خلال حملتين متتاليتين، تمكن كل من الملك سنحاريب – سنحريب 680-669 ق.م) وولده أسرحدون 680-669 ق.م، من فرض السيطرة على أجزاء واسعة من الجزيرة العربية، وإخضاع القبائل المتمردة هناك. وبحسب جواد علي؛ فإن نعت المؤرخ اليوناني هيرودوت، لسنحاريب بأنه (ملك العرب والآشوريين) هو تأكيد لنجاحه في قمع تمرد الأعراب على الإمبراطورية في مواضع عدة. ويبدو من السجلات التي وصفت الحملة، أن جيش أسرحدون واجه أثناء اختراقه البادية مصاعب وأهوالا ً يصعب تخطيها، فعدا عن وعورة الأماكن التي كان عليهم اختراقها لمطاردة القبائل المتمردة، كانت هناك مصاعب ومخاوف من نوع آخر، فقد شكا الجنود لقائدهم بمرارة من كثرة الثعابين والأفاعي التي تطير في السماء.
وكانت تهاجم المعسكرات ليلا ً، وتثور عليهم وتقفز أمامهم كما يذكر نص أسرحدون، ومن بينها ثعابين ذات رأسين أو أجنحة. وعندما سار جيش أسرحدون في أرض بزو Bozu، شاهد الجنود كيف أن الأرض كانت مغطاة بالثعابين والعقارب، وكانت لكثرتها مثل الذباب والبعوض. والتوراة تسمي مكانا ً بعينه بزو בזו .إن تحقيقاتي الشخصية التي قمت بها طوال سنوات من العمل الشاق في مؤلفي السابق (فلسطين المتخيّلة) للتأكد من صحة الفرضيات المقدمة عن خط الحملة الحربية الآشورية، تؤكد ما يلي: ليس ثمة مكان يوصف بأنه من أماكن الوحش في البيئة الصحراوية التي اجتازها الجيش الآشوري سوى الموضع الذي وصفه الهمداني وسمّاه البزوه (خبت البزواء) في بلاد بارق من ناحية غور السراة. لقد وصف المؤرخ اليوناني هيروةدُت1 هذا الموضع بعد نحو 169 عاماً من حملة أسرحدون هذه(500 ق. م) في كتابه وصف مصر، وكتب عن الثعابين الطائرة في المكان نفسه على هذا النحو:
يوجد مكان في (شبه الجزيرة) العربية وهو مقابل مدينة فوتو- بوتو تقريباً. ولقد ذهبت إلى هذا المكان لاستفسر عن الثعابين المجنحة. وبعد أن وصلت شاهدت ُ عظاماً أعمدة فقرية لثعابين لا يمكن وصفها، إذ كانت توجد كتل من الأعمدة الفقرية الكبيرة وأخرى أصغر منها، وغيرها صغيرة جدا ً. وكانت هذه الأكوام كثيرة، وكان المكان الذي به الأعمدة الفقرية منتشرة، ومكدّس بعضها على بعض بهذا الشكل، مدخل ضيق ينحدر من الجبال إلى سهل كبير، ويتصل هذا السهل بالسهل المصري. وهناك رواية تقول إنه في الربيع تطير الثعابين المجنحة من البلاد العربية إلى مصر. لكن طيور أبي منجل تخرج ويجتمع بعضها مع بعض في هذا المدخل من البلاد، ولا تسمح للثعابين بالدخول وتقتلها. ولهذا السبب يقول العرب إن طائر ابي منجل يشرف كثيرا ً من المصريين(2).
ومن الواضح أن هذا المكان لا صلة له بفلسطين وهو كما ارتأى هيرودُت، يقع في شبه الجزيرة العربية. لقد واصل الجيش زحفه برغم هذه المصاعب والأهوال واستولى على أماكن ومواضع أخرى، كما أسر الأميرة تبؤة Tabua ظبوة. وقد سقطت في يده مواضع كثيرة منها أدوم (أدومو Adumu) التي توصف بأنها مساكن أريبي، أي مساكن وادي العرب، حيث استولى على أصنامها وأسر ملكتها اشكالاتو Iskallatu التي كانت كاهنة الإلهة دبت Dibat . وهذا الاسم هو ذاته اسم الوادي الشهير اشكول الذي وصفه الهمداني، وُيرسم في التوراة في صورة اشكول אשכול. وقد وصف الهمداني ديار قبيلة عربية قديمة هي (بنو شكل- الشكل) لا تزال منازلها حتى اليوم في محافظة البيضاء شمال اليمن. أما دبت Dibat التي كانت تتعبد لها هذه الملكة الكاهنة فهي اسم الوادي (دبة – دبت) الذي وصفه الهمداني كواد ٍ متصل بساحل بني مجيد (ما يعرف بمجدو في التوراة). وأريد هنا لفت أنظار القرّاء إلى الفكرة التالية: حسب ما نقله لنا الهمداني فإن كل أسماء المواضع والأماكن في اليمن هي أسماء آلهة أو آباء قدامى. وهذا أمر هام للغاية يجب الاهتمام به، فما يبدو لنا في هذه النصوص أسماء ملوك وملكات وأصنام، أصبح في عصر الهمداني أسماء جبال ومياه ووديان.
ولنلاحظ كذلك، أن اسم أدوم يرتبط باسم أريبي الذي ورد في التوراة في الصيغة ذاتها אדומ في مواضع عدة(3)، ارتباطا بالصراع ضد الآشوريين. وقد فهم بعض علماء الآثار من التيار التوراتي أنه ينصرف إلى دومة الجندل، وأن المعارك دارت هناك. وبرأينا أن هذا خطأ كرره جواد علي، لأن أدوم جبل شهير في الجزيرة العربية في وادي العرب (أريبي) أي مساكن أريبي. كما أن رسم الاسم في صورة أدومو لا يطابق رسمه في صورة دومة، بينما نعلم أن الواو الأخيرة في الأسماء حرف صوتي وليست من أصل الاسم، كما في لهجات العرب من سكان السواحل: مثل عبدو في عبد، وأحمدو في أحمد..الخ .واستنادا ً إلى وصف الهمداني، فقد عرف العرب القدماء جبلين بهذا الاسم، احدهما أدوم في منطقة الجليل (جليل الجزيرة العربية وليس فلسطين) وأدوم آخر في اليمن.
هاكم وصف الهمداني في صفة جزيرة العرب(4):
والمساكن من هذا المخلاف ( مخلاف السحول) جبل أدُم(5) وأرياب(6) موضع ذي فائش(7) ويعلق محقق الكتاب ما يلي : وأرياب في رأس أدم من يحصب العلوّ وهو رأس صيد- وادي صيد-).
لنلاحظ أن الاسمين أدم ووادي صيد – صيدا (صيدون في التوراة وهذا وزن عبري وبناء مألوف للأسماء بزيادة الواو والنون التي تطورت برأينا إلى ألف ونون مثل عدن- عدنان) هما من مساكن القبائل العربية، ويرسمان في صورة أدم وعرب (وادي العرب) وصيد- صيدا كما في السجلات الآشورية والمصرية وعند الهمداني. ولعل الاسم أريبي الذي توهم جواد علي أنه (عريبي) وهو برأينا وادي العرب الشهير بمحاليفه وقبائله(8) يؤكد ان الفضاء الجغرافي المرسوم لا يشير البتة إلى فلسطين. أما أدم الآخر في الجزيرة العربية فهو أدم في ديار بني ُمزينة في قلب الجزيرة العربية. وهناك موضع آخر بالقرب من سائر هذه المواضع يدعى أراب حسب وصف الهمنداني (صفة جزيرة العرب، ص: 135) يقع بالضبط في الفضاء الجغرافي لمخلاف حضور في وادي مور الشهير. وهذا أمر مثير بالفعل، ويتطابق مع مزاعم الإخباريين العرب القدماء عن مسار الحملة. يقول الهمداني (صفة : 295): وأدم بديار مُزينة وأدم بالسحول، جبلان، وذو الجليل من مواضع الوحش على محّجة نجد فيه ُثمام وهو الجليل. بيد أن النص الآشوري لا يشير البتة إلى المكان الذي انطلق منه سنحاريب، صوب ما يُفترض أنه دومة الجندل، أي ما اعتقد علماء الآثار أنه Adummatu -Adumu. ويبدو أن خطأ في قراءة الاسم، قاد عالما ً مرموقا ً من علماء الآثار هو موسل إلى الافتراض أن المقصود بهذا الاسم، دومة الجندل في عمق الجزيرة العربية، بينما سنرى تاليا أن المقصود به أدم في مخلاف السحول باليمن. يؤكد لنا كل هذا، أن روايات الإخباريين العرب عن الحملات الآشورية في مخلاف السحول، صحيحة تماما، ما دامت النقوش تتحدث عن استيلائهم على جبل أدومو ومساكن عريبي- العرب، وهذه أماكن ومواضع في مخلاف السحول.
ومع ذلك فقد امتد نفوذ سنحاريب بفضل حملته هذه في الجزيرة العربية، ليشمل منطقة واسعة تمتد من قلب الجزيرة إلى حدود بابل. إن النص الذي تركه لنا سنحاريب، والقائل أن العرب في مملكة تلخونو (تل- هونو) كانوا يبتاعون الطحين والملابس والمواد الضرورية الأخرى من بابل، يؤكد وجود روابط متنوعة سياسية وتجارية حقيقية. وبحسب نص النقش فقد اشترك العرب مع البابليين في الحرب على المقاطعات الآشورية في بلاد الشام. أي أن روابطهم القوية والوثيقة مع البابليين، مكنتهم من لعب أدوار حاسمة في الصراعات الداخلية ضد خصومهم الآشوريين. لكن، وعندما تمكن الملك الآشوري سنحاريب من بسط سلطانه على بابل في سنة 689 ق. م، قام بأعمال انتقامية ضد هذه المملكة، وتعقب الأعراب في البادية انتقاما ً منهم لولائهم لخصومه البابليين، ومن الواضح ان حملته بلغت أدومو אדומ. ويظهر من النصوص الآشورية أن خلافا ُ نشب داخل مملكة تلخونو ( تل- هونو) بين القبائل العربية البدوية والملك حزاء يل (خزا ايلي حسب النقوش الآشورية وفي التوراة سفر الملوك2 يرسم الاسم في صورة בנ חזאל بن- حز-ءل ) على خلفية الحملة الانتقامية. وبرأينا أن السبب الأهم الذي فجرّ الخلاف، جاء في الواقع بعد أن تولى الملك بنفسه قيادة الجيش وتنظيم خطط الدفاع والهجوم. لقد فجرّت الهزائم التي منيت بها المملكة غضب واحتجاج القبائل، متهمة إياه بسوء القيادة. وحسب نص النقش الذي نقله جواد علي عن موسل؛ فإن مملكة تل- هونو- خونو ( غضبت على حزا ايلي ملك ارببي ) . فلماذا سمىّ الآشوريون حزا- ءيل ملك أريبي، وهو ملك تل- هونو ؟
إن العودة إلى وصف الهمداني لمنطقة الهون ووادي العرب (عريبي) سوف توضح هذا الالتباس. تقع الهون- هونو- خونو إلى الشمال من محافظة ذمار وتتصل بمخلاف السحول، حيث جبل أدم وفي أعلاه عزلة جبلية تدعى أرياب في الفضاء الجغرافي لوادي العرب. يقول الهمداني (مخلاف الهون- أي مملكة الهون- مخلاف واسع. والهان في ذاتها بلد واسع يسكنها ألهان بن مالك أخو همدان وبطون من حمير وقراها كثيرة- ويضيف محقق الكتاب: وقد غلب اليوم مخلاف أنس على اسم مخلاف الهان)(9 ). هذا يعني أن الفضاء الجغرافي الواسع للوادي الخصب وادي العرب، كان يغلّب تسمية الملك باسمه، فهو ملك تل- هون وملك وادي العرب. وفي النهاية استسلمت مملكة تلخونو- تل هون للآشوريين، فجرى نهب الأصنام واقتيد الأعراب أسرى إلى نينوى عاصمة الآشوريين، كما أخذت الأميرة تبؤة- ظبوة Tabua أسيرة إلى عاصمة آشور، ولكن ليعاد تنصيبها ثانية أميرة على أريبي- أي على وادي العرب، بعد أن خضعت سياسيا ً لإرادة الإمبراطورية. أما حزا ايلي (חזאל حزاءيل) فقد أفلت مع أتباعه عندما اعتصم في رؤوس الجبال(10)، والحال هذه، فلم يكن بمقدور سنحاريب المغامرة بمطاردته في منطقة وعرة داخل الوادي (وفي التوراة يرسم الاسم في صورة ها-عربة ה ערבה اي العرب).
ثم تخبرنا المصادر الآشورية أن حزاءيل (خزا ايلي) قام فور وفاة سنحاريب وانتقال العرش إلى ابنه أسرحدون، وبعد زوال أسباب العداء بين الطرفين، بزيارة العاصمة الآشورية ليقدم بنفسه فروض الولاء والطاعة للعاهل الجديد الذي أعاد إليه الأصنام الأسيرة، ومنها عتر سمين(11) (عشتار السماوية) والإلهة ديه Daa(12) ونهيا(13) Nuhaia وابيريلو (إبر ءيل- ابريل(14) أي الله البارئ Ebirillu وعثر قرمه Atar Kurumaia ويبدو أن بعض هذه الأصنام أصيبت أثناء وجودها في الأسر بالتلف، فأمر أسرحدون بإصلاحها وإعادتها إلى ما كانت عليه، ثم تلطف فأمر بإرجاعها إلى خزا ايلي بعد أن ُنقشت عليها عبارة إلى جوار اسم الملك، تفيد بتفوق إله آشور على الأصنام. فمن هو الملك حزا-ءيل ( خزا-ايلي) الذي كان يتعبّد للإلهة دية ونهيه وعثتر سمين وابرا-ءيل ( إبريللو) ؟ تزودنا الرواية التوراتية بمعلومات رائعة وتفصيلية عن هذه الحملة، لم تدونها السجلات الآشورية، من بينها التفاصيل الخاصة بصراع حزا-ءيل مع الآشوريين. وسوف نبدأ من اسم الإلهة نهيه Nuhaia. لقد تركت هذه الإلهة اسمها في واد عظيم من وديان اليمن وبالصورة ذاتها، تماما كما في التوراة נהיה. ولأن أسماء الأصنام، ترتبط بمنظومة معتقدات دينية (طوطمية) وأنماط حياة كذلك، فقد أصبحت ضمن شجرة الأنساب البشرية، وبحيث صار الإله ( المعبود) والطوطم جزء من شجرة نسب الإنسان، وذلك ما تشهد عليه ظاهرة الأنساب عند العرب القدماء، حيث يصبح الإله أدد ( هـ-ءدد أو هدد، حدد הדד) مثلا ً، أبا ً أعلى لعدنان. في هذا الإطار سوف يبدو أن لاسم الإلهة نهيه صلة باسم مكان (موضع) بعينه، أو بطوطم تجسد في صورة صنم معبود، وبحيث أصبح دالا ً على مكان أو طعام والعكس. ولأن الإخباريين القدماء سجلوا في رواياتهم أخبار حملة نبوخذ نصر، ولم يتحدثوا عن أي حملة أخرى لأي ملك بابلي أو آشوري آخر، بينما نسبوا كل ما جرى من دمار وخراب خلال تسع حملات جرت في عصور مختلفة إلى ملك واحد، فقد بات علينا القيام بعملية تفكيك شاقة، بهدف إعادة بناء الرواية التاريخية لكل حملة من هذه الحملات، بالاعتماد على السجلات والنصوص الإخبارية. من الواضح أن حملة سنحاريب (توفي عام 689 ق.م) استهدفت القبائل المتمردة التي جرى مطاردتها في عمق البادية، وأن اسم المملكة تل- هونو التي هاجمها تدعى بالضبط العربي تل- هون ( هان) بما أن الواو الأخيرة حرف صوتي. وفي هذه الحالة يجب ان تكون من ممالك تهامة اليمن(15). أراد أسرحدون من وراء عملية إعادة تنصيب الأميرة الأسيرة ظبوت- ظبوة- تبؤة Tabua التي تربت آنئذ ٍ تربية مدنية آشورية، ومن جديد أميرة على أريبي، أن يضمن وإلى أقصى حد ممكن فرض سلطان آشور على أهم مخاليف اليمن القديم في وادي العرب. وهو حلم تحقق، ولكنه لم يدم طويلا ً، لأن العداء بين الآشوريين والقبائل العربية كان عميقا ً، وكانت طبيعة التناقضات والخلافات شائكة ومتراكبة، دينيا وسياسيا ً. ومع ذلك، فلم يكن أمام أسرحدون سوى هذا الإجراء لتثبيت أسس النفوذ الآشوري على القبائل المتمردة. كما اعترف أسرحدون بحزا ايلي الملك المتمرد، ملكا ً على قبيلة قيدار، ولكن مقابل إتاوة قدرها خمسة وستون جملا ً. فلما توفي حزا ايلي سنة 675 ق.م اعترف اسرحدون بوريثه في العرش وولي عهده ابنه يتع- يثع Uaite ملكا ً جديدا ً على القيداريين، شرط أن يدفع إتاوة سنوية كبيرة مقدارها ألف َمنْMinae (16) من الذهب، والمن البابلي وحدة وزن تساوي نصف كيلو غرام. كما فرض عليه أن يدفع لخزانة الإمبراطورية جزية سنوية مقدارها ألف حجر كريم. والنصوص الآشورية ترسم اسم قبيلة قيدار في صورة قِدروKidru . وهذا الاسم ورد في نصوص التوراة في الصورة ذاتها קידר– قيدار. وهي قبيلة عربية قديمة عرفها اليونانيون وسموها بالاسم نفسه مؤكدين على أنها عربية، أي تماما ًً كما في التوراة – قصيدة حزقيال- وأنها كانت تقيم في الفضاء الجغرافي نفسه لمملكة- مخلاف حضور (حصور في التوراة חצור) التي هاجمها نبوخذ نصر ودمرها، واستولى على ممتلكاتها. والمثير للاهتمام أن سفر أرميا يشير إلى هذه الحادثة التاريخية، ويسجلها بدقة. والملاحظ أن الجزية الثقيلة التي اضطر الملك إلى تقديمها، تضمنت نحو خمسين جملا ً سنويا ً محملة بكميات كبيرة من البخور. وهذا دليل على أن مسرح المعارك كان اليمن القديم الذي يشتهر حتى اليوم بانتاج البخور، بينما لا يوجد لدى الأعراب في البادية ممتلكات ضخمة من البخور كما في نص النقش. وقد وافق الملك الجديد بسبب ظروف تنصيبه الصعبة، أن يدفع للآشوريين اضعاف ما كان يدفعه والده. غير أن تقديراته للأزضاع الداخلية لم تكن دقيقة، فقد ثارت عليه القبائل، وقام زعيم قبلي ساخط يدعى أوبو Uabo بثورة عارمة عامة للتخلص منه ومن سلطان الآشوريين. وحيال هذه التطورات، أسرع الآشوريون إلى إرسال جيش ضخم لإخماد الثورة، فتم أسر أوبو Uabo وأخذ إلى نينوى. بيد أن ظروف الصراع وحالة الإمبراطورية المنهكة في تسيير الحملات العسكرية إلى أصقاع بعيدة ومناطق وعرة وصعبة، والقتال الشرس الذي كان على القوات خوضه، أدى إلى إضعاف قدرتها على إخماد أي تمرد او ثورة داخلية من هذا النوع. ولذلك، قاد يثع Uaite الثورة هذه المرة بنفسه ضد الآشوريين وراح هو وأتباعه، يطرقون أبواب الامبراطورية ويهددون حدودها المحاذية للبادية، فاضطر الآشوريون إلى تجهيز حملة جديدة هاجمت مضاربه، واستولت على ممتلكاته بما فيها الأصنام التي أخذت مع الأسرى مرة أخرى. أما يثع فقد وجد نفسه في خضم المعركة وقد أصبح بمفرده دون أنصار، ليفر صوب البادية كما ورد في النص. إثر ذلك، قام أسرحدون عام 676 ق.م بحملة أخرى على قبائل عربية تنزل أرض بزو Bazu قتل خلالها كما يقول النص، ثمانية ملوك، من بينهم ملك يدعى حازو- حزو وفي التوراة ءحاز. كما تمكن العاهل الآشوري من أسر ملكة يفأ- يافع وملكة با –ايلو ( باهلة) Ba›ilu وملكة اخيلو- أكيل-Ihilu وأسر زعيما ً يدعى هابن عمرو17- بن عمرو Habanamru .كما أسر ملكا ً يدعى ملك بتع وملك جبأ.
وأريد التوقف هنا أمام أسماء هذه القبائل القديمة. إن قبيلة أكيل Ikilu – من بطون همدان العظيمة التي تقيم في حقل صعدة، وتمتد مضاربها حتى وادي بطنة (الذي حير أسمه علماء الآثار، وزعموا أنه بدنة- مدنة إلخ). وقد وصف الهمداني مساكن أكيل هذه على النحو التالي( صفة 225):
حقل صعدة: وتجتمع مياه هذه الأودية من أسفل البطنة ثم إلى همدان ثم إلى نجران. وصعدة سكانها الأكيليون من آل ربيعة سعد الأكبر.
يؤكد لنا هذا التطابق بين النقوش الآشورية ونصوص التوراة ووصف الهمداني لليمن، أن المعارك كانت تدور في صعدة.ولأن الآشوريين تمكنوا من أسر أحد ملوك هذه القبائل ويدعى ملك بتع Buda وآخر يدعى ملك جبأ، فمن الهام للغاية ملاحظة ما يلي: أن بتع Buda هذا ليس شخصية من نسج خيال الآشوريين. والهمداني يعطي نسبه واسمه على النحو التالي(18): وأولاد بتع الملك ابن زيد، علهان ونهقان الملكين، وأمهما جميلة بنت الصّوار بن عبد شمس. وفي أخبار اليمن القديمة، أنه لما قحط القطر في زمان يوسف- ع- وألحت الجراد وساءت أحوال اليمن والحجاز لأنها أرض مغلقة- مرتفعة- لا يسوح فيها، أمر بتع ابنيه علهان ونهقان أن يكتبا للناس إلى خزنة الملك). ويبدو أن الهمداني قرأ نقشا ً بخط المسند عثر عليه في صنعاء (269-9) ما يلي: وفي مسند بصنعاء على بعض الحجارة التي نقلت من قصور حمير وهمدان : علهان ونهقان إبنا بتع لهم الملك قديما ً كان. وزيادة في التوثيق، يؤكد الهمداني نقلا ً عن حديث محمد بن أحمد الأوساني (الإكليل 268-14 : أن الأخير قرأ – بدوره- نقشا ً بخط المسند في منطقة عمران من البون دار همدان ما يلي: علهن ونهقن إبنا بتع بن همدان صحح- رمم- حصن وقصر حدقان بن زيد بن بنينا). وكل هذه الإشارات تؤكد أن بتع كان من ملوك همدان بالفعل، وكما وصفته النقوش الآشورية. والمثير للاهتمام أن الهمداني يرسم صورة دقيقة لنسب (قد يبدو لنا أسطورياً). يقول . وأولد بتع بن حاشد ذي مرهب ءل. فأولد مرهب ءل ينوفا ً ذا باع القيل- الملك- وهو أجلّ من وفد على سليمان – ع- من قيول- أقيال- اليمن مع بلقيس).
كما ورد اسم بتع هذا في الشعر الجاهلي. قال علقمة:
قد مات يوسف ذو نواس
ومات ذو بتع ينوف
ولذلك، نستنتج من كل هذه الإشارات، أن اسم بتع هو ينوف، وان بتع لقبه. لكن نشوان بن سعيد الحميري(19) يفاجئنا بالمزاعم التالية :
ويقال أن بتع اسمه الأصلي بري ءل، أي صنعة الله- خلق الله . وذو بتع هذا زوج بلقيس- زوجه سليمان وهو صاحب السّد، سد بتع). نخلص من ذلك أن بتع الذي اصطدم بالآشوريين حسب النقوش، واستنادا ً إلى طريقة رسم اسمه بالإنجليزية من جانب علماء الآثار هو تبع dbua( بتقديم وتأخير الباء) وهو لقب يمني شهير. ولعل نطقه في صورة بتع ناجم عن تقاليد الإبدال في الحروف عند القبائل التي كانت تساعد الآشوريين في تسجيل ونطق الأسماء.والمثير أن الحميري يخبرنا أنه هو نفسه أبر-ءل ( إبريل) الذي أسر الآشوريون صنمه. وما يدلل على ذلك، أن التباعيين – من تبع هم من بطون همدان المقيمة في صعدة. وذلك ما يؤكده لنا الهمداني الذي يقول (صفة 187) في وصف مخلاف السحول: مخلاف السحول: وساكنه بطون من الكلاع وهي بطون من حمير منها السحول وجبأ الذي ينسب إليه جبأ المعافر والتباعيون من همدان.
وفي هذا النص ما يؤكد، أنه من همدان، كما في المساند التي عرضها الهمداني كأدلة قاطعة على وجوده ملكا ً على التباعيين. وبصدد اسم جبأ، يمكن الجزم أنه من الاسماء الشهيرة التي تدّل على مخلاف واسع وخصب في المعافر هو مخلاف جبأ. فهل يمكن الافتراض أن السبي البابلي حدث في فلسطين؟ في هذا السياق، تشير النقوش إلى أن أحد ملوك وادي يد- يدي Idai أفلت من الأسر، وسوف نأتي على ذكر هذا الوادي تاليا ً، علما ً أننا تحدثنا عنه مطولا ً في فلسطين المتخيلة، فهو الوادي الشهير الذي ورد ذكره في التوراة والشعر الجاهلي وفي وصف الهمداني بالصيغة نفسها. وللتدليل على نمط التأويل الاستشراقي- التوراتي السائد في علم الآثار، سوف أسوق المثال التالي عن النقاش الذي جرى بين العلماء حول تحديد موضع بزو وحزو: ارتأى كلاسر في تأويله لاسم بوز- بزو الوارد في نص سنحاريب، أنه موضع في العربية الشمالية. أي في الحجاز. أما موسل، فارتأى أن الوصف يشير إلى أنها تقع في بادية مجدبة ليس فيها غير الشوك ونوع من حجر يعرف بـ (حجر فم الغزال)، وأن هذه البادية وطبقا ً للنص الآشوري تتصل بسهل فيه الأفاعي والعقارب وأنواع من الجراد مثل الزربابو. بينما تصور موسل موضع حزو كأرض جبلية. لكنه، وبرغم هذا التحديد الدقيق نسبياً من حيث التوصيف، قام بوضع بزو في غرب وفي جنوب «تدمر السورية، وفي وادي السرحان على وجه التحديد، وأن الملوك الثمانية الذين قتلهم اسرحدون كانوا يقيمون في وادي السرحان عند الحدود الشرقية لحوران، وفي الرحبة وقطة إلى وادي القطامي .
وهذا غير منطقي وغير مقبول جغرافياً، لأن الحملة في هذه الحالة تكون قد اتجهت صوب الصحراء السورية وليس إلى شمال الجزيرة العربية. وبكل يقين سوف تصبح فلسطين بعيدة تماما ً . ومع أن وادي السرحان هذا لا يعرف بازو- بزوه ولا حازو- حزوى، ولا توجد قطة ولا الرحبة ولا السرحان، فقد واصل العالمان الأثريان وضع الأماكن الواردة في النص الآشوري ضمن خريطة فلسطين، بينما نرى، وبخلاف هذا التخبط، أن خط سير الحملة الحربية يشير إلى الجزيرة العربية، وليس ثمة موضع له مثل هذه التوصيفات الموحشة سوى موضع حزوى أسفل نجران. وهذا ما يؤكده الهمداني في وصف هذه البادية(266- 267- صفة) بقوله (ومن أسفل نجران حُزوى كثيب منقطع وحده طويل). وللدقة أكثر يحدده الهمداني في اليمامة . قال الشاعر:
لقد جشأت نفسي عديّة مُشرف ٍ
ويوم لوى حُزوى فقلت لها صبرا
والغريب، أن وادي يد- يدي هو في الفضاء الجغرافي الذي وصفته الحملة الآشورية. ولكن المخيال الاستشراقي التوراتي ذهب أبعد مما نتصور، فالكلمة برأي موسل تعني الجاف أو (الودي) وذلك بإبدال الحرف الأول من كلمة –يدي- بحرف الواو (ودي)؟ والمؤسف أن العالم الجليل جواد علي انساق خلف هذه المزاعم، ورأى احتمال أن يكون موضع الودي هو يدي أو يدىء شمال تدمر السورية. وسوف نبرهن أن وادي يدي هذا ليس سوى وادي أيد الذي وصفه الهمداني بدقة في أرض السراة اليمنية على مقربة من بلاد بارق، أي في المكان نفسه الذي وقعت فيه الأحداث(20) وحيث توجد في الفضاء الجغرافي الأماكن ذاتها التي ذكرها النقش؟
وحسب مزاعم المستشرقين، فقد سلك الجيش الآشوري الطريق التجارية المارة من الحافات الشرقية لحوران إلى دمشق؟ وهكذا تصبح أرض بزو في بلاد الشام لا في الجزيرة العربية؟ إن هذا الخلط الجغرافي، يبيّن على أكمل وجه كيف تلاعب المستشرقون وعلماء الآثار من التيار التوراتي بحادث السبي البابلي؟ لكن الأغرب من كل هذا أن العالمين كلاسر وموسل، اتفقا تقريبا ً على أن موضع أسيس أو أرض أوسيتس الوارد في النص الآشوري في توصيف خط الحملة الحربية،هو اسم يرد في التوراة في صورة אשיש- Ausitis .وهذا صحيح، ولكن أسيس هذه التي وصفها امرؤ القيس في شعره، هي موضع يمني، وقد أوردنا في مساهمة سابقة ما يكفي من الأدلة التي تؤكد بشكل قاطع أنها وردت في شعر امرؤ القيس في وصفه لأرض اليمن(21)؟ بكلام آخر، وقع العالمان في تناقض صارخ، لأن بزو في أرض الشام، بينما حازو في البادية؟ فإلى أين اتجهت الحملة إلى الشمال أم إلى الجنوب؟ ويبلغ التناقض حدّه الأقصى، حين يضطر كلاسر وموسل إلى الاعتراف أن المراد بـ أسيس Aisetai قد يكون ايسايتاي-ايسايته، وهو اسم موضع ذكره الجغرافي بطلميوس في بادية بلاد العرب. وهذا أمر غير مفهوم؛ فإذا كانت الحملة تتجه نحو تدمر، فكيف تسنى لها الوصول إلى عمق الجزيرة العربية؟
لقد انساق جواد علي وهو ينقل تصورات كلاسر وموسل، وراء هذه الأخطاء، وهذا أمر مؤسف بالفعل. ولأن النقاش حول بزو- بازو اتخذ طابع المطابقة مع ما ورد في التوراة، فقد عاد كل من كلاسر وموسل إلى القول أن بزو هي نجد؟ وأن البادية التي تحدث عنها أسرحدون هي منطقة النفود. وأما حازو فإنها الأحساء . ولاحظ جواد علي في هذا السياق، أن رولنسن ذهب إلى احتمال كون هذه المنطقة هي أرض ملكة الحيرة، وما يتصل بها إلى جبل شمر، لأن الوصف المذكور ينطبق- في رأيه- على هذا المكان؟ أما كلاسر فاقترح مكانا ً آخر، هو الأقسام الشرقية والجنوبية من اليمامة (ضواحي الرياض اليوم) . وهذا رأي هو الاقرب إلى الصواب من بين كل الآراء والمقترحات . كما اقترح أن تعتبر حاز هي ذاتها حزوى التي تسمى السدوسية لبني سعد في اليمامة، لأن هذه اللفظة قريبة جدا ً من حزو التوراة ومن خازو النص الآشوري. وهذا ما نتفق معه تماما ً. ولكننا، بفضل هذا الرأي العلمي الرصين، سنجد أنفسنا من جديد في قلب التناقض الجغرافي، إذ على هذا الأساس سوف ننتقل من تدمر ووادي السرحان إلى نجد، بينما تصبح بزو في اليمامة، وهي أرض ذات آثار قديمة وعاديات وخرائب تقع بين وادي ملهم ووادي حنيفة. ورأى آخرون على خطى تصورات المستشرقين هذه، إن أرض بازو هي الساحل المقابل لجزر البحرين، أي جزيرة تلمون كما كانت تعرف عند القدامى. وأما حازو، فهي الأحساء . وهكذا، خرج جواد علي بالاستنتاج التالي: بما أننا نلاحظ وجود تقارب في مبنى اللفظتين حازو وأحساء، فهذا يعني أن المقصود منها منطقة الأحساء؟
في هذا الإطار طرح علماء الآثار وهم يقرأون السجلات، السؤال التالي: أي طريق سلك أسرحدون عند عودته من الحملة على الأحساء؟ اقترح البعض فكرة انه سلك طريقا ً موازيا ً لساحل الخليج، وأنه في هذه الحالة يكون قد اخترق أرض بازو و حازو- خاسو أي الاحساء، ثم سار شمالا ً إلى بابل. وكان أسرحدون قد سلك في حملته الأولى طريقاً اخترق منطقة النجد، فلما قرر العودة سلك الطريق الثانية الموازية . لكن كلاسر انتهى في استنتاجاته إلى احتمال وجود علاقة بين باهلة Bi-i-lu وهو اسم الملكة، وبين اسم باهل القبيلة المعروفة التي تقع منازلها في هذه المنطقة. وعنده أن حملة أسرحدون استهدفت اليمامة. وقد وجدت ُ في المساند الحميرية- اليمنية (نقوش جام(22) مثلاً) والتي أعاد قراءتها مطهر الإرياني ما يلي:
سعد تألب-يتلف-بن-جدنم-كبر- أعرب- ملك-سبأ-وكدت-ومذحجم-وحرمم-وبهلم-وزدال- وكل- أعرب- سبأ
وهو ما يعني :
القائد- سعد تالب بن يتلف الجدني كبير أعراب ملك سبأ وكبير كندة ومذحج وحرام وباهل وزيد إيل وكل اعراب سبأ
وفي هذا النقش كما يُلاحظ، انه سجل الحميريون اسم القبيلة باهل باعتبارها من البدو (أعراب سبأ) تماماً كما في السجلات والنقوش الآشورية، وهو ما يؤكد وجودها التاريخي ويدعم تصورنا لحالتها، فهي من الجماعات البدوية التي كانت جزءا من تحالف تقوده سبأ. كما ورد اسم باهل في النقش رقم 39 بوصفهم من أعراب حمير، أي من بدو حمير. وفي الحقيقة لا ُتعرف باهل اليوم إلا باسم باهلة، وهما برأي الإيرياني، باهلتان- مفرد باهلة إحداهما يمنية من سعد العشيرة وتقيم في السراة واخرى عدنانية. وهذا يعني أن النقش الآشوري سجل واقعة صحيحة تتعلق بالصدام مع بدو اليمن.ولهذا، لا يبدو أن كلاسر وموسل(وعلى خطاهما مؤرخون عرب) قرأوا النقوش بطريقة دقيقة.
فكيف يمكن لنا، القيام بعملية تفكيك مثمرة وفعالة لهذه الفوضى الجغرافية؟ سأعطي هذا النموذج لغرض دراسة نمط التلفيق في القراءة الاستشراقية لحملة سنحاريب. ينقل جواد علي- وهو في حالة استسلام تام لتأويلات علماء الآثار من التيار التوراتي- ما يلي:
سار- سنحاريب- إلى بلاد الشام لإخضاع العمونيين والمؤابيين والأدوميين والعرب والعبرانيين، فقد كان هؤلاء قد انتهزوا فرصة قيام البابليين وقبائل إرم والعرب والعيلاميين على الآشوريين للتخلص منهم، فألفوا حلفا ً بينهم في جنوب بلاد الشام، أي في فلسطين والأردن، وانحدروا لمحاربة سنحاريب . فلما وصل إلى ساحل البحر المتوسط، أخذ جيشه يستولي على المدن، الفينيقية والفلسطينية، ويتقدم نحو الجنوب حتى بلغ عسقلان Ashkelon ولما وصل إلى موضع التقه -Eltenkeh Altenkeh، اصطدم بالعرب وبالمصريين، غير انه تغلب عليهم واستولى على التقه وعلى تمنة- تمنت-تمنة Timnath وعقرون- عاقر Ekron.
هذا النص الذي يصدر عن عالم جليل مثل جواد علي، يضاعف من درجة الفوضى في الجغرافيا.إن تحديد المواضع الواردة في هذا النص، وبهذه الطريقة التعسفية التي يجري فيها تأويل وتطويع الجغرافيا بأكبر قدر من التلاعب، لتصبح مواضع في فلسطين والأردن، سوف يؤدي لا محالة إلى فوضى عارمة. وهذا ما سوف نبينه. لدينا في النص أسماء مواضع معروفة ذكرها الشعر الجاهلي، كما سجلها جغرافيو العرب القدامى وهي على التوالي: تمنه، وعقر- عقرون، والتقه، وهذه أسماء لا وجود لها في فلسطين قط، بينما يخبرنا النص أن الحملة كانت في الجزيرة العربية واليمن؟ وما يؤكد ذلك، أن علماء الآثار الذين وضعوا هذه الاسماء في فلسطين، لم يعثروا عليها هناك. يصف لنا الهمداني مواضع تمنه- تمنيه، وعقر- عقرون، والتقى- التقه وبالصيغ نفسها والتوصيف نفسه. هاكم أولا ً ما كتبه عن تمنة- تمنية (صفة 231): والذي يصالي جنب (أي يجاور سراة جنب) من عنز والرفيد والعوص وأداي وعنقة والراكس والعين عين الرفيد، تمنية. وتمنية يسكنها بنو مالك.
وحسب هذا الوصف؛ فإن تمنية تقع بالضبط في أوطان بلحارث من منطقة الجوف اليمني. وفي التوراة وردت هذه الأسماء في الصورة التالية: תמניה- تمنية- تمنية، עקרונ- عقرون אלתקונ ءلتقون.وقد وردت هذه المواضع في سفر يشوع (23) ضمن منازل دان وعشائرها وبالتسلسل نفسه الوارد في النقوش الآشورية. وهذا مدهش حقا ً. إليكم نص السفر باللغة العبرية:
למטה דנ למשףחת ויצא הגבול השביע ויה גבול נחלתמ צרעה ואשתאל ועיר שמש ושעלבינ וילונ ויתלת ואילונ ותמנה ועקרונ ואלתקה
وهذا النص يقول بالضبط ما يلي :
ولسبط دان ولعشائرهم يخرج سهمهم- نصيبهم- السابع، مرتفعاتهم وأغوارهم: صرعة والشتيل وقرى شمس وثعلبين وإيلون وأيلة وتمنية وعقرون والتقه.
يعني هذا أن النقش الآشوري سجل بدقة تاريخية متناهية أسماء المواضع التي احتلها الجيش، وهي ليست بكل تأكيد في فلسطين؛ بل في عمق الجزيرة العربية وعلى مقربة من تخوم اليمن (الحالي) حيث تثليث قرب نجران وجُرش أي في منطقة الجوف اليمني.
الهوامش:
1 : هيرودوت، أعظم مؤرخي الإغريق ورحلته إلى مصر هذه غنية بالانطباعات الدقيقة
2 : هيرودوت، وصف مصر، نقله إلى العربية الدكتور محمد المبروك الدويب، ط/ جامعة قار يونس، ليبيا، 2006 ص، 49
3 : أنظر مثلا ً منازل الأسباط عندنا في فلسطين المتخيلة- مصدر مذكور
4 : أنظر صفة جزيرة العرب- مصدر مذكور
5 : جبل أدم: وهو يسمى اليوم قيظان، ضبطه الأكوع بفتح الهمزة وكسر الدال. وهذا يوضح الكيفية التي تحدث فيها التغيّرات الفونيطيقية على الأسماء، فهو تغيّر طفيف لا يطاول سوى الحركات الإعرابية لا أكثر. وعند ياقوت الحموي ( معجم البلدان) : أدم من قرى اليمن ثم من أعمال صنعاء.
6 : أرياب: عزلة جبلية في جبل أدم . وأريب- أريبي بزيادة الياء اللاصقة الأخيرة هي النطق الآشوري لعريب- عرب والمقصود منه وادي- العرب-
7 : فائش- فائس ويرسم في العبرية- سفر التكوين في صورة أليفاز אליףז
8 : قال الأعشى في وصف أرياب ( صفة جزيرة العرب : 198)
وبالقصر من أرياب لو بتَّ ليلة
لجاءك مثلوج من الماء جامد
9 : مخلاف الهان عند الهمداني- أنظر صفة جزيرة العرب- مصدر مذكور
10 : أنظر حديث ابن عباس كما أورده الهمداني (صفة)- مصدر مذكور، فهو يتحدث عن اعتصام بعض القبائل في رؤوس الجبال هربا ً من الأشوريين
11 : عثتر سمين : عشتار السماء إلهة الخصب عند اليمنيين
12 : ديه- ديت أنظر دوة عند الهمداني
13 : نهيا- نهيه، انظر ما كتبناه عن وادي نهية في فلسطين المتخيلة
14 : إبريل، اسم الإله العربي القديم إبرئ إيل : الله البارئ والذي صار من أسماء الله الحسنى
15 : أنظر ما كتبه الهمداني عن مخلاف الهان
16 : المن : ما يعادل نصف كيلو غرام
17 : لاحظ أن الاسم كان ينطق بأداة التعريف العبرية والعربية القديمة الهاء( ها- بن)
18 : الهمداني : الإكليل: ط/ 269-7
19 : الحميري : خلاصة السير الجامعة، ط/ ص 328-96
20 : أنظر ما يقوله الهمداني عن وادي أيد ( ص 233 صفة )
21: أنظر أسيس في كتابنا فلسطين المتخيلة- مصدر مذكور
22 : مطهر علي الإيرياني، نقوش مسندية وتعليقات- – مركز الدراسات والبحوث اليمني1990 النقش رقم 32
23 : يشوع النص العبري : 19: 37:20:19