في الرواية الأسطوريّة المتداولة، حيث الحمار هو آخر من ركب الفلك (سفينة النبي نوح) حتى كادت أن ترحل من غيره، وهذا دليل على نقصان وعيه الفادح من بين الخلائق، على الغباء كما هو مرجعُه وأمثولته على مر العصور.. الخلائق ومنها الحيوانات تتسابق وتتدافع من كل زوجين اثنين، إلى سفينة النجاة بعد الطوفان، إلا الحمار المتردد البطيء الغبي، إلا الحمار الحمار..
لكن ماذا لو لعبنا على هذا التأويل في سلوك الحمير، وقلبنا دلالة حدث الفلك والنجاة، أي العكس، دليل ذكاء خارق وحدس أريب نبوئي لما ستؤول اليه أحوال الخليقة والذريّة اللاحقة. فلم يكن ذلك التأخر عن الركب، إلا رفضاً للمشروع القادم للخلق والتناسل، للديمومة والاستمرار. حدسه الغامض الذي انبلج كالبرق من لا وعيه البعيد بالمأساة القادمة للاستمرار، حتى ولو كان الموت والفناء يطوي صفحة الخلائق ويقلبها جيلاً بعد آخر..
ربما التحجّر في سديم العَدم البدئي الكاسر والمهيمن، كان هو الخيار الأفضل بالنسبة له، «ليتني كنت شيئا منسيا» وفق الآية الكريمة، أو على نمط الفيلسوف (سيوران) «لو حدّس بالمأساة القادمة لأحرق الفلك».
ربما الحمار وحده حدْس بتراجيديا الكون اللاحقة، لذلك نراه في لحظات القيلولة القائظة في مساءات القرى محدقاً في البعيد، تائها فيما يشبه الإشراق الأليم، ودموعه تسيل على خديه الطويلين حتى تخضّب الأرض والعشب.
***
إذا كانت (الرحبة) تشكل المدخل إلى وادي منصح المحاط بغموض القطا والغيوب، وهو يسترسل إلى (فنجاء) ومن ثم يدخل في تخوم الجبال حتى (الخوض) ومن ثم البحر الفسيح، فان قرية (غرابة) من الطرف الآخر تشكل المدخل المعاكس، المنفذ من جهة (سرور) بعد بلدة (لزغ) التي كان الوالد يمتلك فيها ضاحية نخيل أوكل أمرها إلى رجل أخرس تقول الحكاية إن الله عوّضه عن الكلام والسمع بفحولة خارقة، عرفت البلدة ذلك حين دُعي للزواج كمحللّ لزوجة طلقها بعلها بالثلاث، فما على الأهبل الأخرس إلا القبول، لكنّ بعد ليلة الدخلة، التي يبدو أنها لم تكن شكليّة أبداً، للتحليل فحسب، وإنما طوّحت بالمرأة إلى آفاق جسدية أبعد لم تختبرها من قبل.. بعدها رفضت المرأة العودة إلى منزل الزوج والطلاق. وانتشرت الحكاية حول البيدار الأخرس الذي لم يكن هناك من يفكر بالزواج منه، حتى بلغ عدد زيجاته أربعاً وانتشر خبره في مضارب العشائر والقرى المجاورة..
أعود إلى بلدة غرابة، التي كان من أبرز سكانها أولاد هلال، واليهم ينتمي الشاعر خالد بن هلال الرحبي، أحد أبرز شعراء عُمان التقليديين إن صحت العبارة، إذ يمكن القول أنه كان مجدداً في إطار العمود الشعري، ونتيجة لإقامته الطويلة في الشرق الافريقي (زنجبار) واطلاعه على معارف لم تكن مُتاحة في تلك الفترة الظلاميّة المغلقة، في بلده الأم.. و(غرابة) اشتهرت بأشجار السفرجل، ويمكن القول انه اذا كانت (قيقا) جنة التين، و(بدبد) عرفت بتباشير القيظ وطلائعه، و(هصاص) جنة الجح والبطيخ، فان (غرابة) جنة السفرجل الكبير خاصة (بورقاب) تراها تجاور بساتين النخيل وتخترقها متفوقة عليها في الحضور والهيمنة أحياناً.
وعلى مقربة من (غرابة) تقع قرية (جردمانة) وهي بلدة يسكنها شيخ التميمة لقبيلة الرحبييّن.. تقول الحكاية أيضا إن أحد أولئك الشيوخ الغابرين بلغ من النفوذ على أفراد قبيلته بأنه حين يحكم بحبس أحد المتهمين في قضيّة ما يأمره بأن يقيّد نفسه بحبل مربوط على جذع نخلة خُصّص لهذا الأمر، وينقاد المتهم طواعية ليربط نفسه بالحبل حتى انقضاء المدة المحددة لحبسه وقيده، ثم يفك وثاقه بنفسه ويغادر .. هكذا…
***
في الوديان المرصعة بالواحات والبلدات حِذاء الأوابد الدكناء وسفوحها المعشبة، يمكنك أن ترى قطعان الحمير والأغنام ترعى بنشوة ونَهم، خاصة حين تكون الأمطار قد زارتْ عما قريب… ترعى الحمير بشبق وتوحد مع الأرض والمرعى، حتى لا تكاد تعطي بالاً للقادم من بين البشر ولا تعكر صفو عزلتها الروحية الجسدية في أمكنتها الحميمية، كأنما ليس لإشباع غريزة الجوع الحيوانية فحسب، وإنما يمتد ذلك الانفصال عن العالم إلى ما يشبه التعبّد والصلاة. ترفع بين الفينةِ والأخرى رؤوسها إلى السماء فيما يشبه الامتنان والشكر للعليّ القدير الذي أنزل عليها هذه النعمة وهذا الهدوء.. وعلى مقربة من الحمير نرى الأغنام والخراف بصخب الأطفال وصمتهم أحياناً، حين ينصرفون إلى شيء يحبونه كالألعاب الفرديّة والطعام.. وربما نلحظ في البعيد خروفاً قادماً بسرعة العاصفة يتقدمه صياح فرحِه، وقد تاه عن القطيع وها هو ينتظم في عقده من جديد..
بصورة عامة حين نعيش مع الحيوانات وبالأخص سلوكها المفعم بالحس والعاطفة، وعلاقتها المحبّة أو الكارهة، ببني البشر، لا نملك إلا أن نشك شكاً بيناً، فيما ذهب اليه (ديكارت) أبو العقلانيّة الحديثة في قسمته الثنائية كون العالم لا يحتوي إلا على جوهرين متمايزين تماماً: النفس والجسم، فالنفس تتميز بالفكر أو الوعي الذي يستطيع أن يعي ذاته وهي موجودة في الإنسان فحسب. أما الجسم فيتميز بالامتداد كجوهر مادي ممتد في المكان. وعليه فان (الحيوانات) آلات، وكل ما ليس له نفس فهو مادة. فالحيوانات شبيهة بالآلات التي يصنعها الإنسان وإن كانت على درجة أكبر من كمال الصنع..من غير الدخول في متاهة النظريات التي هي على نحو من التعقيد والتجريد، وأقرب إلى ملاحظات ومدونات علماء الحيوان والنبات، والأقرب إلى الأدب والشعر، حين نمعن النظر في المشهد الحيواني وحتى النباتي المتَشعب والمنساب بجمالية نادرة حتى بين البشرية المعاصرة. نجد في سلوكها ونظراتها إحساساً وحدساً، إنها أرواح هائمة في الطبيعة مغمورة بمشاعر الفرح والألم، حدس الموت حين تقترب مواسم الذبح والإبادات الجماعية للحيوانات من أجل غذاء الإنسان الواعي «سيد المخلوقات» أو ذلك الحمار الذي يحس بالخطر قبل وقوعه وتلك الأبقار والعجول والثيران النائحة في زرائبها، بمواسم الأعياد بعيونها الحزينة تراها مستَنفرة وقلقة في الحركة والسكون.. أو سلوك الجمال التي لا تنسى الإهانة والإذلال مهما مرّ الزمن على الحدث تعود لتنتقم شرّ انتقام من ذلك الذي أذاقها الهوان. وسرديّة السلوك الحيواني، أحاسيسه ومشاعره الغامضة، عادته، لا تنتهي، خاصة حين نقرأ تلك الدراسات والملاحظات اللاقطة عبر التجربة والتي أملاها المعيش المشترك والعشرة الطويلة لعلماء الحيوان والنبات بروحه الأثيرية الدامعة. انها الأقرب إلى حقيقة تلك الكينونات وطبيعتها الغريزيّة ومشاعرها أكثر من الفلاسفة، خاصة أولئك «العقلانييّن» على عظمتهم، الذين بوأوا الإنسان مركزيّة الكون والكائنات على نحو صارم وحتمي وبوأوا العقل البشري القيادة والسيادة مقابل الإقصاء والتهميش حد المحو للكينونات الأخرى. هذا الاتجاه الفلسفي جرّد على الأغلب الحيوان حتى من الإحساس الغامض بالموت والحدس الغريزي باقتراب النهاية. الإنسان وحده الذي يعي موته. ويا للمفارقة بين ارتكاباته الوحشيّة خلال حياته العابرة وبين هذا الوعي ذي الصبغة المأساوية لحرقة الموت، بداهته وحتميته التي لم تخفف من غلواء المجزرة على مرّ العصور …
ووفق المنظومة العقلانيّة العلميّة والفلسفيّة التي على نحو من الأنحاء يمضي على هديها فيلسوف (الجوكيتو) الكبير، أليست الحيوانات أسلاف البشر والجذر السلالي في سلسلة التطور العضوي والذهني. أليس من حنين يختزنه اللاوعي البشري إلى الجذور والبدايات؟!
***
سلاسل سحُب دكناء تطوف القرى والبلدات والواحات التي بدأ تشكلها من أعالي الجبال والهضاب، نازلة إلى أحزمة الوديان والشعاب. سًُحب طال انتظارها طويلاً. العيون شاخصة والأبصار مخطوفة إلى جلبة الرعود وسلاسل البروق التي تخضّ السماء مثل مخاضٍ يوشك على الانفجار، لا شيء يوحد أهل القرية ويبلسم الجروح والخصومات مثل الغيوم والأمطار، ينسون مشاكلهم وخلافاتهم اليومية الصغيرة، وحتى تلك التي ترمّلت على أثرها الدموي النساء وتيتم الأطفال، تُنسى تحت وابل الأمطار وجوائحها، أعياد مواسم الخصب القادم.. ويمكن رؤية الذين قضوا نحبهم منذ سنين يتدفقون بوجوه ضاحكة مهللة في زيارات يشاركون فيها الأهل أعيادهم الجماعيّة. ثم يعودون إلى الأجداث بشفافية ومرح.
تتوحد الجماعة والحيوان والنبات في روح كونية واحدة، تتوحد وتذوب في غيمة زرقاء شاسعة تُنزل حمولات مطرها على جروح الأرض وأوجاعها، تتوحد وتنصهر أكثر مما تفعل في مناسبات الأعياد الدينية والاجتماعية. وحين تنزل الأمطار في مثل هذه المناسبات، يكون الفرح عارماً يحمل البشر على الطيران في فضاء القرية بدل المشي على الأرض. كأنما المياه المتدفقة من ساحة سماء لا مرئية مليئة بالغيوم هي التي تجعل كل شيء على نحو من وحدة وسلام روحي مع الذات والعالم.
***
ضمن سرد الذاكرة المتشظي هذا، لا يمكن أن أنسى زيارة العائلة إلى جعلان (بني بوحسن) حيث والي المنطقة الوالد محمد بن سيف الأغبري، صهر الوالد، جدّ أولاد أخي يعقوب لأمهم، ومنهم يوسف واسحاق وعيسى وابراهيم، وراحيل… الخ جلّ أسماء أبنائه إن لم يكن جميعهم من أسماء أنبياء بني إسرائيل.. وحين تُبدى ملاحظة من اخوته غالباً حول اختيار تلك الأسماء التوراتيّة من العهد القديم، يجيب بان أولئك الأنبياء ليسوا حكراً على العبرانييّن، أنهم أنبياؤنا أيضاً وجزء من تراثنا الروحي كما ينص على ذلك القرآن الكريم.
أخي يعقوب عُرف بتلقائيته الشديدة التي تصل حدّ الشطح الخيالي أحياناً… مرة كانوا جالسين في سبْلة (سرور) سألهم: أتعرفون كيف يُحشر البشر يوم القيامة وعلى أي صورة وطريق؟! أجابوه وفق الرؤية الإسلامية الراسخة والمتداولة في النصوص وعلى الشفاه.. قال لهم إن ذلك صحيحاً، لكن ثمة تصور آخر، انهم سيُحشرون على شكل (صَدْ)، جحافل من هذا السمك الصغير الذي عُرف في أودية عُمان وأفلاجها.. جحافل وأقوام وأمم ستشكل موقعة البعث والقيامة، وسيكون مكانها البحار والمحيطات، هناك تنتشر الخلائق السمكيّة التي راكمتها القرون والأحقابُ خارجةً من أحشاء الأرض وأجداثها، إلى البسيطة المائيّة المكتظّة بالسديم والظلمة، وكأنما تعود أدراجها إلى حيث بدأت، من رحم العزلة والظلام..
وحسب «نظريّة» يعقوب أبويوسف، تكون هناك في الأعماق مصائد عملاقة لا بداية لها ولا نهاية، تغطس في خضمّها جميع المخلوقات التي تحوّلت إلى شكل ذلك (الصَدْ) أو سمك العِرَم، ومن ثم إلى رحمة بارئها ومصائرها التي تحدّدها الإرادات الإلهية..
أخي يعقوب الذي كان في طفولته يهوى تربية الحمام أو «الحقم» في (مروق) المنزل وعلى أسطحه مع التمور المجفّفة. وحين حدث مرة أن صوبتُ بندقية الصيد «السكتون» إلى سربها القريب وسقط بعضها جثّة بلا حراك بعد أن تكاثر وصار يختطف قوت العصافير التي تسكن شجرة الفرصاد الكبيرة في صحن البيت.. فما كان من يعقوب إلا أن أشهر في وجهي سكيناً وهو ينتفض من الغضب، من فرط ولعه وحبه للحمام..
كانت هذه الزيارة علامة في الذاكرة، حررّت المخيّلة الطفليّة التي تنزع دائما إلى التحليق في الفضاءات والآفاق المفتوحة، حرّرتها من ربقة الجبال الحجرية التي تطوّق الداخل العُماني، فبدأ من بلاد الشرق وحتى الكامل والوافي وجعلان وصور، تتفتح فضاءات المشهد الذي يخاله الرائي لا نهائيا ولا محدوداً بصخرة أو جبل، فضاءات متينة الصلة بلا نهائية الزمان وتوأمه في الخلق والخليقة، المكان الذي تتوحّد مشاهده المتلاطمة بين مشارف الربع الخالي وشواطئ البحار الممتدة إلى آفاق الامداء والمحيطات.
ومن تلك الزيارة تفرعت زيارة أخرى، إلى بلاد (الحجريين) المنترب ذات الطبيعة الجغرافيّة والاجتماعية المشتركة مع أهالي جعلان في كرم الضيافة وسخائها وذلك ما لاحظته لاحقا في (سناو) حيث الغلوّ في كرم الضيافة يصل حداً اسطورياً يستدعي رموز أزمان تصرّم عهدُها حيث «الجفناتُ الغرّ يلمعن في الضحى..».
وحيث السباق إلى إغاثة المستغيث وكرم الضيف مثل السباق إلى المواجهة مع الأعداء والغزاة..
***
ربما موقع سرور، غير البعيد عن البندر أو العاصمة، وبعد أن يجتاز المسافرون (وادي العق) معقل قبيلة (الندابيين) بعقباته ومنحدراته الوعرة، يجعل القوافل والمسافرين يشعرون بنوع من الراحة بإحساس قربهم من الوصول. سواء أولئك الذين لا يتجاوز مقصدهم البندر والباطنة وهم الأغلبيّة، أو أولئك الذين يحلمون بتجاوز الحدود العُمانية بحثاً عن العمل والرزق في تلك السنوات العجاف. وغالبا ما يرحلون بطرق التهريب والمراوغة للسلطات الرسميّة براً أو بحراً حيث يقضي الكثير منهم قبل الوصول إلى الحلم والهدف… لذلك ترى قوافل الجمال والحمير لا تهدأ حركتها في الوادي السحيق. وثمة مسافرون يتوقفون من فرط الإجهاد لقضاء ليلة في تخوم الوادي قرب خميلة أو عين ماء تحيطها شجيرات نخل وحَلْفاء. وهناك من يتوقف لدى معارف في البلدة لينعم بحسن الضيافة والملاذ التي اعتاد عليها العُمانيون كجزء من نسيج السلوك الاجتماعي والديني حتى في ظروف الأزمة وقسوة المعيش..
في بيت الوالدين (التبينيّات) ما زالت تحضرني بعض وجوه العابرين وقد توقفوا ليوم أو يومين. ما زالت بعض تلك الوجوه تحفظها الذاكرة في حناياها وحجُراتها التي بدأت تقل فيها الإضاءة تدريجياً، أتذكر وجوها عابرة ليست على معرفة مباشرة بالوالد وأخرى تكون قاصدة ضمن معرفة تتفاوت درجاتها، من العامّة التي تمليها التقاليد والمروءة، ومن هذه الفئة ذلك الرجل الذي قضى في سبلة الوادي يوماً، وقد استقبله الوالد بحفاوة مع نفر من الأقارب والجيران، وكان اسمه (سيف)وهو الاسم الأكثر انتشاراً ربما في عُمان، يبدو الرجل من أعيان قبيلته الكبيرة في نواحي الشرقيّة والبحر الحدري، قدم من الكويت حيث كان يعمل، على وجه السرعة قَدِم رغم مخاطر الطريق تلبية لنداء الواجب القبلي، حيث نشبت «حرب» بين قبيلته وقبيلة أخرى. ودائما حروب القبائل والفخائذ والحمولات تستعر في ظل غياب أو ضعف الدولة المركزيّة لتنفجر الضغائن والأحقاد الصغيرة، خاصة ذلك الميراث السيئ الذي قسّم العُمانيين بين معسكرين (هناويّة) و(غافريّة) في ظل تفكك الدولة القويّة الشاسعة، لليعاربة الذي استمر حتى مجيء الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي، لتستعيد البلاد ثباتها ووحدتها لفترة من الزمن.. تجري وتيرة الصراعات وفقا للانتماء القبلي غالبا وليس الطائفي كما تحتفظ مدونات التاريخ وأحداثه…
جاء الشيخ سيف ملبياً نداء حربه القبليّة أو العائليّة، أقام يوما في سبلة الوالد يستريح من عناء السفر، ورحل حيث عاد بعد فترة في طريقه إلى مكان عمله الكويت..
أثناء عودته، وهو جالس مع الوالد وصحبه في المجلس نفسه، بدأت أسئلة الأولاد الذين بدأوا للتو الهجْس بوعي العالم البشري وغرابته.. ها هو رجل بشحمه ولحمه مزنراً بالخنجر اللامع والتفق والمحزم الذي يحوي الكثير من الطلقات، يجلس بيننا وقد خاض حرباً واقعيّة تخيلها الصِبية بأنها تشبه تلك التي يرويها الرواة والكتب قادمة من أعماق التاريخ البعيد، أو أنها تشبه حرب الجبل الأخضر التي يلفعها الغياب والغموض بعظمة ملحميّة ما. برغم قربها الجغرافي اللصيق.. على عكس النزاعات المحدودة في البلدة والبلدات المجاورة التي يذهب فيها قتيل أو جريح، فلا ترفعها المخيّلة الباحثة عن الإثارة إلى مستوى الأسطورة والدهشة..
***
يتبادلون أخبار مصر والجزائر والعراق، فيتخذ الكلام منحى آخر حيث يدلي كل برأي أو جملة مقتطعة من سياق أو نكتة في الحديث المتشعب الذي تتخلله وقفات حيرة وارتباك، من غير أن تمنعه من الاستمرار وطرح آراء حازمة نافذة بينما الصِبية مدفوعين بحصار الظهيرة والصراع يدخلون جنونهم الخاص في الاشتباك والضرب وتحطيم كل شيء يقف أمامهم، أو يقفون كعادتهم للتطفل على النساء العاريات في خلوات الأفلاج، تصدمهم رؤية الأجساد بتكويناتها الأنثويّة مخطوفين بتلك النتوءات يداعبها النسيم الحدْري، لدرجة لا تترك لهم فرصة استراق السمع إلى أحاديث النسوة الخاصة، الذي يتبدى لهم مثل همس أطياف موغلة في البعد والغموض، وحدها الأجساد تستحوذ على خيالاتهم الغضّة .. ينتظرون الليل كي تتدفق الأحلام وهي تسبح في طيف مياه عزلة الأفلاج عن العيون المتلصِّصة التي تخترق حجب الأستار السعفيّة والجريد…
***
كان يمكن لطيور الخفاش والوطاويط التي استعارت روح شجر الغاف والسمر وأرواح أشجار أخرى مورقةً أو جرداء، حتى صارت تشبهها في تضاريس الوجه، وفي التحليق في عوالم الأحلام وهذيانات السحرة وهم يعقدون جلساتهم الليليّة تحت القمر الكبير الذي يتربع على عرش سماء مفعَمة بالنجوم والنيازك، تتقافز في أرجائها أحلام الصِبية كالطيور المذعورة.. كان يمكن عبر طقوس السحرة وبخور ضحاياهم، أن تتحول إلى بشر يتنزهون بنشوة في تلك البراري الخاوية والضواحي التي تخترقها الأفلاج، بينما عيون الأولاد ترصد أسرار النسوة العاريات في «المجايز» المسوّرة بجريد النخيل في مجرى الأفلاج.. ربما تلك الثعالب الطائرة كانت بشراً فيما مضى من الزمان المتدفق ليتحولوا مختبرين روح الطائر الهجين وسلوكه في تلقيح النباتات والأزهار.
***
يتجمع الأولاد من قبائل ومشارب شتى، تجمعهم طفولة جبليّة مشتركة، على حواف الأفلاج والأماكن المشرفة على الوادي وسط صليل الجبال وشحيج الحمير الذي يتردد صداه من أعلى القرية وفي أرجائها. يكفي أن ينهق حمار في ذاك الطرف حتى يبادر آخر من الطرف الأقصى وتنفجر جَلبة الأصوات لتحتل أفق القائلة السكرى بين السفوح وضفاف النخيل واليمام البري ونسور الرخْمة التي تحتشد دائما في مثل هذه البرهة، هائمة على أشباح الفرائس والأشلاء.. تنفجر جلبة الحمير في سلم موسيقي متصاعد، بدافع الجوع والعطش أو بدافع الهياج الجنسي، حين تمتعض أعضاؤها وتتدلى بقوة، تحت جاذب رائحة بول الأنثى على مقربة، حتى يندفع الذكر في نوبة غيبوبة قاطعاً خيّته، منقضاً على أنثاه كصاعقة من شَبق وهيام ليفترعها وسط استسلام مطلق لدافع الرغبة العنيف..
يتجمع الصِبية محدّقين في موقعة الحمير الجنسيّة، وسط ذلك المناخ الضاج بزغاريد النسوة الغجريّات ورغاء الجمال المترحلة عبر الوادي إلى البنادر من بلاد الشرقية والصحراء، من الجعالين وصور، مركز صناعة السفن العُمانية والبحارة، أولئك المغامرون يمخرون المحيط الهندي إلى الهند وافريقيا بشكيمة مَن عركته التجارب في مدلهم الليالي والمواجهاتُ مع هوام البحر والعواصف وقراصنة المحيط…
صور مجد الصناعات البحرية العُمانية التي تتآخى في التّسمية والبحر مع (صور) اللبنانيّة، لا نعرف على وجه القطع، أيهما تسبق الأخرى كحدث بحري في التاريخ، فتلك شهدتْ ولادة الامبراطورية الفينيقية المحتدمة بالدلالات والأحداث الجسام، وهذه من حواضر عُمان التي أرخى عليها الأزل جناحَه وكتب على صفحاتها السديميّة مسوّداتٍ لخلائق وجماعات لاحقة..
من شبه جزيرة العرب انطلقت الهجراتُ حين عصف بها القحط والجفاف، والعصبيّاتُ التي لا ينقصها شدة البأس والعزيمة، لتبني ممالكها في الأراضي الخِصبة.. حتى (سركون الأكدي) من أعظم ملوك العهود القديمة بامبراطوريته العظيمة، يقول المؤرخون أن سلالته الساميّة، ترحّلت من شبه جزيرة العرب وبادية الشام…. الخ
لا نعرف على وجه الدقّة واليقين بالطبع، لكن ما هو أكيد وراسخ، تلك المشتركات العميقة التي تجمع المدينَتين، البحر والسفن المترّحِلة بأشرعتها عبر الأصقاع والمحيطات لتبني (ممالك الرياح الموسميّة)، والنوارس التي أُحبها، على ضفاف المدينتين والتي أوشكت على الانقراض، كما اللغة العربيّة كمكوّن مشترك وعميق على رغم (فساد الزمان) وانقلاباته المتعاقبة.
***
يتجمع الصِبية محدقين في موقعة الحمير التي يملأُ لعاب منيّها المتدفق وريقها حُفر الأرض والحشائش، يسألون بعضهم: من أين تُؤتى المرأةُ جنسياً، من الخلف أم من الأمام؟! تختلف الآراء الطفولية وتتصادم التوقعات، في حضور الاستيهام وسطوة التَخيّل في غياب التجربة الواقعيّة بعد، تتهادى أطياف إناث البشر والحيوان وتعانق بعضها حدّ التوحّد والذوبان متحررة بفعل آلة الخيال الجامحة، التي تنزع إلى تدمير المحرّمات، وينطلق الأولاد في الكلام من غير ضوابط ولا حدود محلقين في فضاء الأحاسيس الأولى لنزوعات الكائن وخوافيه المطمورة، راوين ما سمعوه خلسة من الكبار لحظة انفجار الرغبة والجموح: «فرجها مثل صفّانة الدجاج» أي صدرها، ذلك الفرج مركز الغواية، الهلال المنبلج بغيومه الخفيفة الملوّنة من بين فخذين بيضاوين أو سمراوين، أطيافه في سماوات الحسّ البدئي… في تلك الفترة سرت إشاعة بأن، ألقى عسكر الوالي المزنّرون بالمحازم والخناجر، القبض على (ود الوروار) بعد أن داهموه متلبساً بالجرم المشهود في مضاجعته عنزة (استغفر الله) كانت منفصلة عن قطيعها.. ويبدو أن ود الوروار، يترصدها بالطعام ليغريها بالانفصال عن السرح.. وهناك في خميلة منعرلة يرتكب فعلته المشينة.. وكان بعض الأولاد يترصدونه ليبلغوا الكبار الذين بدورهم أوصلوا الأخبار إلى الوالي في حصن سمائل الجبلي… وقبل فترة حملت الأنباء التي تداولتها الألسن بين سمائل وسرور، من داخل الحصن أو بالأحرى من ذلك البرج من أبراج مجالس الحصن الكثيرة بالإضافة إلى الزنزانات والمطامر. البرج الذي يدرس فيه تلاميذ العلم، بأن المدرّس حاول في خضمّ ليل الحصن الحصين أن ينتهك حرمة سجينة في مرقد سجنها، هو العارف بتفاصيل الحصن وخباياه المظلمة حتى في النهار، وحالكة الظلمة ليلا، لكن صراخ السجينة من هول المفاجأة ترك الحصن بجميع قاطنيه يستيقظ وصار مثالاً للتندّر والاحتقار «لكن كيف يستسلم الحيوان من نوع الكلاب والحمير والأبقار؟» سأل أحد الصِبية وهو يسبح بخياله في مياه الخرافة المزبدة.. فكان الجواب، بان الفاعل يبدأ بملاطفة الحيوان وتدريبه حتى الترويض الكامل والاعتياد على ما هو خارج الطبيعة والفطرة والدين.. فكم من حمارة أو بقرة رفست مغتصبها وهشّمت أعضاءه وكم من كلبة أليفة أو بريّة عضّت ونبحت نباحاً عالياً..
واذا كانت تلك المرأة التي صرخت بهستيريا، حين اكتشفت خيانة زوجها، بان الرجل كلب، فكيف يُوصف مثل هذا السلوك الذي لايسلم منه مجتمع فطري بدائي أو حضاري بلغ أعلى درجات التقدم والمعرفة؟!!
***
مدرس المبادئ الدينية واللغوية في الحصن سيكون مدار حديث بلدات (المسحاب) على مدار أيام وشهور حتى يأتي حدث يحمل صدمة أكبر مثل نكاح الحيوانات وانتهاكها..
تذهب الإشاعة أيضا إلى انه في إحدى المرات وُجدت (صخلة) فتيّة منزوعة الأحشاء من الفرج.. من غير معرفة الجاني، لكن بعد القبض على ود الوروار أُلصقت كل التهم المجهول فاعلها به وشكلّ نموذجاً للتطرف والانحراف الجنسي الاجرامي..
لم تسلم الحمير والأبقار من الانتهاكات الجنسيّة على صعوبتها، لكنها تظل محض إشاعة إذ لم يقبض على أحد متلبساً بعد وشاية، بل ثمة شكوك تراود البعض، مثل ذلك الرجل العاشق لحمارته يلبسها الحليّ والزينة التي يبخل بها على امرأته، ويحرسها دائما من اقتحامات ذكور الحمير الهائجة في قيلولة البلدة..
في إحدى خلوات جلساتهم ناقش الأولاد الأشقياء مسألة نكاح الحيوانات، وسردوا نوادر سمعوها، في هذا المجال الجرمي. جاءت من خارج البلاد، من الكويت منها ذلك الذي وُجد ملتصقاً على ظهر كلبة وهو داخلها لا يستطيع الخروج حيث رصّت بمشافر فرجها على عضوه حتى افتضح أمره، وصار مسخرة البلاد..
***
كان الصبية يتجمعون في الوادي وسط بساتين النخيل الذي تتخلله أشجار الموز والفيفاي والكروم الكثيفة المتدّلية الثمار والعناقيد.. أو في (الرّم) منطقة الحدّادين صانعي أدوات الإنتاج ومصلحي عطبها واعوجاجها، أدوات الحراثة من مساحٍ وفؤوس وهِيبة، وأخرى مثل القدوم والخصين والمجاز… كلها تُستعمل لإنجاز الزراعة والعناية بالنخيل والأشجار الأخرى، منذ طورها الأول كفسائل مغروسة للتو، حتى تثمر وتعطي وتهب من كرمها الفائض في مسيرة عمرها المديد، عمر أجيال من البشر. تجري العناية بها والرعاية كما الأطفال بنفس العاطفة والقلق صحة ونمواً..
يسهرون عليها الأيام والليالي مثل أطفالهم بالتمام والكمال، وكذلك الحيوانات التي يربونها كالأبقار والأغنام والخراف والدجاج.. وحيوان العمل والترحل مثل الحمير غالبا، في هذه المناطق الجبليّة من عُمان والخيول في بلاد أخرى والجمال بمناطق الصحراء غالبا، محققين نوعاً من الاكتفاء الذاتي، بالإضافة إلى السمك الذي يُؤتى به من البلاد المتاخمة للبحر والمحيط، مُملّحاً (المالح) أو مجففاً (العوال والقاشع)، كل ذلك لا يجعلهم بشكل أساسي يعتمدون على الخارج والبلاد الأخرى..
كل هذا الكون البشري الحيواني يصحو كل صباح، يتنفس هواء الحقول والسفوح المعشبة، النقي الصافي كعيون الديكة والظباء، يصحو رجال العائلة للسقي والعمل، يصحو الأطفال لمدرسة الكتاب وللرعي، تصحو الأم قبلهم جميعاً مع بزوغ الخيط الأول لفجر الأمومة. تصحو الحيوانات مطالبة برزقها الصباحي من الغذاء والماء، تنجز الأم واجبها البشري والحيواني لا تترك صغيرة ولا كبيرة من شؤون البيت، ثم تتجه إلى الحقل تتفقد ما زُرع ونما، وما زرعته يدها المباركة مثل شجر (النانيا) الطماطم، ما مصدر هذه التسمية ربما غير عربي؟ مثل المطيشة عند المغاربة والأوطة لدى المصريين والبندورة في بلاد الشام…
تتفقد شجرة الطماطم التي زرعتْها حمراء قانيةً برهافتها وبهائها المشع مع ندى الصباح. تتمايل شجيرات القمح في الريح الخفيفة. وذلك النبات المعرّش فوق روافع الأعواد بأوراقها النديّة، كرمة العنب بخضرتها المائلة إلى الزرقة على الأرضيّة الرطبة المكسوة بالحشيش (الثيّل) والرشيديّة طعام الدواب التي تساعد في الحرث أو تلك التي تقيهم المجاعة والمسغبة..
بروحها وجميع حواسها تتفقّد الأم وترعى الجميع، من الطفل إلى الرجل الراشد والمرأة الراشدة، من رضيع الجِداء إلى تلك النعجة أو البقرة التي أضحت مسنّة في كنف الحنان الأمومي.. يتناغم الكون المحيط بحيواته المختلفة، بجنادبه المحلقة في زرقة الفضاء والحقول، هسيس مجراته في السماوات البعيدة، حيث يمكن للرائي في قلب ذلك الليل الحالك، أن يرى عناقيد النجوم واضحة بسطوع ضوئها وخفوته، أن يرى الشُهب والنيازك تلعب النردَ في مرابع السماء أو تغازل بعضها بخفَر العابرين، هناك حيث يحلم الأطفال والعشّاق في نزُهاتهم بين النجوم يقطفون الزَهر الفائح بعطره ويقسمون على الوفاء الأبدي، محدّقين في الثريّا وبنات نعش والميزانين بعيداً عن عيون الرقباء والحاسدين، بعيداً عن الضغائن القبليّة التي راكمتها السنون حتى تطاولت على الأبراج المنحوتة على ذُرى الصخور الجيرية حيث يتبادل الفرقاء الرصاص والموت..
يصحو أهل البلدة في فجر الديكة، وما تبقى من عواء ذئاب بقيت في مخابئها الجبليّة، تصحو الأم حاملة سرَّ الأمانة التي روّع حملها الجبال، تحملها بجدارة حبّ الأمومة والحنان، تطمئن على الكائنات جميعها، يستيقظ الأبُ بحمحمته والعصا تقوده إلى المسجد ببصيرة الإيمان الذي توارثوه أجيالاً وأحقاباً وحملوا أمانة حقيقته المطلقة لا يحيدون عنها قيد أنملة. في المسجد الصغير لكن المليء بنور الحقيقة يؤدي الشعائر والطقوس برفقة الجماعة، ثم ينفصلون كل إلى حقله ومشاغله الأخرى ليبدأوا يومهم ضمن سلسلة أيامهم الرتيبة المكرورة والتي لا يرونها كذلك بل مليئة بإثارة الأخبار من داخل القرية وأحداثها مهما تناهت بساطتها وحجمها، حتى ميلاد بقرة لتوأم أو ضياع نعجة عن القطيع السارح على ظهور الجبال والشِعاب، تكون بداية حديث أو حكاية تستدعي تلك المواشي التي أضاعوها في حياتهم أو في حيوات سابقة مثل النزاعات والحروب الصغيرة، التي ستكوّن أحاديثَ وهواجس ملحميّة لا يقطعها إلا هجوم الليل والتعب والنوم..
كم من الدوابّ افترستها الذئاب والسباع المنتشرة على غير وجه في القفار الممتدة أو التي نفقت جوعاً وعطشاً.. وما يخترق أيامهم ويطوح بها إلى الحيرة والأسئلة تلك الأخبار الواردة من خارج حدود البلاد عبر القادمين والمسافرين على قلتهم إذ ان البلاد تشبه معسكراً مغلق النوافذ والأبواب، تكون أكثر إثارة وتشويقاً.. لكن قلة أخبار البلدان الأجنبيّة، تجعلهم مستغرقين أكثر في سرد واقعي ومتخيّل، لأخبار النزاعات القبليّة والحروب بين أبناء البلد الواحد، التي لا تكاد تخمد في مكان إلا وتنشب في أماكن أخرى من أرجاء البلاد، لأسباب مختلفة يسردها المؤرخون أو من غير أسباب مقنعة في نشوب النزاعات والاقتتال. سوء فهمٍ بسيط حول كلمة أو موقف بدرَ من أحد أفراد هذه القبيلة أو الفخيذة أو تلك ليدوّي الرصاص وتُستل الخناجر والسيوف في ذلك الفضاء الموحش اللامع بفراغه وأشباحه… يكفي أن يقول مثلاً أحدهم لآخر (أنت تكذب) أو (اقطع حسّك) لينفجر الحقد والنزاع ويتطوّر إلى معركة تدوم أياماً، يستقطب كل طرف مناصريه ومحالفيه حسب التواريخ والانتماءات التي كدسها الزمان في هذه الأصقاع التي بالكاد يعرف الآخرون عن حياتها وصراعاتها…. وفي فترات الدولة المركزيّة القويّة التي تسخّر تلك النوازع والانتماءات والطاقات الجماعيّة المتناحرة لمشروع يلم هذا الشتات ويصل صداه ونفوذه إلى خارج الأرض العمانيّة إلى مناطق وجغرافيات بعيدة.. حينها يُعرف شيئا عن هذه البلاد ويكتب المؤرخون ليس من القطر العُماني فحسب والذي يعاني شحاً بيّناً في كتابة التاريخ مقارنة بالمفاصل والأحداث العاصفة التي مرت بها البلاد، وإنما من خارجه عرباً وغيرهم. هؤلاء (الغيرهم) أي الأجانب من بلاد الفرنجة المستعمرين غالبا هم الذين يؤرخون ويكتبون بسعةٍ ورويّة مع الاختلاف والاتفاق فيما يكتبون، ويمضون في تجارب شاقة حدّ الخرافة في تلك الصحارى المستحيلة كالربع الخالي مثلاً، والتي يمور الجحيم (وليس النفط قبل اكتشافه والقابل للنضوب) تحت غلافها الرمليّ البرّاق، كمراجل أسطوريّة يحرّك حطبَ مواقدها أبالسةٌ مدرّبون.. اشتغل ذلك النفر من الأوروبيين في تلك الشروط القاسية لإشباع جوعهم الذي لا ينتهي عند حد إلى التجربة والمعرفة، للتأسيس والتهيئة لطلائع القوّة والعنف الكاسح لنفوذهم الحضاري في السيطرة والاستغلال، أو حبا في المعرفة وتقديساً لها..
وحدَه القاضي الطنجاوي ابن بطوطة وقلة غيره، خاض المغامرة من غير طموحات وأحلام مثل أولئك المدعومين بطموحات حضارة لا تفتأ في التوسع العلمي والسيطرة حتى خارج الكوكب الأرضي.. وحده القاضي المغربي المزواج برحلته الاسطوريّة الفريدة، ترك شيئا يُقرأ ويَدل، عن تلك الفترة الممتدة في بعض ذلك الزمن والأحداث.
سيف الرحبي