الى ماريا إيلينا أيالا،
أرملة كابالييرو، التي حدثتني عن البئر.
إذن، أنتَ هكذا تخاف من الظلام؟ لسوء حظك، يا ولدي. يبدو أنك متعوّد على المدينة. هنا، الليالي طويلة. في بعض الأحيان، تمتد لتصل اثنتي عشرة ساعة، وتلقّنك بأن الأسوأ هو الضوء، والشمس، وامتداد النهار السحيق. هذا، أي نعم. إنه خطير: يعمي الأبصار، ويصرع. ببطء، يذهِّب بَشَرَتك وحنجرتك ولسانك، وينتهي بك الى القتل على نار هادئة. عكس الظلام، فهو رطب وممتع، ويمكنك التنقّل بين أحضانه، مثلما تتنقّل السمكة في الماء. هيّا، تقدّمْ، ولا تتباطأ. لا أدري لماذا لا تسير على نحو مستقيم، إذ يكفيك اتّباع مسار الحبل. أنا دليلك. لا، لا تتوقف. أنظر إلي: أنا رجل عجوز وأعرج ورجلاي ملتويتان، ومع ذلك لا أسير مائلاً، ولا أتهاوى على الأرض. لا، ليست لك أعذار. أنت فتى يافع، وبرجلين سويتين. إيه، اسمع… ربما تكون هذه ذئاب، أليس كذلك؟ لا، إنها من فصيلة الكُيوط الصغيرة. في بعض الأحيان، تقترب من البئر. هيّا، قمْ، سنستأنف السير. هيّا، انهض، انهض… مع انصرام العمر، يحين على المرء حينٌ من الدهر، لا يكون فيه بحاجة بعدُ الى أن يبصر أبداً. لهذا السبب، نصبح بلا شك، نحن الشيوخ، عمياناً دون أن نشعر بذلك، إذ نكون قد رأينا أمورا كثيرة، فتشرع العيون في التعبيس والتقطيب، ولا تعدْ ترغب في رؤية أي شيء بعد ذلك، وهي بمثل هذا تعبّر عن الشكوى. حينها، يتعيّن علينا تركها لتستريح، وهذا أفضل لها. خذ مثلاً أنا اليوم، إذا ما انتُزعَتْ منّي العينان، فإنّي لن أقاوم أبداً. إنهما أنجزتا مهمتهما الأخيرة: رؤيتك، والتّعرّف عليك… أنت لا تصدّق، هيه؟! أمّا أنا فهذا هو ما أعتقده. أنا متأكّد من أنّه كان يتعيّن على الظّلمة أن تكون عنصراً فعّالاً، بالنّسبة الى الإنسان. أجل، أعرف: أنت لا ترى أي شيء. إنّما لا تحاول أن ترى، فقط سِرْ، وهذا هو المطلوب. أهالي المدينة يعتقدون بأنّ الّليل ملائم لتنفيذ أعمال العنف. عكسي أنا تماماً. إنّي أجد فيه الكثير من السّكينة والطّمأنينة. الدّماغ أثناءه يُشرق، ويتّقِد، ويُسهّل ذلك عمليّة التّركيز. حينها، يكون في مستطاعي إنجاز بعض الأمور، مثلاً يكون بمستطاعي التّفكير، وتنفيذ خططٍ أعِدّتْ منذ فترة جدّ طويلة. ثم إن الذّكريات… آه!، الذكريات تأتيك أثناءه من مركز بعيد جداً، كي تستطيع معايشتها من جديد. أجل، أنا خُلِقت للظّلمة. لم أكن دائما أعلم بهذا، لكنّي انتبهتُ إليه في البئر. إنْ كان بإمكاني النّوم لوقت طويل، فسيكون ذلك طوال النّهار. أمّا الليل، فلقضاء أمور أخرى. هيّا، لا تتباطأ، واتبعني. أنا لا أحبّ أن أشعر بأني مجرور من يديّ الى الخلف. يحدوني الانطباع بأنّك لا تصغي إلى ما أقول بعناية. إذا لم يستطع الحبل أن يرشدك، فاتّبع حينها صوتي، لأني أحدّثك لهذه الغاية بالضبط. هذا أمر مثير للفضول: نحن الشيوخ لا نحتاج الى عيون، وإنما نستعيض عنها باللسان. مع مرور الوقت، نصبح ثرثارين أكثر فأكثر. أنا لا أعرف كائناً أصمّ في مثل عمري. يقيناً، كائن مثل هذا يموت من اليأس، لأنه لا يستطيع أن يحكي عن كل ما رآه. أضف الى ذلك، أن ثمة في هذا الخلاء، القليل جداً من الضّجّة، وأنا أحبّ كثيراً أن أملأ الصّمت. بالتأكيد، أنتَ لا تتفوه بشيء… لا تنزعج، أنا لا أرغب في الإنصات إليك. حين كنتُ شاباً، أحببتُ مثلك النهارات المضيئة، واحتفظتُ بالليل لقضاء بعض الأمور، التي يقوم بها المرء في الظلام، كالسُّكر مثلاً، والنوم مع النساء، والسرقة كذلك في بعض الأحيان. كنّا فقراء للغاية. وكنتُ مجبراً على تدبّر أمري للذهاب الى المدرسة، والعودة الى جانب ذلك الى البيت، ببعض القروش. لم يكن لي أب، أو أني لم أكن بالأحرى أعرفه. أنت بالتأكيد لا تعرف معنى هذا كله. والدك أنت وفّر لك كل شيء منذ نعومة أظافرك، وعندما مات تركك محصّنا ومحميا بشكل جيد. أما أنا، فعلى العكس. عشتُ طفولة صعبة. أنا لا أشتكي من هذا، لأني ناضلتُ دائماً من أجل أن لا أبقى في هذه الوضعية. قد تظن أنت بأني بقيت، رغم كل شيء، على نفس الحال. إنما هذا لم يحدث أبداً، مثلما تعتقد. وإذا ما كنت أرتدي لباساً حقيراً، فإنما فقط لأني بلا امرأة، والرجل مثلما تعرف، لا يمكنه أن يضطلع بمفرده بشؤون الخياطة والتنظيف. زد على ذلك أني لا أستطيع بمعاشي الزهيد، أن أحقق أموراً كبيرة. فقد ظللت لمدة طويلة المعلم الوحيد في القرية. كدتَ تحسبني مجرد متسول، حين رأيتني أمشي وراءك لعدة أيام، لكني كنت مع ذلك قد درستُ القانون في جامعة مكسيكو. ولم أكن كذلك بالمثل معلماً على الدوام، لكن ثمة أشياء تفرض على المرء أن يتغيّر… من المحتمل أن أكون قد متّ من شدة الفقر والجوع، وأنا أعمل محامياً في مثل هذه الناحية. كان كل رفاقي في العاصمة ينتهون الى مجرد موظفي مكاتب بسطاء، مستَعبَدين ومتزلفين لبعض رجال السياسة، وكنتُ طموحاً للغاية. كنت أرغب في شيء آخر. لم يكن للمحامين في تلك الحقبة، الكثير من الإمكانيات والخيارات للاغتناء، مثلما صارت لهم مع بداية الحكم الثوري. لم يكن لهم على الأقل، أن يحققوا ذلك دون دعم من جهة ما، ودون سند من صداقات عتيدة. ولم أكن أنا أعرف ما الذي ينبغي علي القيام به. وفي تلك الأثناء، اقترح عليّ أحد زملاء الدراسة، أن أذهب معه الى الشمال، للاشتغال في قضايا توزيع الأراضي… إنك لتتمادى في تأخيري أيضاً. لا تفكّر في العطش، فهو سيزول بعد برهة. لو كنت تمشي تحت الشمس، لعرفت بحق معنى العطش. لسوف نصل بعد قليل. تقدّم. ثم إني لو استمررتُ في جرّك هكذا، سيُلهب الحبلُ جلدتك. حين كنتُ شاباً، لم أكن مستقيماً للغاية. كان سيان عندي أن أسرق، حتى ولو لم تكن بي حاجة الى ذلك، أو أن أخون ثقة من كان يثق بي، أو أن أبيع نفسي أيضاً الى هؤلاء الذين يملكون المال. في كل الأحوال، أنا لم أقتل أي شخص أبداً، ولم تكن قد توفّرت لي بعدُ الأسبابُ للقيام بذلك. وكانت سرقة الفلاحين أمراً في غاية اليسر: فهم سذج، وسريعو الثقة والتصديق. في كل الأحوال، كان هؤلاء كذلك في تلك الفترة، أما اليوم فقد صاروا أقل بكثير من هذا. لقد قستْ عليهم الحياة، ولم يعودوا أبداً يتركون أنفسهم عرضة سهلة لذلك. إنهم تعرّضوا الى الكثير من أعمال الاحتيال والسرقة. بقضاء عدة سنوات بينهم وحسب، مثلما فعلتُ أنا، يستطيع المرء أن يدرك هذا… وكنّا، زميلي وأنا، قد كسبنا أموالاً طائلة على حسابهم. ظل هؤلاء يخسرون كل القضايا، التي ينصبوننا فيها للدفاع عنهم، بينما ظللنا نحن نملأ جيوبنا بما يقدمه لنا الوجهاء وكبار الملاكين من هدايا وإكراميات. لقد تجمّع لدينا حقيقة، مال كثير! كنّا نحتفظ به جانباً، حتى نعود بعدها الى مكسيكو، ونفتح مكتباً للمحاماة. لكن زميلي الغبي، كان ذات يوم، وهو سكران، قد ارتكب حماقة قصّ كل شيء على إحدى العاهرات!… يا للأبله! وكانت تلك المرأة أخت مزارع حديث عهد بالحيلة، التي خدعناه بها. هيّا، انهض! لا تزعجني بعيائك الدّاعر، وتحرّك! سرْ، وإلا نشرتك هنا، فتأتي جماعة الكُيوط، لتفترسك! أنظر، ها قد انتهت الأحجار، الآن. انطلاقاً من هنا، كل شيء منبسط وسهل. اتبعني… قبضوا علينا بالقرب من الحقول، في اللحظة التي كنّا نتأهب فيها للفرار. لم يكن ذلك الآخر يتذكر ما قاله، ولم أكن أنا أعلم بأي شيء. علمت بذلك فقط، لأنهم صرخوا به في وجوهنا، وهم يوسعوننا ضرباً، وينعتوننا بأقذع النعوت. إن المزارعين لغلاظ شداد وقساة القلب، حين يريدون الانتقام. هووا علينا بالضرب، حتى اعتقدت بأنهم سيقتلوننا بالعصي. بعد ذلك، حملونا على ظهر حمارين مثلما تُحمَل حزم الحطب، فلم أعد أرى من خلال قوائم الدابة، ولمدة نصف ساعة، سوى بعض الحجارة والأعشاب. وعندما وصلنا الى فرجة صغيرة في الغابة، أنزلونا من فوق الدابتين، ونزعوا عنا الثياب. أوثق لي أحدهم، وهو الذي كان قد دفع لنا المال كي ندافع عنهم، أصبعيّ الإبهام بكيفية غريبة، ثم فعل نفس الشيء أيضاً مع زميلي. كنتُ دائخاً الى أبعد حدّ، بفعل الضربات التي تلقيتها، حتى إني لم أفهم في الأمر أي شيء، وإنما شعرت بأن الأرض قد أخذت تتوارى من تحت قدمي. وحين رأيتهم قد شرعوا في بلّ حبل بالماء، بدأت أدرك بحق ما معنى الألم. لم يكن ثمة أي حقد يتطاير من أعين هؤلاء. وهذا لعمري، أمر رهيب. إن الحقد يدفع بالمرء الى الإسراع بالشبع والارتواء، لأن الانتقام يكون حينها فورياً. أما هؤلاء، فكانت نظرتهم صافية، وذهنهم هادئ. كانت معاقبتنا بالنسبة إليهم، مجرد مسألة قصاص. لم أدر كم من الوقت استغرق جَلدُنا بالحبل، إذ إنهم لما كفّوا عن ضربنا، كان الليل قد عسعس. أوثقونا، ونحن نصف ميتيْن، الى جذع شجرة، وأوقدوا ناراً. لم يكن يبدو عليهم أنهم يريدون المغادرة. بين إغماءاتي وأنّات زميلي المتواصلة، أشعرتني بعض المقتطفات التي التقطتها من حديثهم، بأنهم لم يكونوا بعدُ راضين على ما فعلوه بنا، وبأن العقاب سيتواصل مع انبلاج فجر اليوم الموالي… هل تعرف ما معنى الخوف، يا ولدي؟ لا، أنت لا تعرف ذلك. ما تشعر به الآن، هو ربما القليل من الخشية والتوجّس. إن الخوف الحقيقي يستبدّ بك حين تكون قد شعرت بألم فظيع، فيتأكّد لك بيقين راسخ، أنك ستعيش ذلك الألم مرة أخرى. لقد عرفتُ الخوف في تلك الليلة بالذات، وأنا مقيّد، وبجلدتي المنزوعة وبتيقظ كافة جسمي، حين سمعتُ بالقرب مني بكاء الألم المختلط ببكائي، ونذير الشؤم الصادر عن بعض البومات، وقصف الرعد المعلن عن انطلاق العاصفة من عقالها. رأيت هيئة المزارعين المقرفصين الجامدة، وهم يتهيأون للنوم تحت الأمطار، مستمتعين بمزيد من الدفء، قبل أن تطفئ مياه المطر الجمرات الأخيرة… حين يتصاعد بداخلك الخوف من غير انقطاع، يكون مثل الليل، ومثل العتمة: تحلّ عليك برهة ينيرك فيها، ويضيؤك من الداخل، ويخفف عن قلبك، ويجعلك قادراً على القيام بما ظللت تعتقد أنه من سابع المستحيلات. إن الخوف هو الذي أنارني، فأخذت في عرك الحبل على العقد الناتئة من جذع الشجرة، وعلى اللحاء، لمدة طويلة، لساعات كاملة، بينما لم يكن الآخر يفعل أي شيء عدا الأنين، وطلب المساعدة بصوت خافت. خففت الأمطار من جراحي، غير أنها جعلت محاولاتي للتحرّر من الحبل صعبة للغاية. كانت الزخّات العاصفية، حين انتهى وثاقي أخيراً بأن فكّ، تحول تقريباً ومنذ وقت، دون رؤية أي شيء. فككت وثاق زميلي، وجررته بصعوبة بالغة لبضعة أمتار، وتوارينا خلف صخرة. لا أحد كان يستطيع رؤيتنا. حينئذ، أخذنا نجري تحت الأمطار، وكأننا لا نحمل جسمين ممزقين من قمة الرأس الى أخمص القدمين، كنّا نجري، ونتعثر بالأحجار والأشواك، ونسقط في الحفر دون التفكير في الحيّات والحشرات السّامة، وإنّما كنّا ننهض على الفور، كي نجري مرّة أخرى، دون معرفة محدّدة بالوجهة التي نتقدّم نحوها، وإنّما كلّ ما كنّا نعرفه هو أنّنا نبتعد عن جماعة المزارعين، التي أرادت أن ترانا ميّتيْن. كنّا نجري الى أن توقفت الأمطار… لهذه الغاية بالضّبط، أنا لا أقبل منك أن تتعب! وقتها، كنتُ تقريباً في مثل سنّك، وقد جريت أثناء تلك الليلة، أكثر من عشرة أضعاف ما قطعناه اليوم. لسوف نصل عما قريب، فلا تتذمّر. إلا أني مع ذلك، سأواصل قصّ حكايتي عليك… وجدتنا الشمس غارقيْن في دمائنا، وعاريين، وميتين من التعب، وكنّا بالكاد ندرك أننا قد بلغنا خلاء البريّة. كان زميلي من هنا، من الشمال، وقد قال إننا لو أخذنا نسير في اتجاه الغرب، فسنجد ولا شك مكاناً كان هو يعرفه. لكن مصاعب شتى كانت لا تزال تنتظرنا… هل تعرف ما الذي تفعله الشمس بالجراح؟ إنها توسّع ثلماتها مثلما تفعل بقشرة المانجو العفنة، فتجفّفها من الخارج، وتجعلها تتفسّخ من الداخل، ثم تصير الحِكّة عذاباً أليماً، يكون أفظع من عذاب الجَلْد. ويصير الرمل أيها الغلام، مثل الجير الملتهب فوق الجراح. أضف الى هذا كله، أن المناطق القليلة من الجِلد التي بقيت سالمة، تبدأ في التّحرّق. أنت لا يمكنك أن تعرف الى أي حدّ كنتُ أودّ لو صارت الدنيا ليلا! في ذلك اليوم بالذات، حقدت على الشمس، مثلما لم يحقد عليها أحد. بعدما هوينا الى الأرض ونهضنا لمئات المرّات، فضّلنا البقاء مُمدّديْن فوق التراب، مستسلميْن للموت، وغير قادريْن على مواجهة أي شيء على الإطلاق، لا الألم، ولا الجوع، ولا العطش، ولا الخوف، ولا حتى الحياة، إذ الحياة بالذات هي التي تزعج أكثر، في تلك اللحظات. وهناك، قررتُ وأنا ممدّد على الأرض، بينما وجهي تحت الشوك، أن أقتل زميلي. كل ما حصل كان بسبب غلطته! لقد استبدّتْ بي لأول مرّة في حياتي الرغبة في القتل، إلا أنّي لم أقو على النهوض من مكاني. تعرضتُ للإغماء، فشعرت بأن الشمس تمتصّ بشره كبير، آخر ما تبقّى من القطرات في عروقي. هل سبق لك من قبل، أن أشرفت على الموت، يا ولد؟ حينها، لا يشعر المرء بأي شيء، عدا بعض العزاء، وبعض الراحة. تترك نفسك تنجرف، مع أمل كبير في اللاعودة. إلا أني قد عدت: كان عواء أحد الكيوط هو الذي أيقظني. رغم العتمة، أبصرتُ شبحاً يسير بمشقّة. مثل مسرنم نهضت من مكاني، وسرت وراء ذلك الشبح للحظة، وكانت بيننا مسافة لا يستهان بها، الى أن تعرّفت عليه. كان ذلك الوغد يريد التخلّي عني، هناك! أجهدت نفسي ما وسعني الأمر كي ألتحق به، فسمعته يقول: «ماء. ثمة ماء ههنا. حيث يتواجد الكيوط، لا يكون الماء بعيدا». سرت وراءه. هل تشعر أنت بالعطش؟ ومع هذا فالوقت ليل، يا غلام! في تلك الليلة بالذات، عرفتُ بالفعل ما معنى العطش! سِرْنا سوية لفترة طويلة، الى أن رسم بيده إشارة. كانت ثمة بئر! لم تكن لها ناعورة، وإنما تحيط بها حافة قصيرة من الطوب وحسب، مع عصا موضوعة بالعرض. لم أدر من أين جاءتني كل تلك الطاقة التي حرّكتني، وإنما كل ما عرفته أني عدوت بسرعة، الى أن وصلت البئر. وفي الحال، استقبلتني رائحة رهيبة من النتانة، هي مزيج من رائحة الماء الفاسد، ورائحة الجيف المتحلّلة. أخذتُ أبكي من اليأس على حافة تلك البئر المتعفنة، داعيا الله أن يميتني مرة واحدة والى الأبد. كان مرافقي يسعل من ورائي، ممانعاً حالة التقيؤ التي انتابته. وحين أردتُ التراجع من حيث جئت، شعرتُ بأحدهم يدفعني بعنف من الخلف. لم أصرخ أبداً. شعوري بالدّوار، وقد امتزج بالتعب الكامل، جعل السقوط بطيئاً وغير قابل تقريباً للانتهاء. في الأسفل، انتظرتُ كي أتعرّض لرجّة رهيبة وارتطام صادم، وكأنما كنت سأصطدم بحجارة، لكن برودة الماء المتخثر حالت بيني وبين فقدان الوعي. عندئذ، رسم بصيص الضوء المنبعث من القمر، عند فوهة البئر، صورة مرافقي. انحنى يطلّ علي لبرهة، ثم ما لبث أن اختفى. لم أستطيع لا الصراخ ولا التكلّم، إذ خدّرت الصدمة جسمي ودماغي كافة. وصرتُ شيئاً فشيئاً، أدرك فوق أي شيء هويت: أغصان، وعظام، وجيف متحلّلة. خفّت رائحة النتانة النفاذة، التي كانت في البداية غير محتملة، بفعل تعوّدي عليها. وما هي إلا لحظات، حتى شربت من ذلك الماء المتخثر، الذي لم أجد أنه بعد أن فقدت كل الآمال مثير للغثيان، بل إني لذهبت حتى الى حدّ التهام لحم حيوان، كان قد مات منذ أيام! والى جانب ذلك، تحمّلت بعض الآلام التي لم أعرف سببها بالكل. بعد ذلك فقط، عرفت بأن رجلي قد تكسّرت أثناء السقوط، وأنفي شجّ، ووجهي تحزّز. لقد بقيت لي من ذلك هذه الندبة، التي تمتد من جهة العين الى الفم، والتي نفّرتك كثيراً منّي، حين رأيتني في القرية. لعلمك، أنا كذلك لا أحبّ رؤيتها، لذلك لا توجد لديّ في البيت مرآة. لكنّ ما أحبّه هو أن أسرح فوقها بأصابعي، فأشعر بها ملساء وصقيلة، ملساء كلها وصقيلة، وكأنما هي قد جُلّيت بورق الصّقل. وهنا، بالقرب من الشّفة، أصل الى لمسها بمقدمة اللسان، فأقضي ساعات بطولها وأنا ألعقها، إذ إني تعلقت كثيراً بها، حتى بلغ مني الأمر أن صرت أتصورها مثل حلية تزيّنني، وصار يأخذني من جراء ذلك بعض الزهو والفخار. لكني ما أن أفكر في الشكل الذي قد يراه عليها الناس، حتى يتملكني الحنق في الحين، فأشدّ عليها بيدي محاولاً انتزاعها… غير أن ذلك لا يجدي، فهي باقية هنا مثل ذكرى سيئة… في بعض الأحيان، كنت أرى في قعر البئر بعض الضوء، وحين ألتفت، تكون النجوم هي التي تتلألأ. وبين الفينة والأخرى أسمع أصوات، وأفلح في إطلاق الصراخ، فألمح كيوطاً يميل برأسه نحو قاع البئر، دون الجرأة على القفز. ذات مرة، أمطرت السماء، وكانت تلك من بين أندر العواصف وقوعاً هنا، فامتلأ البئر كثيراً، حتى ظننت بأني سأغرق. لكني شربت مع ذلك، كل الماء النقي الذي استطعت شربه، وأكلت من كافة الأعشاب الطرية والجافة، التي جرفها الماء. وبعدما فقدت كل الآمال في الصعود، واستسلمتُ لفكرة الموت متوارياُ في قعر البئر، سمعتُ ذات مرة صوت ارتطام. انحنى رأس حمار يطلّ من فوهة البئر، ثم تراجع بعد ذلك الى الوراء بسرعة، بفعل الرائحة الكريهة. وعلى نحو غريزي، أخذت أصيح، رغم أني كنتُ منهار القوى: «النجدة، أنقذوني!». ثم إذا برأس رأيتها ضخمة في البداية، قد برزت لي. لم أدرك حجمها الحقيقي، إلا حين نزع صاحبها القبعة من فوقها، ورشقني بصوته العجوز: «هل ثمة أحد؟». «رحماك! أخرجني من هنا». «من أنت؟». «رحماك!…». تأخّر العجوز بضع دقائق حسبتها، باعتبار أنّها آخر ما تبقى لي في الحياة، ردحاً من الزمن لا ينتهي. ربط طرف حبل بالحمار، ورمى بالطّرف الآخر إلي. «اربط نفسك به»، قال لي. وحين صعدت، داهتني كلّ الآلام التي سبق لي أن نسيتها: جراحاتي النّاجمة عن الجَلد أو السقوط تعفّنت، وأخذت في فرز رائحة كريهة، وكأنما كنت من قبل ميتاً، أما جلدتي فقد ارتخت كثيراً بفعل الرّطوبة، الى حدّ أن جراحاً أخرى تشبه جراح السّكين قد انثلمت، وساهم الماء في تليين جسمي الى أبعد حدّ، على مستوى الخصر والرّجلين، دون أن أضطر الى الإشارة الى أن إحدى رجليّ قد تعرّضت لكسر ثلاثي. لهذا أنا أعرج، ولهذا أنا مشوّه الخلقة، ولهذا لم ترغب أي امرأة في الزواج مني، وليس لي أي ولد مثلك، أعتمد عليه في شيخوختي. لكن، لعلمك فقط يا ولدي، أنا لست مريرا ولا عنيفاً. لقد تعلّمت في قعر البئر أمورا كثيرة، وخاصّة منها الصّبر. أتتخيّل ما معنى أن تكون الكائن الوحيد لمدة اثني عشر يوماً؟ كل الوقت اللازم يفضل أمامك، كي تعرف نفسك، وكي تبغضها، وكي تتماسك، وكي تقبل بها أخيراً، مثلما هي. ترضى عن نفسك بدافع العطف، ويأخذك الحنان والشفقة عليها. لقد فحصتُ ذلك فيما بعد بعناية، وقد أمضيت اثني عشر يوماً في ذلك القعر، بين أحضان العتمة المباركة التي تعلّمت كيف أقدّرها، وبين تلك الحيطان الباردة والدّبقة، التي تعلو بأربعة أمتار، فتحجب عني الشمس. ولا أكذب إذا قلت إني قضيت هناك كذلك، بعض اللحظات الجميلة، هي لحظات طويلة جداً من الاستسلام والهدوء والسكينة. لم أكن أفكّر في عالم البشر، إلا بحقد: لقد كرهتُ كبار الملاكين الذين اشتروا ذمّتي، والمزارعين لقصاصهم البارد وعديم الشفقة، والخلاء الصحراوي، والرمل، والشمس، لكني حقدت خاصة على ذلك الخائن، الذي قذف بي في قعر البئر، لأموت وأتعفّن مع الجيف، بينما كان هو يستفيد من المال المختلس من المزارعين. أي نعم، يا ولدي، لم يكن من الصعب على المرء أن يتنبّأ بذلك. منذ لحظات الوعي الأولى، أدركت كل شيء: لقد كان يعيش في هذه الناحية، ويعرف بأن ثمة على مبعدة من هنا بيوتاً وماء. كان سكان هذه الناحية يعرفونه، ويحترمون والده. آووه بينهم، وقدّموا له الطّعام والشراب، وأرسلوه الى مستشفى يوجد بالجهة الأخرى ليتلقّى العلاج، فصار قادراً على العودة الى مكسيكو، ليعلن عن موتي، ويحتفظ بالمال لوحده… بينما ظللت أنا أنوس، لدى صاحب البغال، بين الحياة والموت… هيّا، تقدّم! أنظر، إننا سننتهي هناك، وراء تلك التّلة بالضبط. مزيداً من الخطو! عليك أن لا تستسلم الآن، بعدما قطعت كل هذا الطريق! كانت زوج صاحب البغال تتعاطى للتطبيب، لكن بما أن زوجها قد وضع بين يديها شبه جثة هامدة، فقد كان يلزمها بالتقريب سنة كاملة، كي تقدر على شفائي. وكانا يقولان كذلك بأني فقدت العقل. في البداية، ظل النهار يخيفني. لم أحتمل الضوء بصفة نهائية، ولم أكن أخرج إلا بالليل. وشيئاً فشيئاً، أخذت على التّعود على ذلك… وكنت حيثما أمضي، يتبعني الصغار، ويسخرون مني، وينعتونني بأصابعهم مرددين: «أنظروا الى المعتوه!»، «ها هو ذا المعتوه!». وكان هؤلاء الأوغاد قد علموا في ما بعد، بأني أعرف القراءة والكتابة، فشرعوا يقيمون لي اعتباراً، ويحترمونني. وقد انتهوا حتى الى نسيان تشوّه جسمي. وفي تلك الأثناء، اقترح عليّ أعيان القرية أن أهتم بشؤون المدرسة، فصرت حينها معلماً. هل تعرف ما معنى أن تكون معلماً، في قرية يموت أهلها من الجوع؟ أنت لا تكسب كثيراً، إنما يحترمك الكلّ. في الأعياد والحفلات، تجلس في المكان المشرّف مع كبير القرية والخوري، ويمكنك أن تختار بيتك. أنا عشت دوماً في ذلك الكوخ المتواجد عند نهاية القرية. الجو فيه رطب، وهو على الخصوص جدّ مظلم. فيه قضيت سنواتي الأربعين الأخيرة، وأنا وحيد ومنكبّ على التفكير، وكأني ما أزال في قعر البئر، أعاني من غياب المرأة والأبناء، وأغذي الحقد في دخيلتي، وأنتظر الخائن، لأني كنت على يقين من أنه سيعود الى القرية، في يوم من الأيام. ما يزال دائما في الساحة بيت والده، مهجوراً، غير أنه متين ويقف شاخصاً في انتظار عودة الوارث. هناك، انهض! لا يمكن لي جرّك! بعض الخطوات فقط!… مضت السنون، وكانت الأخبار أو بالأحرى الإشاعات نادرا ما تفد على القرية، بعضها يقول إن ذلك الآخر أصبح محامياً مهماً في مكسيكو، وغدا فيما بعد رجلاً ثرياً ومهماً للغاية، يحيط نفسه بالنساء الجميلات، وبأنه تزوج، وأنجب وريثاً… في حين بقيت أنا في هذا الركن من الخلاء الصحراوي، أجترّ رغبة لا تقاوم في الانتقام، بدت لي بأنها صارت أقل فأقل ممكنة التحقق، فأوشكت كلما سمعت إشاعة جديدة، على الموت من فرط رغبتي في بلوغ ذلك. وعلمت في ما بعد بأنه مات، فشعرت حينها بالموت، أنا كذلك. لكن الحقد والرغبة في الانتقام بقيا قويين، لا أستطيع تبديدهما. فواصلت الانتظار… ياه! أنظر، ها هي ذي البئر! إنها نفسها تماماً! من دون ناعورة، وبجدار قصير يحفّها، ومنزوية كعهدها… في ما مضى، لا أحد كان يمرّ من هنا، في حين أن اليوم لا يكاد يمر إلا القليل من الناس: في أربعين سنة، توسّعت الصحراء. هل تشمّ رائحة العطانة؟ هيّا، انهض! أنت تفهم إذن، أليس كذلك، يا ولدي؟ لكم أنت ثقيل! يقال إن من السوء أن يُكِنّ المرء الكراهية للموتى، أو يحقد عليهم. لذلك، لم يكن أمامي من حلّ آخر سوى أن أصفح عن ذلك الميت، وأوجه حقدي وجهة شخص آخر قد يأتي… الآن، نعم. يبدو عليك أنك شعرت عن حق بالخوف، يا ولدي. لا تنزعج، لم يسبق لي بالكل أن قتلتُ أحداً… لقد كانت تلك السنوات طويلة حقاًُ، إنما ظلت تستحق الانتظار. لا تتباطأ، فذلك لن يفيد في شيء. أنا أعرف جيداً بأن هذا لم يحدث بسبب غلطتك، إنما عليك أن تفكّر أنت كذلك معي: هذا أيضاً لم يكن بسببي أنا أبداً. زد عليه، أنك لو كنت محظوظاً، لسمع ربما صاحب بغال ما بصياحك، في اليوم الذي لا تضرب له حساب…
——————-
إدواردو أنطونيو بارّا Eduardo Antonio Parra كاتب مكسيكي معاصر، وُلد سنة 1965 بمدينة ليون Léon المكسيكية، ودرس الآداب الإسبانية بجامعة نويبو ليون، ثم تخرّج منها، وعمل في الصحافة الأدبية، وحصل على جائزة خوان رولفو، سنة 2000، ويعتبر الآن من أهم الأصوات القصصية الوارثة لشموخ السرد المكسيكي، مثلما تجلى مع خوان رولفو وكارلوس فوينتيس. من أهم أعمال إدواردو أنطونيو بارّا مجموعة بعنوان: أقاصي الليل (1996)، وهي أضمومة قصصية خصّصها الكاتب لتسليط الضوء على ليل بعض المدن المكسيكية الشمالية، التي تقع بمحاذاة الحدود مع الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال قصص تتخذ من الليل خيطها الناظم، وفيها يتتبع الكاتب بعض حيوات ومصائر كائنات هامشية مسكونة بالألم والمعاناة والحقد والرغبة في الانتقام، مثلما تصور ذلك بشكل رائع قصة: البئر.