الحديث عن الكاتب والإعلامي إدريس الخوري يستدعي بالضرورة استحضار، ليس فقط تجربته الإبداعية، باعتباره أحد كتاب القصة القصيرة الواقعية اللامعين في المغرب وفي العالم العربي، وإنما أيضا استحضار مسار حياته الخاصة، كواحد من أبناء الطبقة المغربية الفقيرة، ممن كرسوا مجهودا خاصا وذاتيا من أجل بناء «مجد» إبداعي حاز ما يكفي من الشهرة والمتابعة الإعلامية والنقدية والإعجاب «الشعبي» على السواء، هذا إلى جانب ما يمثله شخصه المتميز والفريد في الحياة اليومية من حضور محبب يحفل بالسخرية والنميمة البيضاء والتعليقات اللاذعة، سواء بين أصدقائه وزملائه الخلص أو مع الناس البسطاء والعاديين الذين يشاركهم ويشاركونه بعض فضاءات الحياة المخصوصة في هذه المدينة أو تلك.
والخوري ليس كاتبا مُجيدا للقصة القصيرة وحسب، وإنما يعتبر أيضا من بين الصحفيين المغاربة القلائل الذين قد لا يفرق القارئ، في أحيان كثيرة، بين كتاباتهم الصحافية-المهنية والإبداعية الخالصة، فحيثما وضع قلمه، ثمة حضور جميل وطريف لذات الكاتب المشبعة بتلك الروح النقدية اللاذعة وغير المجاملة، إلى درجة أن الذي لا يعرف الخوري عن قرب قد لا يجرؤ، بكل بساطة، على مشاركته مائدته أو جلسته الخاصة، مادامت تسبقه كثير من الإشاعات التي حولت صراحته ووضوح كثير من مواقفه وآرائه إلى منجم للعدوانية المجانية والعنف اللفظي الجاهز.
والكتابة عند إدريس الخوري ليست عملا آليا يلجأ إليه مثلما يلجأ أي موظف بسيط إلى مقر عمله مرغما بفعل سلطة الواجب والحاجة والعوز، كما أنها ليست بذلك السحر الذي يغرينا بجبروته أو بغنجه لتحقيق تلك المتعة النفسية والجسدية المفتقدة لدينا في حياتنا اليومية، وإنما هي وعي شقي بالذات وبالآخر، بالحياة وبالعالم، هي قلق مؤثث بكثير من الأسئلة الملغومة والتفاصيل المربكة، كل ذلك من أجل تحقيق قيمة مضاعفة وحقيقية لهذه الذات القلقة، والوصول بها إلى ذلك النوع من التوازن المفقود الذي يحقق لها نشوتها السرية.
بهذا المعنى تصبح الكتابة عضوا جديدا ينضاف إلى باقي أعضاء جسد الكاتب البيولوجية، حاسة يقيس بها الواقع والأشياء كما الأشخاص والكائنات. وقد يجد الكاتب نفسه في أحيان كثيرة أمام عسر لحظة الإبداع، لا سيما حين يتعلق الأمر بتلك الكتابة التي تجلب ماءها من بحر الحياة اليومية، من العابر والمهمش والمنسي والهش في الواقع المعيش. لذلك لا يفاجئنا الخوري، الذي يعتبر كاتب قصة واقعية بامتياز، حين يقر بأن المشهد اليومي شديد التعقيد لكثرة رموزه ودلالاته وإحالاته الواقعية والفانطاستيكية، إنه مشهد إشكالي لكونه مليء بالمفارقات.
ولأن الكاتب عادة ما يجتهد في «تربية» لغته الخاصة داخل تصنيفات الأنواع الإبداعية المعروفة، ويرعاها بعيدا عن بعض التمايزات التي تخلق داخل الجنس الإبداعي الواحد، فإن الخوري استطاع، بحدسه وحساسيته وبفعل خبرته بعوالم وأسرار «المدن السفلى»، مدن القاع، ومعرفته بطباع أناسها ولغات تداولهم وتواصلهم اليومية، أن يصنع لنفسه لغة حكي وقص تكاد تكون مخصوصة، انفرد بها لوحده داخل المشهد السردي المغربي. إنها لغة حكي مغايرة لما هو سائد. لغة بسيطة، سلسة وملغومة، حيث تشكل بعض مفرداتها المنتمية للغة العامية المغربية إسمنت بنائها اللغوي الفصيح، بل تكاد تصبح تلك المفردات «الدارجة» بمثابة الإغراء الجميل والمدهش الذي يشدنا إلى ملح النص ويغرينا بمحبته ومصاحبته.
معظم كتابات الخوري لا تبتعد كثيرا عن حياته اليومية، عن مشاهداته الخاصة وإحساسه الذاتي بفظاعة الواقع وصعوبة تماسك الفرد الأعزل داخل مقالبه، تلك المقالب التي لا تكف عن التناسخ ومضاعفة شراستها وحدتها كلما غيرنا الأماكن والوجوه والأوساط داخل المدينة الواحدة. إنها كتابة لا تدعي النضال السياسي بمعناه الطبقي، كما أنها لا تضع نفسها في مواجهة القطارات الضالة أو العواصف الضارية… بقدر ما تكشف عن ذلك الانحياز الناضج والصعب الذي يجعل الكاتب حرا في اختياراته وفي أفكاره، طليقا مثل ريح تهب في اتجاه الغموض الذي يلف من يصنعون سياسات التهميش و«المصادرة التي تفرغ الناس من عمقهم الإنساني وتحيلهم إلى مجرد قطيع منبطح أمام العتبات..»، سواء تعلق الأمر بالذين يسيسون الناس أو الذين يضعون أنفسهم في الطرف النقيض لمنطق لعبة السياسات السيارة. فضلا عن ذلك، فهي كتابة تتوق إلى «التحرر من أغلال الكتب وسلطة المؤسسة المهيمنة»، ولا شيء يدفع صاحبها لإرضاء القارئ المفترض الذي كان– في وقت مضى– يسكن رأسه، كلما حمل القلم لكتابة ما يخطر بباله، مادام هذا القارئ نفسه قد يتحول أحيانا إلى «رقيب يجثم فوق ذاكرة الكاتب، يحصي أنفاسه اللاهثة عبر الصفحات».
والخوري أيضا، وهو ابن الطبقة المغربية الفقيرة بامتياز، لا يتورع في إعلان عدم حبه للفقراء، أقصد لفصيلة معينة من الفقراء. بل إنه لم يتوانَ في تخصيص نصوص قصصية ومقالات تترصد كثيرا من السلوكات المعيبة الصادرة عن بعض هؤلاء. والمقصود تلك الفئة التي تجد متعة كبيرة في تصريف إحباطاتها وانفعالاتها ومكبوتاتها في شكل ممارسات عدوانية تجاه الفقراء من أمثالها. إنها تلك الفئة التي تجهد نفسها وتطمع في إقناع الآخرين بتغليف الحقائق والأحداث بغير قليل من المبررات الهشة المستسلمة للكسل وعدم الرغبة في تجاوز الواقع ومثبطاته. إنها نوعية من بشر لا يستسيغون العيش إلا في كنف سلطة قاهرة متسلطة متعالية، دونما أي طموح أو رغبة في استشراف أفق آخر.
هكذا تبدو بعض شخصيات إدريس الخوري القصصية، مشدودة إلى وهم المواضعات البالية المتوهمة، مما جعل منها مجرد كائنات قصبية، رغم كونها تتنفس هواء العصر وتمشي في الأسواق، وتلتقي الكاتب في بعض حاناته وأمكنته الأثيرة على امتداد الوطن.
عزيز أزغاي
شاعر وتشكيلي من المغرب