كيف ألملم نفسي المبعثرة بعد هذه الفجيعة، وكيف سأحْسرُ هذا الوجع الأليم الذي أعرف أنه سيبقى حتى أموت، كيف؟ أرثيك وأنا التي ما حسبتُ أن يأتي يوم وتعصف في قلبي رياح فراقك الأبديّ. دعوات كثيرة إلى منصّات الحزن دعتني لأقول عنك ولو كلمة، كيف أقول؟ وماذا أقول؟ تعجز الكلمات مهما أمطرت معانيها أن تعبّر عما أحمله في قلبي من حب كبير لا يخجل القلب أن يعترف به.
لم أتماسك بعد يا إسماعيل فالكلام ثقيل لا تنطق به الروح ولا اللسان.
البارحة تسلّلتَ إلى نومي، نظرتَ إليّ بعينيك الزرقاوين كان فيهما الحزن والعتب: هل أصدّق يا ليلى أنك عجزت عن كلمة في رثائي كما فعل كل أصدقائي وأحبائي وكل من عرفني وأحبني؟.
أنا يا إسماعيل؟ أنت تعرف أنني لا أستطيع غير البكاء وأنا لا أكاد أصدّق أن الموت تجرّأ واختطفك مني ومنّا جميعا، إنه اليُتْم الحقيقي الذي لم أحسّه بعد موت أمي وأبي وأحباب وأصدقاء كثر. يا وجعي يا إسماعيل بعد فراقك وجع كالمدْية سيظلّ غائصاً في قلبي حتى أموت.
هل تعلم يا إسماعيل كم أنا حزينة ونادمة أنني سافرت دون أن أودعك، كانت آخر مكالمة قصيرة يوم السبت لأعتذر أنني لن أحضر ليلة ملتقى الأحد المقامة للاحتفال بروايتك الأخيرة. جلْجلتْ ضحكتك وقلتَ: سافري يا جميلتي (هكذا كان يخاطبني دائماً) سنلتقي في أمسيات أخرى.
وسافرت. وجاءني ذلك الحلم قبل وفاتك بيوم.
* * *
رأيتني وحيدة أمشي في مكان مهجور معتم تنتشر فيه الصخور وجذوع أشجار عارية وسعف نخيل يابس، مشيت خائفة من الفراغ فلمحت قبراً مفتوحاً رطباً خالياً ورأيت حمامة بيضاء صغيرة معلقة فوق القبر لا تحط ولا تطير ولا تأتي بأي حركة. فزعتُ وصحوتُ وقلبي يرتجف رجفات لا تهدأ وبدأ تشاؤمي! ترى من سيموت؟ عسى ألا يكون أحد من أولادي، لم يخطر ببالي أنك أنت من سيموت، لقد كان القبر قبرك، والحمامة روحك المعلقة بين الأرض والسماء.
في الصباح ونحن في صالة المؤتمر رنّ الهاتف وعادة لا أرد لكني نظرت إلى شاشة الهاتف كان المتصل أبو مازن (الكاتب محمد جواد) ثم اتصال مرّتين من صديقتي بروانة (زوجته سابقاً). تطالبني صديقتي ثريا البقصمي بالرد، قلت لن أرد هذا بالتأكيد خبر سيئ عن إسماعيل ربما هو في المستشفى بحالة خطرة لكن قلبي كان يحدس بغير ذلك. أحاول أن أزيح الفكرة المشؤومة وأبرر لنفسي أنه في السنوات الأخيرة كثيراً ما يدخل ويخرج سالماً. أغلقت الهاتف كي لا أسمع خبراً يسيئني. في الرابعة صعدت إلى غرفتي وفتحت الهاتف وصعقني الخبر وتوالت عليّ الأسماء التي تعزيني بك.
آه يا إسماعيل كيف تموت وأنا بعيدة؟. قرّرت أن أترك المؤتمر وأعود لأراك حتى وإن كنت في ثلاجة الموتى قبل دفنك لكن لم أجد إلا رحلة متأخرة ووصلت الساعة الثالثة والنصف بعد منتصف الليل. لم أفقد الأمل اتصلت بأبي مازن باكراً ورجوته أن يأخذني إليك فقال إن الأمر صعب فقد غسلوك وكفنوك. آخ يا خيبة أملي، ترحل دون أن أراك وأقبلك قبلات الوداع وأهمس لك إنني أحببتك طول عمري وسأظل.
مُتّ يا إسماعيل.. يامن كنت لي شمساً وظلاً. مُتّ يا من كنت خيمتي التي أفر إليها بفرحي وحزني وأسراري التي لا يعرفها أحد سواك. فَلِمَنْ أفر الآن؟.
أحببت إسماعيل، صادقته وبارك زوجي وليد صداقتنا، صار ثالثنا الذي نتنفّس أمامه حتى مشاكلنا الصغيرة، فتحتُ عقلي له، لنصائحه، لتوجيهاته الثرية، فتحتُ قلبي لكاتب عنيد جميل حنون. لم أشعر يوماً أن بيني وبينه حواجز من أي نوع، صار بالنسبة لي الصديق والحبيب. لا يبدد الحزن والجروح إلا هو. في وجهه ألمح نضارة الدنيا أسقط على صدره الضئيل بأثقالي فأحسّني تجاوزت بقاع الأرض وحططتُ في غيمة دافئة.
وحده إسماعيل يعرف ليلى، اهتمّ بي كإنسانة فأحبني بكل متناقضاتي، واهتم بي أديبة وكاتبة، قرأني وظل يتابعني، نصح فقسى، غضب وصادر بعض نزقي في الكتابة، كنتُ أخضع مرّات للمصادرة ومرّات قليلة كنت أتمرد عليه فلا يكره تمرّدي، كان إسماعيل ملاذي، حين أفرح يفرح لي وحين أتعب يُفرد لي فراش الراحة ولا يقترب منه حفاظاً على صداقتنا المثالية.
أحببتُ إسماعيل ذلك الحب الذي لا توجد له تفاسير في معاجم الكتب، حب لا شكل له ولا لون لكن طعمه صافٍ بلا شوائب، هذا الحب غير المُصنّف في أيّ خانة من خانات الحب، كانت له فرادته وعُمقه رغم ذلك لم نكن نسعى لبناء مؤسّسة فاشلة (مؤسسة الزواج) التي بالتأكيد كانت ستدمر الحب. وكنت دائماً أخاف أن يغادرني.
وها هو قد غادر وحيداً وتركني وحيدة وما تصورت أن يأتي اليوم الذي سأرثيه فيه وأبكيه بكاءً كالعويل وسأبقى أبكيه حتى ألحق به.
سأظل أحبه ذلك الحب الذي لم تخدشه شوكة، وسأظل أراه في أحلامي وفي كل وجه من وجوه الذين أحببناهم معاً وسأفتح دفاتر ذكرياتي وألبومات صوري لأتذكره وأراه كلّما جَنّ بي الشوق إليه.
كان رفيق سفر مريح، أذكر رحلتي معه إلى الفلبين كانت الرحلة طويلة ونحن في الدرجة الثانية وحين وصلنا إلى شقته الأنيقة قلت له احجز لي طريق العودة بالدرجة الأولى. بقيت معه عشرة أيام من أجمل أيام عمري
كان يعشق السينما وكنت لا أحبها وأرفض أن أصحبه قلت له اذهب وحدك لكنه يرفض بشدّة أن يتركني وحدي. لقد حرمته من هوايته وكان يسهر في الليل على أفلام التلفزيون.
سافرت قبله، أوصلني إلى المطار، دخلت بعد أن ودعته وأنا كالبلهاء أقف في صفوف الدرجة الثانية والطابور طويل ومزدحم، وفجأة سمعت صوته بقربي فلم أتمالك وبكيت وسألته: كيف دخلت؟ قال دبرت الأمر مع الضابط حين رأيتك تقفين في صفوف الدرجة الثانية وأنت في الأولى أخذني من يدي وهو يضحك من غبائي ضحكته العالية المعهودة احتضنته وشكرته وتفارقنا.
عشرة أيام لم يترك مكاناً إلا وأخذني إليه حتى البحر الذي كان بعيداً عن سكنه لأنه كان يعرف أنني أحب صديقي البحر. قضينا الوقت نكتب ونقرأ ونتجول ونجلس في المقاهي لنستلذ بأكل (الهولوهولو) والآيس كريم. نضحك من القلب ونستعيد ذكريات حلوة ونغني الأغاني العراقية القديمة التي نحبها.
سافرت معه ومع صديقنا الروائي طالب الرفاعي أكثر من سفرة إلى مصر ودمشق زرنا أصدقاءنا، زرنا حلب التي عشقناها ودعانا الشاعر نزيه أبو عفش إلى بلدته صافيتا وكم كانت الرحلة ممتعة وهنيّة لا تُنسى. ذكريات كثيرة موشومة في القلب وتلافيف الذاكرة وألبومات الصور.
يا إسماعيل: مع من سأسافر من بعدك وأيّ سفر ستكون له لذة بغير وجودك؟ ولمن أشتري الأفيال التي كنتَ تُحبها وأحمل بعضها إليك ولمن سأقدم الحلوى ومع من سأشرب القهوة المُرّة والشاي بلا سكر؟.
* * *
في أحد لقاءاتي الأخيرة معه قال لي: قررت أن أهاجر إلى تايلند سأشتري بيتاً هناك وسأستقبلك فيه. لكنه هاجر إلى حيث لن يعود وترك لي الوجع. وحتى هذه اللحظة التي أكتب فيها عنه تقهرني دموعي.
وداعاً يا أغلى الناس. وداعاً يا زرقة عينيك الصافيتين كالبحر والسماء. وداعاً يا قلبك الذي أحبني، وداعاً يا حبيب القلب.
ليلى العثمان *