياته الوحيدة وملاذه الحنون وحبه الأوحد.
دون أن ننسى أن الإشارات نحو الموت كانت حاضرة في عدة تقاطعات، كموت عصفور، وباقة ورد، وتذكر (أنّا) لموت أمها.
وذاك التناص من مسرحية (أنتيجونه) لـ (سوفوكليس)، وتشارك المصير مع (بيانكا) التي كانت تقرأها لكأنّها تقرأ طالعها: “انظروا إليّ، يا أبناء الأرض الأبوية/ وأنا أدخل آخر الدروب/ وأتأمّل بإعجاب آخر خيط شمس/ ولا شيء دون ذلك البتّة! هو ذا هاديس، الذي ينوِّم كل شيء، يقتادني حيةً نحو شاطئ الحياة الأخرى/ عاريةً من مراسم القران/ آه أبداً لن أترنّم بك أيها النشيد الزفافيّ، لأني سوف أتزوج الموت”.
غياب القيمة:
الذهب في كل مكان، واللقى الذهبية بين أيدي الشخصيات، ولكن لا قيمة للذهب، لا أحد في ذاك المنزل كان يبحث عنه، الغايات كانت معنويةً بالمجمل، إنسانيةً عاطفيةً في المطلق، لكأنّ الهروب نحو التنقيب من قبل (ليوناردو) وقضاء أغلب الوقت بعيداً مكسوّاً بالتراب هو ابتعاد عن أخته وحسب، لا قيمة للمادة الثمينة، مقابل الحب المنتظر.
فما ينتظره (ليوناردو) كان الإلهام وبريق الشعر في جوفه، كما وصلنا عن لسان (بيانكا ماريا):
“لعلّ جنية شعره على وشك أن تنجب إلى النور واحداً من مخلوقاتها الرائعة”
ردّاً على تداعيات (أنّا):
“هو أيضاً، كما (ليوناردو) كان لديه كنوز هائلة ليكتشفها، كنوزٌ مخبوءة في روحه”
وها هو الموت يعيد البصر لـ(أنّا) ليشعر القارئ بأنّ غياب البصر كان مرافقاً لوجود (بيانكا)، ولكأنّ خوف (أنّا) من جمال (بيانكا) كان يمنعها من الرؤية، أو أنّ قوة الواقعة وذاك الجسد الغض بعد أن لامسته أنامل (أنّا) قد أعطاها النور الذي كان غائباً.
لتطلق صرخةً بالغة الحدة بعد أن لامست ذاك الصقيع على جسد (بيانكا ماريا) لكأنها تلفظ معها كل أنفاسها: “آه!… إني أرى! إني أرى!”.
إينانة الصالح