يعتبر الاختلاف من أبرز السّمات المميّزة للحياة الإنسانية، فهو قانونها الأساسي بل عليه يتوقّف تطوّر الحياة البشريّة من فترة تاريخية إلى أخرى. ولولاه لظلّّت هذه الحياة سائرة على وتيرة واحدة.وإذا كانت هذه سمة الحياة المميّزة،فإنّ الفكر البشري لا يمكن أن يُستثنى منها فهي سمته كذلك.ومن هذا المنطلق يمكن أن ننظر في تاريخ فكرنا الإسلامي الذي جسّدته فرقه المتعدّدة منذ صدر الإسلام.وإن كان لظهورها أسباب مختلفة لعلّ أبرزها الاختلافات السياسية التي بدأت تحتدّ منذ أواخر عهد الخلافة الرّاشدة، فإنّ ذلك لا يمنع من النّظر إليها من زاوية إيجابية متفائلة باعتبار ما تشير إليه من تنوّع في المجال الفكري الذي هو سمة مميّزة لتراثنا الحضاري. فثراء هذا التّراث لا يمكن أن يُحسب إلى إنتاج طائفة معيّنة أو فرقة بعينها.
وفي إطار الإيمان بهذه الحقيقة يتنزّل عملنا هذا الذي يعتني بدراسة أثر من آثار الفكر الإباضي وهو «سيرة محبوب بن الرحيل إلى أهل عمان في أمر هارون بن اليمان».والملاحظ أنّ هذا الجهد يعود إلى القرن 2 هـ/8 م فهو يتنزل ضمن فترة التّأسيس التي لا يمكن لباحث في المذهب الإباضي أن يتجاهلها لما لمعرفتها من دور في إدراك استمرار هذا الفكر وتطوّره.ولعلّه من المفيد في هذا السّياق التّذكير بأنّ ما يميّز العقيدة الإسلاميّة هو اختلاف منهج تعامل معتنقيها مع النصوص التي تثبتها»(1) ممّا ساهم في ظهور مدارس فكرية متعدّدة يتميّز كل منها بمنهج معيّن في التعامل مع هذه النصوص وهو ما أدّى إلى ظهور آراء عقدية لكلّ مدرسة.وفي هذا الإطار استقلت المدرسة الإباضية بعلمائها وآرائها في العقيدة الإسلامية . وللتّذكير فإنّ الإباضية هي إحدى أقدم الفرق الإسلامية التي تعود نشأتها إلى النّصف الأوّل من القرن الهجري الأوّل،وقد أخذت اسمها من عبد الله بن إباض أحد فقهائها الأوّلين المتوفّى سنة 86هـ/705م.وقد ارتبطت هذه النشأة بالظّروف السّياسية التي عرفها المسلمون وهم يتنازعون حول السّلطة وخاصّة بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان سنة 36هـ/656م.فبعد معركة صفّين التي دارت بين علي وأنصاره من جهة ومعاوية وعمرو بن العاص وأنصارهما من جهة أخرى سنة 37هـ/657 م وقبل فيها علي بن أبي طالب بالتحكيم بينه وبين معاوية بن أبي سفيان انقسم المسلمون إلى ثلاث كتل هي كتلة علي بن أبي طالب التي تحوّلت تسميتها فيما بعد إلى شيعة وكتلة معاوية بن أبي سفيان المتوفى سنة 60هـ/680م التي تحوّلت تسميتها إلى سنّة والكتلة التي عُرفت بالمحكّمة وهي التي رفضت التّحكيم وتمّ تلقيبها بعد ذلك بالخوارج.وبين هذه الكتلة الأخيرة وعلي بن أبي طالب جرت معركة النّهروان سنة 38هـ/658م التي قتل فيها عدد كبير منها ولم تبق إلا فئة قليلة كما قتل في هذه المعركة عبدالله بن وهب الراسبي الذي بايعته الجماعـة فتحوّلت إلى الكتمان التّام وتولّى أمرها عروة بن أديّة وأخوه أبو بلال بن مرداس بن حـدير وانضم إلى هذا الثنائي جابر بن زيد وعبد الله بن إباض ونافع بن الأزرق وعبد الله بن الصّفار ونجدة بن عامر.وبتولّي زياد بن أبيه المتوفّى سنة 53هـ/673م السّلطة على العراق وتشديده ملاحقة كلّ المناوئين للسّلطة الأموية انقسمت المحكّمة إلى قسمين «قسم فضّل مراجعة النفس والرّجوع إلى السّلم والتفكير في استخدام أساليب أخرى ومن هؤلاء زُرعت بذرة الاتّجاه المعتدل الذين منهم الإباضية»(2). ومن هؤلاء كان الإمام جابر بن زيد المتوفّى سنة 93هـ/712م و عبد الله بن إباض المتوفّى سنة 86هـ/705م.وقد كان هؤلاء يرون ألاّ سبيل إلى النّجاة بحركتهم «إلا بالقعود وتركيز ثقافة محورها حفظ تعاليم الإسلام»(3). أمّا القسم الثاني فقد مثّـله نافع بن الأزرق ومن والاه وقد اعتمد مبدأ ردّ القوّة بالقوّة وأقرّ مبدإ الاستعراض الذي يعني قتل كلّ المعترضين من المخالفين بما في ذلك الأطفال والنّساء «وعن هذا المنهج تبلورت الأزارقة والنجدات والصّفرية»(4). وبتحوّل حركة نافع بن الأزرق من القول إلى العمل بما ذكرنا من الأسس السابقة برئت منها حركة جابر بن زيد وعبد الله بن إباض اللّذين فهما الخروج بأنّه مروق عن الدين وفي هـذا الإطار يقول عبـد الله بن إباض في رسالته إلى عبد الملك بن مروان «إنّا براء إلى الله من ابن الأزرق وصنيعه وأتباعه،لقد كان حين خـرج على الإسلام في ما ظهر لنا ولكنّه أحدث وارتدّ وكفر بعد إسلامه فنبرأ إلى الله منهم»(5). ومن هذا المنطلق يمكن فهم رفض الإباضية تسميتهم بالخوارج.
وممّا تجدر الإشارة إليه في بداية هذا العمل تنوّع مصادر الآراء العقدية عند الإباضية وخاصّة في القرون الثلاثة الأولى حيث نجدها في مختلف كتب الفكر الإسلامي العقدية منها والفقهية والتّاريخيّة. ولذلك فإنّ البحث في الآراء العقدية خلال الفترة المذكورة التي تمثل فترة التأسيس في هذه الفرقة يستوجب الرجوع إلى مصادر العقيدة والتفسيـر والفقه والتّاريخ والسير والمراسلات. وضمن هذه المصادر تحتلّ الرّسائل والسّير موقعا مهمّا ،وهي رسائل بين الأئمّة والعلماء وسير ترد فيها معلومات تاريخية وتناقش فيها القضايا المستجدّة ومنها سيرة محبوب بن الرّحيل إلى أهل عمان في أمر هارون بن اليمان موضوع هذا العمل. ومحبوب بن الرّحيل هو أحد أئمة العلم في عمان في القرن 2 هـ/8م وتحديدا في النّصف الثّاني منه،عرف بكنيته الشّائعة بأبي سفيان. وقد اشتهر هو وأبناؤه وأحفاده بالفضل والعلم. ويشير صاحب كتاب «تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان» إلى أنّ الإطار التّاريخي لهذه السيرة هو زمن مبايعة الإمام غسّان بن عبد الله اليحمدي(192هـ-208هـ) الذي «كان في أيّامه جمّة من العلماء واختلف في تلك الأيّام هارون بن اليمان الشعبي ومحبوب بن الرّحيل»(6) الذي يردّ عليه في هذه السيرة حول «صفة التّقوى والشّكّ في حكم العاصي وعدم البراءة إلاّ في معصية توجب الحدّ في الدنيا أو الآخرة.وهارون ممّن يذهب مذهب الثلاثة الذين خالفوا أبا عبيدة في حياته وبعد موته في عهد الربيع حول المسائل الثلاث التي وقع حولها النقاش والرّدود»(7). وأمّا الثلاثة المتحدث عنهـم فهم شعيب بن المعرّف وأبو المؤرج السدوسي وعبد الله بن عبد العزيز وهم من تلاميذ أبي عبيدة مسلم الذين لم تقتصر مخالفاتهم للسابقين على هذه المسائل بل طالت مسائل أخرى مثل «عدم صلاة الجمعة وراء أئمّة الجور وعدم تكفير المرأة التي زنت فيما دون الفرج وتشريك المخالفيـن لهم من أهل القبلة في مسألة صفات الله»(8). وإن كانت السيرة ردّا على ثلاث مسائل مذكورة سابقا ،فإنّ استنطاقها يكشف أنّها لم تقتصر عليها من الآراء العقدية بل تجاوزتها إلى مسائل كثيرة عمد فيها صاحبها إلى ذكر الرأي المخالف في كلّ مسألة أوّلا عارضا بعد ذلك موقفه مبرّرا إياه بالحجج والبراهين الممكنة متوسّلا بما وسعه من القرآن والسنّة وآثار الأوّلين من أئمّة الإباضية مؤكدا في كلّ مناسبة على انسجامه واستجابته لآراء السلف وبالتّالي لجوهر الشريعة بعيدا عن كلّ بدعة وضلالة. ويمكن ضبط أهمّ محاور هذه السيرة في ثلاثة أقسام كبرى هي: الإلهيات والرساليات والإنسانيات تفرّع كلّ منها إلى قضايا جزئية كانت في قسم الإلهيات مجسّدة في المتشابه ثمّ التّوحيد بينما احتوى قسم الرساليات على قضيّتي النبوّة وصلاة الجمعة في حين تفرّع قسم الإنسانيات الذي كان الأكثر حظّا إلى قضايا:الإيمان والكفر،الشّرك والنّفاق،الذّنوب والتّوبة، الولاية والبراءة والوقوف.
ضمن قسم الإلهيات يأتي حديث محبوب بن الرّحيل عن المتشابه ردّا على اتّهامه من قبل هارون بن اليمان بأنّه يعتبر المتأوّل في النبي صلى الله عليه وسلّم مشركا بينما المتأوّل في الله ليس بمشرك(9). ولتوضيح موقفه من هذه المسألة عرض صاحب السّيرة نوعين من التّأويل أوّلهما الصادر عن المقرّ بوجود الله وبوحدانيّته الذي يتّجه إلى القرآن الكريم فيجد فيه آيات من قبيل «وجاء ربّك والملك صفّا صفّا»(10) وو«قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها»(11) فذهب إلى تأويل ذلك على غير تأويل المسلمين «غير أنّه مقرّ لا شبيه له ولا نظير ولا عدل ولا ندّ وضدّ ينفي عنه هذه الأشياء فهو مقرّ عندنا حُكمنا فيه حكم المقرّين»(12). أمّا النّوع الثّاني من التّأويل فهو الذي ينقله قوله التّالي ويعرب فيه عن موقفه منه وهو لـ «من قال إنّ له شبيها أو مثلا أو نظيرا فهو بهذا مشرك»(13). وهكذا فإنّ التأويل عند الرجل صنفان الفاصل بينهما الإقرار بوحدانية الله و«تنزيهه عن متشابه الخلق استنادا إلى الآيات المحكمات من كتاب الله»(14). لذلك فهو يوضّح هذا الموقف في رأي نعتبره فصلا وهو «من تأوّل في الله بما يعلم أنّه جاحد لله أو منكر له أو مكذّب له فهو مشرك ومن تأوّل فلم يبلغ به تأويله جحود ولا إنكار ولا تكذيب لله ولا ملائكته ولا كتبه ولا اليوم الآخر شهدنا عليه بالكفر والضّلال والنّفاق وحكمنا عليه بأحكام أهل قبلتنا كما يحكم فيهم المسلمون قبلنا لا نسمّيهم مشركين ولا نستحلّ منهم سبيا ولا غنيمة»(15). ويستند صاحب السيرة في ذلك إلى رأي السّلف من العلمـاء والأئمّة من ذلك الحادثة التي قيل فيها لأبي عبيدة وهو من علماء الإباضية المتقدمين أنّ مقاتل بن سليمان الأزدي المتوفّى سنة 150هـ/767م يقول إنّ الله خلق آدم على صورته فقال «كذب مقاتل ولم يسمه بالشّرك ولا نسبه إليه»(16). فخلاصة رأي محبوب بن الرّحيل إذا أنّ المشبّهة كما يرى أئمّة الإباضية عموما لا سيّما المتقدّمين منهم الذين أخذ عنهم آراءه وقال بقولهم نوعان نوع ينسب إلى الشّرك ويتفرّع إلى فرعين هما المجسّمة وأشباه المجسّمة، أمّا القسم الثّاني فهم المشبّهة وهم المخطئون في التّأويل الذين لم يحكم عليهم علماء هذه الفرقة بالشّرك ولا بالرّدة و إن اختلفوا معهم. أمّا عن التّوحيد فقد ورد الحديث عنه في مواطن مختلفة من هذه السّيرة لاسيّما ضمن المجالات المعنية بصفات الإنسان المختلفة ونعني الإيمان والكفر وخاصة الشّرك باعتبار أنّ التّوحيد هو مفتاح الإيمان لذلك فإنّ الإباضية يسمونه بـ«جملة التوحيد» «نظرا لتعبيرها عن كلّيات الإيمان التي تندرج تحتها مدلولات جزيئاته فإنّ كلّ اعتقاد صحيح عن الله وصفاته وأفعاله دنيا وأخرى تفسير لها كما أنّ كلّ ما تستلزمه عقيدة التّوحيد من الأعمال الصّالحة وفاء بحقّها»(17). وإذا كان التّوحيد هو مفتاح الإيمان فهو القاسم المشترك الأوّل بين جميع المسلمين بل إنّه ممّا لا يمكن أن يختلف فيه اثنان بما أنّه الأصل الأوّل الذي يجتمعون حوله «فليس بين المسلمين والحمد لله اختلاف وأنّ جميع قولنا ممّن يقرّ بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنّ محمّدا عبده ورسوله، والإقرار بجميع ما جـاء من الله، إنّهم مقرّون… والتوحيد إقرار وتوحيد»(18).إنّه إذا إقرار العبد بالشهادتين الذي يترتّب عنه عدم قدرة أيّ كان إخراجه من هذه المنزلة وهو ما يؤكده صاحب السيرة في تعليقه على قوله تعالى «قولوا آمنا بالله وماأنزل إلينا وما أنزل إلى ابراهيم واسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيّون من ربّهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولّوا فإنّما هم في شقاق»(19)، حيث يقول «فمن أقرّ بهذه الآيات خرج من الشّرك ونفى عنه الإنكار والتّكذيب لا يرجع إلى منزلة أهل الشرك إلاّ بالتولّي عمّا أقرّ به من الوحدانية لأنّه قد أقرّ بما أقرّ به الموحّدون.. وفي إقراره لله بطاعته واجتناب محارمه فهو مسلم له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين»(20). فـ«جملة التوحيد» هي التي تفتح للإنسان باب الإيمان.ولذلك فإنّ معرفتها من الأمور التي لا يجوز أن يجهلها الإنسان متى بلغ مرحلة التّكليف.ومن ثمّ فإنّه لا خلاف بين أصحاب هذا الفرقة وبقيّة الفرق في وجوب معرفتها،وإن كان الاختلاف بين من يرى أن الطّريق إليها هو العقل وما الشّرع إلا متمّم له ومكمّل ومبيّن وهو رأي أهل العدل والتوحيد ومن يرى أنّ طريق معرفتها هو الشّرع الذي يكون العقل مصدّقا له وهو الرأي الذي يذهب إليه الإباضية باعتبار أن لا حكم للعقل في شيء من الوجوب الشرعي. ولئن تحدّث ابن الرحيل عن موضوعين في هذا الإطار وهما المتشابه والتّوحيد فإنّ ما غاب في هذا الموضوع أكبر ولا شك من ذلك أنّه وإن تعرّض لبعض صفات الله في إطار ردّه على موقف هارون من المتأوّلين خطأ فأشار إلى الإرادة ونفي الشّبه(21)… فإنّه لم يثر مسائل كثيرة مثل: – وجود الله تعالى – ذات الله تعالى – أسماء الله تعالى – صفات الله تعالى : صفات الذات، صفات الفعل،- ما يجب وما يجوز وما يستحيل في حق الله تعالى.ولعلّ ذلك راجع بالأساس إلى التزام الرّجل بالردّ على آراء خصمه هارون الذي لم يطرح مثل هذه المسائل.مع الملاحظ أنّ ما جاء في باب التّوحيد هو أقرب إلى الإنسانيات منه إلى الإلهيات ذلك أنّ تناوله قد كان في إطار علاقة وثيقة بينه وبين الأسماء والأحكام من إيمان وكفر وشرك وهو ما سيتمّ التعرض إليه في قسم الإنسانيات.
بالنّسبة إلى قسم الرّساليات تجدر الإشارة إلى أنّ الخوض في مسألة النّبوّة مرتبط بمبحث التّوحيد ذلك أن جملة التّوحيد عند الإباضية عموما تحتوي بدورها على الإقرار بالرسول صلى الله عليه وسلّم في إطار الشّهادتين.وقد جاء حديث محبوب بن الرحيل عنه في إطار ردّه على خصمه هارون بن اليمان الذي زعم أنّ الرّجل يعتبر المتأوّل في النّبي مشركا بينما لا يعتبر المتأوّل في الله كذلك.وإن كنّا قد فصّلنا الحديث في المسألة الثّانية في إطار مبحث «المتشابه»، فإنّنا سنعتني بالمسألة الأولى في هذا المبحث فنشير أوّلا إلى ارتباط الأمرين بموضوع الشّرك إقرارا أو جحودا بمعنى أن الشّرك لا يرتبط بإنكار الله فحسب أو جحوده بل بإنكار الرّسول كذلك وفي هذا الإطار يقول «وزعم هارون أنّي أزعم أنّ المتأوّل في النّبي صلّى الله عليه مشرك وأنّ المتأوّل في الله ليس بمشرك فانظروا في قولي وقوله !وأنّ محمدا رسول، ثمّ قال ليس هو هذا الذي يقولون ! فهذا إنكار لمحمّد وإنكار لنبوّته لأنّه إذا قال هو غير هذا فقد جحد وأنكر وليس هذا تأويل إنّما هو إنكار منه أن يكون محمد رسول الله»(22). إنّه يميّز إذا بين التّأويل والإنكار في ما يتعلّق بالرّسول الكريم كما هي الحال في ما يتعلّق بالله تعالى ليكون الحاصل مجدّدا هو ضرورة الإيمان بالرّسول وبنبوّته باعتباره من مفاتيح الإيمان والإقرار كما يمكن أن يتحوّل إلى مفتاح للشّرك في حالة الإنكار والجحود.وعلى هذا الأساس شكّلت النبوّة مبحثا أساسيا من مباحث الفكر الإباضي الذي منه هذه السيرة فتفرّع إلى مسائل متعدّدة منها الحاجة إلى النبوّة وقيام حجة الله بإرسال الرّسل،وصفات الأنبياء والرّسل، والإيمان بالأنبياء والرسل، ودلائل النبوّة واقتران المعجزة بالنبوّة(23). وإن لم يتوقّف محبوب بن الرحيل عند هذه المسائل بالتفصيل والتدقيق فإنّها حاضرة ولاشك باعتبارها من مستلزمات النبوّة.وقد يفسّر غيابها كذلك بالإطار الذي يستدعي ذلك إذ أن الأمر يتعلّق بردّ على سيرة سابقة إضافة إلى أنّ الغاية هي دفع تهمة تحتاج إلى توضيح وتدقيق في نفس الإطار حتّى يكون الرأي واضحا والبرهان جليّا. وفي حديثه عن صلاة الجمعة انطلق من رأي لهارون بن اليمان يورده في قوله التّالي: «أزعم أنّه يقول قد جمع المسلمون خلف أئمّة قومنا ولم يختلفوا فيها فزعم أنّه يجوز لهم ما فعلوا وقد أدّى فريضة وأنّ الرجل لم يجمع وتنزّه فهو أفضل»(24). وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه المسألة كانت موضع اختلاف بين أصحاب هذا الفرقة كما هي الحال مع هارون بن اليمان الذي يعتبرها انطلاقا ممّا تقدّم من قول صاحب السيرة جائزة غير لازمة أو مفروضة.وهو في هذا الرّأي يبدو مخالفا لرأي عامّة المسلمين السّابقين الذين لا اختلاف بينهم في أنّها واجبة. ويذهب محبوب بن الرّحيل إلى أنّ هذا الواجب مطلق غير مشروط بطبيعة الإمام عادلا كان أو جائرا لذلك تحدّث عن هذا الأمر في موضعين، يقول في الموضع الأوّل «الجمعة خلف أئمّة قومهم فريضة»(25) أمّا في الموضع الثّاني فقد تحدّث عن الإمام جابر بن زيد قائلا إنّه «كان يجمع خلف زياد وعبيد الله بن زياد والحجّاج وهم الذين بلغوا في قتل المسلمين ما لم يبلغه أحد من الناس»(26) ممّا يؤكّد أن أداء هذه الفريضة غير مشروط بطبيعة الإمام والحجّة في ذلك سيرة الأئمّة الأوائل الذين تعدّ مخالفتهم بدعة.فحضورها»واجب على من كان من أهل البلد مع من أقامها من أئمّة العدل وأئمّة الجور لقول الله عزّ وجلّ (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَاسُعَوْا إِلَى ذَكِرِ اللَهِ) (27) فوجب بهذه الآية إذا نودي للصّلاة من يوم الجمعة أن يسعوا إلى ذكر الله وأمّا من زعم أنّها واجبة خلف أئمّة العدل لا تجب خلف أئمّة الجور فعليه البرهان بما ادّعى»(28). وإذا كانت طبيعة الإمام لا تحول دون هذه الفريضة فإنّ المسافات لا يجب أن تمنع من آدائها وفي ذلك يقول الإمام جابر بن زيد «تؤتى من رأس فرسخين وثلاثة ومن قدر أن يأوي إلى منزله فعليه الجمعة»(29) فكلّ من هو قادر على إدراكها فهي واجبة عليه ولذلك كلّه فإنّ ما ثبت على السابقين من جميع أئمّة المسلمين ومنهم أئمة الإباضية أنّهم أكّدوا على ضرورة القيام بها بل إنّهم لم يجوّزوا عدم القيام بها إلاّ بعذر شرعي. والملاحظ أنّ ابن الرحيل قد أورد في سياق حديثه عن صلاة الجمعة موقفا لم يفصّل فيه الحديث كثيرا وهو المتعلّق بالأعطيات مع أئمّة الجور التي يجب أن تؤخذ حسب رأيه لأنّها من حقوق المسلمين جميعا وفي ذلك بدا مخالفا لخصمه الذي يورد موقفه في ما يلي«… وكذلك أيضا قال في العطاء إنّ من أخذه فجائز له و من تـنزّه فهو أفضل، فهذا خلاف منه لقول المسلمين قبله وترك لما مضى عليه أوائل المسلمين وسلفهم…»(30).
وأمّا بخصوص قسم الإنسانيات فيمكن الانطلاق فيه من قول ابن الرحيل متوجّها إلى أهل عمان «أوصيكم بتقوى الله العظيم فإنّها وصيّته إلى جميع خلقه،بها أمرهم وعليها نبيّهم،وبالتّقوى نجا النّاجون وفاز الفائزون، والتّقوى من الله بمكان، فآثروها على ما سواها واعتصموا بها فإنّها ليس بين التّقوى وبين الكفر منزلة»(31). وهو ما يؤكد أن لا منزلة بين الكفر والإيمان إذ هما ضدّان كالأضداد كلّها بمعنى أن لا إمكانية لوجود وسط بينهما وهو ما أقرّته الأمّة وأجمعت عليه معتبرة من ليس بمؤمن فهو كافر مستندة في ذلك إلى القرآن الكريم من ذلك قوله «هُوَ الذِي خَلَقَكُمِ فَمِنْكُمْ كَافِرُُ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنُُ»(32). ومن هذا المنطلق كانت دعوة صاحب الرّسالة إلى المرسل إليه لزوم التّقوى باعتبارها الفاصل بين الإنسان والكفر إذ من لم يكن تقيّا كان كافرا بل إنّ الثّواب لا يمكن أن يرتبط إلاّ بها. ومن ثمّ فإنّ التّقوى لا يمكن أن ترتبط بغير طاعة الله فيما أمر به ونهى عنه فلا تثبت لأحد إلاّ إذا التزم بأوامر الله ونواهيه أمّا الخارجون عن هذه الصفة فهم المضيّعون للطّاعة إذ لا تقوى ولا إيمان دون طاعة. فمن لم يلتزم أوامر الله ونواهيه خرج من دائرة التّقوى فحلّت به من الله البراءة واستحقّ العقوبة. فهذه المنزلة خاصّة بيّنة لا يمكن الاختلاف فيها بل إن تبيّنها يساعد على تبيّن المنزلة المقابلة وهي المرتبطة بالإقبال على ما نهى عنه الله تعالى والانتهاء على ما أمر. ولتوضيح هذه المسألة يعرض صاحب السّيرة مجموعة من الأمثلة أهمّها ما ورد في شأن المرأة التي شربت النبيذ وسقته الشباب وجرى بينهم الفحش دون بلوغ موضع الزنا مخافة الحدّ وفضيحة الولدان»(33) ليبيّن أنّ مثل هذه المعاصي لا يمكن أن تلزم أصحابها بغير الخروج من التّقوى فإن وافقه في ذلك خصمه فقد كان على صواب أمّا إذا خالفه إمّا بعدم إخراجهم من دائرة التّقوى أو بالشكّ في الأمر وهو ما يبدو الإيحاء به فقد كان على ضلال ممّا يؤكد أنّه لا خلاف في الإيمان وما يناقضه بل لاشك فيهما فكلّ من خرج من دائرة التّقوى عملا وتركا دخل في دائرة الكفر. ولذلك يعلّق على حكم هارون بشأن المثال المذكور سابقا بقوله «وإن زعم أنّه سلك متحيّر لا يدري لعلّ اسم التّقوى لهم ثابت فإنّهم متّقون عند الله فهذا الشك والعمى»(34). فكلّ معصية أصابها العبد ممّا نهى الله عنه وأوجب فيها عذابا في الآخرة ونكالا في الدّنيا سواء كانت «من الكبائر أو ما يشبه الكبائر أو يقاربها التي تنزل منزلتها»(35) تخرج الإنسان من الإيمان إن لم يتب عنها ويتراجع بمعنى أنه لا يشترط في الكفر أن يرتبط بالكبائر التي«توجب الحدود في الدنيا والعذاب في الآخرة»(36) ذلك أن الكفر نوعان كما يجمع أغلب علماء هذه الفرقة كفر مرتبط بالمشركين ويسمّى كفر الشرك أو الجحود وكفر مرتبط بغير المشركين من المقرّين المقبلين على المعاصي ومنها الكبائر وترتبط بهؤلاء تسميات عديدة منها كفر النعمة وكفر دون كفر وكفر فوق كفر وكفر النفاق وكفر الأعمال.
أمّا القضيّة الثّانية ضمن هذا القسم فهي الشّرك والنّفاق التي يمكن الانطلاق فيها من بديهة عند الإباضية تبدو تجليّاتها واضحة في سيرة محبوب بن الرحيل مفادها القول بمنزلة النّفاق بين منزلة الإيمان والشرك دون القول بوجود منزلة بين الإيمان والكفر(37). وانطلاقا من ذلك فإنّ الشّرك منزلة لا يمكن أن يحلّ بها إلاّ من لم يقرّ بالتّوحيد وبطريقة مغايرة لا يمكن للمقرّ بالتّوحيد أن ينزل هذه المنزلة فالذين «يصلّون إلى البيت الحرام ويحجّون إليه ويعتمرون ويصومون شهر رمضان ويشهدون جميعا بالجملة التي دعا إليها النّبي صلّى الله عليه وسلّم من الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وكانوا بها عنده مقرّين خارجين من الشّرك براء من التّكذيب والجحود والإنكار داخلين في جملة المقرّين»(38). فالتّوحيد أو «جملة التوحيد» كما يسمّيها الإباضية هي المدخل الأوّل والأساسي لمنزلة الإيمان التي لا يمكن أن يغادرها إلاّ من أظهر عكس ذلك. وبهذا يبدو الجمع بين الشّرك والتّوحيد بالنّسبة إلى الإباضية أمرا مرفوضا بل غير منهجي وغير معقول لما بينهما من تناقض وتضارب وهو ما يحسمه ابن الرّحيل بقول إنّ «جميع قولنا ممّن يقرّ بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنّ محمّدا عبده ورسوله. والإقرار بجميع ما جاء من الله. أنّهم مقرّون وأنّهم بإقرارهم خارجون من الشّرك لأنّ الشّرك لا يكون إلاّ إنكارا وتكذيبا والتّوحيد إقرار وتوحيد»(39). واستنادا إلى ذلك يشير صاحب السّيرة إلى مجموعة من الذّنوب التي وإن اختلفت في درجتها فهي لا تنزل صاحبها منزلة الشّرك بل منزلة النّفاق فمن «قصّر في إقراره وركب محارم الله وتأوّل القرآن على غير تأويله وحرّفه على غير مواضعه صار بذلك منافقا كافرا بريئا من الإيمان وثوابه وبريئا من الشّرك وأحكامه»(40). وبناء على ما تقدّم يمكن القول إنّ صاحب السّيرة كما الإباضية عموما يستعملون كلمة النّفاق للدّلالة على المعاصي العملية لذلك فقد أطلقوها على من ارتكبها في أي زمان فسمّوا أصحابها منافقين أو كفّار نعمة واعتمدوا في ذلك على أدلّة كثيرة من الكتاب والسّنة كما يقول علي يحيى معمر في كتابه الإباضية بين الفرق الإسلامية(41). فيذهبون إلى أنّ مفردات من نوع الظلم والفسوق والكفر والنفاق تحضر بمعنى واحد.فهذه التّسمية الوسط بين الإيمان والشّرك مؤكدة بما ورد في أحكام الله ورسوله التي تثبت أنّهم موحّدون وليسوا بمشركين ذلك أنّ القرآن الكريم إنّما ينعى عليهم في أكثر مناقشاته لهم إخلالهم بالجوانب العملية وكذلك الشأن بالنسبة إلى السّنة،وهو ما يدلّ دلالة واضحة أنّ النّفاق يعني الإخلال بما يقتضيه الإيمان من سلوكات عمليّة من المقرّين بالتّوحيد. وانطلاقا من الجمع بين النفاق والكفر ردّ محبوب بن الرحيل على هارون بن اليمان الذي يشير إلى أنه «لا يبرئ ولا يكفر إلاّ من ركب معصية توجب عليه حدّا في الدّنيا وعذابا في الآخرة»(42). بمعنى إنّ الكفر يقترن بالنسبة إليه بالكبائر وهو ما يبدو مرفوضا من ابن الرحيل في ردّه استنادا إلى أمثلة على مجموعة من المعاصي كتعمّد أكل لحم الخنزير وترك صوم شهر رمضان إلخ……للتأكيد على أن السّابقين يبرئون من مثل هؤلاء بمعنى يبغضونهم في الله من أجل المعصية ولا يتقون عنهم وما يبرّر ذلك أنّ مثل هذه المعاصي وإن لم يوجد في القرآن حدّ عليها ولا عقوبة مسمّاة فإنّ المسلمين قد علموا أنّ ما أشبه الكبير أو قاربه فالكبير أولى به وأنزلوه بمنزلته»(43). وعلى هذا الأساس كذلك يذهب معظم علماء الإباضية إلى عدم تشريك من خالفهم في تأوّل صفات الله تعالى وهو ما يخالف فيه صاحب السيرة هارون بن اليمان الذي تثبت المصادر أنّه حكم بالشرك للمتأوّل المخطئ في تأويله على الله(44). فيكون بذلك قد خالف السّلف من علماء الإباضية وهم الذين يستند إليهم ابن الرحيل باعتبار استنادهم بدورهم إلى ما ورد في القرآن الكريم مثل قوله تعالى «مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء»(45). وكذلك في ما يتعلق بتحليل أكل ذبائحهم وجريان المواريث بينهم وبين المسلمين وحجّهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم »(46). وبهذه الحجج يرد صاحب السيرة على الخوارج الذين ذهبوا إلى تسمية كل أهل القبلة بالشرك وكذلك الجهمية الذين يذهبون إلى تشريك من وصف الله وكذب في وصفه»(47) مؤكدا رأي أغلب الإباضية الذين يعتبرون المتأوّل في الله الذي لم يبلغ به تأويله إلى الجحود والإنكار كافرا ضالا منافقا. فالشّرك عند الإباضية كما توضّح هذه السّيرة النموذج منزلة الفاصل فيها والمحدّد «جملة التّوحيد» إقرارا أو جحودا.وفي المقابل فإنّ منزلة النفاق التي تعتبر محلّ إجماع باعتبار أنّ أغلب الفرق تعتبر المنافقين كافرين وأنّ مصيرهم الدّرك الأسفل من النّار مصداقا لقوله تعالى «إنّ المنافقين في الدّرك الأسفل من النّار ولن تجد لهم نصيرا»(48) فإنّها تقرّ بأنّهم موجودون مع المسلمين كما وجدوا مع الرسول صلى عليه وسلم حجّوا معه وجاهدوا ولكنّهم مذبذبون بين الإيمان والشرك.وعلى ذلك يكون النّفاق مميّزا عن الشرك بعيدا عنه مرادفا لكفر النّعمة والفسوق والظّلم.ومن ثمّ يتّضح تمييز صاحب السّيرة بين الإيمان والشّرك منزّلا النّفاق منزلة وسطا بينهما كما ذهب إلى ذلك سلفه من الأئمّة والعلماء.وبذلك يكون النّاس ثلاثة أقسام هم المؤمنون الملتزمون بجميع ما جاء به الإسلام،والمشركون الواضحون في شركهم إمّا بإنكار وجود اللّه تعالى أو إشراك غيره معه في العبادة، أمّا أصحاب الفريق الثالث وهم المنافقون» فهم الذين أعلنوا كلمة التوحيد وأقرّوا بالإسلام ولكنّهم لم يلتزموا به سلوكا وعبادة»(49). وأمّا بخصوص قضيّة الذّنوب والتّوبة فقد ذكر محبوب بن الرحيل في حديثه عن الذّنوب أنّها تصنّف إلى صنفين «ذنب يهلك به صاحبه عند المباشرة والمواقعة وذنب يهلك به صاحبه بترك التّوبة والمقام عليه»(50) ويعني ذلك أنّ الذّنوب على منزلتين عموما لا يمكن الخروج عنها وتتمثّل المنزلة الأولى في الإقدام على الذّنب أو المعصية وتنفيذها أمّا المنزلة الثّانية فتتمثّل في الإصرار عليه وعدم التّوبة منـه. وبذلك فهو يخالف القائلين بأنّها ثلاثة كما ذهب إلى ذلك هارون صاحب الرّسالة موضوع الردّ إذ هي «ذنب يكفر به من ركبه،وذنب لا يدري أيكفر به أم لا فيقف عن أهله فيه،وذنب يعفو الله عنه»(51). وانطلاقا من المقارنة بين الموقف الثاني لصاحب الرسالة موضوع الردّ والموقف الأول لابن الرحيل نتبيّن أنّه لا وسط في الذّنوب من حيث وجودها باعتبار الإقدام عليها أو الإصرار عليها يجعلها حاصلة غير أنّها وإن انقسمت إلى كبائر وصغائر فإنّها تتساوى من حيث علاقتها بالتّوبة بمعنى أنّها لا تسقط ولا يتمّ العفو عن المقبل عليها إلاّ بها،ولذلك فإنّه يردّ على خصمه بقوله «فإن قال إنّ عليهم فيه التّوبة،وبالتّوبة يعفو الله عن الذّنوب فقد صدق وقال بقولنا وقول المسلمين وإن قال مغفور بلا توبة فقد كذب لأنّ الله تبارك وتعالى يقول:»وتوبوا إلى الله جميعا أيُّها المؤمنون لعلكم تفلحون»(52). فالتّوبة كما يؤكّد صاحب هذه السيرة واجبة إزاء كلّ ذنب صغر أو عظم بل إنّ قيمتها وأهميّتها تتّضح في التّخفيف من هالة «الكبيرة» إن هي حصلت والتّرفيع من شأن الصغيرة إن هي لم تحصل «فعلى الخلق التّوبة من كلّ صغيرة وكبيرة فمن دين المسلمين أنّه لا كبيرة مع توبة ولا صغيرة لمن أقام من النّاس على صغيرة فهو هالك»(53). وممّا سبق تبدو أحكام الإباضية في ما يتعلق بالذّنوب على درجة كبيرة من الاعتدال لاسيما في ما يتعلّق بالحكم على مرتكب الكبيرة حيث لم يذهبوا مذهب الخوارج المتشدّد الذين اعتبروه مشركا ومن ثمّ فهو خالد في النّار كما لم يحكموا فيه حكم المرجئة الذين يرون بأنّه لا تضرّ المعصية مع الإيمان وفي هذا الإطار يقول علي يحيى معمر متحدّثا عن هذا المذهب «ولم يتطرّف في موضوع مرتكب الكبيرة فيوافق من يحكم عليه بالشّرك ولم يقف موقف المرجئة الذين يفتحون أبواب الجنّة للعصاة كأنّها فندق يملكون هم مفاتيحه على مبدأ لا تضرّ مع الإيمان معصية»(54). وبالنّسبة إلى القضيّة الأخيرة فهي قضيّة الولاية والبراءة والوقوف.فالولاية والبراءة دالّتان على موقف المؤمنين من إخوانهم المسلمين ومن الكفّار بمعنى الحبّ في الله من أجل الطّاعة الذي تتعلّق به كلمة الولاية والبغض في الله من أجل المعصية الذي تتعلّق به كلمة البراءة. وهما أمران واجبان على المسلم.أمّا العبارة الثّالثة وهي الوقوف فتعني التحفّظ.فإذا لم يكن المؤمن متيقّنا من أعمال الشّخص أو إيمانه كان عليه أن يمتنع عن إصدار حكم عليه إلى أن يصبح على يقين من أعماله وإيمانه وبالتّالي يكون له موقف محدّد يستطيع بموجبه أن يتولّى هذا الشّخص أو يبرأ منه وهو ما يوضّحه علي يحيى معمر في قوله «..أمّا من عرف في زمانه ولم يعرف أحوالهم من الطّاعة والمعصية فيجب أن يقف فيهم لا يتولاّهم ولا يبرأ منهم حتى يعرفهم بيقين لأنّ الولاية والبراءة عند الاباضية لا تلزم إلاّ باليقين كالمعرفة الشخصية أو شهادة العدلين ولا تبطل إلا بيقين»(55). وقد وردت هذه الكلمات الثّلاث موزّعة في سيرة محبوب بن الرحيل في مواطن مختلفة. فقد تحدّث عن الولاية رابطا إيّاها بالتّقوى مؤكّدا على معناها المتمثّل في «أن الله جعل تقواه طاعته فيما أمر به ونهى عنه ثم أثبت اسم التّقوى لأهلها بوفائهم له بحقوقه وتسليمهم له الطّاعة»(56) مشيرا إلى أصحاب الحكم المقابل وهو البراءة التي تتعلّق بالخارجين عن اسم التّقوى المضيّعين للطّاعة لذلك يقول «وأبغضهم إليه المضيّعين للطّاعة وهم الخارجون من اسم التّقوى… وحلّت بهم من الله البراءة واستحقّوا العقوبة»(57). مع الملاحظ أنّ محبوب بن رحيل يؤكد على أنّ البراءة يجب أن تُبنى على يقين وليس على مجرّد رأي أو كلام لذلك فإنّه يخالف خصمه في شأن المرأة التي قيل أن المغيرة بن شعبة قد زنى بها حيث يقول «لو أنّ رجلا من المسلمين برئ من هذه المرأة وسعه ذلك وجاز له»(58) بينما يرى هو أنّ هذا «ما لا يحلّ ولا يجوز لأحد أن يزيل اسم التّقوى عنها برأي حتّى يزيله الله عنها كما أثبته فمن أثبت له اسم التقوى فهو ثابت له حتى يزيله الله عنه فمن قال غير ذلك فقد أخطأ وخالف المسلمين»(59). فمثل هذه الأحكام لابدّ أن تُبنى على الدّليل والحجّة والبرهان باعتبار أنّ البراءة كما الولاية لا تلزم إلاّ باليقين. وبخصوص رأيه في الوقوف ففيه تأكيد على أنّه لا يعني معنى الشكّ عموما وهو ما يخالف فيه هارون بن اليمان الذي استند في وقوفه في بعض أصحاب المعاصي بعدم جلد عمر بن الخطاب للمغيرة بن شعبة وعدم استتابته وكذا المرأة التي قيل أنّه قد زنى بها ولا الشّاهد الرّابع الذي ارتبك في شهادته(60) وكذلك وقوفه في أمر عائشة في حادثة الإفك مؤكّدا على خطأ هذه الاستشهادات مبيّنا أنّها مرتبطة بمفهوم الشّكّ لذلك يتحدث عن وقوف هارون فيقول «إنّ وقوف هارون جهل وشكّ وعمى وحيرة»(61). أمّا هو فيميّز بين وقوف الفقهاء أو المسلمين في أمر من لم تعرف حاله من الطّاعة والمعصية ووقوف الرّسول صلى الله عليه وسلّم انتظارا لما يأتيه من وحي من ربّه.خلاصة القول إنّ مفهوم الولاية مرتبط باليقين المتعلّق بالطّاعة لله كما يرتبط مفهوم البراءة بالمعصية له ليكون الوقوف مرتبطا بعدم معرفة أحوال الإنسان بين الطّاعة والمعصية دون أن يعني ذلك الشكّ الذي يبدو أمرا مرفوضا عند محبوب بن الرحيل ذلك أنّه من غير دين المسلمين. ويستدلّ في ذلك بإنكارهم الشّكّ على عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي شكّ في بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فيقول «ولو أنّ المسلمين يجوّزونه لأحد لأجازوا لابن عمر»(62). وانطلاقا ممّا تقدم تبدو مفاهيم الولاية والبراءة والوقوف باعتبارها أحكاما بل واجبات واضحة عند عامّة المسلمين لا التباس فيها ولا تداخل بينها تماما كما وضوح الطاعة والمعصية أو عدم ظهور أيّ منهما وهو ما عبّرت عنه هذه السيرة في مقولة يمكن أن تكون خاتمة لهذا القسم من المبحث هي «ما نرى أن أحدا من المسلمين يخفى عليه قول أهل الدّين والعلماء والفقهاء والذين مضوا لسبيلهم رحمهم الله … بيّنوا حلالهم وحرامهم ووليّهم وعدوّهم ومن يكفّون عنه وذلك من لا يعرفونه بإيمان ولا كفر…فدينهم الكفّ عنهم حتّى يعرفوا الوليّ منهم والعدوّ، فهذا دينهم وديننا من بعدهم»(63).
ختاما يمكن القول إنّ هذا العمل هو محاولة لسبر بعض أغوار التّراث الإسلامي مجسّدا في فكر فرقة من الفرق الإسلامية وهي الإباضية. وقد نظرنا إلى بعض جوانبه من خلال أثر من آثاره المتنوعة يعود إلى مرحلة التأسيس.وقد حرصنا فيه على تنويع المراجع خصوصا الرّاجعة لأصحاب هذه المدرسة الفكرية تجنّبا للتّجنّي أو الأحكام المسبقة مقتربين من رأي أحد أعلامها يرى أنّ «من يكتب عن فرقة معتمدا على مصادر غيرها يكون بعيدا كلّ البعد عن الحقيقة لا يسلم من التجنّي أو هو في الحقيقة واقع في الخطأ من أوّل خطوة وأنّ ما يجيء على لسانه أو قلمه من الصّواب فيها هو بمحض الصدفة»(64).وعلى هذا الأساس نظرنا في سيرة محبوب بن الرحيل لرصد مختلف الآراء العقدية التي انطوت عليها فرأيناها مجسّدة في ثلاثة مجالات هي الإلهيات والرساليات والإنسانيات. ويمكن إجمال ما ورد فيها من آراء ومواقف في قضايا ومواضيع متعدّدة في النتائج التّالية:- تنزيه الباري في مجال الإلهيات انطلاقا من التوحيد وانتهاء إلى القول بالمجاز في مجال ما يوحي بالتجسيم والتشبيه.
-الإيمان بالرسالة وهي حجة الله ، على أساسها يكون احترام الإمامة مهما كانت إلى حدّ ما، لذلك يصلّى وراء أصحابها وتؤخذ الأعطيات لأنّها من حقوق المسلمين.
– الوسطية في قضايا الأسماء والأحكام والإلحاح على ربط نيل الشفاعة والجنّة بالتّوبة.
-ضبط أساس في التّعامل بين أفراد المجتمع قائم على واجبات الولاية والبراءة والوقوف.
وهي في نهاية المطاف ليست غير نموذج من نماذج الاجتهاد التي تمثّلها هذه الفرقة بعيدة كلّ البعد عن أشكال التطرّف،وفيّة لروح الاعتدال المميّزة للشريعة الإسلامية مؤكّدة بذلك أنّ الاختلاف لا يجب أن يكون غير عامل إضافة،وأنّ الغيرة على هذه الحضارة لا تعني إلغاء الآخر من الأفكار بإثبات التّهم عمدا أو سهوا بل بالتّحاور معه واعتبار كلّ جهد مقدّم زاوية من الزّوايا العديدة التّي ننظر من خلالها إلى هذا التّراث العريق حتى تكون الإضافة الخلاّقة التي تشهد بأن الاختلاف نعمة لا نقمة.
الهوامش
1 – مصطفى بن محمّد بن إدريسو: الفكر العقدي عند الإباضية العقدي عند الإباضية حتى نهاية القرن الثالث الهجري ، جمعية التراث، غرداية – الجزائر د.ت، ص 27.
2 – محمد صالح ناصر : منهج الدعوة عند الإباضية ص 30.
3- فرحات الجعبيري : تحليل ما يتعلّق بأصول الدين من التراث الإباضي بالمغرب في القرون التالية 10 – 11 – 12 هـ / 16 – 17 – 18 م ،شهادة التعمّق في البحث العلمي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس 1406 هـ / 1985م، ص ص 20 – 21.
4- محمد صالح ناصر : م ن ص 30.
5 – فرحات الجعبيري :م ن ص 22.
6- نور الدين عبد اللّه بن حميد السالمي : تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان ،مكتبة الاستقامة د.ت، ج I ص 122.
7- ابن إدريسو مصطفى بن محمد : الفكر العقدي عند الإباضية ، ص 217.
8- ابن إدريسو مصطفى بن محمد : م ن ، ص 214.
9- انظر: محبوب بن الرحيل : سيرته إلى أهل عمان في أمر هارون بن اليمان :السير والجوابات ،ص 297.
10 – سورة الفجر : الآية 22.
11 – سورة المجادلة : الآية الأولى.
12 – محبوب بن الرحيل : م ن ،ص 298.
13 – محبوب بن الرحيل : م ن ،ص 298.
14- علي يحي معمر :الإباضية في موكب التاريخ (الحلقة الأولى)،مكتبة وهبة – القاهرة د.ت،ص 60.
15- محبوب بن الرحيل : م ن، ص ص 298 – 299.
16 – محبوب بن الرحيل :م ن ، ص 299.
17 – صابر طعيمة :الإباضية عقيدة ومذهبا ،دار الجيل بيروت د.ت، ص 88.
18- محبوب بن الرحيل : م ن ،ص 293.
19- سورة البقرة : الآيتان 136 و 137.
20- محبوب بن الرحيل : م ن ،ص 291.
21 – انظر سيرة محبوب بن الرحيل – السير و الجوابات، ص 294-295.
22- محبوب بن الرحيل : م ن ، ص 297.
23 – انظر مصطفى بن محمد بن إدريسو : الفكر العقدي عند الإباضية حتى نهاية القرن الثالث الهجري من ص 358 إلى ص 364.
24- محبوب بن الرحيل : م ن ،ص 287.
25 – محبوب بن الرحيل : م ن ، ص 288.
26- محبوب بن الرحيل: م ن ،ص 288.
27- سورة الجمعة :الآية 9.
28 – أبو الرّبيع سليمان بن يخلف المزاتي :تقديم كتاب التّحف- فرحات الجعبيري– دراسات حول جزيرة جربة :جمعية صيانة جزيرة جربة – لقاء الصيانة أفريل 1991.ص 113.
29 – محبوب بن الرحيل : م ن ،ص 288.
30- محبوب بن الرحيل : م ن ص ص 287 – 288.
31- محبوب بن الرحيل : م ن ،ص 273.
32- سورة التغابن : الآية 2.
33- انظر محبوب بن الرحيل : م ن، ص 276.
34- محبوب بن الرحيل: م ن ،ص 277.
35- محبوب بن الرحيل : م ن ،ص ص 284 – 285.
36- محبوب بن الرحيل : م ن ،ص 284.
37- «وذلك أنّ معناهم لا منزلة بين المنزلتين أي بين الإيمان والكفر، وهما ضدّان كالأضداد كلّها شبه الحركة والسكون والحياة والموت» علي يحيى معمر : الإباضية بين الفرق الإسلامية ، ج II ص 91.
38- محبوب بن الرحيل : م ن ،ص ص 290-291.
39- محبوب بن الرحيل : م ن، ص 293.
40- محبوب بن الرحيل : م ن ، ص 291.
41- انظر علي يحيى معمر:الإباضية بين الفرق الإسلامية، ج II ص 94.
42- محبوب بن الرحيل: م ن ،ص 284.
43- محبوب بن الرحيل: م ن ،ص 284.
44 – مصطفى بن محمد بن إدريسو:الفكر العقدي عند الإباضية ،ص298.
45 – سورة النساء :الآية 143.
46- محبوب بن الرحيل :م ن، ص 293.
47- محبوب بن الرحيل:م ن ، ص ص 292 – 293.
48 – سورة النساء : الآية 145.
49- محبوب بن الرحيل : م ن ،ص 273.
50- محبوب بن الرحيل:م ن ،ص 287.
51- محبوب بن الرحيل : م ن ،ص ص 286-287.
52- محبوب بن الرحيل : م ن ،، ص 287.
53- محبوب بن الرحيل:م ن ص 287.
54- علي يحيى معمر : الإباضية بين الفرق الإسلامية ، ج II ص 143.
55- علي يحيى معمر : م ن، ص 141.
56- محبوب بن الرحيل : م ن، ص 276.
57- محبوب بن الرحيل:م ن، ص 276.
58- محبوب بن الرحيل: م ن ،ص 282.
59- محبوب بن الرحيل : م ن ،ص ص 282-283.
60- محبوب بن الرحيل : م ن ، ص 280.
61- محبوب بن الرحيل : م ن ،ص ص 279-280.
62- محبوب بن الرحيل :م ن ،ص 283.
63- محبوب بن الرحيل : م ن ،ص 286.
64- علي يحيى معمر: الإباضية بين الفرق الإسلامية ،ج II ،ص 121.
الحســـني غابري\
باحث واكاديمي من تونس