من خلال رصدي لإرهاصات ما بعد الحداثة في روايات المبدع السوري حنا مينه، كان أول ما لفت انتباهي في روايته «الربيع والخريف» إمكانية الحبّ الآني والمتعدّد كقيمة إنسانية جديدة مرتبطة بالحرية والحياة مقابل الحبّ الأحادي والأبدي كقيمة إنسانية متخلفة واستبدادية مرتبطة بالموت كما هي الحال في رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للمبدع السوداني الطيب صالح. والطريف أنّني في مقالي المقارن بين الروايتين اضطررت إلى الاستعانة بإحدى مقولات الكونت دو ساد ومفادها أنه: «من أجل التآلف مع الموت ليس هناك أفضل من ربطه بفكرة داعرة». والقارئ لرواية الطيب صالح سوف يلحظ كيف أنّ جميع الانكليزيات اللواتي أقمن علاقة مع الراوي السوداني سوف ينتحرن بسبب اكتشافهنّ لجانب الدعارة في هذه العلاقة ماعدا واحدة سوف تكتشف هذا الجانب في الراوي وتحبّه على هذا الأساس لأنّه يماثل طبيعة الحبّ الداعر لديها، فتستجيب له بعد طول تفكّر وتشويق بشرط أن يضع أثناء العلاقة بينهما خنجراً بين صدره وصدرها بحيث يكون الحبّ والموت في وقت واحد. والطريف أنّ الراوي بعد أن يعود إلى السودان ويعيش حياة طبيعية يبني أسرة وينجب أولاداً سوف يقدم على الانتحار في مياه النيل تطهراً من مصائر نسائه في انكلترا.
لا يلحظ القارئ لراوية حنا مينه ? والتي تجري أحداثها في الصين وأوربا الشرقية- اختلافاً في الرؤى لدى الراوي السوري عن سابقه السوداني إلا أنّ علاقاته لا تأخذ بعداً مأسوياً يفضي إلى انتحار نسائه، وغالباً ما تكون هذه العلاقات مكشوفة ولا مانع من أن تكون مقابل شيء كهدية من الهدايا. لولا أنّ إحدى الفنانات المجريات تستضيف الراوي السوري في بيتها وتقيم معه علاقة لإعجابها به وحسب. وحين يحاول أن يقدّم لها مبلغاً من المال مقابل ذلك يتلقى صفعة منها، ربما لتخلخل الوعي الذكوري الاستبدادي المتخلّف لديه وتنبهه إلى إمكانية الحب الآني والمتعدّد من غير دعارة تجارية مباشرة أو غير مباشرة، ومن غير عواقب مأساوية، أو ثأرية من الرجل كما هو الحال لدى الروائيات العربيات.
هذا الإرهاص الروائي الما بعد حداثي لدى حنا مينه في وعي الحرية، حرية الحبّ، والذي كان نتيجة للصدمة الحضارية مع الشمال الشرقي للكرة الأرضية في القرن العشرين، سوف يلقى وعياً روائياً ذكورياً واضحاً في بداية القرن الواحد والعشرين، يمكن قراءته بمستويات متعدّدة في رواية «اختبار الندم» الصادرة عن دار نوفل، بيروت، 2016، للروائي السوري خليل صويلح.
لكن، مع أنّ القارئ لرواية «اختبار الندم» لا يلحظ أية سلطة استبدادية – عرفيةً اجتماعية أم سادية نفسية ووجودية – على شخصياتها في خياراتها العاطفية، خارج الإطار القسري والطارئ للسجن والحرب، إلا أنّ التحرّر من السلطة التقليدية للوعي الجمعي يبدو متفاوتاً وفق الوعي الذاتي والظروف الذاتية لكلّ من شخصياتها:
فيظهر المستوى التقليدي من خلال الشخصيات المتممة أو الفرعية في الرواية: شخصية سميح عطا حارس مسرح الحمرا الذي يقيم علاقة استيهامية مع دمية داخل غرفة ملابس شخصيات الممثلات والممثلين متخيلاً أجساد الممثلات بمساعدة روائح ملابسهنّ، وهذا حال معظم غير المتزوجين من العرب. وشخصية جمانة سلوم التي تقيم علاقاتها مع رجلها «كجثة» من غير رغبة، كحال معظم الزوجات العربيات. وشخصية «نايا مروان» التي تبدو كإحدى شخصيات رواية الطيب صالح، ولاسيما أنّ راوية خليل صويلح ترجح سبب انتحارها في جنوب أفريقيا بسبب فرضية « اكتشافها بأن الرسّام تعامل معها طيلة فترة علاقتهما كعشيقة عابرة فقط، فيما كانت هي تحبه بعنف، وربما بجنون».
أما المستوى المتحرّر فيبدو مركباً من خلال شخصية أسمهان مشعل التي تتخذ اسماً مستعاراً على الفيس بوك هو «آمال ناجي»، وهي تعيش فصاماً بين اسمها الحقيقي الذي جعلها تطلّق زوجها لاكتشافها أنه يخونها، واسمها المستعار الذي جعلها تقيم من خلاله علاقة عابرة مع الراوي. ويبدو هذا المستوى أكثر تعقيداً من خلال شخصية نارنج عبد الحميد من جهة تعرّضها لخيانة حببيها حسام حين يشي بتصويرها للمظاهرات واغتصابها أثناء التحقيق بعنف يؤدي إلى قطع أذنها. ومن جهة إقامتها علاقة جميلة مع الراوي، وتخليها عنه، لتهاجر إلى أوربا ربما للثأر من حسام الذي سبقها إلى هناك. وربما تكون شخصية هنادي عاصي أقرب إلى رؤى ما بعد الحداثة المتحرّرة في هذا المستوى لعلاقاتها المتعدّدة ولاسيما المثلية منها. لولا أنّ علاقتها بالراوي لم تكتملْ بسبب هجرتها هي الأخرى خوفاً من الملاحقة بسبب توقيعها على بيان سياسي. أما شخصية الراوي المحورية في هذه الرواية فهي تختبر عواطفها وشهواتها من خلال علاقاتها مع الشخصيات الثلاث الأخيرة بحرية مكشوفة، وخالية من أية عقد نفسية أو اجتماعية تقليدية.
هذه العرض الموجز لشخصيات الرواية سوف يساعدني على الدخول السريع في شرح مستويات سردها، ويمكنني إيجاز هذه المستويات أيضاً بنوعين من السرد: الأول السرد الدرامي. والثاني السرد الملحق أو الاستطرادي وتظهر فيه شخصيات عديدة أهمها شخصيتان ملحقتان بمكان الراوي هما كمال علوان والمترجم الروسي.
ربما أهم ما في رواية «اختبار الندم» أنها تتيح لي مرّة أخرى أن أشرح البعد ما بعد الحداثي للفعل الدرامي لدى برتولد بريخت، ولا أنكر أنّ رولان بارت هو من نبّهني إلى ذلك، لكن رولان يذكر برتولد للتمثيل على موت المؤلف وربما متعة النص، ولم أقرأ له شيئاً حول الفعل الدرامي. لذلك أودّ، مجدّداً، التأكيد على أنّ أهمية برتولد بريخت لا تكمن في اقتباساته، وتلاعبه درامياً بنصوص غيره – حجّة رولان بارت الواهية في موت المؤلف- بقدر ما تكمن في الفعل الدرامي ذاته. وما ينبغي فهمه بدقّة وإشاعته بشكل واسع، من قبلي على الأقلّ، أنّ هذا الفعل لكي يكون درامياً ليس من الضروري أن يعتمد كاتبه على نصوص غيره، بل المبدع هو من يكتب نصوصاً جديدة من لدنه، واقعية أو متخيّلة، مبنية بطريقة درامية كما فعل خليل صويلح في روايته هذه. فضاعف من متعة القراءة بقراءة حكايات تكتب لأوّل مرة وبالطريقة الدرامية لسرد هذه الحكايات.
تبدأ رواية «اختبار الندم» بعلاقة افتراضية بين شخصية الراوي وشخصية آمال ناجي على الفيس بوك. وكان لهذه العلاقة ? على الرغم من طبيعتها الجديدة في السرد العربي – أن تسير بشكل اعتيادي بين شخصيتين متحرّرتين، لولا اعتراضها بعلاقة أخرى بين شخصية الراوي وتلميذته في «ورشة كتابة السيناريو» نارنج عبد الحميد.
ولحسن وعي الشخصيات لم يكن هذا الاعتراض مباشراً أو مؤثراً بفظاظة على سير أحداث العلاقة أو على تطورها بقدر ما كان كاشفاً لميول الراوي وتفكيره اللاوعي ورفعه إلى سطح السرد. لكن قبل شرح ذلك ينبغي التذكير أنّ الراوي يعيش ضمن ظروف الحرب التي أسهب الروائي في تصويرها في روايته السابقة (جنة البرابرة) وهذه الظروف لم تزل مستمرة وإن جاءت مسايرة لوقائع الفعل الدرامي في هذه الرواية ومتقاطعة مع حركة شخصياتها أكثر مما هي محور الرواية وسردها. لذلك كان من اللافت أنّ يشبّه الراوي آمال ناجي في بداية تعرفه عليها بآلة البيانو المركونة قرب مرحاض المقهى بعد سرقتها من إحدى الأحياء المدمرة بسبب أنّها امرأة تعيش في قريتها بعيداً عن الحرب وأهوالها.
بعد أن تحاول آمال ممارسة فصاميتها على الراوي من خلال شخصيتها الحقيقية أسمهان مشعل بأن يكون ملكاً لها وحدها، تعود إلى القبول الواقعي بعلاقة آنية معه وباسميها معاً. وكان ذلك نتيجة لتحرير الراوي لها من لغتها الروحانية على الفيس بوك وتحريضها على الكتابة الحسية، ووعده لها بأن يكون لها وحدها أثناء تواجدهما معاً. وبالفعل تأتي من قريتها الجنوبية بمحافظة السويداء لزيارته في دمشق، وكما اتفقا على الفيس بوك يشتريان مستلزمات الوجبة النباتية، باعتبار أسمهان نباتية، لتحضرها له في بيته على طريقته الخاصة وهي تشرب النبيذ مثلما وعدته. غير أنّ العطب الذي حصل كان من قبل الراوي أثناء ملامسته لآمال ومحاولته عناقها، إذ يتذكّر ما حصل لنارنج مع المحقّق، ليحدث الاعتراض بمردوده السلبي ولاسيما حين يقوم الراوي بتقبيل آمال في أذنها محاكاة لفعل المحقّق كدلالة مركبة على تعاطفه مع نارنج ورفضه لفعل القطع مما أصابه بالعنانة المؤقتة. بعد ذلك تخرج آمال ناجي أو أسمهان مشعل من دائرة الفعل الدرامي لتكون شخصية محايثة له، مع استمرار علاقتها مع الراوي على حالها، وربما بعلاقة جسدية كاملة.
من الواضح أنّ الفعل الدرامي سوف يستمرّ بعد ذلك بين الراوي ونارنج عبد الحميد، ليستحوذ على محور الرواية ومقاصدها، بل وفحوى عنوانها. وما يجعل ذلك سهلاً، ويجري بلا كدر يذكر، ربما قد يكون تشابه الانكسار الذاتي لدى الشخصيتين، انكسار الراوي بسبب الحرب وأهوالها، وانكسار هنادي بسبب ما جرى لها من صديقها حسام وفي مرحلة التحقيق، إضافة إلى وعي الراوي بهذا الانكسار وكيفية التعامل معه. وربما هذا الوعي هو ما يجعل الفعل الدرامي في هذه الرواية تعليمياً أكثر مما هو تغريبي، وإن كان كلا التوصيفين مأخوذين من عمل برتولد بريخت، إلا أنّ التوصيف التعليمي يحصل هنا على طريقة خليل صويلح وفي سرد الرواية تحديداً.
صحيح أنّ العلاقة التعليمية بين الراوي ونارنج في ورشة كتابة السيناريو تبدو مرئية بشكل مباشر، غير أنها ليست المقصودة بالفعل الدرامي الروائي، طالما أنّ هذا الفعل يقوم حقيقة – كحقيقة فنية- على العلاقة الشخصية بين الراوي ونارنج خارج عمل الورشة. بل لا يبدو هذا الفعل التعليمي مقصوداً إلا كنتيجة لوعي الراوي وسلوكه مع حالة نفسية معقدة تشعر صاحبتها بموات عاطفي وشهواني. لذلك يلتزم الراوي بمساعدة نارنج أخلاقياً منذ البداية، ومنذ البداية يعرض شهواته عليها، ولكن بطريقة طبيعية خالية من الإكراه أو الإغواء المبتذل. وخلال علاقة صداقة صريحة، وودودة، إلى جانب اقتراحاته العملية في تصويرها للأفلام وما نتج عنها من سرديات سينمائية ومسرحية ملحقة كان من نتيجتها التعرف على شخصية سميح عطا حارس مسرح الحمرا.
لم يكن تقبيل الراوي لأذن نارنج شافياً، ولكن على فظاظته كان كافياً لإعلامها بأنّ أذنها المقطوعة لا تشكّل عائقاً أمام علاقتهما. وإذا كان من الطبيعي أن تشعر بالأذى النفسي من هذه القبلة بداية إلا أنها سترمي الكرة نهائياً في ملعبها وما على الراوي سوى انتظار بدء اللعبة من يد نارنج أو قدمها. وهذا سيحتاج إلى وقت تتعرّف من خلاله نارنج على علاقات متعدّدة للراوي، لتشعر بالغيرة، فتفصح عن رغباتها، متحرّرة شيئاً فشيئاً من الأذى الذي لحق بها. ساعدها على ذلك اعتراضين لعلاقتها بالراوي: الأول رغبة الراوي باستعادة علاقته مع هنادي عاصي من خلال ترميم مخطوطة روائية عنها، فتتعرّف نارنج على إمكانية الحب العرضي والمتعدّد. والثاني بحث الراوي عن سبب انتحار الشابة نايا مروان، بما يفقد نارنج حماسها للانتحار طالما أنه مرتبط بأحوال الحب والجسد. ولا مردود عاطفي أو وجودي له.
لا أريد أن أحتفي بطريقة السرد الدرامي لخليل صويلح أكثر مما أفعله في هذا المقال. لأرفده بالأثر الانفعالي على القارئ، وهذا شيء مع أنه مختلف بين قارئ وآخر، لكن ما أدهشني في الواقع أنّ تذرف دموعي لقراءة مشهد إيروتيكي على غير ما ينبغي من كائن متشهٍ مثلي!. وإذا كان ذلك بسبب تعاطفي مع شخصية نارنج منذ البداية وبسبب طبيعتي الهشة كشاعر، لكنه تعاطف مدروس من قبل الروائي طالما يدلّ على تحرّر نارنج وشفائها من أوجاعها. وما أودّ قوله كناقد: إنّ الأثر الفنّي لأيّ عمل هو هدف كاتبه. وأن يكون الانفعال خارج الفعل الدرامي لدى برتولد بريخت، إلا أنّ الانفعال هو أيضاً أسلوب في الوعي والمعرفة، ولا ينبغي تجاوزه في أيّ عمل إبداعي على أن يُحمل هذا الانفعال على أسس معرفية أو دلالية على الأقل.
ربما انشغال الراوي بكتابة روايته الغرائبية والتغريبية عن هند عاصي، وتعرفه على خلود سلوم من خلال أسمهان مشعل، والأهمّ من ذلك حياته القلقة والمبعثرة، جعله في غفلة عن تحضير نارنج عبد الحميد نفسها للهجرة. وعلى الرغم من نيله ما أراد منها من خلال ما منحها إياه، تركت في حياته فراغاً «كان نوعاً من الموت المؤقت». ترْكُ هذا الموت يمرّ، وإن كان بغفلة عن إرادة الراوي وإرادته هو ما سيعزّز لديه الشعور بالندم. ليس الندم على الحبّ وحده، وإنما الندم على أيّ شيء جميل وخيّر يموت في حياتنا ولاسيما بسبب هذه الحرب المستعرة..
لا تعتمد رواية «اختبار الندم» على البعد الدرامي وحده بل تتضمن أنواعاً أخرى من السرد لا تقلّ متعة وإثارة عن سردها الدرامي لولا أنّ سردها الدرامي ذاته سوف يتضمّن عدّة أنواع من السرديات الكتابية، ربما أكثرها مباشرة السرد البلاغي اللغوي للأحداث، والذي يحاول خليل صويلح من خلاله ان يستعرض شعريته النثرية، استعراضاً أقلّ ما يمكن وصفه بالرشاقة ومناسبته الدلالية للحال: «أريدُ أن أتنفّس هواءً مختلفاً، لكن لا إسطبل آخر غير هذا المقهى». ليتطوّر هذا السرد البلاغي إلى نوع من المقابلات البلاغية بين الشخصيات فإذا كان الراوي يشبه أسمهان مشعل بالبيانو فلا بأس من أن تشبّه نارنج عبد الحميد نفسها بالأكورديون المهجور في فرقة موسيقية. أو أن يقابل بين ما جرى لنارنج على يد المحقّق وما يمكن أن يحصل لنارنج إذا ما وقعت في أسر أحد أصحاب الرايات السود من المسلحين في قلعة حمص قبل تحريرها.
غير أنّ ما يزدحم به السرد الدرامي هو استطرادات الحقل الدلالي فسؤال الندم الذي تبدأ به آمال ناجي الرواية، أو بالأحرى الذي يبدأ الراوي بإجابتها عنه سوف يقوده للحديث عن حكاية فيلم «الندم» للمخرج الجورجي تنجيز أبولادزه. وطالما يقرأ كتاب « الكاتب وكوابيسه» لعالم الفيزياء الأرجنتيني ارنستو ساباتو، فلا بأس من أن يحلم بأبي العلاء المعري مقطوع الرأس بعد أن قطع البرابرة رأس تمثاله في معرة النعمان، والحلم بأبي علاء يستدعي الحديث عن رسالة الغفران، وهكذا سوف يطلع قارئ الرواية على مختارات مميزة في إفادتها ومتعتها من الكتب والأفلام والأغنيات مع الملاحظات حولها، بما يغني معرفته، وذائقته النقدية، وربما يستفزّه للحصول عليها كاملة من مصادرها.
أكثر من ذلك سوف يتيح هذا الانشراح في الحقل الدلالي لخليل صويلح أن يتمكّن من نقد الرواية داخل الرواية أثناء سرده لمحاولة الراوي ترميم كتابته عن هنادي عاصي، وربما هذا ما مكنه من نشر هذا النقد الروائي كمقال مستقل مجتزأ من الرواية. والشيء ذاته في نشر مقال عن زيارته لقلعة الحصن في حمص مجتزأ من حكاية هنادي ذاتها. وإن كان هذا الشيء يشي بإمكانية تعدّد الأجناس السردية أو الفنية داخل العمل الواحد إلا أنه يبقى مشروطاً ببقاء العمل متمايزاً بجنسه الروائي.
وإذا كانت الحرب قد لعبت دوراً بارزاً في مصائر شخصياته وعلاقاته الغرامية معها إلا أنّ ملحقاتها من الشخصيات الفرعية، سوف تضيء تحولات الناس والأمكنة في دمشق بسخرية حيناً من كمال علوان الذي يريد تقويض اسمنت الدولة من خلال مخطوط مستقبلي يحمله برفقة زجاجة من الخمر المحلي الرديء ليتبين أنّه يعمل سمساراً لدى خاطفي الأغنياء لافتدائهم بالمال. ومن مرسم عشيق نايا مروان الذي تحوّل إلى محل لنجارة التوابيت أو بأسى لحال المترجم الروسي الذي يبحث عن مكتبته التي شرّدتها الحرب. غير صور المآسي التي أمدته بها جمانة سلوم المصورة الفوتوغرافية في وكالة أنباء رسمية. وغير ذلك الكثير مما تحفل به الرواية ولا يمكن إحصاؤه.
والمدهش أنّ كلّ هذه السرديات تتمّ بلا أيّ شعور بالملل أو الإطالة من القارئ بل من القارئ – الناقد. بل وبما يحافظ على شخصياتها معيشة وتنبض بالحياة الممكنة واقعياً لصدقها الفني ولمهارة الروائي في صوغها كذلك. وأعتقد أنّها، بذلك، تقدّم حالة سردية فريدة تخص خليل صويلح وحده. بما يجعله يخطو على البساط المخملي الأحمر لكبار الروائيين بثقة وارتياح. وليس في الأمر سرّ طالما أتقن خليل تقسيم أحداثه الدرامية إلى سرديات متلاحقة تجذب الواحدة منها الأخرى بمغناطيس الفعل الدرامي وملحقاته؛ ليمنح هذا الفعل مساحة للتشويق والتغريب في الوقت ذاته. أو باعتماده لحالة جمع الشظايا بعد بعثرتها في روايته السابقة (جنة البرابرة)، وهذا الجمع الذي جاء من لدن الروائي من غير أية حاجة إلصاقية هذه المرة، قد يشبه فسيفساء شرقية بحضور أسمهان ناجي التي لم تزل تتنقل بين دمشق والسويداء, أو يشبه سمفونية غربية بغياب نارنج عبد الحميد وهنادي عاصي في إحدى مدن أوروبا أو ألمانيا تحديداً. وهو جمع يشبه لأم الجراح أو محاولة للأمها كما نأمل جميعاً – نحن السوريين!
نديم الوزه*