محمد الغزي
كان الشاعر الإنجليزي ت/س إليوت يضيق بالقارئ المتعجّل الذي لا يتأنّى في قراءة قصائده ،واستقصاء دلالات رموزها وأقنعتها حتّى أنّه صرّح ذات مرّة : «إنّني أتعب أكثر من عام حتّى أكمل قصيدتي لهذا لا أقبل بأيّة حال من الأحوال أن يقرأها القارئ وهو في الترام أو القطار..لقد خصّصت عاما من عمري لإبداعها فليخصّص ساعتين لفهمها..»
يشير إليوت ، بكلّ وضوح ، إلى أنّ قصيدته لا تستسلم ، ككلّ القصائد الحديثة ، إلى قارئها بيسر وسماحة . فهي تستدعي، من القارئ ، فسحة من الوقت من أجل «فهمها « واستيعاب دلالاتها ومعانيها.
ومثلما أوضح إليوت في الكثير من مقالاته النقديّة فإنّ غموض القصيدة الحديثة يرتدّ إلى سببين يأولان إلى سبب واحد : أوّلهما خروج هذه القصيدة عن كلّ ما استتبّ من أعراف لغويّة ، وتقاليد شعريّة مؤسّسة بذلك طريقتها المخصوصة في سياسة اللفظ وإجراء الكلام.
لكنّ غموض القصيدة الحديثة لا يتأتّى من طرائق القول فحسب، وإنّما يتأتّى أيضا ، من مقول القول . فالقصيدة الحديثة قصيدة « مثقفة « ما فتئت تسترفد أسئلتها من حقول معرفيّة شتّى. وهذا يعني أنّ الشعر الحديث لم يعد يكتفي باستلهام الشعر في صياغة خطابه ، كما كانت الحال في الشعر التقليدي ، وإنّما أصبح يستلهم المعرفة الإنسانية ، مطلق المعرفة الإنسانيّة …الشعر الحديث ليس نتاج عفو البديهة بقدر ما هو نتاج كدّ الرويّة.
فكيف للقراءة المتسرّعة، بعد كلّ هذا، أن تحيط بدلالات القصيدة الحديثة وتستكشف آفاقها التعبيرية والرمزية ؟
نصّ إليوت يؤكّد أنّ الشاعر الحديث لا يرى إلى الشعر انسيابا تلقائيّا للمشاعر أو فيض إلهام لا يخضع لحكم الإرادة؛ وإنّما يراه جهدا ومكابدة ومواجهة لمعضلة الكلمات التي تستعصي عليه.
في هذا السياق يدعو إليوت إلى أن تتحوّل القراءة، من جهتها، إلى فاعليّة إبداع وإنتاج تفضي إلى فتح النصّ على ممكنات دلالية جديدة..
بسبب من كل هذا أدان إليوت « قراءة الترام أو القطار « وهي القراءة العجلى التي لا يمكن أن تحيط بالقصيدة الحديثة وتكشف عن غامض صورها ورموزها داعيا إلى ضرب آخر من القراءة يمكن أن نسمّيه «القراءة المتأمّلة» وهي القراءة التي تستغرق ، كما أشار إليوت ، وقتا طويلا من النظر والتدبّر.
فالحداثة الشعرية قامت على تغيير نمط تلقّي القصيدة الشعرية من خلال تغيير أسلوب كتابتها وطرائق تصريف القول فيها أي أنّ الحداثة الشعرية قد عمدت إلى تجاوز شفوية هذه القصيدة من خلال تجاوز عناصرها الإيقاعية التقليدية من بحور وقواف وأروية..إضافة إلى تجاوز عدد من صورها البلاغية وزخارفها البديعية التي ارتبطت بالتقاليد الشفوية القديمة.. مستبدلة أداة التلقّي المألوفة بأخرى جديدة فبعد جارحة السمع بات المتلقي يستقبل القصيدة الحديثة عن طريق جارحة النظر. فالقصيدة الحديثة قصيدة تحتاج إلى تأمل ومعاودة وطول نظر ولا يمكن بأيّة حال « استيعابها « من قراءة أولى.
كل هذه المعاني القديمة الجديدة كانت محور كتاب الأرض اليباب وتناصِّها مع التراث الإنساني للباحث فاضل السلطاني الصادر عن دار المدى بغداد..
لعلّ أوّل سؤال يثيره القارئ وهو يقرأ هذا الكتاب: لم العودة إلى قصيدة الأرض الخراب التي»قتلت « بحثا ودراسة وترجمة؟
يتولّى الناقد خلدون الشمعة منذ المقدمة الإجابة على هذا السؤال فيقول : «تحيلنا الترجمة إلى العربية في تعدديتها وتباين نتائجها إلى بيولوجيا داروين ونظرية النشوء والارتقاء تصبح الترجمة ، كما يفترض المرء، نتيجة للتكرار داروينية في حرصها على الكمال والاكتمال. فالتكرار
الذي تمثله تعددية ترجمة عمل أدبي مهم كالأرض اليباب، يظل – شئنا أم أبينا – فعلًا دارويني المنزع. وهذه الأدائية يبرهن على فاعليتها صديقي الشاعر والناقد فاضل السلطاني في كتابه البديع الذي يستعرض كمال واكتمال ست ترجمات عربية لرائعة إليوت، من خلال التحديق مجددًا، تحديقا مقارنيّا في نصوصها: تصويب هناتها الهينات حينا وتعديل وتصحيح كلماتها حينا آخر أو ربما اقتراح قراءة مدققة مستجدة في ضوء احتكام للأصال اللإليوتي..»
أما الترجمات التي انعطف عليها الباحث بالتحليل والتأويل فهي ليوسف الخال وأدونيس ولويس عوض وعبد الواحد لؤلؤة ويوسف اليوسف وماهر شفيق فريد وتوفيق الصايغ
أضف إلى هذا أنّ هذه القصيدة مازالت تنبض بالحياة ما فتئ القراء يعودون إليها باستمرار ، يستعيدون تأويل رموزها وأقنعتها.. وإنّه لأمر ذو دلالة أن تقبل عليها دور النشر من جديد تعيد نشرها في انكلترا والولايات المتحدة الأمريكية …
لقد باشر الكاتب قصيدة الأرض اليباب بوصفها فضاء تتماوج فيه النّصوص في حال من التآلف والتدافع، والتقارب والتباعد.
لا شكّ في أنّ النصّ الشعريّ بناء متكامل، كلّ عنصر من عناصره ينهض بوظيفة مخصوصة. لكنّ هذا لا يعني أنّ النصّ بنية مستقلّة بذاتها غير مفتقرة إلى غيرها. فالنصّ بنية داخل بنية أخرى أعمّ وأشمل هي بنية الأدب، وربّما بنية الثقافة على وجه الإطلاق والعموم. واسترفاد النصّ لجملة من النصوص يستدعيها من حقول معرفيّة شتّى نفي لاستقلاليّة النصّ التي روّجت لها بعض التيّارات النّقديّة إمعانا في فصل حركة النصّ عن حركة الحياة والتاريخ.
إنّ النصّ يتخلّق من خلال النصوص يستحضرها فيتشرّبها فيحوّلها إلى عناصر فاعلة فيه. هذه النصوص التي تذوب في جسد النصّ، وتصبح أصلا مكينا من أصوله، هي التي تخلع عليه النظام والمعنى، بل هي التي تجعل قراءته متعددة، متنوعة.
وهذا ما عمد إلى الكاتب حيث فكك القصيدة إلى مجموعة من النصوص و الاقتباسات واللمع على حدّ تعبير الكاتب خلدون الشمعة.
كانت الرّمزيّة من أبعد المذاهب أثرًا في الشّعراء الأوروبيّين وإن اتّخذت ،مع كلّ شاعرٍ، طابعًا خاصًّا. وقد كان «إليوت» – الشّاعر الإنكليزي – من أكثر هؤلاء الشّعراء تأثّرا بهذه الحركة، وأشدّهم حماسةً لمبادئها الفنّيّة والجماليّة.
لقد ناهض هذا الشّاعر، مَثَلُه مثَل كلّ الشّعراء الرّمزيّين، نظريّة المحاكاة، سواء كانت محاكاة لما هو في الخارج، أو محاكاة لما هو في الدّاخل، وذهَبَ إلى أنّ الأدب لا يحاكي الحياة، وإنّما يحاكي الأدب، أي يحاكي نفسه، ومن ثمّ فإنّ القصائد لا تصنع، كما يزعم الرّومنطيقيّون، من التّجارب، ولكنّها تصنع من الشّعر، أي من التّقاليد الفنّيّة التي تستجلي إمكانات اللّغة، وقدرتها على التّعبير. فنحن، إذا أمعنّا النّظر في أكثر الشّعراء أصالة، ”وجدنا أنّ خير ما لديه بل إنّ النّواحي المتفرّدة في نتاجه إنّما هي التي ترك عليها أسلافه الموتى من الشّعراء طابع خلودهم بأسطع الألوان. ولست أعني بذلك نتاجه في دور الصّبا حيث المؤثّرات تنطبع بيسر وإنّما ما أنشأه في فترة نضجه التّامّ.»
وقد أفضى هذا الفهم لفعل الكتابة إلى تحويل القصيدة إلى فضاءٍ تلتقي فيه نصوص شتّى ترتدّ إلى مصادر عديدة. هذه النّصوص هي التي تشكّل، في الواقع، دلالات القصيدة، وتصنع رموزها، وتبني صورها. وهذا يعني أنّ الشّعر استحضارٌ لقراءات الشّاعر، أو على حدّ عبارة «إليوت» ”سبكٌ لأعمال السّلف سبكا جديدًا“حتّى تبدو حديثة على قدمها، أليفة على غرابتها، قريبة على بعدها، وهذه الوظيفة تستلزم منه إفناء دائما لشخصيّته ”فالفنّان يزداد تكاملا كلّما ازداد انفصالا في نفسه بين الإنسان الذي يتألّم والفكر الذي يبدع»
غير أنّ الشّاعر لن يتمكّن، في رأي «إليوت»، من تحقيق الفصل بين إبداعه وعواطفه الذّاتيّة، إلاّ متى وجد بنية رمزيّة غير شخصيّة سمّاها إليوت «المعادل الموضوعي» ويتمثّل في العثور على ”مجموعة أشياء، على موقف على سلسلةٍ من الأحداث تكون هي الصّيغة التي توضع فيها العاطفة حتّى إذا أعطيت الوقائع الخارجيّة التي لا بدّ أن تنتهي خلال التّجربة الحسّيّة استثيرت للتّوِّ»
كلّ هذا جعل الكتابة في نظر «إليوت»، ضربًا من «التّركيب»، تركيب عدد من النّصوص بعضها على بعضٍ من أجل «خلق» نصٍّ جديدٍ، يكون «امتصاصًا» لتلك النّصوص وتجاوزًا لها في آنٍ، فالشّعر، في هذه المدوّنة، حوار مع الشّعر، بل حوار مع الذّاكرة الإبداعيّة على وجه الإطلاق والعموم. يقول الشّاعر في البيت العشرين من قصيدة «الأرض اليباب»:
يا ابْنَ الإنْسَان ليْسَ في مَقدُورِكَ أنْ تَقُولَ و لا تَحْدَس
لأنَّكَ لا تعرِفُ غيْرَ كَوْمَةٍ منَ الصُّوَرِ المُهَشَّمَه
وفي آخر القصيدة، نقرأ هذا البيت (البيت الأربعمائة والثّلاثين)
هذِهِ الشَّذَرَات قدْ كوَّمْتُهَا أمَامَ أطْلالي
هذه هي قصيدة «إليوت»: أكوامٌ من الصّور المهشّمة، وشذرات منتزعة من أعمال أدبيّة وفكريّة كثيرة تتلاقى كلّها في رنين واحد على الرّغم من اختلاف مصادرها، وتباعد أزمنتها.
أفضت الحركة الرّمزيّة إلى وعي الشّعر بذاته و هذا الوعي قاد الشّعراء إلى أن ينصرفوا شيئا فشيئا عن المضامين المتداولة ويحتفوا باللّغة من حيث هي المضمون الحقيقيّ للشّعر. فالشّعر لا ينشأ، عند الرّمزيّين، من الموضوعات التي يستلهمها الشّاعر من العالم الخارجيّ، أو من تجربة عاطفيّة، وإنّما ينشأ من الكلمات وأجراسها، ومن مختلف الإيحاءات التي تشعّ منها. فالقصيدة، لدى الرّمزيّين، لا تهدف إلى إبلاغ رسالة أوعرض تجربة وإنّما تهدف قبل كلّ شيء إلى شدّ انتباه المتقبّل إلى حضورها الذّاتيّ وإلى أصواتها و إلى ما تمتلئ به ذاكرتها من أصداء سحريّة وأسطوريّة.
في هذا السّياق نفهم احتفاء الشاعر إليوت بفعل الكتابة . فهذه القصائد، إذ تلتفت إلى حضورها الذّاتيّ وتتأمّل آليّات حركيّتها الدّاخلية، فإنّما تستدرج القارئ إلى الالتفات إلى فعل الكتابة نفسه وإلى حركة اللّغة، وإلى حضور الدّوالّ وإلى أجراس الكلمات وإلى توزيع الكلمات فوق الصّفحة، وإلى لعبة البياض والسّواد، أي تستدرجه إلى أن يتأمّل بدوره طبيعة الشّعر.