إعداد وتقديم : عبد القادر حكيم
منذ عقود، عُرفت إرتريا عند محيطها العربيّ، والعالم، عبر جميع وسائل الإعلام، بالكوارث والحرب الضروس التي استمرت وما تزال، مخلفة آلاف الشهداء والمفقودين وموجات من اللجوء ما تزال مستمرة، وكفعل مقاوم صحبت تلك السنوات العجاف حركة إبداعية في جميع الحقول الفنية كالشعر والسرد -بلغات محلية وعالمية- والفن التشكيلي. شهدت تلك الحركة في عمومها فترات من الخمود والضمور والازدهار. في المقابل ظلّ ما يُكتب منها باللغة العربية غير معروف، في معظمه لدى القارئ العربي، ولذا نرى أنّ الحاجة ماسة الآن للعمل وتضافر جميع الجهود لخروج إرتريا من ذلك التنميط المخيف/ الصورة الذهنية عن إرتريا وشعبها لدى السواد الأعظم من الشعوب العربية.
سيتناول الملف الأدب الإرتري المكتوب باللغة العربية، ملقيًا الضوء على تاريخ الشعر والسرد في إرتريا، وذلك عبر مختلف الحقب والمحطات التي شهدها كل حقل إبداعي كما سيتم تسليط الضوء على أهمّ التجارب الأدبية ورموزها ومشاكلها التي ظلت تعمل ككوابح تعيق تطورها.
للأدب الإرتري، بلغات كتابته المختلفة، أهمية كبيرة، سيما المكتوب منه بالعربية لاشتغاله على ثيمات أدبية وفنية جديدة، نزعم أنّ بعضها -إن لم يكن معظمها- من الممكن له أن يكون بمثابة إضافة حقيقية للأدب العربيّ، ذلك بسبب خصوصية المجتمع الإرتري، الذي يتحدث بلغات عدة، يمكن تصنيفها إلى مجموعتين لغويتين هما (آفرو- آسيوية) و(نيلو- صحراوية)، ظلّت على مدى قرون تعمل كوعاء زاخر بقصص وأساطير أنتجها المجتمع الإرتري، وحافظ عليها عبر وسائل التربية والحكايا جيلًا إثر جيل، مما يشكّل بالتأكيد مجالًا خصبًا يمتح منه الفنّان الجاد والموهوب شاعرًا كان أو ساردًا أو رسّامًا في رسم ملامح أعمال فنية مختلفة بالتأكيد عن السائد.
تواجه الباحث في أغوار الأدب الإرتري، عمومًا، صعوبات جمة تتمثل في شح المصادر التي من الممكن له أن يستقي منها معلوماته، وذلك لتداخل عدة أسباب منها ما يتعلق بالمنتوج الإبداعي نفسه، لقلّته؛ مقارنة بالأحداث الجسام التي مرت بالبلاد، ومنها عدم التوثيق له، والكتابة عنه، عدا النزر اليسير من مقالات هنا وهناك، يغلب عليها طابع المجاملات في الأغلب، ولا يُركن إليها في الاعتماد عليها للاشتغال الجاد حصرًا وتمثيلًا، كذلك كان لغياب الحركة النقدية المصاحبة للفعل الإبداعي أثرٌ كبيرٌ في قلة المصادر التي يمكن الرجوع إليها عند محاولة البحث عن جودة الأعمال التي نُشرت، من عدمها، سبب آخر هو حالة الشتات والتيه التي طالت معظم المبدعين الإرتريين، واستغراقهم كنتيجة لذلك في تفاصيل اليومي وكسب العيش، مما أدّى إلى توقف الكثيرين عن الكتابة.
سنناقش هنا، نتيجة لمجمل تلك الصعوبات آنفة الذكر، جانبًا واحدًا من الأدب الإرتري، هو المكتوب منه باللغة العربية، إذ إنّ الجزء الآخر منه، المكتوب بلغات أخرى محلية وعالمية يستدعي تفرغًا تامًا قد يمتد لشهور في محاولة التقصي وجمع مواده، وقد تمرّ المدة دون الإحاطة به.
يشارك في هذا الملف د. عادل القصاص الذي عاش شطرًا من عمره في إرتريا، وعبد القادر حكيم.
أدب عربي إرتري، أم أدب إرتري مكتوب بالعربية؟
الإرتريون الذين يقرأون/ يتلقّون ما يكتبه مواطنوهم من شعرٍ وسردٍ، باللغة العربية، يقفون في تصنيفهم لذلك النوع موقفين اثنين:
١/ قسمٌ منهم يرى إن هو إلاّ أدب أفريقي، يتم التعبير عنه باللغة العربية، وإنّ اللغة العربية حتى وإن كانت لغة رسمية في البلاد، فإنها ليست بالتأكيد، لغة وجدان جمعي لجميع الإرتريين، الذين ينحدرون من مجموعات لغوية متباينة، وبالتالي ينتمون إلى لغاتهم الأم، وما تحمله تلك اللغات من تراث هو مصدر هويتهم الغالب، بالرغم من التمظهرات التي لا تخطئها العين للثقافة العربية داخل ذلك التراث بنسب تقل أو تنقص من مكوّن ثقافي إلى آخر. هذه الفئة تجد أفرادها يرددونها مصطلحات كالـ «فرانكفونية» و«أدب الكومنولث» بالرغم من عدم دقة تلك المصطلحات في مقاربتها، التي تصل حد الشطط والتعصب الأعمى للفكرة، فالسياقات الجغرافية لمن يكتب بالفرنسية من غير أن يكون فرنسيًا هي بالضرورة ليست تلك التي للأفريقي الإرتري، الذي لا تفصله عن الجزيرة العربية سوى بضعة أميال بحرية، كما وأنه ظل منذ فجر التاريخ على تواصل دائم ودؤوب بشعوب المنطقة العربية، عبر حقب مختلفة، وكما هو معروف لم تكن العربية، في إرتريا لغة مستعمر في يوم من الأيام.
٢/ قسمٌ آخر، يزعم أنّ ذلك أدبٌ عربيّ خالص، وأننا عربٌ أقحاح، هذه الفئة باعثها في الأساس دينيّ، وما يؤكد ذلك هو قولهم في إثبات هويتهم العربية عرقًا وثقافة تجدهم يجعلون لأنفسهم أنسابًا تنتهي بأحد الصحابة أو التابعين، رغم أننا هنا لا ننكر وجود السلالات العربية في إرتريا، والذي تؤكده دراسات الحمض النووي التي أُجريت على بعض المجموعات السكانية في إرتريا. وقد تجد بعضا من هذه الفئة مدفوعًا بشعارات العروبة/ القوميين العرب، هذا رغم أن الفئة الأولى أيضًا ليست بعيدة عن الأيديولوجيا.
وبين الفئتين المتصارعتين حول تصنيف الأدب الإرتري، لم يقدّم حتى الآن للقارئ العربي/ المكتبة العربية سوى أسماء أو نماذج قليلة لا تتعدّى أصابع اليد، إذ ظلّ معظمه أسير التقريرية والمباشرة الفجة والصور الفنية المشوشة والأفكار والرؤى المبتسرة، يطلّ سؤال الهوية برأسه إثر ولادة قيصرية متعسّرة. لكن، تظل جدالات من هذا النوع، بطَرْقِها الملحاح على سندان الهوية، إحدى سمات الشخصية الإرترية المعاصرة.
الشعر في إرتريا: لمحة تاريخية، سمات عامة
ثمة تماثلات ثقافية بين سكان الجزيرة العربية، (خاصة الجزء الجنوبي منها، الممتد حتى ظفار في سلطنة عُمان) والأجزاء الساحلية في إرتريا، تظهر تلك التماثلات في الحِرَف التي يمارسها السكان، من صيد الأسماك، والغوص لجلب اللؤلؤ والمحار، كذلك هنالك تشابه في الفلكلور من مأكل وملبس وموسيقى، وشكل الغناء الذي هو مزيج من أغاني (أهل السمك) كما يطلق عليهم في إرتريا/ البحّارة/ السمّاكة، والإيقاعات المحلية. ومما لا ريب فيه أن التواصل قديم جدا بين سكان البر الشرقي لبحر القلزم(١) وبرّه الغربي، الذي أفضى بالنتيجة إلى التصاهر فيما بينهم، ونزوح بطون من قبائل عربية -قبل انهيار سد مأرب، وبُعيده- كـ«بني ذيبان» و«عبس» و«قبائل أخرى»، إلى جزر دهلك الإرترية، ومن ثم بالتدريج إلى نواحٍ متفرقة على طول امتداد الشريط الساحلي. ما يهمنا هنا هو أن الشعر ظل يشكل حضورًا في حيوات هؤلاء، في كل التفاصيل التي تتعلق بنشاطاتهم اليومية، لكن لم يسعَ الباحثون في جمعه، إلا النزر القليل، لأسباب تتعلق بعدم الاستقرار والوضع السياسي غير الآمن -كما سيتم ذكره لاحقًا- وأسباب أخرى. ودهلك، كما يصفها ياقوت الحموي «جزيرة في بحر اليمن، وهو مرسى بين بلاد اليمن والحبشة، بلدة ضيقة حرجة حارة، كان بنو أمية إذا سخطوا على أحد نفَوْه إليها»(٢). ومن الشخصيات المشهورة التي نُفيت إلى دهلك، وحسب ما وصلنا من المصادر التاريخية، الشاعر الأحوص الأنصاري، وعراق بن مالك، أحد فقهاء المدينة المعروفين في خلافة سليمان بن عبد الملك، والشاعر عمر بن أبي ربيعة. مكث الشاعر الأحوص الانصاري في منفاه ذاك خمسة أعوام (٩٦–١٠١هـ)، (٧١٥–٧٢٠م).. لكن لم يصلنا شيء من شعره في تلك الفترة!. وورد اسم دهلك في قصيدة لأبي المقدام:
« ولو أصبحت بنت القُطاميّ، دونها
جبالٌ بها الأكرادُ صمّ صخورها
لباشرتُ ثوب الخوف، حتى أزورها
بنفسي، إذا كانت بأرض تزورها
ولو أصبحتْ خلف الثريّا لزرتها
بنفسي، ولو كانت بـ(دهلك) دورها»(٣)
ورد ذكر الجزيرة أيضًا في بيتين شعريين، لأبي الفتح الإسكندري:
«وأقبح بـ(دهلك) من بلدة،
فكلّ امرئ حَلّها هالك
كفاكَ دليلًا على أنها
جحيمٌ وخازنها مالك»
ومالك، المذكور هنا هو مالك بن شداد، والي الجزيرة في زمن الخلافة العباسية ، الذين بسطوا نفوذهم إليها بعد زوال الدولة الأموية.
فعل مقاومة
في مجتمع تسوده الشفاهية، كمجتمعنا الإرتري، لعب الشعر دورًا كبيرًا في الحفاظ على الموروث الشعبي والمآثر والملاحم والأساطير التي -وعبر التربية- ظلت تتوارثها الأجيال جيلًا إثر آخر. أطلقت إيطاليا اسم إرتريا على مستعمرتها الجديدة، وذلك بتحوير الاسم الإغريقي القديم للبحر الأحمر (سينيوس إرتريوس) في عام ١٨٩٠م، بمرسوم أصدره الملك الإيطالي (همبرت الأول). وبذلك صارت البلاد معروفة بحدودها الجغرافية منذ ذلك الحين، لكن سرعان ما اندلعت ثورات عنيفة في أرجاء متفرقة من البلاد، ضد المستعمر الذي كان قد شرع في انتزاع الأراضي من المواطنين، وفرض ضرائب باهظة؛ في حقيقة الأمر، إنّ تلك الثورات كانت امتدادًا لثورات شعبية شهدتها البلاد ضد أطماع إثيوبيا -في عهد مملكة أكسوم-، لكن الشاهد في جميع تلك الثورات السابقة واللاحقة، حضور الشعر قويًّا في كل مراحلها، ولذلك تسنّى لنا معرفة الظروف التاريخية والأساليب القتالية التي اتبعها أصحاب الأرض للدفاع عن أنفسهم، من خلال ذلك الشعر، والقصص التي وثقت لتلك الفترة. وفي سمة تشبه تلك التي شهدها العصر الجاهلي في شبه الجزيرة العربية، كان البطل الشعبي في إرتريا، في تلك الفترة، في غالب الأحيان، شاعرًا؛ وكمثال لذلك الزعيم الثائر (بهتا حقوس)، والزعيم الثائر (دمات ود أُكُدْ).. اللذان تركا قصائد امتازت بالجودة، بلغتيهما المحليتين، (تقرنيا) للأول، و(تقريت) للأخير، تلك الجودة التي ارتجلا بها قصائدهما، هي أحد الأسباب التي جعلت شعرهما ما يزال متداولًا حتى اليوم، ولولا مخافة أن تضيع الدلالات الفنية العالية لشعرهما -سيما الأخير- لقمتُ بترجمة مقاطع منتقاة من تلك الأعمال الخالدة.
شعراء متصوفة
يقسم الكاتب والباحث في التراث/ الأستاذ أبوبكر جيلاني، المراحل التي مرّ الشعر العربي الفصيح في إرتريا، إلى أربع مراحل، كالتالي:
• المرحلة الصوفية.
• المرحلة الوطنية.
• المرحلة الثورية.
• مرحلة ما بعد الاستقلال.(٤)
لا يُعرف تاريخ محدد ومعلوم لدخول الصوفية إلى إرتريا، التي شهدت مدنها وقراها قدوم شيوخ متصوفة إليها من الشمال الأفريقي، وغرب أفريقيا، والعراق، ومصر، إلا أن المرصود من تلك الرحلات هو ما أرّخ للطريقة القادرية، والطريقة الختمية، إحدى أشهر الطرق الصوفية في إرتريا، والأكثر اتباعًا ومريدين، إذ حسب، جيلاني، كان دخول الختمية إلى إرتريا عام ١٨٢٠م، وكانت قد سبقتها -حسب ما ذهب إليه- الطريقة القادرية، التي انتشرت في مصوّع منذ عام ١٧٩٣م(٥).
من رموز الشعر الصوفي في إرتريا -يعرف أيضًا بالمديح النبوّي- الشيخ عبد العزيز عبدالرحمن، والشيخ جعفر حجّي سعيد، شيخ الطريقة الأحمدية الإدريسية، وكان مقرّه بمصوّع(٦). من سمات هذا النوع من الشعر، البساطة في التراكيب، والمباشرة، وخلوه من الصورالفنية، حيث إنه في الأساس، شعر تعليمي، بغرض نشر الدعوة، مستعينًا في ذلك، كما هو معروف بقرع الطبول/ نقر الدفوف، سنورد هنا نماذج شعرية لتلك الحقبة:
من قصيدة ( سلطان البرايا) للشيخ عبد العزيز عبد الرحمن..
« سلطان البرايا صلّينا عليك
سلطان البرايا صلينا عليك
بدأت بالله فاطر البرايا والهداية
نبيّ أتانا بالخير
من لدن الله مالك
الملوك السفلى والعلايا
رازق الخلائق بكرًا وعشيًا
باعث العباد يوم وقف الندايا
ثنيت بمدح النبي الهادي
أتانا بالنور كبير الدجايا
آيات القرآن أمرًا ونهايا
بوحيٍ عظيم ناموس العلايا»…(٧).
من قصيدة للشيخ جعفر حجّي سعيد، يرحّب بضيوفه..
بحمد الله نبتدي التحية
ونثني بالصلاة خير البرية
محمد أتانا بالهداية
وآله والصحابة ذوي الراية
فحياكم ضيوف الأحمدية
نقابلكم بآلاف التحية
ونطعمكم ونسقيكم شرابًا
معادنه بحور الأحمدية
فلا تخشون سوءًا بعد هذا
ورب العالمين الخير زادا
نالتكم من زيارتكم سعادة
وحب الصالحين لكم سيادة.(٨)
كان تعليم الشيوخ المتصوفة في تلك الفترة مقتصرًا على الخلاوي القرآنية، لتحفيظ القرآن، وبعض دروس الفقه، ولم يكن هنالك اهتمام بتعليم وتدريس اللغة العربية وقواعدها ونحوها وصرفها، وكل فروعها من بلاغة وبيان، وغيرها، لذا جاءت قصائدهم بذلك المستوى من الركاكة والضعف. والصوفية تشمل الكثير من نشاط مجتمعنا، فهي حاضرة عبر الإنشاد الديني، في كل المناسبات الدينية والاجتماعية، وما تزال -أي الصوفية- حتى يومنا هذا جزءًا لا يتجزأ من ثقافة مجتمعنا، ممارسة وسلوكًا.
فترة النضال السلمي:
سيادة شعر الرثاء
بُعيد الحرب العالمية الثانية، في السنوات الأولى من القرن المنصرم، شهدت إرتريا حراكًا سياسيًا من أجل الاستقلال، عمّ ذلك الحراك جميع المدن الكبيرة، وانتظمت الجماهير، معظمها، في التنظيمات المطالبة بالاستقلال، عدا قلة كانت تنادي بالانضمام إلى إثيوبيا؛ وشهدت البلاد أحداثًا جسامًا، وكان أن تم في السنوات الأخيرة من عمر الكفاح السلمي ذاك، في سنة ١٩٤٩م، اغتيال أحد رموز المقاومة تلك، وهو القائد عبدالقادر كبيري، فرثاه الشاعر محمد سرور بالأبيات التالية:
« نبكي على فقدان ذاك الأمجد
ربّ الفضائل والزعيم المفردِ
نبكي على تلك البطولة والحجا
وعلى الأمانة في سماء السؤدد
نبكي على فخر الكهولةِ والحمى
لسنا وشهم في الخطوب سمهددِ
حدثٌ تهزّ الراسيات لعزمه
وتهد شامخة القصور الوطّد
وتميد فيه الأرضُ ثمة تستعر
فيه القلوب وتصطبغ بتسودِ
أنعم (كبيري) في جنان آمنًا
واهدأ فذكرك في القلوب مجدد
ما كنت إلاّ دوحة فينانة
آوت لكل شريدٍ قلب أميدِ
أنقذتَ أمّتك الفتية من ردى
ومهدت للقوم الطريق معبد
ولقد سعيت وما ونيتَ ولم تكل
لكَ همة أو تنثني كمبلد
وأنرتَ للهدى المنير سبيله
ومشيت ماضي العزم لا تتردد.(٩)
والقصيدة طويلة -اكتفينا منها بهذه الأبيات- التي يلاحظ فيها قوتها، وتمكن صاحبها من اللغة العربية، ويبدو أنه كان واسع الاطلاع في علم العروض وبحور الشعر العربي، لكن للأسف لا يتوفر تراثه الشعري مطبوعًاً للقراء والباحثين، كما لا توجد معلومات عنه، سوى أنه من أبناء مدينة (قندع) التي تقع في الطريق بين العاصمة الإرترية وميناء مصوّع، وعُرفت، -أي المدينة- بأنها مدينة الفنون الأولى في إرتريا، إذ خرج منها عدد كبير من المبدعين في كافة الحقول الفنية.
بعد حياة حافلة بالعطاء، توفّي مفتي الديار الإرترية، الشيخ إبراهيم المختار، في سنة ١٩٦٩م، فرثاه عدد من الشعراء، بيد أننا سنقتطع أبياتًا قليلة لشاعِرَين رثياه، هما الشيخ عبدالقادر إبراهيم، والأستاذ محمد عمر با رحيم.
من قصيدة طويلة للشيخ عبدالقادر إبراهيم
«من للديار لها يا مفتي الدار
ودعتنا فجأة من غير إنذار
فأنت كنت لنا ثوبًا يزيننا ومن ترى
اليوم يكسي جسمنا العاري
فأنتَ كنت لنا حصنًا نلوذ به
في كل ضائقة تأتي بأخطار
قد كنت دومًا لنا نورًا يضيء لنا
في ظلمة الليل أو في زحمة الساري».(١٠)
في رثاء الشيخ إبراهيم المختار، للشاعر محمد عمر با رحيم، نورد
«مفتي الديار فمن للدار يعليها
بعد الرحيل إذ قد مات بانيها
يا لهف نفسي على قوم تركتهم
حيرى القلوب وهول الخطب يشجيها
من للفتاوى إذا نادى الحيارى لها
من للعلوم إذا نادى مناديها
من للتواريخ بعدك يا أخا همم
خلفت مأثرة الله يبقيها».(١١)
تأثّرت فترة النضال السلمي، في إرتريا، (التي امتدت من ١٩٤٢- ١٩٥٢) بانتعاش نسبي ملحوظ، وإن كان خجولًا في تطور الشعر الإرتري المكتوب بالعربية، وذلك في اعتقادنا، لعودة عدد من طلاب العلم، إلى البلاد بعد إكمال دراستهم في الأزهر الشريف، والمعهد العلمي بأم درمان، في السودان، والذين كانت قد توسعت مداركهم العلمية والفكرية؛ ساعد على ذلك سماح الإدارة البريطانية -التي انتُدبت للبلاد بعد هزيمة الإيطاليين- المنتصرة في الحرب، بإنشاء الصحف، وكنتيجة لذلك بلغ عدد الصحف الناطقة باللغة العربية، فقط، زهاء ست صحف، تنوعت بين صحف يومية وأخرى أسبوعية، لكن شعور المثقفين في تلك الفترة، في اعتقادنا، بضبابية مستقبل البلاد، لم يساهم في استقرارهم نفسيًا وماديًا، وهي ظروف لا بد منها لكي ينفجر نهر الإبداع، ولذا لم تنتظم البلاد في تظاهرات ثقافية، بل كُرست الطاقات نحو نيل الاستقلال من براثن المحتل البريطاني، وعدوّ رابض خلف الحدود، هو الإمبراطور هيلي سلاسي، المعروف بأطماعه التوسعية.
فترة الكفاح المسلّح
انطلقت شرارة الكفاح المسلح ، في شهر سبتمبر من عام ١٩٦١م، في المنطقة الغربية من إرتريا، ثم ما لبثت أن عمت البلاد بأسرها، انتظمت أعداد غفيرة من الشباب في صفوف الثورة الوليدة، وبدأت الأغنيات الوطنية في العاصمة أسمرا، متوسمة الرمز، في إشعال جذوة الثورة، ومع مرور فترة زمنية قصيرة، التحق هؤلاء الفنانون بالثورة الإرترية، وتم تأسيس فرقة فنية في الميدان، بدأت تصدح بالأناشيد الوطنية، باللغتين الرسميتين في إرتريا (العربية والتقرينية) ولغات محلية، أخرى. هذا وقد كان الغرض الأساسي لإنشاء تلك الفرقة الفنية تلك -التي تناسلت عنها فرق أخرى- هو حشد الجماهير العريضة وحضّها على الالتحاق بصفوف الثوار، في حرب ضروس امتدت لثلاثين عامًا، حتى الاستقلال في عام ١٩٩١م. تلك الأغنيات الرمزية، والتي انطلقت في مسارح أسمرا، وكرن، ومصوّع، كانت البذرة الأولى لطغيان الطابع التحريضي في كل الآداب والفنون التي ظهرت فيما بعد، سواء في الميدان، أو في معسكرات اللجوء في السودان. ونحن نلحظ أنّ ذلك الطابع التحريضي لم يتوقف، سوى في السنوات الأولى من عمر الاستقلال، ونتيجة لشعور الشاعر/ السارد/ الرسام/ النحّات / المغني الإرتري باستقرار وأمان نسبيين، كما سيرد ذكره لاحقًا. ظهرت في تلك الفترة أصوات شعرية متميزة، وإن ظلّ معظم ما كُتب في تلك الفترة يصبّ في خانة الفعل التحريضي على حساب الشعر التأملي العاطفي الذاتي الإنساني. ومن خلال متابعتنا لتلك الفترة، خلت الساحة تمامًا -عدا الغناء- من أي صوت أنثوي، وهو أمر غير مفهوم لدينا، رغم أن المرأة الإرترية شاركت في جميع مفاصل الثورة، في الصفوف الأمامية للمقاتلين، وفي مهام أخرى كالتمريض والعمل التعبوي التوعوي. ومن الأصوات الشعرية المتميزة في تلك الفترة، عبد الرحمن سكاب ومحمد عثمان كجراي وأحمد سعد ومحمد مدني ومحمد الحاج موسى وعبدالقادر ميكال وتاج الدين نور الدائم ومحمد عبدالحليم حمودة ومصطفى كردي وبابكر عوض الكريم وعمّار محمود الشيخ وهمّد دين الأمين.. صدر في تلك الفترة (عاشق من إرتريا) للشاعر أحمد سعد، و(مقاطع للأم والثورة) لتاج الدين نور الدائم.
الشعر بعد الاستقلال
السنوات الأولى من عمر الاستقلال، شهدت حراكًا ثقافيًا كبيرًا، ساهم عبر إقامة المنتديات الأدبية والنشر في الملاحق الثقافية لصحيفتي (إرتريا الحديثة والنبض) على ظهور أصوات شابة ضخت دماء جديدة على المشهد الثقافي الإرتري، امتازت تجاربهم بالتجريب والسعي لمواكبة الحداثة متأثرين بذلك بقراءاتهم ومتابعتهم للمجلات الثقافية التي كانت سائدة حينها في البلدان العربية. من تلك الأصوات الشعرية داخل إرتريا أحمد عمر شيخ وعبدالحكيم محمود الشيخ وعبدالله كرام وأحمد شريف ومحمد إسماعيل أنقا وتوفيق قسم الله وعبدالرحيم أبيب ومحجوب حامد. كما شهدت تلك الفترة ظهور أصوات شعرية إرترية خارج إرتريا مثل يبات علي فايد ومنى محمد صالح وشريفة العلوي وفاطمة موسى. تمكن بعض الشعراء من نشر أعمالهم بين ضفتي كتاب، كالشاعر أحمد عمر شيخ الذي صدرت له دواوين (حين لم يعد الغريب) و(تفاصيل امرأة قادمة من السودان) و(رقصة الطيور)، والشاعر محمد مدني الذي صدر له (نافذة لا تُغري الشمس)، كما صدر للشاعر والناقد يبات علي فايد (عبث الحسان) و(وغنيتُ للحب) و(طوينا صفحة الليل) و(ضحكت قمرية من منطقي)، وللشاعر بابكر عوض الكريم (أروى رنة الفرح المهاجر) و(لا تودعني وسافر) و(زخرف البلح) و(إلاّ أنا) للشاعرة شريفة العلوي، و(الأطفال والبحر) للشاعر عبدالقادر ميكال، و(هجرة البلانفورد) للشاعرة فاطمة موسى و(أندلسية العينين) للشاعر والقاص محجوب حامد.
القصة في إرتيريا
البدايات:
وفق ما تمّ رصده من قبل باحثين في الأدب الإرتري المكتوب باللغة العربية -على قلة تلك الأبحاث- فإنّ البداية الحقيقية لبروز فن القصة القصيرة في إرتريا على نحو جاد يُراعي الشروط الفنية لهذا الجنس الأدبي، كان في منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم عبر قصص كلّ من إدريس أبعرّي وحامد ضرار وعبدالرحيم شنقب وجمال هُمّد وأبوبكر كهال؛ عليه يمكن اعتبار هؤلاء القصاصين الخمسة هم الرواد الأوائل لهذا الفن، وجلّهم كانوا مقاتلين في الثورة الإرترية، وتلقّوا تعليمهم خارج إرتريا، في السودان والشام والعراق وليبيا، مما أتاح لهم ذلك فرصة ثمينة للاطلاع على الآداب والفنون في تلك البلدان وتأثروا بتجاربها. كان أغزر هؤلاء إنتاجًا حامد ضرار وإدريس أبعرّي، اللذين استطاعا تجميع أعمالهما ونشرها في مجموعات قصصية، إذ صدرت للأول من منشورات وزارة الثقافة بدمشق ( الهروب من الضباب) 1992 كما صدرت للثاني من القاهرة ( عظام من خزف) 1992.
ما بعد الاستقلال:
استطاع الثوار في إرتريا دخول العاصمة أسمرا في منتصف العام ١٩٩١ من القرن المنصرم، وبذلك انتهت حقبة من صراع دموي طويل من أجل الاستقلال امتدّ لثلاثة عقود، مما حدا بجموع الإرتريين في الملاجئ والمنافي العودة إلى الوطن للمشاركة في بنائه وتعميره. ونتيجة لذلك نشط المثقفون في إقامة عديد من الفعاليات التي تعنى برعاية الفنون والآداب عمومًا بمعظم اللغات الإرترية ومنها العربية التي كان مبدعوها أكثر حراكًا وأوفر حظًا بما يتوفرون عليه من تراكم كمي ونوعي أتاحته لهم اللغة العربية وأدبها المزدهر مقارنة باللغات المحلية الأخرى التي ما يزال بعضها إلى يومنا هذا أسير الشفاهية.
يذهب الصحفي والقاص عبدالجليل سليمان إلى «أن القصة القصيرة المكتوبة بالعربية في إرتريا هي صناعة ما بعد الاستقلال، وربما هذا أعطاها -عكس تصور الكثيرين- من الزخم والتنوع والثراء ما لم يُتح للأنواع الأخرى (خلا الشعر)، ويتمظهر ذلك في كثرة النصوص ومتنصيها ( القصاصين)، حيث أفرزت الساحة في سنوات قليلة بين 1992م – إلى 2000م، فترة ملاحقتي وإحصائي لأنفاس القصة، الكثير من المبدعين في هذا الصدد (القصة)، وبالطبع من الحمق والتسرع أن نركن بوثوقية إلى أن هذه الثماني سنوات أنتجت كل ذلك، ولكننا جازمون أنها أخرجته من (الصدر إلى النشر)- كما يقولون».
السنوات الأولى من عمر الاستقلال، شهدت حراكًا ثقافيًا كبيرًا، يمكن تمثيله في الآتي:
1 – «جمعية فكر وأمل» التي دعا إليها وقام بتأسيسها مجموعة من المثقفين الإرتريين تنوعت اهتماماتهم بين كتابة الشعر، والمقال، والقصة، نذكر منهم هنا: الشاعر توفيق قسم الله، والكاتب والمخرج محمود أبوبكر، والقاص والروائي مصطفى محمد محمود؛ قامت تلك الجمعية بتنظيم ندوات أدبية لقراءة الشعر والقصص، في العاصمة الإرترية أسمرا، وبعض المدن الكبيرة ذات الحضور المميز للثقافة العربية.
2 – كما خصصت (جريدة إرتريا الحديثة) ملحقاً ثقافيًا أسبوعيًا، كان يشرف عليه الشاعر الراحل عبدالحكيم محمود الشيخ، ساهم هذا الملحق في ظهور أصوات متميزة في الشعر والقصة والكاريكاتير.
3 – الملحق الثقافي الأسبوعي لجريدة النبض.
4 – منتدى السبت الثقافي: الأعضاء المؤسسون لهذه الفعالية هم: الشاعر عبدالحكيم محمود الشيخ، الأستاذة ناهد محمد حامد، القاص خالد محمد طه، القاص صلاح إبراهيم عبي، الشاعر منعم رحمة. لعب هذا المنتدى دورًا كبيرًا في توعية الجماهير بأهمية الآداب والفنون في إرتريا، عبر تنظيمه لندوات أسبوعية، تنوعت بين قراءات شعرية، وقصصية، وفي مجال الموسيقى والفن التشكيلي.
5 – الترجمة: شهدت تلك الفترة محاولات دؤوبة لترجمة الكتب الإرترية ذات الطابع السياسي، فنقل الكاتب والصحفي سعيد عبدالحي بعضًا من الكتب التي صدرت بلغة التقرنيا إلى اللغة العربية. أدبيًا قام كل من القاص عبدالرحيم شنقب والقاص خالد محمد طه بترجمة بعض قصص القاص سلمون ترَّقي من التقرنيا(12) إلى العربية، مثل قصتي ( الحمّام) و(حكايا الشهر التاسع)، لاقت تينك القصتين استحسانًا كبيرًا، إذ تُعتبر من أهمّ ما كُتب من قصص بلغة التقرنيا.
كان من شأن تلك الفعاليات التأسيس لجسم ثقافي متين يسهم في تحريك الراكد، وتطوير الفنون عمومًا، غير أن الظروف السياسية التي كانت تمرّ بها البلاد آنذاك أدّت إلى توقفها، وإلى هجرة معظم الكتّاب والفنانين عمومًا إلى خارج البلاد بحثًا عن حياة أفضل، وواقع ينعمون فيه بقدر معقول من الحرية يتيح لهم مواصلة إبداعهم. لكنّ الذي حدث بعد أن انفرط عقد كتّاب القصة في إرتريا وتوزعوا في أركان الأرض الأربعة هو توقف معظمهم -جزئيا أو كليًا-عن الكتابة، عدا قاصين اثنين هما: القاص والروائي مصطفى محمد محمود، وإلى حدّ ما القاص عبدالرحيم شنقب، فما الذي حدث؟.
حُبسة الكاتب.. أم هي الهواية؟
يشير القاص والكاتب فتحي عثمان -وهو أول فائز بجائزة وطنية للقصة القصيرة في إرتريا (جائزة رايموك)- إلى قصته «كولاج لمدينة خلاسية» بأنّ سبب انقطاع كتّاب القصة يعود أساسًا إلى أنهم «لم يحترفوا» كتابة القصة القصيرة ولم يتفرّغوا لها ولمكابدتها؛ بل مارسوها «كهواة» بحيث تكون هواية مضافة إلى مشاغلهم الأساسية خاصة العمل الصحفي والتدريس. حتى إنّه -أي فتحي عثمان- الذي يعرف في وسط دائرة أصدقائه بأنه كاتب قصة انصرف عنها إلى الكتابة في الشأن السياسي وبشكل مكثف حيث كتب المقال وتوج كتاباته السياسية بكتابين ويستعد لإصدار كتابه الثالث.
وينطبق حال فتحي كذلك على معظم من توقفوا عن كتابة القصة القصيرة بُعيد مغادرتهم البلاد، نذكر منهم على سبيل المثال جمال هُمّد وحامد ضرار وخالد محمد طه وعبدالقادر حكيم. ويضيف فتحي عثمان أسبابًا أخرى قائلًا: «ظروف الحياة الخاصة بالبلاد من تقييد للإبداع داخليًا أدّى إلى تشرد المبدعين الإرتريين وانصرافهم إلى ترتيب حيواتهم الجديدة حسب متطلبات الهجرة القسرية. يُضاف إلى ذلك غياب الجماعات والمؤسسات الراعية للمواهب والجامعة للمبدعين كاتحادات الكتّاب والجمعيات الأدبية، وحالة الانقسام السياسي الحاد في البلاد. تختلف درجة تأثير هذه العوامل من شخص لآخر ومن وضع لآخر، ولكنها تتضافر لتنتج حالة غياب أو ندرة المنتوج القصصي الراهن في وسط كتّاب القصة الإرتريين. هنا تتمثل مبادرة مكتبة أغردات العامة ومسابقتها المعروفة باسم (جائزة محمد سعيد ناود للقصة القصيرة) خرقًا للجمود السائد عبر تقديم مواهب جديدة في كتابة القصة القصيرة.
جائزة محمد سعيد
ناود للقصة القصيرة
في المهجر، تحديدًا في كندا وإنجلترا وسويسرا والسويد نشطت مجموعة من الكتّاب والفنانين الإرتريين في تدشين ورعاية مناشط ثقافية تهتم بالآداب والفنون وتشجيع المواهب الفنية، أهمها (مكتبة أغردات العامة) و(ألوان للفنون والآداب). تحت عنوان «مبدعو إرتريا يملأون فراغات الداخل بكيانات ثقافية في المهجر». كتب الصحفي والكاتب الإرتري محمود أبوبكر صاحب أول كتاب عن أنطولوجيا الأدب الإرتري المكتوب بالعربية، الموسوم بِـ(مرايا الصوت).. كتب لـ(إندبندنت عربية) مقالًا نقتبس منه، كمدخل، ما يلي:
«في مجتمع يعيش ما يقارب نصفه في المهجر وفي دولة واصل شعبها ثورة مسلحة لعقود ثلاثة من أجل نيل استقلاله، وفي ظل انشغال نظام الحكم بتصاريف السياسة وإدارة الاقتصاد الذي يعاني الحصار بسبب ضعف البنية الأساسية والتورط في نزاعات منطقة القرن الأفريقي، يبدو طبيعيًاً غياب دور الدولة الثقافي في إرتريا، ما يدفع مثقفي البلاد المقيمين في الخارج إلى إنشاء كيانات أو مؤسسات تستوعب طاقاتهم الإبداعية».
المجموعتان تنشطان على الفيسبوك بدرجة أساسية، لكنهما في خواتيم فعالياتهما تخرجان إلى القاعات بإقامة حفل سنوي؛ مجموعة ألوان التي تنشط في رعاية مسابقة للرسم والغرافيك باسم الفنان التشكيلي الإرتري المخضرم محمود دبروم، أقامت حفلها السنوي الأول في لندن والثاني في القاهرة بمصر، تشتمل فقرات الحفل عادة على تكريم شخصيات فنية وأدبية إرترية، أما مكتبة أغردات العامة، فقد أخذت اسمها من مكتبة إرترية شهيرة تم إحراقها من قبل الاحتلال الإثيوبي في مدينة أغردات غرب إرتريا عام 1975. تأسست المكتبة الحالية عام 2013 وبعد عام واحد من تأسيسها افترعت جائزة للقصة القصيرة حملت اسم المناضل والكاتب الإرتري محمد سعيد ناود، ويُعرف بأنه أول من كتب رواية باللغة العربية في إرتريا. بلغت عدد دورات جائزة ناود حتى الآن ثماني دورات، الأربع الأولى منها كانت تستهدف الكتّاب الإرتريين قبل أن تتحول إلى جائزة إقليمية تستوعب مشاركات الكتّاب من دول القرن الأفريقي، الصومال وإثيوبيا وجيبوتي وإرتريا وجنوب السودان والسودان. استطاعت الجائزة تقديم كتّاب جادّين في كتابة القصة القصيرة، نذكر منهم على سبيل المثال محمد علي نور حسين وأحمد شيكاي وحسين عثمان وآدم أزّوكاي ويوسف إربي وانتصار محمد إدريس، تنوّعت التيمات التي يشتغلون عليها من مكابدات اليومي وشروطه المنهكة في المهجر والملاجئ والحنين إلى الأرض التي ينتمون إليها، ومعظمهم وُلدوا وترعرعوا وتلقّوا تعليمهم خارج إرتريا.
القصة القصيرة المكتوبة بالعربية في إرتريا
يمكن الجزم بأنّ من يكتبون القصة القصيرة باللغة العربية اليوم هم ممن يقيمون خارج إرتريا، إذ طالهم خيار المنافي وشغلتهم الحياة ومكابداتها. لكنهم رغم ذلك يبدعون وينشرون قصصهم في الفيسبوك ومجلات إلكترونية عربية متخصصة كموقع (الأنطولوجيا، الذي يديره ويشرف عليه الكاتب المغربي نقوس المهدي)، ومثال لهؤلاء القاصة والشاعرة منى محمد صالح التي لها مجموعة قصصية تحت الطبع، والقاص والشاعر محجوب حامد الذي له مجموعة قصصية تحت الطبع، والقاص والروائي مصطفى محمد محمود الذي صدرت له مجموعة قصصية (هناك الأشياء تبقى كما هي)، والقاص الشاب ياسين إزاز الذي صدرت له هذا العام مجموعة قصصية (أوهام صغيرة.. أوهام جميلة)، والقاصة حنان محمد صالح التي صدرت لها مجموعة قصصية (المرأة إنسان من الدرجة الثانية) والقاص محمد حسّان. بالإضافة إلى أصوات واعدة شابة تتلمس طريقها بثبات وتؤدة نحو عالم القصة القصيرة؛ نذكر منها على سبيل المثال.. محمد علي نور حسين ويوسف إربي وأحمد شيكاي وآدم أزوكاي ونجاة شفا موسى وحسين عثمان وانتصار محمد إدريس. في داخل إرتريا ما يزال عبدالرحيم شنقب ممسكًا بالقلم وإن كان مقلًا إلا أن قصصه ما تزال تحتفظ بالجودة التي عرفت بها أعماله القديمة نسبيًا، أما القاص إبراهيم أبرار فقد انصرف عن كتابة القصة إلى الترجمة بين اللغات العربية والتقرنيا والإنجليزية.
الرواية المكتوبة بالعربية
في إرتريا
حسب تقصٍّ قام به باحثون إرتريون من ضمنهم الكاتب والباحث في الشأن الثقافي الإرتري إبراهيم إدريس، فإنّ أول رواية إرترية مكتوبة هي (المجنّد) كتبها بلغة التقرنيا غبري يسوس هايلو عام 1927 ونشرت في العام 1950، وقد صدرت نسختها العربية هذا العام عن دار الفرجاني، ترجمة الليبي فرج الترهوني. تدور أحداث الرواية حول المجندين الإرتريين في صفوف الجيش الفاشي الإيطالي، الذين تم تجنيدهم قسرًا في إرتريا الواقعة تحت الاحتلال الإيطالي وإرسالهم إلى ليبيا لقمع الثورة التي اندلعت هناك؛ وعلى طول مسار الرواية ينتقد كاتبها الاحتلال والحرب؛ نقرأ فيها:(13)
« من يخوض على أرض أجنبية معركة ليست معركته
وليس من أجل عائلته أو شرف وطنه، فعندما يحتضر بفعل رصاصة من عدو غاضب، لا يمكنه عندها أن يقول:
أوه يا بلادي العزيزة ها هي الحياة التي أعطيتِها لي، وها أنا أعود إليك.
لأنّ هذا الشخص يموت مرّتين،
ويذهب إلى جحيم أبدي».
ويعد محمد سعيد ناود (1926 -2010 ) أول من كتب الرواية باللغة العربية في إرتريا وهي رواية «رحلة الشتاء – صالح» التي صدرت عام 1978 عن دار «الكاتب العربي» في بيروت(14). كما كتب ناود روايته الثانية وهو في بيروت بداية ثمانينيات القرن المنصرم بعنوان (المغترب) لكنها لم تُنشر بسبب فقدانه لها، ولذا نجده قد تخلّى عن متابعة مشروعه الروائي لصالح النضال، وهو الذي يُعرف بأنه أحد أهم قادة النضال السياسي في إرتريا بتأسيسه وقيادته لتنظيم (حركة تحرير إرتريا) في العام 1958. بطبيعة الحال فإنّ اندلاع الكفاح المسلح عام 1961 جعل من الشعر وكتابته إحدى أدوات المقاومة، وبالتالي خفت صوت السرد؛ وتباطأت وتيرة القصة خلا نصوص قليلة لحامد ضرار وإدريس أبعرّي، وكبا حصان الرواية. ربما عاد سبب هيمنة الشعر في تلك الحقبة من عمر الثورة الإرترية إلى طبيعته المناسبة للنضال دون غيره من ضروب التعبير، باستثناء الرسم وثيق الصلة بالشعر؛ نقرأ هنا للشاعر السعودي خالد الخنين ما يؤيد زعمنا: «إن الفرق بين الرواية والشعر يكمن في كون الشعر يعد رصدًا وتسجيلًا للحظة الاستثنائية، لحظة الفرح الغامر أو الحزن العميق، أو غير ذلك، وقد تكون هذه اللحظة خاصة بالشاعر، وقد تكون عامة، وبقدر ما عمت هذه اللحظة أو الحدث بقدر ما كان صدى القصيدة أكبر وأقوى وأوسع، أما الرواية فإنها لا تحتاج إلى حدث تنطلق منه، فهي قد تخلق الحدث (تتخيله)، وعمر كتابتها الطويل لا يسمح لها بمواكبة أو التعبير عن اللحظة الاستثنائية، لحظة الموت، الميلاد، النصر، الكارثة، لذلك فهي تولد في ظروف عادية غير استثنائية، وهو الأمر الذي يجعلها تستهلك أيضًا في الظروف العادية، أما الشعر فإنه يتلازم كما يقال مع زمن (النبوءات)، زمن الأحداث العظيمة الساخنة المتفجرة وغير العادية»(15).
وبعد زهاء عقد ونيف من صدور أول رواية إرترية باللغة العربية أصدر الشاعر والإعلامي الإرتري أحمد عمر شيخ روايته الأولى الموسومة بـ(نوراي) وذلك في الأعوام الأولى من عمر الاستقلال، تزامن مع هذا الحدث بزوغ أولى تباشير النقد الأدبي في إرتريا، الرواية التي احتوت بعض فصولها على مشاكل بنيوية واضحة نظر إليها البعض بعين الرضا، باعتبار أنها جاءت بعد انقطاع طويل ومن شأنها تحريك السائد وملء الفراغ الذي ظل سائدًا منذ رواية (رحلة الشتاء – صالح) بينما استقبلها الطرف الآخر بالنقد اللاذع الذي لم يكن معظمه لينتمي إلى النقد الأدبي بصلة رغم احتشاد أوراقه بمصطلحات المدارس النقدية المختلفة، ازدادت وتيرته حدة بعد فوز الرواية بجائزة رايموك – فئة القصة القصيرة!!
وقد توالت روايات أحمد عمر شيخ في الصدور (الأشرعة) و(أحزان المطر) و(ريح حمراء) و(الهش).
كتابة الوطن من الخارج
تأزم الوضع السياسي في البلاد نتيجة الحرب الحدودية مع الجارة إثيوبيا، وعادت الأوضاع القهقرى إلى واقع أشبه بسنوات النضال الطويلة فمرّت البلاد على إثرها بحالة نزوح غير مسبوقة منذ العام 1998، وفي الخارج انهمر نهر الرواية مجددًا فصرنا نقرأ للروائي أبوبكر كهال المقيم بليبيا حينها، روايات (رائحة السلاح) 2001 و( بَرَكَنتِيا) 2006 و(تيتانيكات أفريقية) 2008 و( بلاد البونت) 2022. يبدو أن المنافي قد أتاحت للمبدعين الإرتريين كافة مساحة معقولة من الحريات لكتابة أحزانهم وأحلامهم الموؤودة وحنينهم المرضي إلى بلدهم الذي آل إلى يباب؛ فها هو الروائي حجي جابر إثر عودته من رحلته إلى مسقط رأسه مدينة مصوع على البحر الأحمر يكتب باكورة إنتاجه الروائي (سمراويت) 2012 التي حازت على جائزة الشارقة للإبداع العربي، وتتابعت أعماله ليكتب (مرسى فاطمة) 2013 و(لعبة المغزل) 2015 و(رغوة سوداء) 2018 التي فازت بجائزة كتارا للرواية العربية، و(رامبو الحبشي) 2021.
أكثر الروايات الإرترية التي حظيت بقراءات نقدية عربيًا وعالميًا هي روايات كل من كهال وحجّي، خاصة بعد الجوائز التي نالتها بعض أعمال الأخير وترجمة أعمالهما إلى لغات عالمية؛ فقد تُرجمت (تيتانيكات أفريقية) إلى التركية والإنجليزية والألمانية، بينما تُرجمت روايات حجي جابر (مرسى فاطمة) إلى الإيطالية، و(رغوة سوداء) إلى الفارسية. ويعمل الآن، -أي حجّي- لترجمة بقية أعماله إلى الفرنسية والإنجليزية. ومن الروائيين الإرتريين نذكر أيضًا محمود الشامي، الذي صدرت له (9 مارس) و(ثالثهما الفنجان) و(روزالين يقظة الحلم). وكذلك هاشم محمود الذي صدرت له في فترة وجيزة سبع روايات. هنالك أيضًا مصطفى محمد محمود، رواية (الكولونيالي)، ومنصور سعيد (سلالة البؤساء) و(لعنة وشم)، وكذلك كل من عبدالوهاب حامد (جرح الذاكرة) ومحمد إسماعيل هنقلا (حوارية الزمن الرديء) وعبدالقادر مسلّم (أزمارينو).
غياب النقد الأدبي
مع وجود هذا السيل الجارف -نسبيًا- من الروايات باللغة العربية، يستدعي الأمر وجود حركة نقدية تمضي على نحوٍ متوازٍ مع المنتوج الإبداعي عمومًا، تناقشه وتوضح هناته ونقاط قوته وتعمل على تقويمه/ تقييمه؛ لكن للأسف توقفت العملية النقدية في إرتريا قبل حتى أن تتضح معالمها في السنوات الأولى من عمر الاستقلال، كما تقدم ذكر ذلك. غياب النقد الأدبي أدّى إلى استسهال بعض الروائيين للعمل الروائي وإلى افتقارهم بالتالي إلى المعرفة بأبسط آليات كتابة الرواية. كما أنّ على الرواية الإرترية المكتوبة باللغة العربية أن تنحت أكثر فأكثر في المخزون الغني للتراث والفلكلور الإرتري وتنهل من ذلك المعين الذي لا ينضب وتشتغل عليه وتبدع فيه؛ وهكذا يمكن للأدب الإرتري أن يكون متميزًا؛ له نكهته وطابعه الخاص، ويمكن له أن يكون إضافة حقيقية للأدب العربي. أمر آخر أدّى إليه غياب النقد الأدبي هو تغوّل (الحالة الفيسبوكية) بشدة -وهي حالة ذهنية اجتماعية- على المنتوج الإبداعي، فتحوّل الفضاء الأزرق إلى سُوح للتهاتر (بين من يُفترض أنهم قرّاء) على نحو أشبه بذلك الذي يحدث بين مشجعي كرة القدم عقب انتهاء مباراة بين فريقين متنافسين.
خاتمة
الأدب الإرتري المكتوب بالعربية قدّم نماذج جيدة خاصة في الشعر والرواية، إذ إن تجارب عبدالرحمن سِكاب ومحمد عثمان كجراي وأحمد سعد ومحمد مدني وأحمد عمر شيخ ومحمد الحاج موسى ويبات علي فايد في الشعر، وأبوبكر كهال وحجّي جابر في الرواية، هي تجارب تستحق الإعجاب والمتابعة والدراسة، ليس محليًا فقط بل لدى كل قرّاء العربية. كما نرى أن رعاية هذا الأدب من قبل المؤسسات الثقافية في الدول العربية، بتوفير منح للتفرغ للإبداع الأدبي للكتّاب الموهوبين من الشباب سوف يصب بالتأكيد في مصلحته.
الهوامش
1 – البحر الأحمر.
2 – معجم البلدان – ياقوت الحموي – الجزء الثاني صـ ٥٦٠
3 – نفس المصدر السابق.
4 – كتاب «صمود الهويات ودحض المفتريات» – أبوبكر جيلاني
5 – المصدر السابق.
6 – المصدر السابق.
7 – المصدر السابق.
8 – المصدر السابق.
9 – المصدر السابق
10 – المصدر السابق
11 – المصدر السابق
12 – لغة سامية تنحدر عن اللغة الجئزية التي كانت سائدة في جنوب الجزيرة العربية.
13 – موقع عدوليس الإرتري عدد 22 أكتوبر 2022
14 – الأدب الإرتري المكتوب بالعربية «أسير العزلة» -محمود أبوبكر- إندبندنت عربية 3 نوڤمبر 2022.
15 – الرواية والشعر -خالد الخنين- صحيفة الجزيرة العدد 297 – صفر 1431.