«ومن بين جميع الوسائل المستخدمة لإنتاج الدّنيا الشاعريّة، ولإعادة إنتاجها وزيادتها غنىً وثراءً، ورُبّما أكرمها وأعقدها وأصعبها استخداماً هيَ اللغة» –
بول فاليري / الشعر الصافي /الرؤية الإبداعية –ص20
ليسَتْ هذهِ هيَ المرّة الأُولى الّتي أقرا فيها (جرجس شكري)، وأتابعُ نزيفَهُ الشعريّ الّذي يصاحبهُ صخبٌ مشروعٌ، و(انفلات) لغوي جريء، ضدّ سكون ورتابةِ الأشياء والمألوف والشائع في كتاب الحياة، أداتهُ وثروتهُ الكلمات و«هي كلّ ما نملك» بتعبير بيكيت، وقدْ قلتُ في قراءةٍ سابقةٍ لديوانه (رجلٌ طيبٌ يكلم نفسه) الذي قرأته،و وجدتُ فيه استفزازاً لأصابعي وقريحتي معاً، قبلَ أن أعرفَ جرجس شكري، وألتقيه شخصياً، فوجدتهُ لا يختلفُ كثيراً عن البورتريه الذي رسمتهُ وشكلتهُ لهُ كلماته،مشاكساً لاذعاً حاداً متمرّداً، بحجم مفردته الشعرية، وبقوة خياله، وصخب تفرده، وهي طريقتهُ للعبث الضروريّ في سكون ورتابة الحياة بفوضى، يجدها- بشاعرية متميزة- نظاماً، حتّى وإنْ بدتْ للبعض غير خلاقة، يكتبُ شعراً ولايتسلى، بلْ ليحجزَ مكانهُ المخمليّ، حتّى لوْ كانَ ركناً مهملاً نائياً في هذا العالم، مُهمتهُ أنْ يُجمّل العالمَ بصواعق القصيدة، ويجدُ نفسَهُ هو وكلماتهُ.. وأخيلتهُ.. وزوارق تجربته متّهماً، هوَ مشنوقٌ بحبلِ الانتظار أبداً، وكلماته وهيَ تشنق بحبر السطور، تعبثُ بالذاكرة، توقظها بعطر قصيدته، وتلك « وظيفة أخلاقية للشعر الحديث» – برأي أونغاريتي :
لها أفواهُ وآذانٌ
بعضها مغشوشٌ أوْ مستعملٌ
ورُبّما انتهتْ صلاحيتهُ
الكلماتُ تسهرُ في الشوارع
تمرضُ وتنامُ على الأرصفةِ،
البعضُ يغتصبها، وتدوسها الأحذيةُ
أيضاً تكرهُ الدّولة، وتحبُّ الموسيقى
فلابدّ من تغسيلها جيّداً وإقامة الصلوات،
بعدَ سؤالها عنْ رغبتها الأخيرةْ،
وقبلَ شنقها بينَ الٍسُّطور !! – ص7
. الشعرُ لغة ٌ.. !!
والشّاعرُ مخلوقٌ بياني جماليّ !! لعبتهُ الكلمات، ودرعهُ الخيالُ وعطرُ الوحي، ورعشة الإيحاء، وذبذبة الجسد، حينَ يُصعقُ، متلذذا ًبكهرباء القصيدة. والمفردة الشعرية لدى جرجس شكري لا تملكُ إلاّ فسفوراً مسالماً، وظلا ً مشاكساً، والقصيدة – الضدّ تحرثُ في الزمن، تخلق طعماً جديداً.. وشكلاً مقنعاً للحياة، تفوزُ بتراتيل الروح، لتصلَ إلى الهدف بنسمةٍ ربيعيةٍ، وعطر وردةٍ،لا بسهم ٍ أو رصاصة، لتقوض مدنَ الرتابةِ والملل والسكون، لتضيءَ بلا حدود.. وتخلد :
كلماتٌ
لا تملكُ سكينا ًأوْ عصا
يعرفها المساكينُ بالرّوح،
ولي فيها أسطورةْ !! – ص8
. أرادَ بول فاليري أنْ يضعَ تعريفاً للشعر فقال : «هوَ ما يتألفُ منَ التفاصيل الجميلة»، وإذا بالشاعر جرجس شكري يشيرُ إلى هذهِ التفاصيل، بإصبع ٍ غير مرتعش، يعيشُ جمالها بروحٍ حالمة، وهوَ يرسمُ لها لوحةً سريالية ً، تدينُ، وتسخرُ، وتسخط، وكأنّها من خلال فرشاة أصابعهِ، وألوان قريحته، وخطوط جسدهِ، ومواكبَ أخيلته هيَ المتنفس الوحيد، فتتماهى اللوحة التشكيلية والقصيدة، أليسَ الشاعرُ رسّاماً، والرسامُ شاعراً؟فلماذا يصعبُ إدراك هذا التماهي على المرضى واللصوص والشرطة والرؤساء صُنّاع (الوطن المستعمل).. تضحكُ الكلمات عليهم، وهم يتخيلونَ أنفسهم ينعونها، وهمُ في الحقيقة يحملونَ أنفسهم، بعدَ أنْ نقّبوا في قمامات غبائهم إلى مثواهم الأخير:
فَمَنْ نحنُ ؟
لدينا بيوتٌ وشوارعُ
شرطة ٌ ورئيس
وأظافرُ تنمو
لدينا بشرٌ وحيوانات
مرضى ولصوص
ماضٍ وموتى يكتبونَ الوصايا
لدينا نساء وحبال غسيل
وكلمات تموتٌ من الضحك،
فنحنُ لاينقصنا شيء
لا شيء ينقصنا
فهلْ تبعنا وطناً ياعم
ولو مستعملاً؟- ص9
. حتّى المفردة السّاخطة.. الساخرة..اللاذعة لها سحرها لدى جرجس شكري، نعم !! «الكلماتُ في الأصل سحريّة» كما يقول بورخيس، وهي لدى هذا الشاعر تجرحُ لتغيّر، وتحكّ على الجرح لتوقظ، وهي «هاوية محفورة في الروح» بتعبير أونغاريتي، يصبحُ لها فمٌ، وأسنانٌ، ومخالبُ، وأذرعٌ حينَ تحكمُ البلادة، ويلبسُ اليقينُ ثوبَ الغموض.. حينَ تصبحُ الحياة ُ زخارفَ، ديكورات، أكاذيب، وأفلام إثارة، وزيفاً إباحياً، وأقوالاً ليستْ مأثورة.. حينَ يُشنق الصدقُ بحبل الانتظار، ويرفعُ الأملُ شكوى ضدّ قرار استمرارية حبسه حتّى إشعارٍ آخرَ، بتوقيع أدمع الحريةِ السجينة، ويحتجّ الجَدّ بأصابع السّخرية والتعرية من هزلٍ داع ٍإلى الحسرةِ والبكاء والضياع :
جاءتْ الأخبارُ :
القتلة ُ علماءُ محبّة عاطلونَ عن العمل
المجانين أنبياءُ متقاعدونْ
بعدَ أنْ ألغيَتِ الوظيفة !!
* * *
أحلُمُ أنّني أخبزُ دولة ً
وأمنحها للمساكين
بعدَ أن تصبحَ كعكة ً كبيرة ً
يفوحُ منها البخورْ !!
* * *
كعكة ٌ في حجم الدولة
شهية ٌ وكبيرة ٌ
والشعبُ يرقصُ
بعدَ أنْ أكلَ الدولةِ
حتّى رأسِها !! – ص 11
وباتكاءٍ روحانيّ على الموروث المتغلغل في مساماتِ الجسدِ ونباتِ الرّوح، يشفعُ النصّ المقدّس للشاعر في تهذيب، وتجميل هذهِ الشتائم الملائكيّة، وهذا السّخط المسالم، فتضفي مُفردات الكتاب المقدّس وفضاءاته على مُفردة جرجس شكري الشعرية عطرَ الأمل والرجاء، وحتّى التوسل الممغنط بطيبة الرّوح الحالمة، كيْ تسودَ في دستور الواقع رؤىً جديدة.. أحلام.. مفاجآت..علاقات دافئة.. وطن صباحي.. تربة من ذهب.. خشوع خالٍ من التكلف والزخرفة.. والصلوات اليومية الديكورية.. وعناق لا تلوثهُ التحيات الإكسسوارية :
صارَ راحة ً أبدية ً
بعدَ أنْ قرّرَ الربّ أنْ يغادرَ الأرضَ
في هذا اليوم،
تاركا ًهؤلاءِ الممثلين البؤساء
يواصلونَ أدوارَهُم
واكتفى بالفرجةِ من مقعدهِ
بالسّماءِ العاليةِ
فصارَ الناسُ كلَّ أحدٍ
يخلعونَ أقنعتهم وملابس الشخصية
يصلون بخشوع ودونَ إكسسوار
كلّ من أجل بقائه في هذا الدور !! – ص16
. هناك ضجرٌ ينفثُ سمومَهُ، ويُجاهرُ في ضحاياهُ، ويزهو في تظاهراته، ولكن في غفلةِ الكلماتِ الحميمة الموقظة، وهناك يأس لكنهُ لايقوى على الفوز في حلبة صراعٍ عريضة على الأمل، وهناك ظلمة، تتفاخرُ بجنودها التتريين، ولكنّهم لايمتلكونَ قوة وسلطة ملائكة النور، وليسَ لهم القدرة على تهجّي أو قراءة حروفه، وهناك زيف وخداع، ولكنهما يختبئان، عاراً وخجلاً، حينما يريانِ كرنفال العدل، ومواكب الحقيقة، وهناك ليل، ولكنهُ بلا تاريخ أمام انتصارات النهار، المزهو بضحكاتِ شمسهِ اللؤلؤية :
ضحكنا وسقطت دموعنا عندَ الباب
الرجلُ الذي زارَ ثلاثة أطباء
وعادَ بعينينِ إضافيتين
وصورٍ مزيفةٍ
قذفَ أنحاء البيتِ
بنظراتٍ حادةٍ
وقالَ :
ارفعوا الحوائط،
فلمْ تعُدِ النوافذ ُتحتاجُ إلى أسئلةٍ
يومها رهنتُ عيوني عندَ فتاةٍ تحبّ الليل
نظيرَ قُبلةٍ وذكرى عابرةْ !! – ص 19.
. وفي سباقٍ ماراثونيّ عاصفٍ بينَ الوجود – القلِق، والعدم – المداهم يُقرأ السخط والمرارة في أكثر من لغةٍ، فلا يجدُ فقهاءُ (عنف اللغة) الكلماتِ التي تفرّقُ بينَ الفرح والحزن، وتتلاشى كلّ الاستعارات والمجازات أمام بلاغة الموت والغياب، وهما يهذبانِ أدواتهما، ويحدّان أسنانهما لنهش وإرباك خطى الولادة العسيرة، فتصبح للحيرة لدى الشاعر – جرجس شكري تربة ً جديدة ً، والسّخرية « فنّاً ذا أطروحة» بتعبير ميلان كونديرا، رُبّما في « مملكة السّخرية تسود المساواة»، كما يقول كونديرا أيضاً، ولكن بفحم ورماد الجسدِ النحيل، وثمالة الوقت المحكوم بسلطة الانتظار :
عزيزي
هذي يدي خذها،
عندي أخرى
لقدْ سئمتُ التكرار !!
هذا رأسي
فلنتقاسمهُ سوياً
أريدُ أنْ أتخلصَ من نصف العالمِ
سأعيشُ بيدٍ واحدةٍ
ونصف رأس ٍ
مع أقدام جاهلة
وبلا غرائز !! – ص20.
التغريب، وكراهية السائد والمألوف، والتفرّد الواعي، وعدم الوقوف في طابور الاستسلام والعفوية والسذاجة لدى الشاعر، وكلّ ذلك دافعٌ إلى التفجير اللغوي، دافع إلى التشكّل في لوحاتٍ سريالية جارحة، بعيداً عن صياغات الأوطان المنهكة الجاهزة، المملوكة والمطوبة بأسماء ولاة أمرنا الليليين قبلَ أن تلدنا أمهاتنا.. ورفس الماضي الجارح برؤى المستقبل، ستكون الحياة ُ أعمقَ، والعالمُ أجملَ، والإنسانُ أكثرَ أماناً وحلماً :
سأضعُ المستقبلَ في الثلاجةِ
فإلى جوار الطماطم
ذلكَ أفضلُ
وألقي بالماضي في المرحاض،
ولنْ أنسى أنْ أتركَ المياه مفتوحة
أيّاماً وأيّاماً
حتّى أقطعَ عليه طريقَ العودة
ثمّ أقيم حفلاً لكلّ المجانين أصدقائي
سنكون أجمل من هذا العالم
أصحاب أقدامٍ جاهلة
ونصف رؤوس
بعدَ أنْ تظاهرنا ضدّ التكرار
بيدٍ واحدةٍ
وتصدقنا بغرائزنا لبنات السبيلْ !!- ص22.
. وبقراءةٍ متأنية مُنشئة، بهمس مطرٍ ربيعي، لوحاتٍ تشكيلية ً سريالية ً، فيها من فوضى وتمرّد خلاقين، زاحمتني أخيلة السريالي الكبير المتمرّد – سلفادور دالي، وسحر فرشاته، وألوانه، وهو الذي «كانَ يرسمُ في رحم ِ أمّهِ»، وجرجس شكري يكتبُ، وهوَ في رحمِ وطنٍ لايعبأ بأنينه وصراخه، وبينَ الشاعر والرسام علاقة لاتشبهُ إلاّ علاقة الفراشة بهندسة ألوانها، والزهرة بكيمياء عطرها، والعاشق بأطياف الحبيبة، أليس الشعرُ رسماً ناطقاً، والرسمُ شعراً صامتاً ؟؟:
حينَ يشبهُ الصباحُ قميصاً بالياً
الظهيرة سترة بلا أكمام
ويصيرُ الليلُ حذاءً مهترئاً
أعرفُ أنّ مقبرةً تصرخُ
تطلبً زائراً جديداً
وأنهُ لا وقتَ للانتظار !!
* * *
تساقطت الدموع حول صرخاته
ثمّ عرضوا موتهُ للبيع،
ولمْ يتقدمْ احدٌ !!
* * *
أنسى المعنى
أشعلُ المستقبلَ
ألقي بحذائي في النّهر
مرة واحدة
وأعلّم أقدامي أنْ تحبّ الأرض !! – ص33.
بقدر ما في القصائد من زخرفة ألفاظ، وزحام أخيلة، وسباق أفكار، وجملٍ في صورٍ رشيقة، لكنّ القصائد تُدين الحياة الديكوريّة، تُدينُ البلادة والسكون، وترفضُ الجاهز والسائد والمكرور، وتنتصرُ أبداً لكلّ إيقاع ٍ روحيّ نهاريّ متجدّد، يُغيرُ في نغمة الكون، بلْ يصبحُ أوركستراه، ويموسقُ خطى الإنسان الحالم.. وبقدر مافي القصائد من قلائد أحلام، وتاريخ حافل بخطى الحالمين، ألا أنّها تنتصرُ وتربض في تربة الواقع – الخيال، والأحلام المتلوة بيقظة، ولا تقيمُ أعراسها وكرنفالاتها إلاّ الروحُ المشتعلة بكيمياءِ مكانٍ يضيءُ بلا حدود :
أيّام أفرطت في أدواتِ الزينة
وشعبٌ شاحبٌ
يغسلُ ملابسَهُ
عوضا ً عن هزائمَ متكررة
رُبّما تمطرُ،
رُبّما يسودُ طقسٌ حارٌ
أوْ تنفجرُ الأرضُ مِنَ الضحكْ !! – ص 37.
أيُّ حزنٍ مزمنٍ هذا الذي يلونُ معدنَ الرّوح، ويأتي بجرثومةِ الصدأ لذهبِ الحياة؟فتتماهى بظلال الشوارع المثخنة بجراح الفراغ، هويتها الضجرُ، ومع البيوت التي غادرتها الشمسُ، وتشكو الرطوبة َ والرغيفَ المراوغ!! أيّ حزنٍ هذا الذي صيّرَ الضحكَ بكاءً، والبكاءَ ضحكاً؟أيّ حزنٍ مؤسّسٍ لحياةٍ سريالية باذخة، يُتوّجُ فيها الشاعرُ في كرنفال آلامهِ، العاشق الجريح أبداً، والسرياليّ الأخير :
هلْ رأيتَ مدينة ً
شوارعها تنوحُ على بيوتها،
وبيوتها
ماتت حزنا ً على أيّامها ؟
ليسَ سوى يومٍ يعوي طوال الليل
يضحكُ من صاحبهِ
الذي فقدَ ساقاً في الحرب
وعيناً في البارِ
فصارَ ينامُ وفمهُ يصرخُ
وأنتَ.. عندما تستطيعُ الضحكَ
اتّصلْ بنا،
ولوْ تحفظ جيداً أنقاض ضحكاتك
ستربحُ قريباً
ويحملكَ مندوبُنا إلى الفردوس !! – ص 39.
«فاذهبْ إلى سريرك بعينينِ مفتوحتين
وتخلص من النوم ِ إلى الأبدْ» – الديوان /ص48
أهيَ واحدة ٌ من وصايا القدّسين الذينَ وجدوا أنفسَهم غرباءَ.. وحيدين في صوامعهم، وبعضهم ضيّع اتجاه القِبلةِ، والبعض الآخر نسي تمارين الوضوء، واكتفى، وهو يستأذن الخالق، بلعق جراحه؟أمْ هو « بيان سريالي» منقول مباشرةً عن قريحة (أندريه بريتون) أوْ فرضية ثابتة، لاتقهر أبجديتها بأنّ « الكلمات لا تموت» بتوقيع لوكليزيو!!
افتحْ نوافذَ البيت وأبوابَه
لئلا تأتي المحبة ُ وتجدكَ
نائما ً !
فتحرمكَ من خبزها الأدبي
بعْ كلّ ملابسك وأشترْ سيفا ً
ستفرح بك السّماءُ
وتقيمُ الملائكةُ لك عرساً
لأنّهًُ مكتوبٌ
ليسَ حسناً أن يُطرحَ خبز الشعوب
للكلاب..
قسّمْ نفسَكَ إلى مشاهد مسرحية،
ولتكنِ الإضاءة ُ صاخبة ً
إذْ انّكَ لا تعلمُ اليومَ ولا الساعة َ
التي يُسدَلُ فيها الستار!! – ص49.
«فمن طبيعةِ اللغة ألاّ تسلّم نفسَها للتركيبات الثابتة»
– بول فاليري !!
وهي محاولة الشاعر جرجس شكري أنْ تصبحَ بفسفور حروفهِ الأشياء الصّامتة ناطقة،بلْ هي استماتة روحه المعذبة الجريحة أنْ يجعلَ « الأشياء تتكلم»، وأن «يخلقَ لغة ً لِمَنْ لا لغة لهُ» – بتعبير الروائي جان جوستاف لوكليزيو :
استيقظ َ المستقبلُ ذات صباح ٍ
حزينا ً
حملَ نفسَهُ
وقصدَ بيتَ الماضي
الذي كانَ بعيداً جداً
وصرخَ في وجههِ :
ماذا فعلتَ بي ؟
أنامُ ويدايَ خلفَ ظهري
وكُلّما غفوت
انفتحَ بابٌ، واشتعلت نارٌ
ثمّ صارتِ الأيّام في فمي.. جثثا ً !! – ص 53.
«لأسباب تخصُّ التّاريخَ
هربتْ سكينُ المطبخ منَ البيتِ،
وذبحتْ شخصا ً لا تعرفهُ» – الديوان / ص59
يرى السرياليون أنّ الشعرَ « بوصفهِ انفجاراً عجيباً « و«انفعالا ً مكثفا» و«مفاجأة
ساحرة».. وهذه التنظيرات الساحرة الواعية المكتوبة بظمأ الروح، وحبر الصبر، ولغة الريح تضجّ بها وبفضاءاتها الـ«تفاحة لا تفهم شيئاً»، ليسَ هوَ الذعر من كيمياء لغةٍ أخرى، ولا لحظة انبهار، بلْ هو ذبذبة الجسد « عندما نولدُ في اللغة» على حدّ تعبير لوكليزيو أيضاً، كيْ يخرج الشعر من جبّة الاستعارات والبلاغات الخاوية، ليصبحَ سحرا ً
و«مفهوماً ما للجمال»..!!
. الشعرُ كما القلب يحكمُ..!!
وها هو ينهي الجدلَ تماماً بينَ المبدعين النّهاريين في أن (الكتابة حياة) أمْ أنّ (الحياة كتابة)،حينَ اختارَ تعبيراً وسطا ً عادلاً، أكثر شفّافية، وأشدّ إقناعا ً، قذفت بهِ، في ليلةِ إيحاءٍ مقمرةٍ، قرائحُ السرياليين في أنّ الكتابة َ والشعر على وجه الخصوص « لحظة سامية من الحياة»..!!
وديوان « تفاحة لا تفهم شيئاً» للشاعر جرجس شكري لحظة تأمّل في أشياء، هيَ مكونات الحياة، عبرَ خيال الخيال، ولغةٍ بعدَ الكلمات، تُقرأ في عينٍ ساهرةٍ، وقلبٍ ناحلٍ، لا تخلو من دهشةٍ مموسقة، وهي استراحة شاعرٍ مذبوح ٍ في واقع غامض، يداوي جراحهُ النازفة بكلماتٍ غموضها مُحبّبُ، لأنّه لا يجرحُ لحظات التأمّل فينا، خجلهُ الياقوتيّ جعلهُ يخفضُ جناح الودّ والرقّة، لا ليُؤلف كلماتٍ من تفاصيل جميلةٍ فحسب، بلْ يُهيأ وسادة ً مخمليّة للمفتونين بنبيذ القصائد !! هذا هو (جرجس شكري)، وتلك هيَ حكاية الـ (تفاحة لاتفهم شيئا ً).. !!
تفاحة لا تفهم شيئاً – شعر – جرجس شكري – الهيئة المصرية العامة للكتاب 2012-القاهرة.
عِذاب الركابيّ
شاعر من العراق