لا شك أن التجربة القصصية للكاتب المغربي إدريس الخوري تثير اهتماما كبيرا بها، فهي تجربة مبتكرة وتلقائية تحتفظ بجدتها وتوترها وعمقها، مما يفسر المكانة الخاصة التي تحتلها في الأدب المغربي المعاصر، وكذلك تمايزها داخل القصة العربية. فقد كان لها أثرها على أجيال من كتاب القصة، كما كان لها دورها في تطوير المفهوم حول القصة كفعل يلامس ما هو من صميم إشكاليات العالم والذات والقيم. لذلك حظيت بدراسات ومتابعات عديدة تبأرت حول مظاهر مختلفة من ثوابتها الإبداعية وجمالياتها وعلاقتها بمواضعات الثقافة والمجتمع ومنظورات التلقي. كل ذلك لأن الخوري من الكتاب القلائل الذين لم يشيدوا منجزهم القصصي على الدعاية المسنودة بعوامل سياسية أو اجتماعية آنية، بل على الجرأة والصدق والموهبة المتوقدة.
لعلّ ما أكسب تجربته هذا الحضور الخاص في فضاء الإبداع المغربي الحديث لا ينحصر فقط فيما تحقق لها من تميز على مستوى البناء واللغة والسرد وغيرها من الخصائص الأسلوبية التي تشيد بها ملموسيتها بالقياس إلى النصوص التي يجمعها معها الانتماء مقوليا إلى نفس الجنس، وإنما كذلك لموقع كاتبها في التأسيس للكتابة القصصية والانتقال بها إلى مهاد جديدة تلتحم فيها باليومي البائس والألم الطاحن، وتستوحي أحلام المشردين المتسكعين، كما تقلّب فيها صفحات الذات وتخبر عن أحوالها في لغة مناسبة تستهدي بإحساس الكاتب الخاص وسخريته التي لا تكاد تتميز من الحزن. لقد كان إدريس الخوري إلى جانب محمد شكري ومحمد زفزاف مبدعين ثلاثة ولدوا في نفس الزمن تقريبا وعن حياتهم الشقية بين الفقراء والمهمشين والمنسيين كتبوا، وعن عذاباتهم وأفراحهم وأتراحهم، اجترحوا تلك الكلمات العذبة التي أحبها الكثيرون في بلادهم وفي غير بلادهم(2). لذلك شكلت نصوصهم خلفية ضافية لجيلين لاحقين أمّنا للكتابة القصصية وضعا اعتباريا متوهجا. غير أن اسم الخوري يبرز بين هؤلاء مختلفا ولافتا، خاصة فيما يتعلق بموهبته التي صنعت قصصه وصممت الشكل الذي اختاره لكتابتها، مصرا من خلال نصوصه على أخذ القصة إلى مواجهة الواقع، وترتيب وضعياتها سواء في علاقتها بتجربة الكتابة مغربيا وعربيا، أو في علاقتها بالسياق الثقافي والاجتماعي الذي تمتاح منه أنساقها ونماذجها التمثيلية الموصولة بالأعماق وبالمعيش الدنيوي في فرحه وبؤسه، في الاتصال به والاغتراب عنه. فنظرة الكاتب للكتابة ولأدواتها وعناصرها المختلفة، لا تكون خلف إبداع نصوص مغايرة وحسب، بل تحمل في طياتها كذلك فكرا وموقفا ورؤية جديدة. هذا المضمون هو الذي يهب تجربة الخوري الكتابية عمقها وغناها بأنماطها، واستضافتها لما تحقق به متخيلها وتشيد به دلالاتها وخصوصيتها على مستوى الرؤية والتعبير. فهي تجربة استطاعت أن تحفر في السرد المغربي الحديث مجرى مميزا يتعاظم تأثيره باستمرار.
تتعين مجموعته القصصية «حزن في الرأس وفي القلب» من بين أكثر نصوصه احتفاء بالعفوي والعابر واليومي، وسعيا إلى تملك الذات وتشخيص ما يبدو من صميم عالمها ووجودها الخاص. وبدهي أن تجربة قصصية تقوم، في جانب أساسي منها، على تبئير السرد على الإنسان والعالم الذي يعيش فيه، سوف لن يكون لها خيار في بذل جهود حثيثة في التكثيف والصقل والثقافة، واجتراح اللغة الملائمة القمينة بتفكيك الرؤية الواحدية وبلورة علاقات جديدة بالفرد تستوحي التعدد الذي يسكن الخطاب الذي يتحدثه والعالم الذي يعيش فيه الناضح بالإحباط والسقوط. ومن هذه الزاوية التي لا يفارق فيها النص سؤال اللحظة ومناخها التراجيدي المصور لمزاج المعاناة، تتجلى أهمية هذه المجموعة القصصية، خاصة في الدلالة على الجهد المبذول في الكتابة سواء على مستوى تأمين البناء المتماسك أو على مستوى ربط القصة، تخييليا، بما يستوحي تطلع الذات إلى التحرر ومجابهة التسلط بأشكاله وتجلياته المختلفة. فنحن بإزاء نص لا يقربنا من كاتب له صوته الخاص في التجربة القصصية المغربية وحسب، بل يسمح لنا كذلك بالتعرف على الاجتراحات التي قدمتها كتابة الخوري مبكرا وهي تحقق لنفسها تماسكها وجماليتها المؤسسة على المباشر المحسوس اليومي، والابتعاد عن المتعالي أو التاريخي.
ما يلفت النظر لأول وهلة في هذه المجموعة هو أنها صدرت سنة 1973 وبالتالي فهي من النصوص الأولى التي دشن بها إدريس الخوري حضوره المتألق في فضاء القصة المغربية القصيرة. فهو عندما بدأ الكتابة لم يكن معنيا بأن يؤمّن للقصة شكلا جديدا، رغم انتمائه إلى جيل كان يطمح إلى أن يكون منجزه جزءا من الأفق الذي يشكله التجديد عبر اختباره العسير والقاسي، بقدر ما كان يبحث لها عن اللغة الموصولة بمعاناة الناس البسطاء والتي تولد من الأحياء الشعبية التي يقطنون فيها. تضم هذه المجموعة ستة عشر نصا قصصيا، تسمح مضامينها بتصنيفها ضمن «السردية العفوية» المؤسّسة على التقاط الأحداث والتفاصيل المختلفة التي تصادفها الشخصيات في حياتها اليومية في مختلف الفضاءات التي ترتادها. ولا يعني هذا الالتصاق باليومي العاري أن سؤال الكتابة عند إدريس الخوري في هذا النص لا يستدعي الجهد المطلوب جماليا في لملمة شتات ما تبنيه الكتابة نصيا، بل ما أقصده هو أن النثر القصصي في شفافيته وهجنته وابتعاده عن القوالب اللغوية المكرسة، يظهر الأفق الذي تفترعه الكتابة القصصية في إنزال اللغة من عليائها البالغ التجريد إلى مفردات اليومي والعابر كمتخيل قصصي يعيد بناء الذات والمجتمع والعالم، بما هي محافل تحاور كل ما يشكل امتدادا لرحلة الإنسان بحثا عن وجوده الخاص في تعدده وانفتاحه ودفقه الدائم.
لذلك فهذا الرّهان المبكر على إعطاء الكتابة القصصية نفسا خاصا يحقق لها أدبيتها على أساس طريقة في الكتابة تختلف عن المقتضيات التي حكمت السرد المغربي خلال بداية النصف الثاني من القرن العشرين يكشف بالملموس إصرار الخوري على الوفاء للكتابة بما هي حاجة وجودية دون الانشغال بما يمكن أن تغدقه البداية من تميز واختلاف قياسا إلى الأسماء المكرسة. وليس غريبا أن تبادله القصة القصيرة الوفاء المضاعف، وهو الذي مزجها بتاريخه الخاص، وبالبيئة التي تكون فيها إنسانا ومبدعا ومثقفا.
لنقل إن هذا الالتحام بين القصة وما يتعين من صميم التجربة الوجودية للشخصيات يستشفه القارئ منذ الوهلة الأولى للشروع في قراءة هذه المجموعة. ففي نص «الذئاب على الشاطئ» يقترب السارد من هذه التخوم من خلال تكثيف الرمزيات التي تحيل عليها مواقف الشخصيات ولغاتها. رجل بسيط وامرأة مثله يبحثان عن حريتهما: حرية البوح لبعضهما البعض غير أن العالم الذي يسكنان فيه يطاردهما بأشكال مختلفة. فلا الشاطئ، في وصفه فضاء عاما ومفتوحا يوفر لهما إمكانية مقاومة ما يقف خلف انتفاء الحب من حياتهما، ولا الشرط الاجتماعي يغدق عليهما بما قد يحققان به متعة محدودة. وبما أن عناقا قد تحرم الشخصيات من أن تتبادله في فضاء مفتوح وعام كالشاطئ يُشحنُ عند الخوري بالاحتجاج الصارخ والعميق على الكبت والضغط الاجتماعيين، فإن هذا المتخيل المشدود إلى اليومي والعابر والمباشر المنقول عبر البصر والمحيل على ما يحدث في النفس، يتخذ ها هنا بعدا اجتماعيا ونفسيا لأن الشخصيتين لا تنجحان في التغلب على الحرمان، ولا تتمكنان من الاندماج في العالم نتيجة الشرخ العميق بينهما. وهذا التكثيف لإيقاع الذات والعالم في الخطاب لا يأخذ في المجموعة شكل تفصيل ممل، يثقل على النص بالقيود المرجعية التي ترهن القراءة للإحالة وتمسك بخناق التأويل، بل يأخذ عند الخوري من خلال اللغة الشفافة المتحررة من البلاغية والتجريد والملتحمة بهويات متكلميها نبرة أسلوبية قوية، تسند فعل الكتابة في سعيها للبوح والإفصاح عما لا يوصف باعتباره جزءا لا يتجزأ من ما يحفّ بالمبدع من مجهولات وما يكابده من أهوالها.
هذا التمجيد لما هو شفاف والازدراء من السرد المصنوع يشكل أساس القدرة التكلمية للكتابة عند الخوري. ففي نص «المدينة الرمادية» نلاحظ أن الدال نفسه لا يفارق المتخيل الذي تشيده المجموعة حتى في تنوع التيمات والشخصيات واللغات والفضاءات. فدال القهر والإحساس بالألم لا يتردد من خلال النماذج الإنسانية التي تنهض بتمثيلها القصة وحسب، إذ الإنسان عينه في بساطته وتلقائيته وعفويته وحبه للحياة، يبدو مأزوما، غريبا، مشدودا إلى الإحساس بأنه ملفوظ ومنبوذ، بل يتجلى كذلك من خلال الفضاءات المختلفة التي تتحرك فيها الشخصيات. فالحافلة التي تستقلها الشخصية تلفظها، والشارع الفضاء غير المفصول عن المدينة في دلالته على الحياة والدينامية يرفض مداعبته، والمرأة الجميلة التي أرادها صديقة تسخر منه. أما المدينة فلا تحضر ها هنا بشوارعها المكتظة ومقاهيها وساحاتها فقط، بل تحضر كذلك في الغربة والحرمان اللذين تشيعانهما لكأنها مرآة للإنسان الذي يجول فيها. فهذه العوالم المرجعية بأنساقها الأدبية والاجتماعية والثقافية التي ينتقيها الكاتب ويكثفها ويشتغل على تقاطعاتها المتعددة لا تعطي للنص القصصي كينونته وحياته الخاصة وحسب، بل تحرض على مستوى التلقي على مصاحبته حواريا قصد الإمساك بقصديته غير المفصولة عن رحلة الإنسان وبحثه الدائم عما ينقده من الانتحار بسبب الأفكار اللامجدية.
لنقل إننا بإزاء هذه المجموعة نلفي الفرد المأزوم، المقهور والمقذوف في العالم عاريا من أي رعاية، لا يلتقي بأحلامه إلا تحت عنوان الخيبة والخسارة مشخصة في واقع مسدود الأفق. هذا الفرد حتى وإن تحرك في العالم دلالة على وجوده وحضوره وسط المجتمع، فإنه لا يشعر بالانتماء إلى المجتمع والإنسان. حتى البيت الذي يأويه يشعره بالغربة والانفصال. لذلك تشق الشخصية طريقها في هذا العالم الذي يضطهدها ويهددها بالتلاشي وسط كتل بشرية تجد خلاصها في الغيبي واليومي المبتذل دون مناوشة السلطة وممارساتها المستمرة خلف معاناتهم وبؤسهم وشقائهم [الليل أسود مثل أفريقيا: هواجس، افتراضات، الأشجار قديمة قدم الحي الفقير وواقفة مثل حراس، الفيلات الأنيقة شاهدة على الثراء والرفاهية، كلاب تنبح، الديكة تصيح من كل جانب، هذا هو عالم الفجر الباكر، كان حمام الحي قد فتح أبوابه، بالإضافة إلى الذين يمرون الآن ليتوضأوا ويصلوا صلاة الصبح، كان الآخرون الذين يسرعون لإزالة «الجنابة» فقط! المضاجعة هي المشروع اليومي المستهلك عندنا في هذا الحي الفقير، الكثير النسل، يضاف إليها الوضوء والصلاة والنوم والنميمة، والتجسس لصالح المقدم.] (المجموعة، ص41).
على هذا النحو إذن يتم استنبات جملة من القرائن التخيلية لتعميق مأساة الذات والدلالة على الواقع المأزوم للشخصية، وما يطبعه من ممارسات وأنساق واعتقادات مترسبة في اللاوعي، لكنها تبرز كذلك من خلال أفعالها وتصرفاتها واختياراتها. غير أن ما يثير الانتباه أكثر في هذه المجموعة هو أن هذا الحضور لليومي والمتكرر في معيش الشخصيات، عندما يخضع للتمحيص من خلال اللغة السردية التي لا تعوزها الجرأة في التوغل عميقا في ما يبدو محرما أو ممنوعا الحديث فيه، فإنه ينهض بتفكيك الأنساق الاجتماعية والثقافية والإيديولوجية التي تعوق تحرر الفرد والمجتمع. فالتمثيلات التي تشتغل على العالم السفلي، بما يسوده من هامشية وفقر وحرمان، تنزع بالكتابة في هذه المجموعة إلى الاتسام بالانفتاح الدلالي وجعلها قابلة لقراءات متعددة. [قال علال في نفسه ذاك المساء وهو شبه حزين: لقد بت أعتقد أن ما من حلّ بالنسبة للشخص المتأزم، مثلي، كالتسكع في الطرقات، آنذاك أكون قد هدأت قليلا، التسكع هو التعويض عن حصول قلق ما، خصوصا إذا انتهى بالحصول على امرأة، أليس هذا جميلا؟ ومهما يكن فإنه جد شخصي] (المجموعة، ص44). فالتسكع يحمل ها هنا معاني الضياع والقلق والضيق وعدم الارتياح من المدينة، ومن المجتمع الذي يتسارع إيقاع تبدله، كما يكتسي كذلك طابع الحلم بفضاء آخر يغدق على الفرد بما يفيء إليه من هجير وقحل المدينة. [آخذ سيجارة ثانية وأتقوقع داخل جلابتي كفلاح في الشاوية، يا سهول الشاوية، إني أحن إليك وأتمنى أن أتمرغ فوق تربتك الحمراء] (المجموعة، ص81) وسواء كان هذا الحنين موجها نحو فضاء بديل أو نحو الكتابة أو المرأة أو الأصدقاء، فإنه يشكل ملمحا رومانسيا كانت سحابته تغمر سماء الأدب السبعيني.
إن اشتغال إدريس الخوري على هذا العالم السفلي انطلاقا من الفضاءات واللوحات والومضات والأحداث التي تعرضها نصوص المجموعة يبلغ ذروة التحامه بالكياني والوجودي عندما تغدو الشخصيات المتعددة بألقابها المختلفة نسخا متكررة. فالعالم الذي يحاصرها بشتى ألوان السأم والحزن والإحساس بالتلاشي يصعب أن نعثر فيه على نماذج تحقق اكتمالها. فسواء وجدت بالبيت أو في المدينة أو في الشارع، فهي لا تشعر أنها تتنفس غير ما يوحي بالعجز والانكسار. وليس غريبا أن تتمادى في ذلك السلوك حتى وإن بدا في أقصى تجلياته سخافة أو ابتذالا. فهذا التشبع باليومي لا يرتبط فقط بمجرد قصدية القصة في تمثل الفضاء الاجتماعي لشخصياتها، وبوصف سخف اليومي الذي يستبد بها، بل يؤشر على ما هو أكثر من ذلك: أي يسند إلى القصة مهمة البحث في ما يقف خلف إلغاء الإنسان ويحرمه من أن يتعرّف ذاته. فهذا التركيز على الإنسان والفضاء الذي يعيش فيه يورط نصوص الخوري في ضرب من العلاقة المركبة بسياق كتابتها وبتجربة الذات القائمة خلف إنتاجها. فالبلاغة السردية الناهضة ها هنا على تكثيف الصلة بالمتخيل الاجتماعي وبالتجارب، تستوجب الابتعاد عن التأويل الاختزالي وما يطبعه من أحادية، والإصرار على محاورتها في دنيويتها أي باعتبارها موقفا ورؤية حول الإنسان والعالم.
وإذا انتقلنا إلى نصوص أخرى من المجموعة لا سيما «المصلوب» و«السرطان» و«أنشودة اليوم الآخر» لوجدنا أن في فضاء المدينة، وهو يأخذ في سرد إدريس الخوري وجودا مثيرا للاهتمام بما يحمله من كثافة دلالية، يَجدُ الألم والضياع والإحساس باللاجدوى طريقه المتعدد، حيث يتحول النص القصصي إلى رثاء للمدينة والإنسان والعيون المهمشة والأجساد المتهالكة. وعلى هذا النحو يتوغل الكاتب في فضاءاته فلا يعنى بوجودها الفيزيقي، بل يشخص العلاقات السائدة فيها والصور الدالة عليها. فالحافلة مثلا لا يعنيه منها سوى ما يحدث داخلها من ممارسات عندما [تتشابك فيها الأرجل والسياقان مثل أشجار غابة كثيفة]. وهو مشهد لا يناظره في الدلالة على الكآبة السوداء سوى مشهد [لا راف] رغم انبناء الصورة على حدين مختلفين. فـ [لا راف] لا تبدو ها هنا مجازا للحافلة وحسب، بل للمدينة كذلك، وللحياة اليومية التي أنهكت الإنسان. ولاشك أن القارئ الذي يعرف الخلفية التي تميز نصوص الخوري ضمن السردية العربية والتصور الذي تؤسس له حول وظيفتها ودورها بعيدا عن التجريب، يدرك ما يقتضيه تعويض هذه العناصر الغائبة من بدائل قمينة بالتأثير في القارئ وإقناعه بأهميتها.
إذا كان الناقد المغربي عبد الرحيم مؤدن قد اعتبر الإرث السبعيني محطة أساسية في التأريخ للكتابة القصصية وللأدب المغربي المعاصر بأجناسه المختلفة اعتبارا لكون هذا العقد «حمل علامات دالة في التاريخ والمجتمع والثقافة. كما أن هذا العقد عمق في الذين مارسوا – ومازال بعضهم يمارس ذلك إلى الآن- الكتابة، ذلك الإحساس الفاجع – وهو ما زال مستمرا إلى الآن- بهزيمة 1967 وانعكاساتها على مستوى القيم والهوية ودور المثقف إلى غير ذلك من المجالات المختلفة.. إلى الحد الذي أصبح فيه هذا العقد يمثل قطيعة [بين «ما قبل» و «ما بعد»] معيّنة تسمح بالحديث عن جيل سبعيني وأدب سبعيني وقصص سبعيني امتلك عناصر الاختلاف والتميز والفرادة بالقياس إلى المرحلة السابقة عليه»(3). فإن هذا السياق «السبعيني» وإن كان يؤشر على التقاء تجارب الكثير من كتاب القصة القصيرة في استيحاء موضوعات وأفكار وهموم وأحلام تترجم علاقتهم بالواقع وبالخطابات المتعددة المتداولة فيه، فإنه يكشف، جماليا، عن مساحات من السمات المميزة لكل واحد منهم على مستوى الصوغ السردي واللغات والرؤيات والموضوعات والشخصيات المشكلة لبؤر النصوص.
لذلك فالناظر من هذه الزاوية لمجموعة «حزن في الرأس وفي القلب»، يرى إدريس الخوري كاتبا مختلفا بين هؤلاء المبدعين الممثلين لجيل السبعينيات على مستوى منجزه النصي وما يبتدعه من طرائق ولغات وموضوعات وتنويع كيفيات الاشتغال عليها، حيث يرتقي بالمشاهد اليومية إلى المستوى الذي تغدو فيه تمثيلا لمعاناة الإنسان واغترابه وعزلته [إنه ليس يومي أنا، إنه يومهم هم. إن الأيام كلها ليست أيامي. إني إكره يوم الأحد، يجب ألا أغادر الغرفة قط]. فهذا التشديد من جانب الشخصية على الشروخ المتعمقة الفاصلة بينها وبين واقعها يشكل عنصرا بارزا في كتابته بشكل عام، حيث القصة لا تلتقي بالجدوى من كتابتها إلا في الانحياز للواقع والتقاط ما يكتنفه من أوجه قهر وتسلط وسحق بحثا عن إمكان فضحه وتعريته وتجاوزه. وعلى هذا الأساس نتصور أن انطلاق نصوص الخوري من وظيفة السرد والتزامه، لم يحمها من النسيان وحسب، بل أمّن لها وجودا متوهجا عبر القراءات المختلفة والافتتان المستمر بما تدخره من افتراضات وأشكال المعنى. فتجربته القصصية الرائدة تكمن في الأفق الذي رسخته للسرد المغربي الحديث، وفي كسرها للأنماط والأشكال التقليدية مبدعا النص القصصي الذي يشبهه في الانطلاق من الهامش الذي تصنعه مساحات الرفض والتمرد والعفوية والتلقائية.
هوامش
1 – إدريس الخوري: حزن في القلب والرأس، قصص، دار توبقال، الطبعة الثانية، 2008.
2 – حسونة المصباحي: إدريس الخوري طائر يحلق على وجه الأرض، مجلة آفاق، عدد مزدوج 63-64، 2000، ص111.
3 – عبد الرحيم مؤدن: الإرث «السبعيني» والقصة القصيرة عند كتاب الحساسية الجديدة، مجلة الآداب، الأدب المغربي الحديث، العددان الأول والثاني، يناير- فبراير 1995، ص122.
إدريس الخضراوي
ناقد أدبي من المغرب