[التناقض ممجوج في الكتابة، أيا كان نوعها، حتى وإن كان ممارسا كثيرا في الواقع. باختصار فإن كتاب ليفيناس عن م. بلانشو- يصير أحيانا كثيرة – غير قابل للترجمة، لأنه يسعى أن يعمل على النظر فلسفيا الى كاتب «يعالج» ما كانت الفلسفة تقصيه منذ نشأتها..، إنه يقول عنه ما يقوله على ضوء «الاحتمال» كما يقول، تماما كما كان الحال مع بلانشو نفسه حينما كان يطالبه أحد أن يشرح كتابا من كتبه فيستخدم الكلمة «ربما».أود أن أقول شيئا عن الترجمة : حين تلتصق بالكلمات، تأتي النتيجة ماسخة، أما حين تتشبث فقط بالمعاني، تحس أنه لا يصح لك أن تقدم الصورة مجردة من الإطار…. كتابات بلانشو الذي يتصور الأدب محوا للأثر وشطبا للشطب، وفقدانا للمعنى وانتثارا للخطاب ومعبرا عن ضيقه بعالم لا يجد فيه الإنسان مبررا لوجوده، إن الأدب «حين يبدو أنه يقودنا نحو النهار والتمتع بالوضوح المنطقي، يدفع الى التلاشي، إن لم يدفعك الى الضياع، فنيرفال «المرح، ينتهي الى حبل المشنقة وهولدرلين يموت في سبيل أن يمتلك نفسه على نحو معقول «واللامسمى» يسقط خارج العالم، حيث يبقى متأرجحا الى الأبد بين الوجود والعدم، عاجزا عن الموت وعن الولادة. فـ«كما لو كنا نجد أنفسنا في النقطة القصوى للعدمية»، بحسب ليفيناس. أما كتاباته الشعرية، فلا أحد اقترب منها، (حتى إن صرح بيرنار نويل وبيير مادول بكونهما سيقدمان قراءتان عنها) وهي على العموم غير قابلة للترجمة. وحتى الكتابات-الفلسفية- التي «علقت» عليها وقعت هي الأخرى في التباسات لا حصر لها (ككتابات فراسواز كولان وفيليب بوير وروجي لابورط وليفيناس نفسه، حتى وإن حاولت أن تتفادى هذه الالتباسات وأن لا «تسقط» في نفس الفخ، (أ) هو (أ) بحسب مبدأ الهوية الأرسطي الذي يخرقه بلانشو كما يخرقه ليفيناس كثيرا في هذا النص. بين بلانشو مع ذلك وبين هايدجر أكثر من صلة وقد كان بلانشو على إلمام بما كتبه هايدغر الأخير قبل أن يضطلع به الهايدغيريون الفرنسيون (قبل «فلاسفة الوجود والاختلاف» : سارتر، على الخصوص ثم ليفيناس نفسه الذي عرّف بالظاهراتية في فرنسا والذي يستخدم هنا مفاهيم مشتركة بين الظاهراتية وبين الهيدغيرية). أمافيما عدا هذا فهناك طريقة هايدغيرية لاستعمال كلمة «كينونة». كما أن هناك طريقة هايدغيرية ينفتح بها هايدغر على الفن والشعر. ثم إن لغة الشعر هي التي تتكفل بالكشف عما يبقى مختفيا وغير ظاهر في الوجود. يتعدى ليفيناس مساءلة بلانشو في تحليله للكتابة الى تحليله للعمل الفني وتأمله في ماهية الفن التي يرى أنها تكمن في هذا الانتقال من اللغة – والانتقال مما هو مرئي،– الى ما لا يمكن أن يقال، أي ما ليس مرئيا. ويتساءل عن الفارق بين الأدب والفكر، أن الأدب يضعنا في مستوى لا يمكن للفكر أن يلامسه، لأن هذا يهتم حصرا بما هو مرئي ومعقول، أما الأدب فهو «يلقي بنا في ضفة» مختلفة، إنه يتناول «ما لا يمكن التفكير فيه». سبق لهايدجر أن فكر كثيرا في الفن واعتبر أنه يعمل على تنوير الكينونة غير أنه كان يرى أنه يملك هذه الخاصية مع أجناس أخرى، أما بالنسبة لبلانشو- والذي يهدف، بحسب ليفيناس، الى الخروج من العالم الهيدغيري – فإن الفن (والكتابة الأدبية أيضا) يكشف عن خطأ الوجود. يتحدث لفيناس عن بلانشو ويقارن بين فهم هايدغر للكينونة وفهم بلانشو للادب باعتباره غيابا للحضور أو حضورا للغياب وتناقضا ولا دلالة. ثم، إنه (ليفيناس) لا يخفي إعجابه بهايدغر وبتحاليله للسكن وللشيء. هيجل قال بموت الفن انطلاقا من نهاية المرحلة الإغريقية وتبعيته للدين طوال القرون الوسطى، ف«الفن بالنسبة لنا شيء مضى» لأنه لم يعد يقارب المطلق، لكنه صار عند بلانشو يشهد على خطأ الكينونة]… . المترجم.
1. تفكير موريس بلانشو في الفن والأدب، يمثل طموحا كبيرا. تأويل هولدرلين، ومالارمي، وريلكه، وكافكا، وروني شار، الذي يتجسد في كتابه الأخير (1)، يذهب بعيدا جدا في نقد أكثر قوة [شأن أي نقد، بمعنى أنه أكثر من «مجرد» تأويل.]، [إنه]يأخذ مكانه فوق كل نقد وكل تفسير.
وهو مع ذلك لا يميل الى التفلسف، ليس لأن هدفه يبقى أقل رتبة من هذا القبيل – لكن لا يرى بلانشو في الفلسفة الإمكانية القصوى، ولا في الإمكانية نفسها،من جهة أخرى، في «ما أستطيع أن أفعله»، الحد الأقصى لما هو إنساني. لقد كان هذا القرن [يمثل] نهاية للفلسفة بالنسبة للجميع، إذن. بالنسبة لمن يريد بناء عالم أفضل – تغيير العالم وليس فقط فهمه. بالنسبة لنقيضيهم الذين يعودون مع هايدجر الى «حقيقة الكينونة» من أجل استقبال الفجر الذي سيعلم محبة الحكمة وتفرعها الى شُعب (2). إن الفكر المعاصر يهيئ لنا مفاجأة إلحاد ليس إنسانيا : الآلهة ماتت أو انسحبت من العالم، الإنسان الملموس حتى العقلاني لا يسع الكون. في كل هذه الكتب التي تتجاوز الميتافزيقا، نشهد تمجيد طاعة وإخلاص، ليسا هما بطاعة شخص أو الإخلاص له. إن غياب الآلهة يتجلى كحضور غير محدد. عدمٍ فريد، لايبقى ساكنا، بل «معدوما»، صمتا يمتلئ بالكلام، وحتى بكلام أساسيٍّ، محايد، من غير وجه، «من غير هيئة»، بحسب تعبير بلانشو، حتى وإن انبثق نور[لا نور يكون أسودا فقط في عالم بلانشو الذي تجتمع فيه النقائض] أسود من هياجهما [الحياد والصمت] المتواصل. بالنسبة للهيجيلي الجديد، مثلما هو الأمر بالنسبة لهيجل، فإن الفرد البشري – الذاتية الحية الواعية بذاتها فيما هو مباشر – لا يمكن لها أن تعكس المطلق. إن الحقيقة التاريخية هي حجة بلاشك، [لكنها] لا تقوم في نفس اللحظة التي تنطوي فيها على الإرادات والأهواء. إنها لا تنبثق إلا بعد فوات الأوان. بديهية متأخرة، هذا ربما هو تعريف الجدل. بومة مينيرفا لا تحلق إلا عند الغروب. – بالنسبة لهايدجر فإن الكينونة بالمعنى الشفهي الذي يعطيه لها مع تمييزها عن لكائن (لكن الكل يعرف في فرنسا هذه التمييزات) مقاس كل شيء وكل إنسان. يجيب الإنسان أو لا يجيب على ندائه. لكنه نداء لا يصدر من أحد، بل يأتي من الكينونة التي ليست بكائن، يأتي من وميض فوسفوري يصدر عن العدم أو تحديدا من نورانية يتواصل فيها المد والجزر، العدم وللكينونة. الذاتية لا تستمد من ذاتها دلالتها بل من هذا الوميض، من الحقيقة والكينونة. منذ أرسطو كانت الميتافزيقا قد نسيت ذلك، إنها تشكل «صورة العالم « وتسير نحو الهيمنة التقنية. لكن كل هذا، – الموضوع نسيان لحقيقة الكينونة، ميتافزيقا، صورة العالم، التقنية – ليس هو خطأ ولا [يكمن في] قدرة الإنسان، بقدر ما يعكس حقيقة الكينونة ومتطلباتها، الإنسان مرصود لحراسة هذه الحقيقة، التي تتطلب منه أن يكون متبصرا ومحترسا. إن التاريخ، بقدر ما يُخطر للإنسان، [فإنه] يتوقف على وميض الكينونة.
2 – النهار والليل
ذكرنا هذه المواضيع التي تطور فيها فكر بلانشو. هناك هيجل الذي «لا يطلق الكلام على عواهنه»، معلنا عن حقيقة عقلنها العمل والسياسة. سلوك يعانقه بلانشو تحت أصناف النهار. إنه العالم والسلطة والحركة التي تقيم في كل الامتداد الانساني. خارج الفن الذي يفضي الى مكان آخر، هو الليل. غير أن هناك هايدغر على الخصوص، هايدجر الأخير.
يمكن أن نقول هذا على نحو أكثر حرية من المقالات الأولى لبلانشو حول ماهية الفن والأدب المؤدية الى [كتاب] «الفضاء الأدبي «التي ظهرت في وقت كان فيه هايدغر الأخير غير معروف بالمرة عند الهايدغيريين الفرنسيين. نحس بمجاورة الفيلسوف الألماني بألف طريقة وحتى في الطريقة التي يختار بها بلانشو نصوص ريلكه وهولدرلين، التي يعلق عليها، على نحو عميق ويليق به ومن خلال طريقته في استعمال أساليب التحليل، المميزة للفينومينولوجيا – (ربما منذ هيجل)- وحيث يعكس المحيا الذي يتعذر اختزاله من المفاهيم أصالة الرحلة التي قادت اليها. الكائن والكينونة متميزان حتى إن كان بلانشو يتأمل مالارمي الذي يعيش [أمورا] عجيبة ويشكل مهمة يتعين القيام بها في الكلمة الصغيرة «إنه…»، فإن النبرة التي تنطق بها الكلمة «كينونة» هي نبرة هايدجيرية.
إن العمل الفني، القصيدة الشعرية يقع، بالنسبة لهايدجر، خارج مملكة النهار. إن فكرة الفن الملتزم تبدو له واهنة ولذلك فمن أجل هذا السبب البسيط كانت نجاعة الفن في التاريخ أمرا لا يُعتد به وأن الإعلان ومقالة الجريدة وبحثا علميا [كلها أمور] تخدم التاريخ أكثر من القصيدة الشعرية. لكن الفن، بتميزه عن العالم – عن السيطرة على التاريخ – [فإنه] ليس لا عبادة مجردة من الغرض لمدعي الفن، رؤية عالم ما وراء العالم تنكره القوة العاقلة العمياء، ولا انجلاء محسوسا للمفهوم بهذا المعنى الذي مضى وتم تجاوزه في فترة زمنية يتحقق فيها المفهوم بالعمل. لكننا لم نقل شيئا حينما وضعنا العمل [الفني] خارج ما هو نافع : على أي شيء يقوم هذا «التسامي «بالواقع حتى يجعل منه عملا فنيا ؟ [باعتباره] غريبا عن العالم وعن العوالم [المتعالية]، يفترض الأدب بالنسبة لبلانشو نظرة الشاعر، [إنه يعبر عن]تجربة أصيلة بالمعنى المزدوج لهذا النعت : تجربة جوهرية وتجربة من الأصل. كل «ترفع» فني إزاء الأشياء كان هو هذه التجربة. فنحن لا نسير من الشيء الى الصورة الشعرية بتحييد بسيط للواقع، ولا من اللغة اليومية الى الصورة اللغوية التي ستكون هي القول الشعري – بالاستنقاص. يتوجب، بالنسبة لبلانشو[أن يكون هناك]، تعاليا (حتى وإن لم يستعمل هذه الكلمة ) مسبقا، من أجل أن يتم إدراك الأشياء كصور[ويتم إدراك] اللغة باعتبارها شعرا. إن الصورة تسبق الإدراك بهذا المعنى. ما هي نظرة التعالي هذه؟
[…]لا يفك التأمل السحر عن العالم. إن ما هو أشد غرابة و[الأمر] الأغرب من حيث ظهوره، يمثل بالنسبة الى السلطة نقطة تعلق تخضع لي. العوالم المتعددة التي يتصورها الفكر، و يعكسها الخيال، وتتنبأ بها الغريزة، لا تكون إلا عالما واحدا – أيا كان الإحساس المتعالي بها تخاطرا أو ميتافزيقا وللمعرفة التي تعمل على اكتناهها. إن المسافة لا تنسف العالم. والحقيقة، مهما كانت جسورة وغير مسبوقة، فإنها تترك لنا سيادتنا على الذات وعلى آفاق العالم.
تتأدى الحقيقة الى التاريخ، الى حل كل المشاكل البشرية على المستوى البشري. على غرار الديانة الشعبية، إنها تنقل كل أشكال ما هو أدنى لماهو أعلى. إنها تسرب الحياة نحو الحياة مثلما نجد في النص الشهير لابن جابيرول حيث الإنسان يأوي الى الله باللجوء اليه. كيف الخروج من العالم ؟ كيف أن الآخر – من يسميه جانكيليفيتش ما هو «آخر على الإطلاق» وما يسميه بلانشو «سيلانا أبديا للخارج»- يمكن أن يبدو – بالنسبة لشخص – من غير أن يفقد غيريته وخارجيته، من غير هذه الطريقة من عرض النفس للنظر ؟ كيف يحصل أن يتم هناك ظهور من غير سلطة ؟
3 – القول غير الشخصي وحضور الغياب.
إن وسيلة الكشف عما يبقى آخرا على الرغم من الكشف عنه، ليس هو الفكر بل لغة الشعر. إن امتيازه لا يكمن في تحليلات بلانشو التي تقودنا أبعد من المعرفة. إنه ليس تواردا للخواطر، إن الخارج ليس هو الأبعد، إنه ما يبدو – لكن على نحو فريد – حينما يتم إنكاركل واقع،[كل] تحقق لهذا اللاواقع.طريقته في أن يكون – طبيعته – [تتمثل في أن يكون] حاضرا من غير أن يكون معطى، وأن لا يعرض نفسه للسلطات، بما أن النفي كان هو القدرة البشرية النهائية، أن يكون مجال غير الممكن الذي ليس بإمكان السلطة أن تتمسك به، أن يكن صادا دائما لمن يأتي للكشف عنه. ومن هنا فإنه بالنسبة لمن يرى الى المستحيل، عزلة أساسية، لا تقارن بالإحساس بالوحدة وبالهجران في العالم الجميل أو الميؤوس منه. عزلة الإمكانات غير القادرة على أن تكون هي العالم.
يقود الأدب الى هذا. إنه يعمل دائما على تكليم ما ليس بعالم – الآلهة والأبطال، حين لم تكن الأعمال الباهرة والمعارك عملا سياسيا، بل بطولة ومغامرة. [أما] اليوم فبعدما انسحبت الآلهة، فإنها [افسحت الفرصة] الى ما هو ليس بعالم على نحو جذري، الى كينونة الكائن – الحضور نفسه لاختفائه. يستعيد بلانشو، من أجل أن يبرهن على ذلك، تأملاته القديمة بصدد مالارمي وكافكا. الكتابة معناها العودة الى اللغة التي ترتكز على استبعاد الأشياء عن الكلمات وإيجاد صدى للكينونة. إن كينونة الأشياء ليست مسماة في العمل، بل إنها تقال فيه، إنها تلتقي بغياب الأشياء التي هي الكلمات. ان الكينونة متكافئة مع الكلام، لكن الكلام في غياب محاور. أن يتكلم [المرء] على نحو غير شخصي من غير [ضمير المخاطب] «أنت»، ومن غير استفهام، من غير نداء ومع ذلك متميزا عن «الخطاب المتناسق بـ«المعبر عن عقل كوني، خطابا وعقلا ينتميان الى جدول الأعمال. كل عمل فني هو عمل فني كامل بمقدار ما لا يحسب مؤلفه كما لو أنه يخدم نظاما عاما يخص شخصا بعينه , لم يبدأ كافكا بالكتابة الفعلية إلا حينما استبدل «أنا « بـ«هو» ذلك لأن «الكاتب ينتمي الى لغة لا يتكلمها أحد». ليس لأن مثلا أعلى كونيا وأبديا هو الذي يقود الكتابة. يرى بلانشو كيف أن عدم تخصيص العمل الفني هي كونه [يشبه] الصمت الذي يتبع انصراف الآلهة، و هو [أمر] يتعذر إخماده كمثل همس، و[عدم خصوصية] الزمن حيث يغرق الزمن التاريخي الذي يمكن أن ننكره باعتباره ابنا للتاريخ، و[عدم خصوصية] الليل الذي ينبثق من خلاله إنكار النهارالذي ننكره باعتباره ابنا لليوم. إن الخالق هو الذي يمحي اسمه وتنطفئ ذاكرته، إن «المبدع لا سلطة له على إبداعه». الكتابة هي كسر الرابط الذي يجمع الكلام، بي، هي قلب العلاقة التي تجعلني أتحدث الى أنت ما، بعث صدى بما لا يكف عن الحديث «. إذا ما كانت الرؤية والمعرفة تقوم على القدرة على [التحكم في] أمورهما، على إخضاعهما عن بعد فإن القلب الاستثنائي الذي تنتجه الكتابة يعود الى ما يمكن لمسه بما يرى – الى [ما يمكنه] أن يلمس عن بعد. النظر محط إدراك من طرف العمل الفني، الكلمات ترى من يكتب. (هكذا يحدد بلانشو الانفتان ). اللغة الشعرية التي استبعدت العالم تدع الهمس الذي لا ينقطع [عن الصدور] عن هذا الابتعاد، كمثل ليل يتجلى في الليل. لا يتعلق الأمر بما ليس شخصيا في الأبدية، بل بغير المنقطع، غير المكتمل، الذي يستأنف تحت النفي الذي يمكن أن نقوم به.
إنها وضعية يجعلها بلانشو قريبة من الموت. الكتابة هي الموت. ليس الموت هو المحزن في الموت الذي هو الإمكانية القصوى للإنسانية، إمكانية اللاإمكانية بل التكرار ٫ غير المنقطع لما لا يمكن إدراكه، والذي أمامه يفقد «الأنا « ذاتيته. إن العمل الأدبي يعمل على تقريبنا من الموت، ذلك لأن الموت هو هذا الحفيف غير المنتهي للكينونة الذي يجعله العمل الأدبي يهمس. ففي الموت كما في العمل الأدبي فإن النظام الثابث للأمور ينقلب، ذلك أن القدرة تقود فيه الى ما لا يمكن الاضطلاع به. بحيث أن المسافة بين الحياة والموت لا نهائية. مثلما هو غير نهائي عمل الشاعر أمام اللغة التي لا تنضب والتي هي ما يحدث أو، بعبارة أدق، التمايل غير المنتهي او حتى تشوش الكينونة. إن الموت ليس هو النهاية، [بل] هو ما لا ينتهي فيما لا نهاية له.كما في بعض حكايات إدغاربو حين يقترب التهديد أكثر فأكثر وحيث النظرة القاصرة تقيس هذ الاقتراب البعيد دائما.
يحدد بلانشو هكذا الكتابة كبنية شبه حمقاء، في الاقتصاد العام للكينونة والتي من خلالها لا تكون الكينونة اقتصادا، ذلك لأنها لا تعود تحمل […] أي مسكن، ولا تتضمن أية داخلية. إنها فضاء أدبي، أي أنها خارجانية مطلقة – خارجانية المنفى المطلق، إنها ما يسميه بلانشو أيضا « الليلة الثانية «، إنها ما هي في الليلة الأولى مخرجا طبيعيا وإفناء للنهار، ويجعل من هذا الإفناء حضورا وتعود الى الكينونة بلا كلل، حضور يصفه بلانشو بمفردات مثل تلاطم (الأمواج)، همس، ترداد، كل الكلمات التي تعبر عن الطبيعة غير الأساسية، إن جاز القول، لهذا الكائن الذي ينتمي الى الليلة الثانية. حضور الغياب، امتلاء الفراغ، «تفتُّحُ ما يختبئ مع ذلك، ويبقى مغلقا، ضوء يشع على المظلم النظر لهذا المظلم الذي صار ظاهرا، الذي يرفع ويفتن المظلم في النضارة الأولى للتفتح، بل الذي يختفي أيضا فيما هو مظلم بشدة الذي هو في ماهيته ينغلق على من يريد أن يكشف عنه ويجذبه إليه ويغرقه» ( 3).
ستكون الكتابة من جهتها هي المسعى غير المحتمل لسلطة، الذي يسمى في جزء منه إلهاما، «تنزع» الى أن تصير لا سلطة. إنه الإيقاع نفسه الذي تتميز به الكينونة بحيث إنه لن يكون للأدب من موضوع إلا الأدب نفسه (ويتعين أن نقول يوما أن هذه هي الدلالة الضمنية للعمل الذي أضفى عليه بلانشو مسحة روائية ). لا يتحدث الفن المعاصر سوى عن مغامرة الفن نفسه – إنه يسعى الى أن يكون صباغة خالصة، موسيقى خالصة. لا شك أن العمل النقدي والفلسفي الذي يعلق على هذه المغامرة هو في درجة أقل من الفن الذي هو الرحلة نفسها فى أطراف الليل وليس فقط حكاية الرحلة. ومع ذلك، فإن بحث بلانشو بالنسبة للفيلسوف يحمل «شكلا» و«نمطا من المعرفة» الجديدة نريد تفسيره مهما كان، وهو يشكل فلسفة للفن بحصر المعنى.
4 – خطأ الكينونة
تتمثل ماهية الفن في الانتقال من اللغة الى ما لا يقال [وإن كان بالإمكان قوله على نحو آخر]، الى جعل- ما هو مظلم على نحو أولي [أمرا مضيئا وقابلا للرؤية عن طريق العمل الفني. وصف العمل على هذا النحو الملئ بالتناقضات، ليس هو الديالكتيك، لأن هذا التعاقب للتعارضات التي تكتسح الواحدة منهما الأخرى، لا يستخلص منه مستوى للفكر حيث يمكن لهذا التعاقب أن يتم التغلب عليه وحيث يجد التعارض حله. إذا ما كان يتعين على الفكر أن يستخرج هذا المستوى – لكي يرتفع الى تركيب – [لكننا] سوف نبقى على صعيد العالم، في حقل الممكنات والمبادرات الإنسانية في الفعل وفيما هو معقول. إن الأدب يلقي بنا في ضفة لا يمكن لأي فكر أن يطرقها – إنه يفضي على ما لا يمكن التفكير فيه. هنا فقط تنتهي الميتافزيقا المثالية (…). إن الأدب هو المغامرة الفريدة لتعال يتخطى كل آفاق العالم من الانطلاقات الأكثر جسارة والتي لا تسمح بالهروب. الفن وحده يسمح بالإقلاع، فإذا لم يكن في هذا الغزو للخارجانية [ممكنا للمرء] فسوف يبقى مقصيا منها على الدوام، ذلك لأنها إن كان من المؤكد أن تمنح إقامة ما للشاعر فإنها ستفقد غرابتها ذاتها. هذا [الأمر] الذي لايمكن التفكير فيه، والذي يقود اليه، من غير أن يقود إليه [ما دام مقيما فيه] (العمل الأدبي) أي القصيدة الشعرية –[وهو ما] يسميه بلانشو بالكينونة [لا يقود إليه]. لقد سبق لهايدجر أن [أكد أن] الفن يعمل على سطوع «حقيقة الكينونة»، فيما وراء كل دلالة إستطيقية، غير أنه يمتلك هذه [الخاصية] بالاشتراك مع أشكال وجودية أخرى. بالنسبة لبلانشو فإن مهمة الفن فريدة، فإن الكتابة بخاصة لا تقود الى حقيقة الكينونة، يمكن أن نقول أنها تؤدي الى خطإ الوجود – الى الكينونة كمكان للتيه، الى ما لا يمكن السكن فيه. بحيث أنه يمكن القول أن الأدب لا يقود اليها، ذلك لانه من غير الممكن طرقها. خطأ الكينونة –[وهي] الأكثر خارجية من الحقيقة. بالنسبة لهايدجر فإن تناوبا للعدم وللكينونة يتمثل أيضا في حقيقة الكينونة، لكن بلانشو بخلاف هايدغر، لا يسميها الحقيقة، بل لا حقيقة. إنه يؤكد على ستار النفي هذا، على هذه الخاصية غير الضرورية للجوهر الأخير للعمل الفني. هذا النفي لا يشبه النفي الهيغلي أو الماركسي – للعمل الذي يغير المجتمع. إن الكينونة التي يوحي بها العمل الفني – الذي اقتيد للتعبير عن نفسه –يعلو فوق كل إمكانية، كالموت الذي لا يمكن أن نضطلع به على الرغم من كل بلاغة الانتحار، ذلك لأنني لا أموت أبدا بل إننا نموت دائما، من غير أن يكون ذلك،مثلما رأى هايدغر، كهروب من مسؤولية الموت الخاص. لكن مع ذلك، ففي هذا اللاحقيقي الذي يقود اليه الأدب، وليس الى «حقيقة الكينونة»، تكمن الأصالة. فالأصالة التي ليست هي الحقيقة – هي ر بما القضية النهائية التي يقودنا اليها التفكير النقدي لبلانشو. و[الذي] نعتقد أنه يدعو للخروج من العالم الهيدغيري.
5 – الدعوة الى الخطأ
إن غير الحقيقي كشكل أساسي للأصالة. يصاغ هذا الاستنتاج على شكل سؤال. و«في مستوى الأحوال التاريخية». توضح ذلك ملاحظة في الصفحة 260 [من كتاب بلانشو : «الفضاء الأدبي»]. «يمكن أن نقول : بمقدار ما يتأكد العالم كالمستقبل و النهار كله بالنسبة للحقيقة حيث سيكتسب كل شيء قيمة، ويتخذ معنى، وحيث سيكتمل كل شيء تحت سيادة الإنسان و[ويضع نفسه] من أجل استخدامه له، بمقدار مايبدو الفن أنه يتعين عليه أن ينزل نحو هذه النقطة حيث لاشيء يكون قد اكتسب المعنى، بمقدار ما ينبغي أن يتحكم في الحركة، [في] اللا أمن وفي سوء ما ينفلت من كل إدراك، ومن كل غاية. الفنان والشاعر كما لو أنهما توصلا بمهمة استدعائنا بإصرار الى [الوقوع في] الخطأ، أن يجعلانا نلتفت الى هذا الفضاء حيث كل ما نقترحه، كل ما اكتسبناه، كل ما نحن إياه، كل ما ينفتح على الأرض، يتحول الى[شيء] لا يعني شيئا، حيث ما يتم التعرض له هو ما ليس جديا وليس حقيقيا، كما لو أنه ربما هذا هو الينبوع الذي تنبثق عنه كل الأصالة.» استدعاؤنا الى الخطأ – فهذا ليس معناه استبدالا عدميا أو شيطانيا لما هو خطأ بما هو صواب. كما لا تعمل هذه السطور على تمجيد رومانسية مغتبطة بالخطإ، محرك لحركة الحياة. الفكر هنا محرر جدا من الوهم، وأكثر نضجا. لا يتعلق الأمر بالوهم الأبدي، محترسا بلاجدوى من لاجدوى الكينونة، من الأفيون الذي يرفعه مالرو في «المصير الإنساني»، الى مستوى المقولة، يعارض [..] العمل الصلب للثورة. اليوم، الشيء الحصيف، هذا العالم،المشيد من طرف الإنسان والتاريخ. وربما ههنا يتعارض بلانشو وهايدغربعد اتفاقات كثيرة تامة.
إن المسعى الذي يهيمن على الفلسفة الأخيرة لهايدجر التي تقوم على تأويل الأشكال الأساسية للفعالية الإنسانية – فن، تقنية، علم، اقتصاد، – كأنماط للحقيقة (أو لنسيانها ). أن يكون السير الى لقاء هذه الحقيقة، كإجابة مقدمة للنداء تتم النسبة لهايدجر في طرق المتاه وأن يكون الخطأ معاصرا للحقيقة وأن يكون انكشاف الكينونة بالتستر عليها، كل هذا يشهد عن قرب كبير جدا بين مفهوم الكينونة الهيدغيرية وهذا التحقق للاواقع، هذا الحضور للغياب، هذا الوجود للعدم الذي يسمح العمل الفني بقوله. لكن بالنسبة لهايدجر فإن الحقيقة –[ك] انكشاف أولي – تشترط كل متاه ولذلك فإن كل ما هو إنساني يمكن أن يقال آخر المطاف من خلال مفردات الحقيقة، وأن يوصف باعتباره «انكشافا للكينونة «. عند بلانشو فإن «العمل الفني يكتشف، اكتشافا ليس للحقيقة، بل للظلام.»باكتشاف ليس هو الحقيقة – هذه طريقة فريدة للإكتشاف ورؤية «مضمون»ما تقرره بنيته الشكلية : ظلاما خارجيا على نحو مطلق لا يمكن الإمساك به. كما في خلاء لا يمكن أن نعثر على إقامة فيه. من أعماق الوجود الممكن الإقامة فيه، تنبثق ذكرى ارتحال. ليس الترحل مقاربة لحالة الإقامة. إنه علاقة يتعذر تبسيطها مع الأرض : إقامة بلا مكان. أمام الظلام الذي يستدعيه الفن، كما هو الحال أمام الموت، يذوب الـ«أنا»، سند السلطات، في نحن من غير اسم، في أرض تتم السياحة فيها. ذاتا مترحلة أبدية تمسك من خلال سيرها وليس من خلال مكانها، في حدود اللاحقيقة، [وهي] مملكة تمتد أبعد مما هو حقيقي. حقيقة هي شرط التيه، تيه هو شرط الحقيقة – هل يتعلق الأمر بالتمييز الذي يعارض الطربوش الشهير الأبيض بالأبيض الطربوش ؟ لا نعتقد ذلك.
6 – أصالة المنفى
لا يقبل الهيدغيريون الأورثوذوكسيون أن تكون هناك بين فكرين تمييزات أخرى من تلك التي تضع حقيقة الكينونة التي تنظم الأفكار محل سؤال. لكن تفترض هذه الطريقة أولوية حقيقة الكينونة التي يتعلق الأمر بها هنا. إنهم يحتقرون كل إحالة على يقينيات تشهد على فكر من مستوى أدنى، ناقص من حيث الفكر، والرأي. إن الإحالة على الإثيقا هي ما يتعارض مع العقيدة الأولى من الاورثوذوكسية الهايدجيرية : داخلية للكينونة بالنسبة للكائن. ومع ذلك فإن الإثيقا لا تستبدل الخاطئ بالحقيقي، لكن تستبدل النفس الأولى للإنسان ليس على ضوء الكينونة، لكن ضمن العلاقة مع الكائن، سابقة على ثيماتيكية هذا الكائن –هذه العلاقة حيث الكائن لا تصير هي قضيتي التي هي تحديدا العدالة.
إن الفضاء الأدبي الذي يقودنا اليه بلانشو (الذي يرفض هو أيضا، على الأقل على نحو صريح [أي أنه يرفض ذلك من غير أن يصرح به]، المشاغل الإثيقية ) ليس له أي شبه مع العالم الهيدغيري الذي يجعله الفن قابلا للإقامة فيه. إن الفن هو بحسب بلانشو، أبعد من أن يعمل [كما يقول هايدغر] على إنارة العالم، فإنه يسمح بالتطلع الى السرداب المقفر، المغلق في وجه أي نور يدعمه ويسمح بإقامتنا فيه،لأنه في جوهره منفى [وهو مناقض] لمميزات هندستنا المعمارية – ومن وظائفها كأكواخ في الخلاء. بالنسبة لبلانشو كما هو الحال بالنسبة لهايدجر، إن الفن لا يقود – وبخلاف الإستطيقا الكلاسيكية – الى عالم خلف العالم، الى عالم مثالي خلف العالم الواقعي. إنه نور، نور أعلى بالنسبة لهايدجر، يحدث العالم ويؤسس المكان، وهو نور أسود بالنسبة لبلانشو وليل مصدره الأسفل، نور يعمل عل تفكيك العالم، ويعود به الى أصله، الى تكرار القول والى الهمس، الى التلاطم الذي لا ينقطع، الى «غابر أعمق، غابر ليس كافيا». إن البحث الشعري عن اللاواقع هو البحث عن العمق الأخير لهذا الواقع.
أكواخ في الخلاء، لا يتعلق الأمر بالعودة الى الخلف. لكن بالنسبة لبلانشو فإن الأدب يذكر بجوهر الإنسان، إنه الترحال. أليس الترحال هو مصدر معنى يتبدى في ضوء لا يرسله أي مرمر، [بل يرسله] وجه الإنسان. إذا ما كانت الأصالة التي يتحدث عنها بلانشو لابد أن تعني شيئا آخر من الوعي بغير الجاد بنموذج صالح، بشيء آخر ساخر – إن أصالة الفن عليها أن تعلن نظاما للعدل، أخلاق العبيد تغيب من المدينة الهايدغيرية. الإنسان كموجود، بما أنه معرض للجوع، والعطش، والبرد- هل يملأ الحاجة اليه حقا ويعمل على إنجاز كشف عن الكينونة؟ هل كان من أجل هذا حارسا متبصرا للضوء ؟ العالم الهيدغيري هو عالم الأسياد الذين حققوا التعالي عن شروط الناس المحتاجين والبؤساء حيث عالم من العبيد الذين لا يملكون سوى تنفيذ رغبات هؤلاء الأسياد. الفعل في هذا العالم يتمثل فعل بطولي والسكن في قصور يقيم فيها الأمراء ومعبد الآلهة التي تشكل مشاهد طبيعية قبل الإقامة فيها. حياة الفانين الذين تؤاسيهم زيارة الآلهة وجلالها. حياة الحاجة في أرض موروثة من الأسلاف ليس بإمكان أية كارثة أرضية أن تنتزعها منهم. هذا التملك الهادئ، هذا الانغراس الوثني الذي يميز كل استذكار للأشياء من طرف هايدغر، سواء تحدث عن جسر أو عن جرة أو زوج من الجوارب. لنستحضر تحليلاته الفاتنة للسكن وللشيء، في إصداره الأخير.الإحالة على السماء وعلى الأرض وعلى الفانين وعلى الآلهة (التي يذكرها دائما بالجمع ) – القابلة للانقسام الى أربعة وعدم قبولها للذوبان في المكان وفي الشيء – تضمن الإدراك المطلق للمكان الذي يقع فيه العالم والمكان الهندسي نفسه والسماء والأرض كمميزات بسيطة للمكان. هذه الأولوية، هذا المشهد الطبيعي المطلق حيث العلاقات البشرية لا تنفصل عن ثلاثة علاقات أخرى، تداهن ذوقنا بالتأكيد باعتبارنا متميزين وأوروبيين. لكن [ذلك يعني] تأكيد استحالة البؤس الإنساني، مثالية المتعجرفين. هل من المؤكد أن الإدراك غير قابل للتجاوز إلا بالتجريد الرياضي وبمكر ذلك أن التجريدات تخرج من مكان لا يمكن لها أن تحتضن في مكان هندسي ؟ ألم يكن الإدراك قبل الآلهة، [قبل] المشاهد الطبيعية والرياضيات الإغريقية أو الألمانية المتخلى عنها كأنظمة للإحالة بعد [مجيء] وحي [بإله واحد] غير مرئي و«لا يمكن لأي سماء أن تشمله». إله العدل، والبرية، إله الناس. يتعلق الامر هنا، قبل التواريخ التي تحكيها الأديان الى الأطفال والى النساء، من خلال بعد جديد من السمو، والمثالية. وهايدغر يعرف هذا بالتأكيد، لكن فيما أن «حقيقة الكينونة» الهلينية لها الحق في هيرمينوطيقا بارعة، الوحي الوحداني يقاس في بعض الصيغ اللاهوتية من غير [التأكيد
على] الفوارق. في المدن اللعينة حيث يتجرد السكن من جماليته المعمارية، لا تكون الآلهة لوحدها بل حتى السماوات غائبة. لكن في أحادية مقطع الجوع، في البؤس والمنازل التي تعود الأشياء الى وظيفتها الرياضية، لفائدة متعة بلا آفاق يشع وجه الإنسان. ألا يسند بلانشو الى الفن وظيفة استئصال العالم الهيدغيري ؟ الشاعر بإزاء «الانسياب الأبدي للخارج»، ألا يسمع الأصوات التي تنادي من العالم الخارج هايدغيري ؟ عالم ليس مرعبا بسبب عدميته. ليس عدميا. لكن العدالة لا تشترط الحقيقة – [غير أنه] يبقى مغلقا في وجه بعض النصوص، القديمة والتي يعود تاريخها الى عشرين قرنا، حيث وجود الأماليك تعيق تكاملية اسم الإله – أي، تحديدا، حقيقة الكينونة.
الخادمة وسيدها
1
يعطي النشاط الفني للفنان الشعور بأنه ليس هو صاحب أعماله. إن السببية الفاعلة التي تربط العامل بنتاجه في الأمور اليومية من غير لبس – مع السماح في نفس الوقت بقياس المادة التي يقع عليها العمل، وعن الهدف من وراء ذلك وعن الضرورات الشكلية والشرعية للمشروع المتناول – ها هي مرصودة عند الفنان لفائدة عمل يخترقها حتى النخاع، هاهي تخضع الى أمور غريبة، لأنها لايمكن مقارنتها بتلك المستخدمة من طرف تآزر عادي : ها هي مفترسة بنداءات تعمل على تلوية استقامة سيرها نفسه.
هذا الشعور بالتدخل في شؤون الآخرين الغريبة في السببية البشرية، هذه التجربة القديمة للإلهام – التي ينفتح عليها ربما «الانتظار والنسيان» (1)- تجربة يعتنقها الفنان بسرور والتي تحييها الكثيرمن فلسفات الفن المتفائلة المنتمية لهذا العصر، والتي تعتبرها تجاوزا للذات – حتى وإن أحس فاليري بمس في كرامته – تكتسب خطورة استثنائية حين نتساءل فيما إذا كان التفاؤل أو الامتلاك لا يختفيان في العمق عن كل نشاط وحتى تحت النشاط الأولي للشعور اللغوي، إذا ما كان هناك هذيان أعمق بحيث لا يستطيع الفكر أن يكشف عنه، إذاما كانت اللغة باعتبارها عقدا وأصلا، «كلاما يحسم»، وكإمكانية إذا كان يقتضي الحال، للانتهاء والمقاطعة ليس انفعالية مترسخة، تِرْدادُ قصة قديمة، بلابداية ولانهاية، دوامة غير شخصية وعميقة لا تخوضها الحساسية ولا تعبرها إلا كتموج مصطنع.
إن زوال النفوذ المافوق طبيعي في الفكر والطبائع الغربية لاتبلغ سر الإلهام. كان يتم التمييز قبل فترة قصيرة في النتاج الشعري عن نصيب العقلنة،كسيد على نواياه، وعن نصيب المفكر مراقبا أفكاره، التي هو ربما لا غرض له لكنه غير مستلب، والقسط الأفضل، قسط العبقرية، [وقسط الإلهام] الجني وربة الفن واللاشعور. إن السوريالية، على الرغم من جراءاتها، تمثل هذه المرحلة في نظريتها للكتابة الأوتوماتيكية التي يتوجب تحريرها من الفكر الواعي. لكن من هنا هل تعترف بالنسبة للإلهام كمنافس يقظ يجب على نحو مسبق تنويمه. في «الصديق ناداب» لبلانشو، فإن طوماس مكبل لدى مرافق أسير أو إنه عبد له. ونفس الامرفي «الانتظار والنسيان»: «بدأ يسمع الى جانب ما كانت تقول وكما لوكان في الخلف… كلاما آخر لم يكن كلامه يشبهها في شيء»(25) كما لو أن الشخصين، بكثرة ما يتشابهان، ينشطران، كما لو أن الوعي على الرغم من حريته يمارس وظيفة لم يضطلع أبدا بها.
«لكن كل شيء يبقى غير قابل للتغيير»(29)، ليس الآخر إلا تكرارا للذات والكلام الآخر يجد صداه في الأول على الرغم من اختلافه عنه. عبث في قلب العبث : استلاب الوعي لا يحرره من نفسه. لاشيء اسثنائيا يحدث. اللغة موجهة للاستمرار في الشروط التي التزمت بها. حركتها الخارجية تشلها دائما الالتزامات التي تتضمنها هذه الكلمات الأولى والتي ستقود اليها ضمنا كل كلمة جديدة. فكرة كون الاله انسحب من العالم أو أنه مات، تعبر ربما عن رتابة تتضاعف وتتوسع من خلال تنويعات لا منتهية، والأنا، غير القادر على البقاء هادئا في هويته. «إنه يهتز من غير هوادة»(40). يسعى نتاج بلانشو إلى فسخ العقدة المضاعفة للامعنى، مسخية المطابق هذه التي تعبر عن نفسها تتوالد كخلية أصيبت بالسرطان، من غير أن تنتج شيئا سوى التكرار والحشو، «هل هنالك دائما نفس النور، حتى إن كان ثمة ظلام ؟»(35).
مصير عالمنا الذي فقد الكلام يتجلى في هذا النتاج. «كن بحيث يكون ممكنا بالنسبة لي أن أكلمك» يهيمن هذا الاستشهاد على الجزء الأول كله من «الانتظار النسيان». لا يمكن أن نتكلم، ليس فقط بسبب هذا التداخل الغريب، ولكن أيضا بسبب وتيرة الحشو التي تقطع الحوار نفسه نظرا للرنين الذي يغلق حالا انفتاحات التواصل. كما لو كان الأمر قد انتهى منذ مدة طويلة. الحديث أو الكتابة هو السعي الى تكسير ما هو نهائي في الأبدية، لكن هل الكلمة الأخيرة تنتمي الى الخطاب ؟ لا تنتمي الى الفعل الأونطولوجي الذي يعمل هذا الخطاب على إنجازه والذي يحتجز الخطاب ؟ يتحول الكلام الى كينونة لا تدل على ما في نيته للتعبير عنه «إنها تقول الحقيقة، لكن ليس فيما تقوله»(36) «كانا يتحاوران دائما هنا – يقول نص آخرأساسي،- بداية من اللحظة التي لايبقيان فيها هنا، مهما كانا يعرفان أنهما سيكونان دائما هنا يتحدثان في لحظة ما، إنهما يحسان أنه لا شيء أهم في أبديتهما إلا في قضائها في استذكار النهاية» (35) هل يمكن الخروج من هذه الدائرة[المغلقة] سوى بالإقرار باستحالة الخروج منها، إلا بقول ما يتعذر التعبير عنه؟ أفليس الشعر هو المخرج؟ سيتعارض بلانشو إذن مع الدرس الهيغيلي حول موت الفن منذ نهاية المرحلة اليونانية القديمة، حول تبعيته للدين في القرون الوسطى والى الفلسفة في أيامنا. لا يتعلق الأمر هنا بثورة أخرى ضد النثر التقني. يتعلق الأمر بفكر جريء. ينتقد بلانشو الإدعاء الذي لا يقبل النزاع، في الظاهر، للغة معينة للكينونة الناقلة المفضلة لما هو معقول، وأن تكون ينبوعه ومخرجه وفراشه. هل يشغل المعقول نظاما خاصا من القضايا المبنية وفق نحو لتكوين خطاب منطقي ؟ أم أن المعنى يجعل للغة تنفجر ضمن شظاياها هذه (النحو منقذ بالنسبة لبلانشو )، لكن عقليا وفي الحقيقة من غير انتظارالتأويل اللاحق ؟ يرفض»الانتظار النسيان» اللغة الفلسفية للتأويل التي «تتكلم من غير توقف» (والتي يخضع لها بلانشو باعتباره ناقدا أدبيا ) لغة ذات رتبة نهائية. اكتساب لوغوس يجمع ماوراء الخطاب الشعري الذي يعبر، على نحو مبعثر، عن الاستحالة المتأتية من الخطاب، التي تكمن في سد الفرجة حيث يعلن، لكن أيضا يشي بنفسه [لا يعلن عنها تقريبا] – ومن هنا يتعالى- الدوران حول نفسه للخطاب المتناسق. ألا يمكننا منذئذأن نذهب بعيدا لكي نفكرفي أن القضايا الكلامية المتسقة لا يمكنها أن تنتفي، ماذا يعني الكلام ؟ وربما نخطئ في اعتباره فنا وشعرا، هذا الحدث الاسثنائي – هذا النسيان السيد –الذي يعمل على تحرير اللغة من عبوديتها إزاء البنى حيث يقوم المايقال. ربما كان هيغل على حق فيما يتعلق بالفن. ما يهم – سواء سميناه شعرا او شيئا آخر – هو أن يتم لفظ معنى فيما وراء الخطاب المكتمل لهيجل وان معنى يعمل على نسيان افتراضات هذا الخطاب الذي يصير أسطورة.
2
إن عملا أدبيا خالصا لبلانشو يحمل قبل كل شيء «رعشة جديدة»، أو إصابة جديدة بالوباء بلمس الأشياء. كل شيء يبتدئ من هذا المستوى المحسوس: هذه الأماكن – غرف فندق، مطبخ، ممرات، نوافذ، حيطان، – حيث يزن المكان بشفافيته حتى وإن كان «يمارس نفس الضغط المتواصل أو لا يمارسه» (31)، إن رجع الصدى الذي يخمد من خلال هذه الفضاءات ولا يكف عن الخمود على حافة صمت تولد مثل دوي بعيد معه يختلط أولا : « بدل البدء فإن ما يشبه الفراغ الأولي[يشكل] رفضا طاقويا لترك التاريخ يبدأ» (22)، إبتعاد وغرابة الأشياء الثقيلة بخلوها من المدلولات : كأس ماء، فراش، طاولة، ـأريكة، مبعدة وتجريدية : شفافية حواربين ما هو ملقن، مختزل الى معلم لفظي بينها يدب احتمال لا يتضمن غموضا بالنسبة للمتحاورين، بل كثيفا في فراغه. دائما هذا التكثيف المقلوب للانجراف – الذي ينتج نفسه هنا، حيث لاشيء مع ذلك. «تجمهر بلاعدّ للفراغ» (54) شبيه بصعود ألم منفرج، ورم للاشيء، بطيء وأخرس. أهان العدم وكالطريقة التي يكد بها ويكافح و«يحدث»ويعتزل من هويته الفراغية، «الأصوات يتردد صداها في الفراغ الشاسع، فراغ الأصوات وفراغ هذه الأماكن الفارغة « (18-19). الصمت الذي يعم لا يوقف الهدير. إنه يصدر من الجهة الأخرى من الحائط ولا يوقف أي نفي هذه البلبلة : الضجيج الآخر الذي تم إسكاته أليس هو نفسه، الذي ارتفع من هذه الجهة؟ هل من أجل الإنصات إليه تم بذل كل المجهود من أجل الصمت ؟ فهل من أجل الإنصات «الى الكلام نفسه العائد الى نفسه «(38-39) سعينا الى الكلام؟ «الكلام القديم الذي يريد أن يكون هنا من جديد من غير أن تتكلم… ضوضاء من غير أثر… تهيم في لامكان، تقيم في كل الأماكن «(13). «من جديد، تمشي من جديد، ودائما في نفس المكان، بلد آخر، في مدن أخرى، نفس البلد «(14). اللغة مغلقة كغرفة.» مثلما يختنقان معا في هذا المكان المغلق حيث الكلمات التي يدل عليها هذا الإغلاق ألا يقول هذا ببساطة :»نحن سجينين هنا، ألن نخرج من هنا أبدا ؟ «(28- 29). تتعاقب الكلمات لكي تقاطع ما سبقها، إنها لن تكف عن الخروج:»الغرفة المسكينة… مثلما أقيم فيك قليلا. فهل لا يلزمني البقاء فقط لمحو كل آثار لإقامتي ؟ «(13- 14 ). حاضر أبدي، أبدية الحشو (…)
3
«هل ثمة باب لم يلحظها ؟ هل ثمة حائط أملس حيث لا تنفتح [فيه] نافذتان ؟ «(35).[و] الخروج، هل هو ممكن أم على العكس أن النور الذي يبدو أنه ينير هذه الإقامة، مفتعل، والوعي الذي نأخذه عن الوضع يضيع في اللعبة اللانهائية نفسها التي تلعبها اللغة، من غير أن تتأدى إلى أي كوجيطو ؟ اللغة الشعرية تخرق الجدار مع حماية نفسها من أنقاض هذا الخرق الذي يهدد بدفن وبتوقيف السير بجعله يتوزع على مشاريع وذكريات، متزامنة وأبدية معاصرة في دلالتها. لا يجب أن تكون اللعبة التي تقتضي الإقامة في مكان من أجل محو أثر الإقامة، تبتدئ. إنها تقاوم، يقول بلانشو، «[…] بعض الكلمات التي كانت كما لو أنها وضعت فيها وأنها تجهد نفسها لأن تعمل على تثبيثها في علاقة مع المستقبل أو مع شيء لم يكن مر بعد، ولا زال حاضرا على أية حال، أو أن يكون قد مر «(17).ربما، هذه الحركة هي التي تعمل على فك الكلمات المختزلة الى الحاضر والتي يسميها بلانشو الانتظار والنسيان.
نسيان ضد التذكر المبهم، انتظار ليس انتظارا لشيء. «انتظار، انتظار، هو رفض لانتظار شيء ما، هدوء منبسط، تحدثه الخطوات»(20) إن الانتظار والنسيان اللذين يقتربان من بعضهما من غير أي ارتباط يجمع بينهما في أي بنية. إنهما لا يعربان عن حالات نفسية هي من حيث مقصودها (المجسد عبر ) أبنائها الكثيرين، تعملان على تدعيم النسيج الذي يتعذر حله للكينونة والذي يتلوى وينغلق دون نفسه. الذاتية تنشئ نواة وتعمل على تقوية نسيج الكينونة، شخصا ما يصنع لنفسه كنا (…). إن الانتظار والنسيان يعمل على توسيع الحقل الأونطولوجي، تاركا الأشياء الصغيرة تنفذ، مزيلا النواة، مفتتا، مسترخيا، ماسحا «تسلية أساسية» (20). اللحظة «المثقلة بكل ماضيها والكبيرة بمستقبلها»، لحظة الحاضر التي [تتجلى] ديناميتها المشدودة ترد المعاصر والأبدي يعود الى الهدوء الكامن في الانتظار. لا تنبؤ ولا نفاد صبر، «الانتظار لا ينتظر شيئا « (51). والنسيان يتبرم من اللحظة الماضية لكنه يحتفظ بعلاقة مع ما يتبرم منه « حين يبقى كلاما (69). ها هو التفاوت المرمم للزمن. الزمن الليلي :»الليل الذي لم ينتظر فيه شيئا هو الذي يمثل حركة الانتظار هذه»(50). لكن النسيان الأولي، هو نسيان الذات، أليس الإبستيمي سوى أصل مطلق هو في نفس الوقت عودة نهمة حول نفسه،أسر لذاته بذاته والذي هو أيضا اللغة ؟ يعمل التفكير على اقتياد الى السطح الأحجار القديمة للأساس ويخلطها بالأشياء الراهنة. هذا التزامن للشرط وللمشروط يسمى خطابا منسجما. لكن مكبة على شرطها، فإن الكلمات تتوقف متجمدة. هنا أيضا فإن النسيان يرمم التفاوت الزمني. تفاوتا في الزمن من غير حفظ في الذاكرة أو لفظ [لبعض الذكريات]. لا انتظار أي شيء ونسيلن كل شيء – نقيض الذاتية – «غياب لكل مركز «(45). استرخاء الأنا – لتوترها حول ذاتها – من هذا «الوجود بالنسبة لمن كان وجوده ينسحب على الوجود نفسه «. «بأية كآبة، لكن أيضا بأي يقين هادئ، يحس أنه لا يمكن أبدا أن يعبر بضمير المتكلم المفرد «(34). «[كأنه] اقتطع من ذاته، ذاته» (44). المحاورون في الجزء الثاني من الكتاب، – الأشد هدوءا، في الغالب، رشيق الحركة ومنتصرها – بدل أن يتمددوا حول أنفسهم ويتنكروا لهوياتهم من غير أن يفقدونها، يتخلصون من أنفسهم كما تتخلص الفراشات من شرنقتها، ينزعونها عنهم كما لو أنهم ينزعون لباسا لكي يستدركوا أنفسهم عما قريب ويصير بإمكانهم أن يتحركوا باعتباهم يجسدون أنفسهم ويهبون للقاء الآخرين وأن يتركوا أنفسهم عرضة لفقد أنفسهم ثم الالتقاء بها، متجردين من أنفسهم وفي حضور أنفسهم[يتم ذلك] – فاي علاقات جديدة بين الذوات ؟- يهتدون الى باب في هذه الذات المسترخية فيما يتجاوز الكينونة ووفقا لصيغة تلخص مساواة العدل، الملامسة، التواصل والتعالي – صيغة رائعة للدقة والطلاوة –» التي هي مجتمعة معا لكن ليس بعد»(76).
4
كلام الشعر هذا يصير بالنسبة لبلانشو كلاما يتناقض. نعرف الجمال، الجمال الذي يكاد يكون حسيا – الذي يعبر عنه في نتاجه وخصوصا في الانتظار والنسيان. هذا التناوب المتناقض للكلام. إن التأكيد يكون متبوعا في الغالب في القضية نفسها، بنفيه. القول يلفظ ما يدركه. الشيء الذي يمنح نفسه، – الكينونة – ليس في مستوى الانتظار، من حيث نيته المغالية، فوق الكينونة، فيما أن الذاتية لا تطالب سوى بالامتصاص داخل موضوعها بدل امتصاصها في «قصدية الوعي « تكمن في مداها. القول هو رغبة مقاربة المرغوب فيه تعمل على اشتدادها، تحفر وحيث مقاربة المرغوب فيه تبتعدهكذا. هذه هي الطريقة المتلالئة للتعالي، لما ياتي بالفعل( 3).
اللغة غير المستمرة والمتناقضة للتلألؤ، اللغة التي فيما وراء الدلالات تعرف أن تقوم بإشارة. الإشارة تشير من بعيد، مما وراء وفيما يتجاوز. اللغة الشعرية تشير من غير أن تكون الإشارة حاملة لدلالة أو هي تتجرد منها. لكنها « إنها واضحة « إطلاقا فيما وراء وخلف ما يتجاوز الأعراف اللغوية التي لا يمكن استبعادها. خارج النظام الرقمي للغات، تقود إليه، مثل اللغة الفوقية التي يتم ذكرها في اللوجيستيك 4 الذي «ينزع رتاج» الرمزية عن الكتابة.
الإشارة، من غير أن تكون تشير الى شيء ما. يتكلم بلانشو عن هذا على نحو رائع، «إنه الصوت الذي اعترف، وليس ما يقوله. إن ما يقوله، الأسرار التي تستقيها و تنقلها من أجل إبراز قيمتها، يتعين عليك أن تعترف بها بهدوء على الرغم من محاولتها للاستغراق في الصمت الذي اغترفته أولا منها « (11). سيغير الشعر الكلمات، مؤشرات مجموعة، لحظات كلية تعمل على الإشارة الى تسليم شيء ما، مخترقة جدران المحتمل، مخلخلة النظام. كائنان مختبئان داخل غرفة يقاومان بقدرية تجمعهما أو تفرقهما كثيرا (42ص) لإيجاد باب. ليست هناك أية رواية ولاأي شعر – من الإلياذة الى البحث عن الزمن الضائع – لم يفعلا شيئا آخر إذن. إدخال الى معنى الكينونة، هو الإنطلاق من الأنا الى الآخر، من الأنا الى الغير، هو الإشارة، تفكيك بنى اللغة. من غير هذا فإن العالم لن يعرف سوى الدلالات التي تحرك محاضرالدعاوى حيث العلاقات الاجتماعية الإدارية للمجتمعات عديمة الإسم.
5
أن يكون الفعل الشعري نفسه يمكن مع ذلك أن ينخدع ويغرق في النظام لكي يبدو منتوجا ثقافيا، وثيقة أو شهادة، مشجعا ومصفقا عليه ومنتصرا، مباعا، مشترى، مستهلكا ومعزيا، يتكلم وحيدا في لغة شعب – مفسرا ذاته من المكان الذي برز منه – وليس ثمة آخر – بين المعرفة التي تعانق كل شيء والثقافة التي يتجلى فيها، فكان يهددان بالانغلاق عليه. إن بلانشو يترصد للحظة تحديدا بين الرؤية والقول والفكان يبقيا بين الانفتاح والانغلاق.
بين الرؤية والقول يكون هناك تخل عن النظام الحاضر على الدوام للرؤية. لكن أيضا علامة، [وإن تمثلت في كونها] «كلمات لا تمثل شيئا «(19)، فيما يتجاوز النظام الثقافي والتاريخي. فهذا سيخلخل بالتأكيد تزامن حدس عالمه الكامل وسوف يطيح في التاريخ. لن يسجن في المحكي، ولن يحيط به [لن يستنفذ] في كلية المقال، الذي سيكون عليه أن يضفي دلالة على ما يقال، حتى إن كان كل خطاب ينتج، على طريقته، هذه الشمولية المستنيرة ويملك طريقته في السير الى النهاية. «لا أحد يرغب هنا في الارتباط بأية قصة (22). «اجعل نفسك مستعدا لكي لا اكلمك « هي صلاة مثلها مثل « تهيأ لكي يكون بإمكاني أن أكلمك «. إنها تصون هذه الحركة التي تقع بين الرؤية وبين القول، هذه اللغة للتعالي الخالص من غير ارتباط – مثل الانتظار الذي لا يفجره شيء مما هو منتظر بعد (…) غرابة خالصة، لغة تنطلق من غرابة لأخرى من غير ان يكون لها اي مشترك بين المتحاورين « تقول الصفحة (64)، لغة من غير كلمات تشير قبل أن تعني شيئا، لغة الاشتراك الخالص، لكن من أجل الاشنراك في لا شيء، «تعطي الانطباع حين تتكلم، بلا معرفة كيف تربط الكلمات بمدى ثراء اللغة السابقة. فهي [الكلمات] كانت من غير قصة، من غير ارتباط مع ماضي كل شيء، من غير علاقة حتى مع حياتها، ولا مع حياة أي شخص «(24). هل اللغة هي أكثر قوة من الصلاة والمعركة التي يجيب عنها ليرمنتوف في الشعر الغريب الذي هاهي ترجمته (في نثر سيئ) ؟ :
توجد أقوال – مغزاها / مبهم أو مهمل / لكن، من غير انفعال / لا يمكننا سماعها. / بما أن أصواتها ممتلئة / بحمق الرغبة / فيها دموع الانفصال / فيها رعدة إعادة النظر / لا جواب / في ضجيج العالم / بالفعل الذي يتولد / من لهب ومن ضوء / منذ اللحظة التي أسمعه فيها / سأعرفه في كل شيء / من غير إنهاء للصلاة / سأجيبه / وخارج المعركة / سأرتمي للقائه…
لكن اللغة التي تشير من غير إقامة في أبدية الفكرة المعبر عنها، – اللغة المنقطعة – والتي يداورها القول (…) الذي يتتبع أثرها ولا ينقطع عن الكلام. القول المنسجم حيث تتمطى الكينونة (وحتى «كينونة الكائن») هي كل الذاكرة، كل تنبئ، كل أبدية. […]، فهي تحتفظ بالكلمة الأخيرة، إنها تفسد بالمنطق الملتبس الذي يسجل نفسه في أثر الخطاب المنسي والذي لا يسلم نفسه أبدا للغز. الى الذي يقول الحقيقة، كيف يمكن تنظيم الصمت ؟ إنها تحكي، على نحو مستقيم مغالاة السيد وتوحي بحكم الحكمة. تنتزع النصر والحضور بسرد حالات الفشل، والغيابات وصور من تترصد له. إنها تعرف الجرد بالمخفيات التي لم تعرف فتحها وتحتفظ بمفاتيح الأبواب المحطمة. معتمدة من غير لائمة، تراقب المنزل الذي تهيمن عليه وتعارض وجود انغلاقات سرية.
قيِّمةٌ [على المكان] أم سيدته ؟ منافقة عجيبة، ذلك لأنها تحب الجنون الذي تحرسه.
ترجمة عبد السلام الطويل