أحمد سامي العايدي
باحث وأكاديمي مصري
لقد مرت جمهورية أذربيجان عبر تاريخها القديم والحديث بالعديد من الظروف والأحداث التي جعلت من أدبها مرآة تعكس هذه الأحداث، وتجعل المتتبع لتاريخ الأدب الأذربيجاني يدرك مدى ما عانته أذربيجان من تغيرات عرقية وطبوغرافية، شأنها في ذلك شأن معظم الدول الإسلامية التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي السابق. وبالطبع لم يكن الأدب الأذربيجاني بمنأى عما مرت به أذربيجان من أحداث قديمًا وحديثًا.
ويتميز الأدب الأذربيجاني المعاصر بأنه تحرر من القيود التي فرضها عليه الاتحاد السوفيتي ومن الأيديولوجية التي كان يتبعها مع الشعوب الموجودة تحت سلطته، حيث إن الناظر في الأدب الأذربيجاني المعاصرة يلحظ ثمة تغيرًا كبيرًا فيه مقارنة بما كان عليه أثناء حكم الاتحاد السوفيتي؛ فدخل هذا الأدب مرحلة جديدة عقب حصول أذربيجان على استقلالها عام 1991م. ويمكن إرجاع السبب في ذلك إلى الانفتاح على التجارب العالمية وتنوع الموضوعات التي فرضها عليه الواقع الذي عاشته أذربيجان عقب استقلالها.
وطرأت على الأدب الأذربيجاني المعاصر موضوعات مثل الاستقلال ومشكلة قراباغ الجبلية(1)، واللاجئين الأذربيجانيين والعودة إلى القيم الدينية والوعي القومي، بجانب القضايا الاجتماعية المختلفة. ولا شك أن هذه الموضوعات أثرت تأثيرًا مباشرًا في الاتجاهات البحثية بالدراسات التي تناولها الباحثون الأذربيجانيون عند دراسة الأدب الأذربيجاني.
ولا شك بعد أن خرجت أذربيجان من عباءة الاتحاد السوفيتي، أصبح التغير أمرًا حتميًا في شتى المجالات، ولاسيما مجال الأدب والدراسات الأدبية المعاصرة. والحق أن هذا التغير لم يأت فجأة بعد الاستقلال، بل كان له إرهاصات قبل سقوط الاتحاد السوفيتي نظرًا للوهن الذي أصابه في أواخر أيامه.
ويمكن القول إنه حدث في الأدب الأذربيجاني المعاصر في فترة الاستقلال حالة يطلق عليها «حالة انفتاح واندماج ورحابة أفق» من حيث الشكل والمضمون في الأدب الأذربيجاني المعاصر؛ فقد ظهرت على الساحة موضوعات وقضايا جديدة، وكذلك رُفع الحظر عن قضايا وموضوعات أخرى كان ممنوعًا التطرق إليها أيام الاتحاد السوفيتي، وكذلك رفع الحظر عن دراسة شخصيات وطنية كان لها دور مهم أثناء حكم الاتحاد السوفيتي في الحفاظ على هوية الشعب الأذربيجاني من خلال أعمالهم الأدبية وأفكارهم التي لم تنل القبول أثناء الحكم السوفيتي.
وتعد قضية «إعادة الوعي القومي» للشعب الأذربيجاني من القضايا المهمة التي جاءت في مقدمة الموضوعات التي أولاها الكتّاب والنقاد والباحثون في أذربيجان بعد الاستقلال اهتمامًا كبيرًا في أعمالهم الأدبية، لأن الروس سعوا طيلة سبعين عامًا إلى طمس هوية الشعوب التي كانت تحت سيطرتها، وإبعادهم عن جذورهم القومية والإسلامية.
لا شك أنه ظهرت شخصيات أدبية جديدة في الأدب الأذربيجاني في فترة الاستقلال، ولكن الشخصيات الأدبية التي كانت موجودة في فترة الاتحاد السوفيتي لعبت دورا مهما وأساسيا في تطور هذا الأدب؛ حيث استمر هؤلاء الكتاب والأدباء في الإبداع والكتابة في الفترة المعاصرة كما كان الحال في السنوات السابقة على سقوط الاتحاد السوفيتي، ومن أمثلة هؤلاء المبدعين؛ في الشعر «باختيار وهاب زاده»، و«نبي خزري»، و«قابيل»، و«موسي يعقوب»، و«محمد إسماعيل»، و«رامز روشان»، وفي النثر «عيسى حسينوف»، و«جنكيز حسينوف»، و«أنار رضاييف»، و«إليتشين أفندييف»، و«أكرم إلياسلي»، و«صابر أحمدلي» و«كمال عبد الله»، وفي المسرح « رستم إبراهيمبيوف»، و«رحمان علي زاده» وغيرهم.
ويشكل موضوع الاستقلال أحد الاتجاهات الأساسية والمهمة في الشعر الأذربيجاني المعاصر. فلم يأت هذا الموضوع هباء أو بمحض الصدفة بل هو يشكل إحدى الركائز المهمة والأساسية في الشعر في تلك فترة. ومن الصعب أن نصادف شاعرا من شعراء فترة الاستقلال لم يتناول بشكل أو بآخر موضوع الاستقلال. فمن الطبيعي أن يشغل الفكرَ الأدبي البديعي الأذربيجاني سقوطُ الاستعمار السوفيتي الذي استمر سبعين عاما وحصولُ أذربيجان على استقلالها.
لذلك بدأ منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي جيل جديد من الشعراء في الظهور في الأدب الأذربيجاني أمثال «عادل ميرسيد»، و«حميد هريستشي»، و«سلام صارفان»، و«قولو آغساس»، و«سليم بابُ الله»، و«دامات سلمان أوغلو»، و«خانامير»، و«أقشين ينيسي»، و«قسمت»، و«فريد حسين». وسعى هؤلاء الشعراء إلى التجديد في الموضوعات المتناولة في الشعر الأذربيجاني، بجانب الاهتمام بالجانب الفني والجمالي في قوالب الشعر بما يناسب المرحلة الجديدة.
كما يلاحظ أن تطور الإبداع النثري في فترة الاستقلال يلازم تطور الرواية بشكل كبير. وتتميز روايات كثيرة ظهرت في هذه الفترة بالأصالة والتجديد مثل (دنياي الفانية) للكاتب «إسماعيل شيخلي»، ورواية (دكتور«ن») للكاتب «جنكيز حسينوف»، وروايات (بعد الجولستان)، و(زرنتاج وطاهرة)، و(نحو الضوء)، و(مأساة صوت)، و(السلطانة ربابة)، و(سلطان العشق) لـلكاتبة «عزيزة جعفر زاده»، ورواية (الكبش الأبيض والكبش الأسود) للكاتب «أنار رضاييف»، وروايتي (الكتلة)، و(الكيف) للكاتب «صابر أحمدلي»، ورواية (عطر شاه مسان) لـلكاتب «أكرم إيليسلي»، ورواية (نعي) لـلكاتب «سيران سخاوات»، ورواية (الحرية) لـلكاتبة «آفاق مسعود»، ورواية (الرجل السمكة) لـلكاتب «إيلتش حسين بيلي».
وقد قطعت الرواية الأذربيجانية المعاصرة -مقارنة بالسنين السابقة- شوطا كبيرا على طريق التطور، فتحققت في نماذجها السمات الأصيلة للرواية بما قربها بحق من مستوى الرواية العالمية.
وقد اكتسبت الروايات التاريخية في السنوات الأخيرة صبغة اجتماعية وسياسية. ومن أول النماذج على ذلك رواية (دنياي الفانية) للكاتب «إسماعيل شيخلي». فالمؤلف الذي أفاد من الأسلوب الإبداعي القديم في الرواية قد أحيا تاريخ الشعب الأذربيجاني بتفاصيل نفسية من خلال تصويره للدنيا الفانية لبطل الرواية.
كما جُسدت إحدى مراحل تاريخ أذربيجان إبداعا في الشكل والمضمون في رواية (الكبش الأبيض والكبش الأسود) للكاتب «أنار» الذي تناول روايته بأسلوب أسطوري أفاد فيه من الحكايات الشعبية بشكل غير تقليدي، وعن طريق الصورة (البيضاء) و(السوداء) -التي تمثل الخط العام للرواية- يتم تصوير الصور الصعبة والحزينة لتاريخ أذربيجان في الفترة الأخيرة بجانب تصوير إمكانية وجود طريق آخر كبارقة أمل لنجاة الشعب من المشكلات القومية التي تعرض لها.
أما في رواية (عطر شاه ماسان) لـلكاتب (أكرم إيليسلي) فتنعكس الأحداث التاريخية التي عاشها الشعب الأذربيجاني في السنوات الأخيرة بشكل عاطفي، ويسعى المؤلف في إظهار التغيرات التي أحدثتها المراحل السياسية والتاريخية في حياة الإنسان ومعنوياته ونفسيته، واستطاع تحقيق هدفه من خلال الشخصيات التي قدمها في الرواية.
ويمكن تلخيص الموضوعات الرئيسة التي طرأت على الأدب الأذربيجاني المعاصر في فترة الاستقلال والتي كوّنت الاتجاهات الأساسية لهذا الأدب وكانت الركيزة الأساسية لتطوره في الوقت الراهن:
* خلق استقلال أذربيجان اتجاهًا جديدًا في الأدب الأذربيجاني المعاصر، وساعد على إعادة دراسة إبداع بعض كبار الكتاب والمفكرين والأدباء الأذربيجانيين الذين تعرضوا للقهر والظلم والقتل أحيانًا على يد الحكومة الروسية بسبب محاولتهم التصدي للأفكار السوفيتية وإعادة وعي الشعب الأذربيجاني، ومثل هذه الشخصيات «محمد أمين رسول زاده» (1884 – 1955م)، و«علي بك حسين زاده» (1864 – 1940م)، و«أحمد بك آغا أوغلو» (1869 – 1939م)، و«علي ميردان بك طوبو تشباشوف» (1863 – 1934م)، و«الماس ايلديرم» (1907 – 1952م)، وغيرهم، حيث إن إعادة دراسات مؤلفات مثل هؤلاء الكتاب والمفكرين الأذربيجانيين أثرت الدراسات الأذربيجانية المعاصرة؛ فقد شكَّل هؤلاء وغيرهم ما يسمى بـ «أدب المهجر الأذربيجاني»، حيث كتب وأبدع هؤلاء الكتاب أعمالًا أدبية ودراسات مهمة وقيِّمة حول الأدب الأذربيجاني بكل مراحله. ولم يكن متاحًا من قبل دراسة هذه الأعمال أو تحليلها أو الكتابة عنها. ولكن أصبح «أدب المهجر الأذربيجاني» حاليًا من أهم الاتجاهات البحثية الثرية التي يلجأ إليها الباحثون بالدراسة والتحليل. وظهرت في الآونة الأخيرة عشرات الدراسات حول «أدب المهجر الأذربيجاني» وكتَّابه وأهم مراحله. يوجد حاليًا باحثون متخصصون في «أدب المهجر الأذربيجاني».
* دراسة موضوعات حول العلاقات الأدبية بين الأدب الأذربيجاني والآداب الأخرى، وعلى سبيل المثال، دراسات البروفيسور «إمام ويردي حمدوف» (1941م) حول العلاقات الأدبية الأذربيجانية والعربية، مثل كتاب «صفحات من العلاقات الأدبية الأذربيجانية – العربية» (2002م)، وكذلك كتاب «كلاسيكيو الأدب الأذربيجاني في الدراسات الأدبية العربية» (2008م).
* إعادة تقييم الأدب الأذربيجاني خلال فترة الحكم السوفيتي بعيدًا عن الرقابة التي كانت مفروضة على الأدب آنذاك ومنهج «الواقعية الاشتراكية» في الأدب، وظهرت أبحاث ودراسات كثيرة في فترة الاستقلال تُعيد النظر في الدراسات والإنتاج الأدبي من خلال تحليلها وعرضها على المناهج النقدية الحديثة.
* من الموضوعات التي فُرض عليها الحظر أيام الاتحاد السوفيتي ما يعرف في الدراسات الأذربيجانية المعاصرة بـ «أدب أذربيجان الجنوبية»، وهو يعني الإنتاج الأدبي للكتاب والأدباء الذين يعيشون في إيران ولاسيما في منطقة تبريز، وهم أذربيجانيو الأصل، حيث يوجد في إيران حاليًا أكثر من ثلاثين مليون أذربيجاني أو بمعنى أصح من أصل أذربيجاني. فمن المعلوم تاريخيًا أن أذربيجان انقسمت في القرن التاسع عشر إلى قسمين «أذربيجان الشمالية» التي كانت تحت سيطرة القيصرية الروسية ثم الاتحاد السوفيتي واستقلت بعد ذلك وأصبحت جمهورية أذربيجان الحالية، والقسم الثاني «أذربيجان الجنوبية» وهي ضمن إيران حاليًا ويتحدثون فيما بينهم باللغة الأذربيجانية ولهم إنتاج أدبي كبير، ودور في تطوير الدراسات الأذربيجانية المعاصرة. ويعتبر «أدب أذربيجان الجنوبية» من الاتجاهات البحثية الحديثة التي يتناولها الباحثون بالدراسة والتحليل في الوقت الحالي. وهناك قسم خاص بـ«أدب أذربيجان الجنوبية» في معهد الأدب التابع لأكاديمية العلوم الوطنية الأذربيجانية.
*أولى الباحثون الأذربيجانيون في فترة الاستقلال اهتمامًا كبيرًا بالموضوعات والشخصيات التاريخية التي تساعد على إعادة الوعي القومي لدى الشعب الأذربيجاني. وبدأ الأدباء والكتاب في تناول مثل هذه الموضوعات في أعمالهم الأدبية مثل: الرواية والقصة القصيرة والمسرح. وأصبح من ضمن الاتجاهات البحثية الحديثة في الدراسات الأذربيجانية المعاصرة الاتجاه نحو إعادة دراسة التاريخ والشخصيات التاريخية من خلال الأعمال الأدبية.
* فرضت الأحداث السياسية والاقتصادية التي مرت بها أذربيجان عقب استقلالها نفسها على الأدب، ومن أهم الموضوعات التي مثَّلت اتجاهًا في الأدب الأذربيجاني المعاصر «قضية قراباغ». وهناك عشرات من الأعمال الأدبية المتعددة مثل الرواية والقصة الطويلة والقصة القصيرة التي تناولت هذه القضية.
*تعرض الشعب الأذربيجاني ولاسيما المثقفين منهم إلى «عمليات القمع الجماعي عامي 1937 – 1938م»(). واتجه الباحثون في فترة الاستقلال إلى الاهتمام بالشخصيات التي راحت ضحية هذا القمع وخلّفت تراثًا أدبيًّا مهمًّا أمثال الكاتب «حسين جويد» (1982 – 1941م)، والكاتب «يوسف وزير تشمنزمينلي» (1887 – 1943م)، والناقد«بكير تشوبانزاده» (1893 – 1938م)، والشاعر «أحمد جواد» (1892 – 1937م) وغيرهم.
وفي الختام بعد هذه الإطلالة السريعة للأدب الأذربيجاني في فترة الاستقلال، يتضح لنا أن الأدب الأذربيجاني تطور في هذه الحقبة الزمنية القصيرة تطورا سريعا، وانفتح على العالم الخارجي وطرأت عليه موضوعات جديدة تتماشى مع واقع أذربيجان الحالي، وركز على الموضوعات التي تهم القارئ دون أية قيود كما كان الحال في فترة ما قبل استقلال أذربيجان.
الهوامش
-1 تعد قضية قراباغ من أهم المشكلات التي كانت تؤرق أذربيجان، حيث بدأ الصراع على إقليم قراباغ بين أرمينيا وأذربيجان منذ زمن بعيد، ولكنها ظهرت على الساحة ثانية منذ عام 1988م أي في نهاية الحكم السوفيتي. واندلعت الحرب بين الطرفين عام 1992م، واستولت أرمينيا على هذا الإقليم وسبع محافظات محيطة به. وانتهت الحرب بعقد اتفاقية وقف إطلاق النار بين أذربيجان وأرمينيا عام 1994م. وقد اتخذ مجلس الأمن عدة قرارات تدين ما قامت به أرمينيا في أذربيجان واعتبر وجود القوات الأرمينية بمثابة احتلال لأراضي دولة أخرى. ويمثل إقليم قراباغ الجبلية عشرين بالمائة من أراضي أذربيجان، وقد تسبب هذا الاحتلال في تشريد أكثر من مليون لاجئ أذربيجاني من أراضيهم. وفي 27 سبتمبر 2020م اندلعت حرب قراباغ الثانية بين أرمينيا وأذربيجان استمرت 44 يومًا، وحققت فيها أذربيجان نصرا كبيرًا واستطاعت إعادة أراضيها المحتلة.
-2 تعرض الشعب الأذربيجاني منذ احتلاله عام 1920م على يد الحكومة السوفيتية إلى التعذيب والقمع العديد من المرات، ولكن بلغ هذا القمع المدى في عامي «1937-1938م»، حيث تعرض الشعب الأذربيجاني، ولاسيما العلماء والمثقفين منهم إلى التعذيب والقتل. فقد قضوا في تلك الفترة على أكثر من سبعين ألفا من العلماء والكتاب والفنانين والمدرسين والشباب ورجال الدين بتهمة أسموها آنذاك بـ«عدو الشعب»، وكانت محاكمتهم تستغرق حوالي ربع الساعة، بعدها يصدر الحكم بالإعدام رميا بالرصاص. وكان هذا القمع الجماعي موجها في الأساس لأصحاب الفكر ولأي شخص ينادي ويطالب بالحرية أو الاستقلال من الاتحاد السوفيتي.