باسمة العنزي
كاتبة كويتية
في لحظاتٍ مُضيئةٍ، عندما أتخيّلُ نفسي على فِراش الموت وقد رفعتُ قبعتي للعالَم، ومساراتُ الأفكار تتدفّق بالصور والذكريات الخارجة من كبسولة الحياة التي عشتُها.. عندما أغمض عينيّ، وتُمسك يدي مناديلَ الوداع المُبتلّة، وطعمُ قطعة ذائبة من الامتنان على فمي.. عندها لو سألتُ نفسي: ما أعظم إنجازات حياتي التي على وشك الانقضاء؟ وما هي أسعدُ أيامي وأنا ألوح مبتعدة عن فضائي؟ لما فاجأتني كثافة المشاعر في سؤالين فقط، وأجبت على الفور: أبنائي الثلاثة، نجومٌ تلمعُ بشدة في سمائي الغاربة!
قبل أيام انقضت الذكرى التاسعةُ لموت أمي، المرأة التي لن تتكرر، والمثل الأعلى بالنسبة لي، عندما أذكر أنها استثنائية أحاول التخفيفَ من صِفة البنوّة، ورؤيتَها من زاوية أخرى تتدثر بالحياد، كانت سابقةً لزمنها، مليئةً بالأفكار الملهِمة، قادرةً على إنجاز نجاحات متتالية دون تخطيط مسبق، متعددةَ المواهب، وصاحبةَ مبادئَ لا تحيدُ عنها.
كانت عقلانية جدًا، معتمدةً على ذاتها، مستقلةً وصاحبةَ قرار، مُحِبّةً للون الأخضر والطبيعةِ والرسم بالألوان الزيتية، مثقفةً ومُطّلعة في عدة مجالات.
كانت مصدرَنا للمعلومات العامة، ونافذتَنا للحياة المنظمة المبنية على ثوابت، رغم ذلك كانت من النوع الزاهد الذي لا تُغريه المادة، ولا ينصاع لبريق الأشياء الخارجية في محيط يقدّس المظاهر ويلهث وراء كل ما هو زائل.
عندما ألتفتُ إلى الوراء لسنوات مرّت سريعة جدًا، أنظر لنفسي كامرأة متعددة الأدوار، أم لثلاثة أطفال، امرأة عاملة في القطاع الخاص، زوجة مُحبّة مقدسة للحياة الأسرية، وفرد من عائلة ممتدة، وأيضًا كاتبة أمارس الكتابة الإبداعية، ولديّ إصداراتٌ قصصية وروائية!
أعترف أنني كنت أضع الكتابة في المرتبة الأخيرة من جدول انشغالاتي رغم شغفي بها! مشوار طبيب لطفل مصاب بالربو يأتي في المرتبة الأولى قبل تدوين فكرة قصة قصيرة عبرت في ذهني عن امرأة تهوى جمع فواتير الشراء.
الذهاب لمواعيد اجتماعات أولياء الأمور نصف السنوية أهمُّ من الجلوس وحدي بصحبة جهاز اللاب توب لكتابة مقال ثقافي عن رواية رائعة صفقت لكاتبها.
التخطيط لسفرة صيفية بجدول ترفيهي -للأطفال الذين عليك أن تشغلهم طوال الوقت- يزيح بخفَّة فكرة الموافقة على دعوة للسفر لورشة كتابة إبداعية وسط الصحراء!
كنت أعتذر كثيرًا عن العديد من الفعاليات الثقافية الخارجية بسبب إحساسي العالي بالالتزام كأم، ولاسيما عندما كان أبنائي في سنواتهم الأولى من سُلّم الحياة.
كانت والدتي -مديرةُ المدرسة- قارئةً جيدةً، ولديها مواهب الرحّالة ورغبتُهم في التقصي عن الأماكن والتاريخ والجغرافيا، اختارت أن تكمل دراستها الجامعية في الجغرافيا وأنا في رياض الأطفال.
كانت تفتح الأطلس الضخم لأطلّ برأسي كطفلة لا تفهم تعرُّجات الخرائط والمسطحات الملونة، وتشرح لي عن شعوب يقطنون أراضيَ خضراءَ أو قاحلةً، يعيشون ظروفًا اقتصادية صعبة، أو ينعمون بالوفرة والرخاء، يصنعون أو يستهلكون، بألوان بشرتهم وصفاتهم البيولوجية، بأشهر علمائهم وحكامهم، بتواريخ حروبهم وانكساراتهم، كنت أستمع لقصص العالَم من خلال الأطلس الضخم ذي الغلاف الأخضر، والذي يتمُّ التعامل معه كقطعة ثمينة ما إن يُفتَح حتى أُحلِّقَ بعيدًا مع صوت أمي إلى بِقاع نائية.
في نهاية شهر أكتوبر من عام 2000 عندما أنجبتُ ابني البِكْر خبِرتُ بعمق معنى أن تُشرقَ روحي! كنت أتأمَّلُه وهو في المِهاد كمن يتأمَّل أثمنَ جواهره على الإطلاق. نظرتي الأولى له كشفتْ لي إلى أي مدى ستأخذني عاطفةُ الأمومة الجياشة. شعورٌ بالامتنان والفرح ممزوجٌ بالقلق المتعلق بالتفاصيل؛ كيف سأطعِمُه وأنظِّفُه وأسهر معه وحدنا حتى الصباح؟ درّبتُ نفسي على قراءة كتب أجنبية مفيدة، كنتُ ألجأ إليها كلما استعصى عليَّ أمرٌ له علاقةٌ بالعناية بهذا الضيف الجديد المعتمِد كُليّةً على تفرُّغي له. وبالطبع لا توجد وصفاتٌ سِحريةٌ على أرفف الأمومة الجديدة تختصِرُ من مدة تجاربنا!
منذ اللحظةِ التي أفقْتُ فيها من مُخدِّر الولادة وأنا مُدرِكةٌ أن هناك كائنًا بريئًا يعتمد عليَّ كي ينمو ويشقُّ طريقه في الحياة. المسؤولية كانت عظيمةً وأنا شديدة الالتزام، لذا أخذتُها كاملة على عاتقي! ولم أقبلْ أن يشاركني بها أحد.
توقفتُ عن الكتابة، فما أعيشه يفوق كثيرًا قدرتي على تدوينه وتحليله وتقديمه للنشر. كنت أتعرَّف على عالَم جديد وأنا في الخامسة والعشرين، استبدلتُ الكتابةَ بالقراءة عن كل ما يخصُّ التجربة الجديدة لي كأم، كانت وخزاتُ تأنيب الضمير تباغتُني كلما قرأتُ نصًا أعجبني أو طلبَ مني أحد الزملاء مراجعةَ مسودةِ عملٍ أدبيٍّ لإبداء الرأي فيه.
كنت أشعر بالتقصير، وبأنني لم أضع الكتابة على رأس أولوياتي بعد أن ازدحمتْ أيامي بالأدوار الملحّة والمصيرية.
كنت أيضًا امرأةً عاملةً تُحقِّق نجاحاتٍ في عالم الوظيفة الشائك، وعليها أن توازنَ بين الاثنين بشكل يضمن الاستمرارية، وبالتالي تقديم مستوى معيشي أفضل للأطفال الذين أستعيدُ طفولتي معهم، فكلُّ ما لم يتحْ لي حاولتُ تقديمه لهم بشكل لائق.
في ذلك الصباح الصيفي من شهر يونيو، ونقّالةٌ تحمل جسد أمي، أدركتُ أن جزءًا من حياتي غادرني، بكل اللحظات المشتركة والروابط التي لا يمكن تفسيرها أو حتى محاولة شرحها، ما الذي يعنيه أن ترحل من كانت نافذتي، وقنديل طريقي الأول؟!
كيف يمكنني رتقَ ثوب الرحيل وجزءٌ من كياني يغادر بعيدًا؟
عندما أتذكر أمي بعد تسع سنوات من الفراق، غالبًا ما تكون ذكرياتي وأنا طفلة أنظر للعالَم من خلالها، وأملأ جيبي من نصائحها، طفلةٌ تدرك أن من شهدت ضحكتها ودمعتها وكلمتها الأولى ليست كائنًا منفصلًا تمامًا عنها.
كانت تقرأ كتبي بعد النشر وتناقشني بها، أمرّر لها كتبًا أعجبتني وتعطيني رأيًا ناقدًا بها، كنا عُضوَين في نادي قراءة خاص بنا فقط، مقرُّه بيتُها دون أن نخطّط لذلك! تهتم بالأفكار الجديدة وحجم المعلومات المقدمة في الأعمال الأدبية، ما لا يروق لها لا تكمل قراءته، تعيدُه لي دون تفاصيل كثيرة. كما كانت عيناها تشع بالدهشة عندما نناقش عملا إبداعيا راق لها!
مثل اللعبة المجهولة في قلب بيضة كِنْدر، كانت الكتابةُ بحاجة لرغبتي الملحّة في الوصول إليها، كلما نبّهني زوجي أنني لم أعد أكتب، أشعر بالخجل من أن الأمر بدا ملحوظًا وقابلًا للنقاش من قبل أكثر شخص يدعم المبدعة بداخلي!
كنتُ أقدِّم أعذارًا واهية، فتفكيري وتركيزي منقسِم ما بين طفل تتدفق مشاعري تجاهه، أوصلُه للمدرسة وأصحبُه للحديقة العامة والسوبرماركت، أخطّط لتعليمه والترفيه عنه، ومواعيد أكله واستيقاظه، أستمع لمشكلاته الصغيرة بتركيز، أضمّد جراحه، وأقدّم له الدعم المعنوي اللازم مع توفير متطلباته المادية التي تزداد تدريجيًا مع الوقت.
وما بين وظيفة تلتهم نصف نهاري وتحتاج لانتباهي الشديد، وحرصي على عدم فقدانها، وممارسة دوري الأمومي بمتعةٍ يصاحبها استنزافٌ للطاقة والوقت مع قلق التقصير، أجدُ الكتابة كحبيبٍ هجرته بلطف دون أن أوصد الباب وراءه، لا أقوى على فراقِه تمامًا، ولا الاقترابِ منه رغم مكانته الخاصة في قلبي.
كانت الأمومة تسحبني لعالم مُتشعِّب التفاصيل، تبقيني داخل قبّعتها الساحرة لفترات طويلة، ورغم مصاعبها ولحظات التعب والتشتت فيها إلا أنها كالتجول في محل ورد كبير، بينما بدت الكتابةُ كأزهار الطريق في دربِ شابّةٍ تركض مُحاوِلةً خلقَ توازن عائلي، وتجرِبةَ أدوار جديدة غير قابلة للمقايضة.
وأنا أرتِّب أرففَ غرفة أمي وأدراجَها بعد وفاتها توقفتُ كثيرًا أمام قُصاصات الورق التي دوّنتْ فيها وصفاتِ طبخ، معلوماتِ سفر ورحلات، عناوينَ وأرقامًا مُهمّة، خطُّها كان جميلًا وواضحًا ورصينًا؛ خطُّ شخصٍ تثِقُ برأيه وأحكامه وفلسفته في الحياة.
في الدرج السفلي دفترٌ أزرقُ قديمٌ أسفل أطلس العالم بغلافه الأخضر، وهي في العادة لا تحتفِظُ بزوائد الأشياء ولا تُبقيها لمجرد الذكرى. كانت تتخفف من كل ما هو فائض عن حاجتها بشكل دوري كما يليق بناسكة.
فتحتُ دفترها، كانت مسودّةً غيرَ مكتملة لعمل روائي! يبدو أنها عملتْ بجد على بدايتها التي بدت ناضجة ومشوِّقة، كانت تتبع خطَّ سير عائلة من صحراء نجد مع معلومات تاريخية وجغرافية مُحكَمة.
أمي كانت مشروعَ روائيةٍ، وربما كاتبة سيرة ذاتية! ما الذي جعلها تخبئ كتاباتها؟ هل كانت الكتابة شغفا تنازلت عنه عندما أصبحت أما؟ لم نتحدث يوما عن رغبتها في تدوين عمل أدبي مع أني كنت أشعر بها دائما قريبة من الكتابة وأعراضها وأحوالها!
لو سألتُ نفسي: ما أعظم إنجازات حياتي التي على وشك الانقضاء؟ وما هي أسعدُ أيامي وأنا ألوح مبتعدة عن فضائي؟ لما فاجأتني كثافة المشاعر في سؤالين فقط، وأجبت على الفور: أبنائي الثلاثة، نجومٌ تلمعُ بشدة في سمائي الغاربة! والكتابة أيضا كانت طفلتي التي أهملتها وأشعر دوما بالذنب لذلك!
الكتابة كمصير لا خلاص منه مهما ابتعدنا برغبتنا، الموهبة التي هي جزء من هويتي ورسالة حب أسعدتني كثيرا.