عبدالحميد القائد
في المقهى
تنظر إليه .. ينظر إليها بين فينةٍ وأخرى..
النظراتُ لا تتوقف، لماذا تنظر إليه هكذا، من المؤكد أنها ليست معجبة بوسامته أو حتى بذكوريته، فقد اختطف الزمن منه الكثير من بهائه القديم، ما عاد طبقًا شهيًا للنساء، ولا هي أيضًا طبقٌ جذّابٌ تستحق بذل الجهد من الرجال، الاحتمال الأكبر أنه يشبه أحدًا كانت تعرفه يومًا. ربما .. ربما كل السيناريوهات مفتوحة.
رآها تقرأ كتابًا، حينما استرق البصر عدة مرات عرف أنها رواية “غادة الكاميليا” للروائي الفرنسي ألكسندر دوماس، تذكّر أنه قرأ هذه الرواية أكثر من مرة، مرة في صباه ومرة ثانية قبل حوالي سنة. استطاع بعد تحديق عميق في وجهها وهي مشغولة بالقراءة أن يقرر بأن وجهها ليس غريبًا، هو شاهدها من قبل لكن لا يتذكّر متى وأين.
كان مشغولًا بقراءة رواية “بيت الأرواح” للروائية التشيلية إيزابيلا الليندي. استطاع أن يمسكها متلبسة وهي تحاول معرفة ما يقرأ بنظراتها المكشوفة فابتسم وهي ابتسمت. لم يُضع الوقت فهو متهوّر بطبعه. أخذ كوب قهوته وانتقل إلى طاولتها متصنّعًا التهذيب فهو في عمره العتي لا يزال مراهقًا لم يكبر، ويبدو أنه لن يكبر أبدًا لدرجة أن أحد أصدقائه المقربين قال له يومًا “أخشى أن تقضي نحبك وأنت على صدر امرأة”.
– هل يمكنني أن أشاركك وحدتك؟
– أنا لست وحيدة أنا مع كتابي.
– أنا مثلك الكتاب صديقي ربما الوحيد.
عرف من لهجتها أنها إماراتية وأخبرته أنها وصلت من وقت قريب لدراسة الماجستير هنا.
– هل تزور الإمارات كثيرًا؟
– أبدًا، زرتها عدة مرات لكن من فترة بعيدة.
– إذن أين رأيتك. هيأتك وحتى طريقة كلامك تشعرني أنني أعرفك عن قرب.
– أنا عندي نفس الشعور… غريب هذا الكون.
– ما موضوع رسالتك؟
– الفن التشكيلي الحداثي في الخليج العربي.
– أنتِ فنانة تشكيلية؟
– نعم
– أنا أيضًا لكنني دخلت عالم الفن متأخرًا، كنتُ أكتب الشعر سابقًا.
– من الشعر إلى الرسم؟
– نعم لأن الشعر بمرور الزمن تحوّل إلى قلادة ثم تحوّلت القلادة إلى قيد أشعرني بأني أصبحتُ سجين الحروف، فقررت أن أكتب بالريشة فهي أكثرُ حريةً، أكثر تعبيرًا وعمقًا، لذلك أعشق الفن التجريدي كأسلوب وحيد للتعبير.
– أنا مولعة بالعديد من المدارس الفنية، والتجريدية إحداها.
منذ تلك اللحظة بدأت صداقة عميقة بينهما لكن ما أثار استغرابه أنها تشبهه إلى حد يقترب من التطابق، رغم اختلاف برجيهما وعمريهما. يتعرضان لمشاكل معًا، يكتئبان معًا، يفلسان معًا، حتى أن سيارتيهما تتعطلان معًا وتتعرضان للحوادث معًا. عندما زارها في مرسمها بشقتها فوجئ بأن معظم لوحاتها التجريدية تتناول نفس المواضيع التي يرسمها.
حالة أكثر من غريبة لم يجد لها تفسيرًا. أما هي المغرمة بالغرائب وعالم الأرواح وقراءة الفنجان فقد فسّرت الموضوع بأنهما التقيا في أزمنة سابقة، كانا أخوين أو حبيبين أو ربما روحًا واحدة انشطرت نصفين.
استعانت هي برجلٍ ملتحٍ يسمِّي نفسه “عابر” يتردد على المقهى ويقرأ المستقبل للفتيات غالبًا، وطلبت منه تفسيرًا لحالة التشابه بين الشخصيتين. كان تفسيره بعد عدة جلسات أنهما روحان مسجونتان في روح، لذلك فإن الروحين معذبتان ويجب فك الارتباط بينهما وإلا سيحترقان معًا في طريق لا نهاية له. عندما أخبرته انفجر ضحكًا، فهو لا يصدّق كل هذا الهراء.
وفي ليلة ظلماء هجرها القمر والنجوم وسكنها اكتئاب عميق، وأنفاس أناسٍ أشرار، سقطت من فوق السلم ودخلت في غيبوبة شبه تامة، الغريب أنه عندما كان يزورها في المستشفى ويضع يده على رأسها تبتسم ابتسامة خفيفة، له وحده فقط دون غيره حتى إن أهلها والأطباء احتاروا في الأمر لأن الفحص السريري أثبت تلف الدماغ نسبيًا ولا يمكن شفاؤها كما أخبروه!
حزن حزنًا شديدًا على ما حدث لصديقته التي بدأ يفتقدها وترك حزنه للزمن. بعد سنوات طويلة كان في مطار دبي، شعر بصدمةٍ كبيرة عندما رآها في الطابور تنتظر دورها للسفر. استغرب بشدة، فتوجّه صوبها ففوجئت بوجوده.
سألها لماذا؟ فردت: “لم يكن هناك حل آخر، كان لا بد من فك رابط اللعنات الملتف حول أعناقنا بأي طريقة لأن وجودنا معًا يدخلنا في دوّامة لا فكاك منها إلى الأبد!!!