سليمان بختي
كاتب وناشر لبناني
لا تزال صورة الروائي الراحل إلياس خوري (1948-2024) ماثلة أمامي وهو يمشي في مكاتب مبنى جريدة “النهار” في بيروت دامع العينين وهو يتحدث عن اغتيال صديقه الكاتب والصحافي سمير قصير (1960-2005) بحرقة لاعنًا الظلم والقهر. رافضًا الاستسلام إلى الحزن وداعيًا إلى التمرّد والثورة.
منذ كتاباته ومقالاته التي كان ينشرها في “شؤون فلسطينية” أو “الكرمل” أو” مواقف” أو “السفير الثقافي” أو “ملحق النهار” كنت أرى أنه يعبر عن موقف قبل أن يعبر بالمعنى البياني. كان بإمكانه أن يكتب في أي موضوع ويحوله إلى نبض أو عصب وإلى قضية أو موقف. وهذه ميزة الكتاب الكبار. ذات مرة كتب إلياس خوري أن الكتابة التي يريدها هي “كتابة متخففة من المعنى. تأتي كالموسيقى من إيقاعات الروح التي لا بد أن تستفيق على الحرية”. انحاز إلياس خوري منذ البداية إلى فلسطين كقضية إلى الشعب الفلسطيني، إلى الإنسان الفلسطيني. كان في السادسة عشرة من عمره في مدرسة الراعي الصالح في الأشرفية حين اكتشف فلسطين وحين اكتشف الفلسطينيين. رآها في عيون تلاميذ صفه ومدرسته. يروي أنه في تلك المرحلة كان يلملم التبرعات لحركة فتح. وأنه أصيب بجروح في تظاهرة شارك فيها مع صديقه جلال كعوش. ولكن الوعي العميق بالقضية كان بعد حرب 1967 وكان حافزه في كل ذلك الوقوف في وجه المظلومية. ناضل في صفوف حركة فتح وهو دون العشرين في أغوار الأردن وأصيب بجرح كاد يفقده عينه. عاد من الأغوار ليعمل في مركز الأبحاث للدراسات الفلسطينية بإشراف الدكتور أنيس صايغ، ولتنعقد صداقات له ستبقى إلى آخر العمر مع رموز وأيقونات في الادب والنضال الفلسطيني: محمود درويش وإدوارد سعيد. والسؤال: هل راهن إلياس خوري على السياسة أم راهن على الأدب. كانت السياسة حيلته ليقول ما يستطيع قوله في الأدب. راهن على الأدب وعلى قيم الحق والخير والجمال وعلى قيم العدالة والحرية. راهن على مستقبل ممكن وليس على ماض محتوم. راهن على منطقة الخطر وليس على منطقة الحذر. راهن على الحبّ الذي قال عنه غير مرة إنه “آخر ما يبقى وآخر ما يزول”. ولذلك يمكن القول إن قضية فلسطين كانت بالنسبة إليه قضية إنسانية عالمية وليست قضية عروبية أو قضية سياسية بالمعنى المجرّد. نشعر في روايته “أولاد الغيتو .. اسمي آدم” أنه أراد من الأدب أن يصنع لفلسطين صوتا بدلًا من الأنين. وأن يصنع للفلسطيني اسمًا بدلا من المجهولية والنكران. وأن يصنع للقضية أملًا بدلًا من اليأس. يريد من الأدب أن يبلغ من نفسه إلى أبعد من مجرد مرآة للواقع بل كان يدرك أو بالأحرى يتوقع أن يكون أثر الأدب فاعلًا في تغيير الواقع وفي تجاوزه.
يسأل الفيلسوف الفرنسي بول ريكور: ما هي عناصر الذاكرة؟ لماذا هناك ذكرى؟ لمن هي الذاكرة؟ بدا لي إلياس خوري في روايته «باب الشمس» أنه يسعى ويريد تفعيل الذاكرة والمكان. ويقول على لسان بطله سميح: يجب جمع حكايات كل قرية كي تبقى القرى حية في ذاكرتنا. يريد أن يوثق الحكايات المتعلقة بالقضية الفلسطينية لتستعيد فلسطين نسغ الحياة. همه أن يروي الحكاية من نسل الحكاية. يريد لفلسطين الحرية وأن يفتح لها باب الشمس. يرى التاريخ حلية وحياة ووهما ليروي. كان يهمه سرديات فلسطينية تتجمع لأجل سردية كبرى. وفي رأيي أن كل هذا الشغف مصدره الحبّ. يكتب عن فلسطين بحب ويريد لعناصر الحكاية أن تحرّك الذاكرة وتستعيد المكان باعتباره هوية مشروعة. وهذا بالتالي ما يحفظ التاريخ ويثبته ويحققه ويجدده.
يكتب إلياس خوري في “باب الشمس” عن الناس الذين يجلسون حول الأجهزة ويروون ويحكون ما لا يرونه. هل أراد إلياس خوري أن يجعل الشمس تدخل إلى الحكاية حتى يرى الناس ما لا يستطيعون أن يرونه؟ وهل ثمّة فارق بين واقع وخيال؟ كيف يأتي مثلا يونس الأسدي إلى زوجته نهيلة من مخيم شاتيلا في بيروت لبنان متسللا إلى فلسطين ليلتقي زوجته في مغارة باب الشمس ويثمر لقاؤهما عن سبعة أولاد بمعنى الاستمرار وحمل الإرث. وهنا استطاع إلياس خوري أن يشهد للواقع وأن يصرخ نحو أبعد من الصمت والكلام. وينحاز للألم الفلسطيني والإنسان الفلسطيني في مكان إقامته وفي مكان نزوحه ومستقره. فلسطين المكان الذي يشد الروح لتلتقي بجسد الأرض. دافع إلياس خوري في كتاباته عن الضحية فلسطين والتي ممنوع عليها أن تكون الضحية. أو أن تكون ضحية الصمت المريب وهو أكثر فداحة من أن تكون ضحية فعلية. لأن فلسطين في حجرة الصمت تتألم ولا أحد يعرف ولا أحد يصدّق. في كل روايات إلياس خوري المتعلقة بفلسطين وخاصة “باب الشمس” و”أولاد الغيتو … اسمي آدم” تلتحم الشجاعة بالذاكرة بالأخلاق بالحرية بالهوية الوطنية. من هذا الباب دخل إلياس خوري إلى قلب التراجيديا الفلسطينية كي يكتب عن الحبّ في إطار المقاومة وعن الوحدة في قلب التيه. انطلق من قاعدة أخلاقية تسعى لأجل الحق وتبيان الحقيقة وإظهار الشأن.
لطالما ردّد إلياس خوري أن الأدب هو سجل الخائفين والمسحوقين والمهمشين. وإذا كان ذلك صحيحا فما باستطاعة اللغة أن تفعل سوى أن تكون نور الكلام وإضاءة للروح. وفي مجمل مقاربته للموضوع الفلسطيني أعاد إلياس خوري الاعتبار إلى مسألة مهمة وهي كيفية مواجهة الروائي للتاريخ. كان المؤرخ كمال الصليبي يشدّد على أن التاريخ يستفز الروائي بقدر ما تستفزه المخيلة.
في آخر مقالاته في “القدس العربي” ذهب إلياس خوري إلى أبعد من التاريخ والمخيلة. تحدّث عن الألم الذي لا ينتهي وقال: “غزة وفلسطين تضربان بشكل وحشي منذ ما يقارب العام أيضًا وهما صامدتان لا تتزحزحان. إنهما النموذج الذي أتعلم منه كل يوم حب الحياة”.
كان إلياس خوري في ذروة تعبيره عن فلسطين يشيل من شغاف القلب والروح ويدور كالصوفي نشدانًا لأفق الضوء والحرية.