بلال خبيز
كاتب وشاعر لبناني
ليس مفيدا للقارئ والسامع أن يرثي المرء صديقا باستحضار شؤون علاقته بهذا الصديق وشجونها. تكرار الأحداث التي تعقبها مواقف قد تكون مناسبة لأخذ العبرة والتفكر بها، لكنها لا تضيف إلى المفقود شيئا، وإلياس خوري لم يكن نكرة، لقد حاز من الحب والكره ما يفيض عن قلب رجل واحد في حياته، ويصعب على من يتذكره صديقا أن يضيف إلى مجده الكثير. مع ذلك فإن غيابه يحز في النفس عميقا عميقا. ذلك أن هذا الرجل لم ينه ما بدأه أصلا. لا أتحدث عنه كروائي، أو صحافي أو مناضل أو مناصر لقضايا الخاسرين والمهملين. كان هذا كله وأكثر. لكنني أتحدث عما كانه ولم نكنه. وأجزم أنه لم ينجح في جعلنا نشبهه في هذا الباب. حاولنا وفشلنا لكننا لم نكن عند حسن ظنه.
لا أضيف جديدا حين أتذكر أن إلياس خوري كان صلبا في دفاعه عن قضايا عادلة. الفيصل في كل ما أطلقه من مواقف وآراء يمكن معاينته في “باب الشمس”. لقد صرح لزميلة صحافية أن ما يُنظر إليه كتأريخ للنكبة كان بالنسبة له قصة حب بين رجل وامرأة. العذابات، الموت الظالم والعاق، التهجير، الفاقة والعوز، العيش في مجاهل الأرض، كانت كلها أجزاء من سيرة عاشقين. لم تستطع كل هذه الأهوال أن تثنيهما عن عشقهما لبعضهما البعض، والتقرير بأن الحياة تستحق أن تعاش بسبب هذا العشق فقط، وهذا بالرغم من كل ما يحيط بهذه الحياة من مخاطر ومصاعب يصعب علينا معايشتها تحت أي ظرف أو شرط. إنما هذا ليس نقدا أدبيا، ليس قراءة في رواية أمتعتنا قراءتها. إذ كيف يحق لنا أن نستمتع بقراءة أهوال يتعرض لها من نقرأ عنهم؟ لكن الرواية تضيء هذا الحب. تقول بوضوح إن الأهوال لا تمنع الناس من أن يكونوا ناسا، ولا تمنع القارئ من الاستمتاع باكتشاف رقتهم التي ترقد تحت طبقات كثيفة من الأهوال ومحاولة رعايتها وتربيتها.
من “باب الشمس” يمكنني أن أنتقل إلى إلياس الإنسان. تجربتي الشخصية معه تقول إنه لم يكن مرة أسير مواقفه ونظرته للعالم ومن حوله. كان رحبا إلى حد أنه كان يعرف جيدا أن المواقف تتغير، وأن الأحوال تتبدل، وأن الناس هم الأهم. في وسعك أن ترى ما تحب أن تراه، وترفض رؤية ما لا تريد أن تراه، لكنك بالنسبة له ستبقى صديقا، إنسانا، قادرا على الحب حين تتاح لك الفرصة، وقادرا على اختبار التضامن وتحقيق التواصل حين تتخفف من أعباء ما تعتقده اليوم وقد يتحول غدا إلى ندمك الذي يرافقك ما حييت. إلياس خوري كان الأمهر في محاربة الندم. بوسعك أن تقف اليوم مع الضحية وتدافع عنها، وأنت تعرف جيدا أن هذه الضحية قد تتحول في يوم ما إلى جلادك، لكنك لن تندم على تضامنك معها حين كانت ضحية، لأن الظروف حولتها إلى جلاد. هكذا تسنى لي أن أحب “يالو” الذي كان قبل سنوات واحدا ممن أتمنى موتهم. اليوم وقد عبرت من طريق العمر معظمه، أدرك جيدا أنه يجدر بي أن ألقي الكثير مما كان يعرّف الحياة، بالنسبة لي جانبا، وأمضي مع ذكرياتي وما حصّلته من لغات وتجارب. يغيب عن عالم اهتمامي ناس كثيرون. لقد فعلت ما فعلته، وقد أكون نادما، لكن الوقت فات على الاعتذار ومحاولة إصلاح أخطائي. ككل الناس كنت أكره وأحب، أقسو وألين. وككل الناس كنت أترك ورائي ضحايا، وثمة من يتركونني وراءهم كضحية. خصوصا وأنني أتحدر من بلاد تعلم أبناءها منذ صباهم أن يتخلوا طائعين عما آمنوا به، وما اجتهدوا لأجله، وما صنع سعادتهم. ثمة قنابل كثيرة وحروب لا تحصى تفعل فعلها في حيواتنا، وتجبرنا على التخلي عما كنا نظنه نسغ الحياة برمتها، والمضي بعيدا بلا أثقال سوى الندم الذي يأكل أرواحنا.
اليوم في هذه السن، وأنا أرى حياتي ورائي، ما زال ثمة إلياس أمامي. ما زال هذا الشخص، بعد افتراق دروبنا، وحتى بعد موته، يستطيع أن يبقى أمامي. ما زلت أتبعه. ذلك أنني تعلمت منه أنه يجدر بي أن أجعل تاريخي غير مسبب للندم. وهذا الدرس، يفترض لإجادته، أن تجتهد كل حياتك، حتى في مرضك، وحين يكون الألم صاعقا ومستمرا في الوقت نفسه، لفصل المواقف عن الناس، ولفصل التجارب عن الجوهر. إلياس كان جوهريا، وإذا كنت أستحق صداقته تلك، فيجدر بي أن أعمل ما وسعني لأكون جوهريا أيضا. لكنني في الأثناء ما زلت أراه أمامي وأجهد للحاق به.