كاتبة وناقدة من عُمان .
ابراهيم نصرالله شاعر وروائي معروف من مواليد عمّان (الأردن) من أبوين فلسطينيين اقتلعا من أرضهما عام 1949 صدر له العديد من الدواوين الشعرية والروايات والكتب، كما ترجمت أعماله الى العديد من اللغات العالمية.. ونال العديد من الجوائز..
[ قبل أن نبدأ..
ll هذه زيارتك الأولى لمسقط. ماذا كان يسكن مخيلتك عن هذه المدينة قبل أن تزورها؟
– عُمان تاريخ طويل، ممتد ومدهش، وقليلة هي المدن العربية التي مثلها، إنها في المكان وخارجه. جئت موزّعا بين ذلك التاريخ وهذا الحاضر، لكن، ولأن الزيارة قصيرة لم يتح لي التعرف إلا على بعض الحاضر، وهو الحاضر الإنساني الأليف والطيب والدافئ.
ll لا أدري، كنت أود التحدث معك وأنت في مسقط عن مدى معرفتك أو إطلاعك عن الأدب في عُمان، لكن الوقت لم يتسع.
– هناك أسماء عُمانية حاضرة في الأدب العربي، وبخاصة الأسماء التي نشرت في الخارج، سواء في مصر أو بيروت أو الأردن أو دمشق…
وكما تعرفين مشكلة التوزيع والنشر هي الأساس في مسألة حضور الكتاب أو عدم حضوره، لأنني لا أعوّل كثيرا على الكتب التي تصل فقط عبر الصداقات وعبر الأصدقاء؛ هذا أمر لا بد منه أحيانا، لكنه ليس بالتأكيد الحل، لأن الكتاب حين يطبع يجب أن يصل إلى القراء، ومن ضمنهم الكتاب. لكني، هنا اطلعت على مشاريع نشر مشتركة، مع بعض دور النشر، وأظن أن هذه الخطوة في غاية الأهمية، فقد نجحت في البحرين وكذلك في السعودية.
ll زرت بلا شك بعض الأماكن في مسقط، يا ترى ما الذي تركته فيك هذه الأماكن؟ ماذا أثارت بداخلك من شجون؟ وهل تتشابه المدن أو العواصم في شيء؟
– هناك تقاطعات كثيرة بين المدن، بحيث تختلط أحيانا، فلا يعرف الإنسان هل يمر في هذا الشارع لأول مرة أم أنه مرّ فيه من قبل. وهذا يحدث حين تزور الكثير من المدن. أما ما أثار إعجابي فعلا في عُمان فهو الحفاظ على النمط المعماري، وهذا يعطي المدينة بشكل عام شخصية لا يمكن أن تختلط بمدن أخرى.
ll في الشعر يتجدد الكلام القديم عن قصيدة النثر والتفعيلة واليوم يكتب الذين كانوا لا يكتبون الشعر شعرا. إذا سمحت لي، أي سؤال عن الشعر سأوجهه لك هو شكل من أشكال خيانة المعنى. وأنت تقرأ من ديوانك الأخير (لو كنت مايسترو) وددنا ألا تتوقف.
ماذا يشغلك في أثناء قراءة القصيدة؟ بماذا تهتم؟
– يشغلني دائما وجود شخص ما في القاعة، أحس أن القراءة موجهة إليه، أحيانا أختاره قبل الدخول إلى القاعة، وأحيانا في الفترة التي يتم فيها تقديمي فيها. وقد كتبت عن ذلك في كتابي (السيرة الطائرة)، وتحدثت عن صديقة، ممثلة، كنت بدأت القراءة لها في أمسية بيروتية، وحين خرجت، بسبب ضرورة إدخال أمها للمستشفى بسرعة، ارتبكت، إذ من الصعب العثور على إنسان آخر بسهولة.
يهمني أيضا أن أحس بدفء القاعة، بمعنى أن هناك قاعات تبدو مسطحة وغير حميمة؛ ولا أحب القراءة في العراء، بمعنى الأمسيات خارج القاعات، أحس بأن للشعر مذاقا ورائحة ودفئا يجب أن تظل داخل المكان.
أما الشيء الغريب الذي أحس بأنه يفسد الأمسية أحيانا أو يجعلها ناجحة فهو الميكروفون، وهندسة الصوت، ففي جو متقن تستطيع أن تقرأ بيسر وسهولة، كأنك تبوح، دون أن تضطر للصراخ لإيصال صوتك.
وأضيف هنا، إن القصائد كالنهر لا يمكن أن تستحم به مرتين، فالقصيدة في كل مرة هي قصيدة مختلفة، لأن الأجواء مختلفة، وبعض القصائد يكون لها حضورها الأبهى في أمسية بعينها، ولا تتكرر هذه الحالة. كما أن بعض القصائد، لفرط جرعتها القوية عاطفيا، لا أستطيع قراءتها، لأن القراءة تصبح قاسية مثل لحظة الكتابة، ولذا أتحاشى قراءتها في أمسيات عامة، مثل بعض قصائد (مرايا الملائكة) و (بسم الأم والابن).
ll كونك شاعرا وروائيا وفنانا تشكيليا، هذا التداخل لا شك يمد الرواية كما أن الشعر يمد الصورة واللقطة. في أي لحظة شعرت بأن جملة للرواية مكانها يصلح للقصيدة؟ ومتى وجدت أن لفظة شعرية ما سوف تفتتها لقطة سينمائية فأهملتها لمصلحة العدسة؟
– كثيرة هي الجمل التي تمر في الروايات وأحسّها بؤرا شعرية، وكذلك الأمر في القصائد، إذ تبدو رباعية صغيرة أحيانا شاسعة إلى حد لا يوصف، وقد حدث معي حينما كتبت ذات يوم هذه الرباعية:
الذي قتلكْ
في المساء ليحتلَّ صبحا مكانكْ
شابَ.. ولما يزل عاجزا
أن يمتطي يا حبيـبي حصانكْ
هذه الرباعية أرّقتني كثيرا في قدرتها على احتضان زمن طويل ومصائر أربع شخصيات، القاتل والحبيبة والحبيب القتيل والحصان. وهكذا ظلت تتفاعل إلى أن وجدت مداها الأرحب في روايتي (زمن الخيول البيضاء)، وإذا بها تملأ بقوة عشرات الصفحات. ومن هذا الرباعية ولدت ريحانة والهباب والحصان والزوج القتيل.
وهناك أيضا قصائد أفكر فيها كأفلام قصيرة، مثل (الحفل)، وأخرى كرواية كاملة مثل (الدليل). وأظن أن هذه سمة أساس من سمات الشعر في كثافته غير العادية، وتداخل السرد مع الشعر.
أما العدسة فهي دائما تمنحني شيئا آخر، هو العين الثالثة؛ وهذه، ليس من الضرورة أن تكون بشكل مباشر في القصيدة أو الرواية، هذه تعلمك أن ترى بالكلمات.
مرحلة الصفر الفلسطيني..
ll قلت في اللقاء بالنادي الثقافي «كل شيء يريد من هذا الشعب أن ينسى» وقبل أن ننسى، حدثنا عن بداياتك وعن المؤثرات التي تركت بصمة قوية في داخلك وفي تكوينك.
– حياتي في مخيم اللاجئين هي المرحلة الأهم في وعيي للنكبة الفلسطينية، لأنني أنا الطفل المولود بعد سنوات من طرد أهلي من وطنهم، وجدت نفسي مباشرة في أتون المأساة بكل ما تعنيه من تشرد وضياع وفقدان للدليل. إنها لحظة تلقي الإنسان تلك الضربة القاتلة على الرأس مباشرة، لكنها، لحسن الحظ لم تقتله، إنها تصيبه بدوار ما، دوار مرعب لا يعرف إلى ما سينتهي، هل يسقط؟ أم يظل يدور مترنحا؟ هل ستفقده حياته؟ ذاكرته؟ أم سينجو بأعجوبة؟ ونجونا بأعجوبة، لكن كان من الصعب ألا أفلت من مؤثرات تلك الضربة، وأنا أشاهد لحظة الترنح تلك التي كان يمكن أن تجرفني وتجرف أهلي إلى ليل لا خروج منه.
ll ذكرت في شهادتك الذاتية بأن المصادفة التي حدثت مع القراءة هي قراءة الأعمال الحزينة. اليوم هل يسكنك حزن ما؟ ما شكله؟ كيف تبدده؟
– الحزن جزء أساسي من تاريخ البشر، وللأسف ليس هناك ما يمكن أن نطلق عليه: أدب أفراح. هناك أدب أحزان دائما، لأن الإنسان لم يصل إلى حلّ قاطع لأي مسألة من المسائل التي أرّقت قلبه منذ عشرات الآلاف من السنوات.
الكتابة هي محاورة لحالة الحزن هذه، والحالة الفلسطينية زاخرة بهذا الحزن، لكنك حين تكتب تعيش؛ تعيش حيوات أخرى وأزمنة أخرى. ولعل هذا هو تعويض عن كل ما فقدته، كإنسان وكفلسطيني أيضا. ولذلك تفرح وأنت تبدد كل هذا الموت الذي يلتفّ حولك، تفرح لأنك قادر على تأسيس ذاكرة جديدة لك وللبشر حولك، تفرح لأنك موجة ضد النسيان والاطمئنان المريض، تفرح لأنك تغدو في أماكن كثيرة وقلوب كثيرة.
ll ما زلنا مع شهادتك الذاتية. بدأت الكتابة في المرحلة الإعدادية بقصيدة هجاء في أستاذ اللغة العربية اسمه «ربيع. تقول إنك تعلمت أقوى درس في معنى الأدب وما الذي يهجوه أو يمدحه. ماذا كان ذلك الدرس؟
– حين هجوت ذلك الأستاذ واستشهد بعد أشهر على بعد مئات الأمتار من بيتنا، حزنت كثيرا، بل أحسست بالعار، إذ كيف يمكن أن تبدأ حياتك ككاتب!! بهجاء شهيد؟!
منذ ذلك اليوم أحسست أن القصائد تكتب من أجل الناس، لا ضدهم، وهذا هو أهم درس تعلمته، لأنني وجدت لأول مرة، بهذه التجربة، موقعي في هذه الكتل الكبيرة التي نسميها منافي أو أوطان.
أسئلة وقضايا في الرواية:-
ll ما المؤثرات الكبرى الفاعلة في مسارك الروائي وتحولات مسارك الإبداعي؟
– حياتي في المخيم، ورحلتي للملكة العربية السعودية، التي كانت أول تحول لي في اتجاه الرواية، لأنها بحد ذاتها تجربة روائية بتشابكاتها الأكثر اتساعا من قصيدة. ولا أعرف حقيقة، هل كان يمكن أن أكون روائيا لو لم أذهب إلى هناك أم لا؟! لقد ساهمت السنتان اللتان أمضيتهما هناك في خلق وعي كبير بالمكان والزمان وسؤال المصير لي كفلسطيني أيضا.
ربما كان يمكن أن أكتب الرواية لو لم أذهب، ولكنني لا أعرف عن أي موضوع كنت سأكتب، ومتى ستعثر الرواية على مكان لها في مسيرتي الشعرية.
خارج تلك التجربة، ساهم وعيي بما يحدث لشعبي في دفعي لمناطق جديدة أخرى، لكن ذلك ما كان يمكن أن يتطور إلا بتعرفي إلى عدد كبير من الكتابات المهمة مثل: أعمال ديستويفسكي، إميل زولا، موباسان، سارتر، نجيب محفوظ وغسان كنفاني، وفلوبير وكامو والرواية الإفريقية والهندية واليابانية والأمريكية اللاتينية…
هذا الفيض كله، يطرح عليك سؤالا لا يرحم: أين أنت بين هؤلاء؟ ولذا عليك أن تعمل كثيرا لتجد لك فسحة صغيرة تدخل منها، لأنك لا تستطيع أن تخدم قضايا روحك وقضايا شعبك إلا بأدب رفيع، أما الأدب الرديء فإنه بالتأكيد سيسيء إليك وإلى شعبك.
ll ثمة رأي يقول: «إن رواية زمن الخيول البيضاء» هي العمود الفقري لمشروعك الروائي الكبير عن الملهاة الفلسطينية، بهذه الشمولية وهذا الاتساع، مقدما بذلك الرواية المضادة للرواية الصهيونية عن أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»- سأفترض جدلا أنك تتفق مع هذا الرأي. ما المؤثرات الكبرى الفاعلة في مسارك الروائي؟
– الملهاة الفلسطينية مشروع متكامل ومفتوح أيضا، وقد كان بحاجة لزمن الخيول البيضاء، لأنها الرواية المفقودة، في الأدب الفلسطيني، كما وصفها عدد من النقاد، ودونها لا يكتمل هذا المشروع، كما لا يمكن أن يكتمل أو يقترب من هذا في غياب (طيور الحذر) وسواها. لكن، وكما أشرت في جوابي السابق، وأضيف هنا، إن كل رواية هي عالم بكامله، وعليك أن تحيط بهذا العالم، وزمن الخيول كانت الرواية التي أبحرت مسافة أبعد في التاريخ، لأنها ذهبت إلى نهايات القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، ولذا كانت بحاجة إلى أشياء كثيرة، فأنت حين تذهب في رحلة لمدة يوم واحد إلى غابة قريبة، تحتاج لأشياء بسيطة، ولكنك حين تذهب لرحلة ستمتد أشهرا في غابة أو صحراء فأنت بحاجة لأشياء مختلفة تماما. وكانت المعضلة الأكبر أنني لم أعش هناك، في ذلك الزمان. لكن النتيجة كانت في النهاية مفاجئة لي، رغم كل الخوف الذي سكنني قبل الرحيل إلى هناك.
ll رواية (زمن الخيول البيضاء) اعتمدت في كتابتها على كثير من المذكرات والكتب وفيها تشير إلى الشهادات الشفوية الطويلة ما بين عامي 985و1986م وفيها تحكي صراحة عن حكاية الدّير مع قرية (الهادية) وهي قريتَك. سؤالي إلى أي مدى يتاح للكاتب الاستعانة بالخاص؟ كأنك تريد أن تضعنا أمام سيرة-عبر ذاتية، فيها الحقيقة في حين كما نفهم_أو نريد أن نفهم ونطمئن إلى هذا_أن الرواية بنية كلية في المُتخيل؟
– الكاتب يستعين بكل شيء حين يكتب الرواية، يستعين بخاص يعمّمه، وبعام يخصصه أحيانا، فكل معارفك تصبح مواد أولية لعملك الروائي، وفوق هذا رؤيتك، بل قبل هذا.
يمكنني أن أعطي المواد التي أعرفها أو جمعتها لكاتب غيري، ولكن هل سيكتب زمن الخيول البيضاء التي أنجزت؟ لا أظن ذلك، قد يكتب شيئا أفضل أو شيئا أقل قيمة. وهنا يأتي التعقيد في الكتابة، لأنها ليست عملية حسابية دقيقة، فبعض الشخصيات تتطور على نحو استثنائي في الكتابة، وبعض الشخصيات يمكن أن تندمج، وبعض الشخصيات يمكن أن تنقسم. ثم تأتي مسألة إيجاد حاضنة مكانية وزمانية تحتضن الشهادات المتضاربة أحيانا، والخبرات التي وقعت في أماكن بعيدة عن بعضها البعض كثيرا.
وهنا تتحوّل الرواية شئنا أم أبينا إلى متخيل، لأنها في حقيقتها مختلفة تماما على الصورة التي كانت عليها. مثل التراب أو الحجارة، فقد نصنع منها سورا أو غرفة أو قصرا أو مستشفى أو طريقا. ويأتي مهندس آخر فيصنع منها الأشياء نفسها ولكن باجتهادات وقوة خيال مختلفة.
ll على مستوى النقد وجمالياته أنت تضعنا أمام أسئلة خفية: لا ينبغي أن نسأل معه ماذا يقول العمل الفني بل كيف يقول؟ شاهد على ذلك رواية (حارس المدينة الضائعة)! هناك أيضا ملمح آخر جمالي في كتابتك، ويتمثل في قفزك المستمر على جدل التجنيس والعصف بالتقاليد لتضعنا بين السرد والوصف والشعر والرسم والسيناريو السينمائي والترسيمات والإعلانات والخبر الصحفي واللقطات المسرحية والصور الفوتوغرافية، إنها كتابة تتحرك على السور الفاصل بين هذه الأنواع والأجناس. كيف تنظر إلى هذا المستوى من القفز؟
– الأعمال الروائية أشبه بالبيوت، وعلى البيوت أن تشبه ساكنيها، وإلا ستبدو الشخصيات مثل الأبناء الصغار الذين يرتدون ثياب آبائهم، أو الآباء الذين يرتدون ثياب صغارهم.
كل عمل روائي له مناخه وله احتياجاته، فأنت لا تستطيع أن تبني عالما من الخيام في بلاد الاسكيمو، كما لا تستطيع أن تبني بيوتا من الثلج في الصحراء.
وإذا وعيت مضامينك ستعي أشكالك، ولذا أقول دائما: إن من لا يعي الشكل لا يعي المضمون، لأن الشكل مضمون بذاته، ووعيك للشكل يعني أنك قرأت وأبحرت في آداب كثيرة، بحيث يصبح باستطاعتك أن تشتق أشكالا جديدة. وفي الحقيقة العمل الإبداعي متعة، ولعب أيضا، وابتكارك لشكل جديد أو طريقة مختلفة في السرد جزء أساسي من المتعة، وهي حقك ككاتب، تماما كما هي حق للقارئ في أن يعثر على شيء جديد في الكتاب الجديد الذي يشتريه.
ما حدث لدي، أن تجربتي كانت لصيقة بأشكال مختلفة من التعبير الأدبي والفني، ومن الطبيعي أن تجد هذه الروافد مصباتها في كتابتي، كما لا يمكن أن توجد عند كاتب آخر يكتفي برافد واحد مثلا، ولو كنت طبيبا أو محاميا لانعكس شيء آخر في ما أكتبه بالتأكيد.
نحن نكوِّن خبرات مختلفة، ونوسع دائرة اهتماماتنا، قصدا، أو مصادفة، ولكن السؤال: ما أهمية تلك الحصيلة إن لم نستخدمها في كتاباتنا؟! بغير ذلك سنتحول مثل مجانين يملكون كل شيء ولا يعون ذلك، أو بخلاء يموتون جوعا وخزائنهم طافحة بالمال.
ll ماذا على الأديب أن يكتب اليوم: رواية جيدة وفق مفاهيم ذاتية تنتمي لذوق ما أو آخر؟ أم يكتب بهدف تمكين دار النشر من أن تبيع؟ أم يكتب لذاته كما يفعلون اليوم؟
– عليه أن يكتب شيئا يحبه، من داخله، وإذا كان ملتصقا بالحياة فسيكتب الشيء الذي يؤرقه تلقائيا ويؤرق القارئ.
الذات شيء أساسي في الكتابة، لكن إذا ما تحولت لمرجع وحيد للكتابة، فإنها قد تكفي لأن تقطع طريقا من خمسة كيلو مترات أو عشرة، لكنها لن تكفي للمواصلة أبعد من ذلك، والذي يقول إن الذات هي المرجع الوحيد، يصدر حكما لصالحه بأنه أغنى من الحياة. ولنعترف، هناك ذوات كثيرة تشكل هذه الحياة، وبعضها أكثر غنى من ذواتنا بكثير؛ ولذلك أقول عليك أن تخرج من ذاتك لتتعلم، كما تخرج من بيتك وتمضي إلى المدرسة ثم إلى الجامعة، ثم إلى العالم كله.
ولدينا مثل ما معناه: أن تكون على ضفة جدول صغير يجري أفضل من أن يكون لديك بئر في البيت ممتلئ. فكل ممتلئ يفرغ أيا كانت الكمية التي فيه إذا لم يكن هناك ما يغذيه.
ll كيف نصل بالأدب العربي للقارئ الغربي؟
– المسألة ليست سهلة، فرغم كل الترجمات التي حصلت، لا أعتقد أننا وصلنا، فأدبنا يستقبل هناك بحذر لأنه جزء من صورتهم الجاهزة عنا، ولم يحدث حتى الآن أن اخترق كتاب الوعي الغربي بعد أن اخترقه جبران بكتابه النبي. ولذا، لم يزل الكتاب الوحيد الذي حقق هذا الانجاز الاستثنائي، ربما لأنه كتب بالإنجليزية أصلا، لكن الأدب الروسي والأمريكي والفرنسي والإفريقي والياباني وسواه من الآداب اخترق الوعي البشري بمئات الكتب.
نحن مصابون بلعنة المكان ولعنة التاريخ ولعنة الصورة الجاهزة لنا كشعوب غير قادرة على زلزلة الوعي البشري بالإبداع.
وحتى ألف ليلة وليلة، فإنها اليوم بعيدة عنا إلى ذلك الحد الذي تبدو معه في أذهانهم أنها ليست لنا.
ll داخل كل إنسان كتاب مهم لا يزال يبحث عنه؟
– هناك كتب كثيرة، يجب أن تُقرأ وتُكتب، لكننا نتحرك في دائرة، اتسعت أم ضاقت، فهي لا تكفي، وتسمى العمر.
ll إذا جاز لك أن تنصح الكتّاب الشباب فبماذا تنصحهم؟
– أن يحترموا كل كتاب كتبه من قبلهم، فمن لا يحترم لا يستطيع أن يتعلَّم، وهناك كتب سنظل نتمنى لو أننا كتبناها مع أن مئات السنوات، بل آلاف السنوات مرت على كتابتها.
ll ما أول قصة / رواية قرأتها وما الإحساس الذي انتابك؟
– لا أذكر تماما أول كتاب، لكن هناك كتبا ظلت لها مكانتها الخاصة مثل البؤساء وذهب مع الريح وآلام فارتر وكوخ العم توم وأحدب نوتردام والأخوة كرامازوف.
ll في المزيج النوعي الذي تنجزه كالشعر والرواية والتشكيل والسينما، وأنت تقرأ ماذا ترى أمامك في ظل هذا الخزين؟
– أعمل كل ما لدي على أن يكون كل شيء أمامي، بمعنى أنني أمنح ما أكتبه بالذات كل ما لدي، وبخاصة الشعر والرواية، أما بقية إنتاجاتي فهي روافد للتجربة، لكنها ليست هاجسا أساسا كالأدب، أهميتها تتمثل في تحولها إلى جزء أساسي من الأدب الذي أكتبه.
ll في قضية الكتابة بلغة العدو: ما الذي يعنيه أن يكتب أديب فلسطيني إبداعه بالعبرية؟ ما الذي ستضيفه هذه اللغة للأديب؟ وهل ثمة خيار سياسي في هذه الكتابة؟ أذكر على وجه الخصوص روايتان صدرتا مؤخرا لكاتبين فلسطينيين من عرب 48 هما «ضمير المخاطب» لسيد قشوع، و«إلى يافا» لأيمن سكسك؟
– لا أستطيع الحكم من بعيد، لأنني لا أعرف هذين الكاتبين عن قرب. وإن كنت أرى في حالتنا الفلسطينية أن الصراع على اللغة هو صراع على الهوية ذاتها، وأحب أن يثبت الكاتب الفلسطيني أن لغته سيدة، رغم وقوعه تحت الاحتلال، حتى لو تم وضع هذه اللغة على اليافطات تحت اللغة التي يحتل أصحابها وطنك.
رواية (براري الحُمّى)
ll رواية (براري الحُمّى) «تم اختيارها قبل أربع سنوات كواحدة من أهم خمس روايات ترجمت للدنمركية وبعد 26 سنة على صدورها اختارها الكاتب الأمريكي (مات ريس) بتكليف من الغاردين البريطانية كواحدة من أهم عشر روايات كُتبت عن العالم العربي وتقدم صورة غير تلك الصورة الشائعة في الإعلام» [مقتبس من النت]
اسمح لي أن أضع الجمهور داخل هذه الرواية حتى نصل إلى سؤالي: يعيش بطل الرواية (محمّد حماد) الذي يعمل معلما في صحراء القنفذة في السعودية في فنتازيا لظواهر يُحار الذهن في تفسيرها كالبطل الذي يُحار هو نفسه في الإجابة عن أسئلته. يعتقد البطل أنه ليس ذاته وأنه يعيش مع آخر يشبهه في كل شيء في الاسم ولون الشعر ولون العينين ولون البشرة والخيمة والعمل وليس متأكدا من مصير الآخر الذي هو ذاته أو ما مصير ذاته التي هي الآخر، وربما في الرواية ما يشبه وصف فرويد «تتحول الأفكار الكامنة إلى مجموعة من صور حية ومناظر بصرية». هذا البطل الذي يعيش الوحدة والفراغ ويتقزم أمام أفكاره التي تغادر ذاته تجعله رجل يعاني من فصام الشخصية.
في تقديرك ألا تكون شخصية الرجل العربي الفصامي لا تقل أسلبة عن الصورة الشائعة اليوم عن العالم العربي في الإعلام حسب اختيار مات ريس؟؟
– الفصام حالة إنسانية عالجها كثير من الكتاب العالميين ومنذ سنوات طويلة، إنه جزء من الروح البشرية، بل إن الأبحاث الحديثة تشير إلى أنه ليس مسألة نفسية وحسب، بل مسألة وراثية.
ولذا لا يمكن أن أطلق على الشعب الإنجليزي صفة الانفصام لأن كاتبا إنجليزيا كتب عن هذا، كما لا يمكن أن أطلق صفة الشجاعة، أو صفة التهور على شعب، لأن هناك كاتبا من أبنائه كتب عن شخصية شجاعة أو متهورة أو حكيمة.
الأدب مساحة إنسانية واسعة، والصفات كلها موجودة في كل شعب، بل في كل عائلة، ودائما نقول: حتى أصابعك، ليست في نفس الطول.
أنت حين تكتب عن حالة فصام أو وئام مع الذات تقدم نموذجا إنسانيا أدبيا، ويجب أن يكون هذا النموذج مقنعا للأمريكي والإفريقي والياباني في آن، وأن يكون له مكان إلى جانب النماذج الشبيهة التي تناولها الأدب العالمي، ولكن باختلافه، أو باكتشافك لمساحات أخرى.
الناقد الإيطالي فيليبو لابورتا، وهو ناقد شهير، كتب مقدمة براري الحمَّى؛ وفي حفل تقديم طبعتها الإيطالية في روما سأله أحد الحضور: ما الذي لم تقله في مقدمتك للرواية عن هذه الرواية؟ فأجاب: أتمنى أن يكون كل ما كتبه حتى اليوم يعادل صفحتين من هذا العمل الفريد!
نحن إذن نتحدث عن قيمة أدبية قبل كل شيء، وخارج هذه القيمة لا معنى للأدب. ولذلك، رواية براري الحمّى احتلت هذه المكانة بوصفها أدبا أولا وأخيرا، ولأنها ترجمت، بمعنى أنها لو لم تترجم لما سمع بها أحد هناك، ولعل رواية أخرى تترجم لي أو لغيري تحتل مكانة أفضل من هذه المكانة بكثير.
ll في رواية (حارس المدينة الضائعة-1998م) نسأل أنفسنا مع بطل الرواية المواطن الأردني المدعو (سعيد) الذي يعمل مدققا بسيطا في صحيفة (الرأي) اليومية متجه إلى عمله كدأبه يقف ساعة ينتظر الحافلة التي تنقله من مكان سكنه (وادي الرمم) إلى مكان عمله فيطول انتظاره دون فائدة وسرعان ما يدرك الحقيقة المروعة أن ثمة شيئا يحدث، شيئا غريبا لا ينتمي لعالم المصادفات…المدينة بلا بشر. ما الذي يمكن أن يحدث عندما تصحو وتجد مدينة عمّان مدينة خالية من سكانها؟ أين ذهب أهل عمّان؟
– إنه الجحيم، إن أي مكان خال من البشر بالنسبة لي هو الجحيم. ولدينا مثل يقول: الجنة من دون ناس ما بتنداس. أي لا تُسكن. فما بالك حين يتعلق الأمر بالأرض، أو بمدينة عربية، يجاهد البشر فيها كثيرا، أصلا، ليثبتوا شيئا واحدا: أنهم موجودون!!
من الجائز أن يتردد القارئ أمام هذا السرد وهل اختفاء سكان المدينة حقيقي أو لا؟ أم هو مجرد تعبير عن عمق إحساس البطل بالعزلة؟
ll أنت في هذه الرواية تستثمر دراستك لعلم النفس وتحلل شخصية الإنسان العربي وتكشف التحطيم وعدم فهم نفسية الشخصية العربية الواقعة تحت تأثير أنظمة سلطة متعسفة. وأنت نجحت أيضا في تسليط بقعة الضوء على الغربة التي يعيشها المواطنون البسطاء في عمّان، فيصبح هذا الإنسان مجرد نكرة/ أو علامة دالة على النكرة/ في عالم معزول ومغلق على البسطاء؟
– هذه الرواية هي رحلتي الفنية لكي أرى كيف شكلت المدن العربية البشر فيها على مدى خمسين عاما، والنتيجة واضحة: إنها ألغت وجودهم. لكن ما يعنيني أيضا هي طريقة كتابة هذه الرواية، والمتعة التي شعرت بها في انتقال السرد بين الراوي العليم والبطل مباشرة، والحوار بينهما، كما تنتقل كرة القدم من لاعب للاعب. كان هذا الأمر جديدا على كتابتي، ولعله البهجة الوحيدة في كتابة هذه (الكوميديا السوداء).
ll رواية (عو) البطل (أحمد الصافي) يعمل صحفيا وأديب مرموق يدافع عن قضايا مجتمعه ويقف أمام الاستغلال والفساد ولكنه سرعان ما يصبح تابع رخيص يبيع نفسه مقابل المغريات..
لا أريد أن اسأل عن الأيديولوجي في هذه الرواية الكابوسية، لكني سأسأل عن الفني.. كل شيء في الرواية يتحول إلى تناقضات فالبطل يمر بصراعات نفسية حادة تدفعه إلى تخيلات فنتازية عجائبية تتخلل حياته. ففي بيته يحلم أن الكتب تطير من تلقاء نفسها.. وكائنات سوداء صغيرة تندفع خارجها.. وكتب أخرى تسقط منها بقع من الحبر الأسود.. توظيف الرمز وإلباسه ثوبا عجائبيا يتيح لأحمد الصافي كما يتيح لنا كقراء في تقديري أننا لا نستطيع التعويل على إدراكنا للواقع لكي نفرق بين الخيالي والحقيقي، ومع اتساع الرمز العجائبي نبقى عمّيان أمام الدلالات والإشارات.
– كما أشرت، كل رواية هي عالم بذاته، وعليك أن تدرك أزمة الشخصية لكي تمضي معها شوطا أبعد وأعمق وأنت تتأملها وتُخرج منها أشياء جديدة، لم يكن باستطاعتك تخيلها خارج الكتابة. فالكتابة بقدر ما هي اكتشاف للشخصيات وعوالمها، اكتشاف لقدرتك على الإبحار في هذه العوالم والشخصيات، إنها الرحيل نحو الحد الأقصى.
كان يمكن أن تكون (عو) رواية سياسية بحتة، بالنسبة لكاتب آخر، وهي مؤهلة لذلك، ولكن التحدي الأساس في كل كتابة هو كيف تستطيع الخروج بالعادي المؤطر إلى أفق مفاجئ وجديد. وهنا يمكن أن يتسع أفق ورمز ومعنى الشخصية.
ll في روايتك «زمن الخيول البيضاء» استندت إلى عدد من المراجع، وهذا يجزئ السؤال إلى شقين: يتعلق الأول بكيفية اختيارك لموضوعاتك، بينما يتعلق الثاني بالذاكرة.
– أكتب الموضوع الذي أحس بأنه يثير دهشتي، أي الموضوع الذي لو صدف أن سمعت أن كاتبا آخر تناوله، سأذهب للبحث عن كتابه، أي يجب أن يثيرني الموضوع كقارئ كي أستطيع الرحيل فيه ككاتب. أما الذاكرة، فالذاكرة في النهاية هي كل شيء؛ هي نحن، هي التجربة التي عشتها أنت والتي عاشها غيرك، والكتاب الذي كتبته أنت أو كتبه غيرك، بل هي الشيء الذي لم تحققه بعد وتحلم به ويحلم بغيره غيرك.
ولذلك هي الكلي الذي لا يقسّم على واحد فقط هو أنت، أو ذاتك؛ إنه حلول كل شيء فيك. وإذا لم تخرج للقاء هذه الأشياء ستبقى ناقصا، وللأسف، نحن لا نستطيع أن نلم بكل شيء ضمن قدرتنا البشرية.
الذاكرة تعني لي أن باستطاعتي أن أكتب ألف صفحة عن شاب عاش الحياة فعلا، ولا أستطيع الكتابة أكثر من عشر ورقات عن شخص بلغ مئة عام بحياته الخاوية، إنها المنسوب الحياتي، مثل منسوب النهر والبحيرة والبحر والبئر.
ll الرواية الأردنية اليوم هل هي مخيبة للآمال/ أم دافعة بقوة للحياة؟
– هناك روايات في الأردن اليوم أهم بكثير كما ونوعا مما أنتج في السبعينات، وليست مصادفة أن تصل ثلاث روايات كتبت في الأردن إلى اللائحة القصيرة في جائزة البوكر العربية في السنوات الثلاث الأولى لانطلاق الجائزة.
حتى الآن أنا متفائل، ولكن لا أستطيع أن أحدد إلى أين ستمضي هذه الرواية، فكثير من الروائيين على وشك بلوغ الستين وبعضهم بلغوها، والشباب لم يقدموا شيئا كبيرا حتى اليوم رغم مرور عشرين عاما على بدء بعضهم النشر.
ll نساء إبراهيم نصر الله الجميلات، أين يسكن؟ ما أكثر شخصية أحببتها؟
– المرأة جزء أساس من حياة كل إنسان، وهنالك من يسكنَّ القلب، ولو لم يسكنّه بهذه الحميمية لما سكنَّ الكتابة.
أحب كثيرا من الشخصيات النسائية في رواياتي: زينب وسلوى في (زيتون الشوارع)، هيفاء في القصيدة الملحمية (نعمان يسترد لون)، سمية وريحانة في (زمن الخيول البيضاء)، حنّون في (طيور الحذر)، الأم في قصيدتي الطويلة (الحوار الأخير قبل مقتل العصفور بدقائق، وزوجة الأب في روايتي التي أكتبها الآن!! وغير ذلك أيضا.
أسئلة وقضايا عن المخيم:
ll في شهادتك الذاتية قلت أنك نجوت بسبب غسان كنفاني. فعندما قرأته للمرة الأولى تعلمت أن للفلسطيني جهة واحدة فقط هي فلسطين.
– في اعتقادي أن الجهة الخامسة بالنسبة للفلسطيني هي فلسطين، وعليه فعلا أن يبقى يقظا كي لا تسرقه أي من الجهات الأربع إلى الأبد.
– «فلسطين هي الوطن الوحيد الذي نما خارج حدوده، في بيروت وعمّان ودمشق، وبالتحديد في مخيمات هذه البلاد. محمود درويش جعل بطله أحمد العربي «مخيما ينمو وينجب زعترا ومقاتلين، وساعدا يشتد في النسيان وذاكرة…إلخ» ماذا تقول في هذا؟
– هناك جملة قالها الكاتب الفلسطيني رشاد أبو شاور، تقول: إن كل الناس، في العالم، يعيشون في أوطانهم، إلا الفلسطيني فإن وطنه يعيش فيه.
ll دعني أستذكر معك مقالا كتبته عن الحياة الثقافية الفلسطينية قبل عام النكبة من سينما ومسرح ورواية وشعر وترجمات لكبار الكتّاب العالميين.
– الحقيقة إن الحياة الثقافية والفنية في فلسطين كانت مدهشة للغاية، فأول عربي رشح لجائزة نوبل للآداب هو عزيز ضومط، وهو مسرحي فلسطيني، وذلك عام 1936، كما أن أهم ترجمات الأدب الروسي ظهرت فيها في نهايات القرن 19، وإلى ذلك ترجمات لطاغور وأسكار وايلد وملفيل وشيلي ومارك توين والإلياذة والأوذيسة وجحيم دانتي، وكان يمكن أن تجد ست أو سبع دور سينما في يافا وحدها. ويمكن الإشارة إلى أنه في عام 1937 تم إنشاء أول شركة إنتاج سينمائي. هذا أمر كبير فعلا ويدعو للإعجاب.
وشاركت فلسطين في تصفيات كاس العالم عام 1934 و 1938 وكان المنتخب الوطني الفلسطيني لكرة القدم، بذلك، أول منتخب عربي آسيوي يشارك في تصفيات كأس العالم.
وقد كتب سلمان ناطور الكاتب الفلسطيني المعروف (إن حيفا هي التي منحت أم كلثوم لقب (كوكب الشرق) الذي رافق اسمها وهذا جاء ليؤكد ما كان قاله أحد كبار الكتاب المصريين الذي زار حيفا في سنوات الأربعين وهو ابراهيم عبد القادر المازني اذ قال بما معناه: لن يعترف بك الوسط الثقافي أديبا عربيا الا اذا منحت اللقب في فلسطين، وقد سمعت ذلك من الشاعر أبي سلمى عندما التقينا في مدينة صوفيا عام 1980، وقرأت في مذكرات أبي سلمى ما كتبه عن اللقاءات الثقافية التي كانت تتم في حيفا ويافا والقدس).
ll دخل تعبير «الأدب الفلسطيني» حديثا بعد انتهاء الحكم العثماني وقدوم الاستعمار الأوروبي وما تبعه من تقسيم الوطن العربي إلى مناطق نفوذ.
– حين ترتطم بتحديات كبيرة تكون مضطرا للبحث عن كينونتك وهويتك، لأنك مضطر لإيجاد خندق واضح تحتمي به، وسور تقاتل من فوقه، فالعربية لغتك اليومية، ولا تفكر بهذا كثيرا في فترات الهدوء، لكنها تحمل معنى إضافيا حين تغدو في معركة على هذه اللغة وعلى هذا الكيان الإنساني الذي لك.
نحن نبتكر التسمية كي لا نتحول إلى جزء من الكتلة الطاغية التي تهدد باجتياحنا، أيا كانت هذه الكتلة.
ll سؤالي هنا عن لفظة/ تعبير «المخيم» ظلت رمزية المخيم تكاد أن تكون المعادل الموضوعي للقدس. كيف يكتب الروائي عن المخيم؟
– كل روائي يكتب من زاوية فهمه ومقدرته ووعيه، لكن المخيم هو الممثل لحالة الشتات، والقدس هي حالة العودة، وكما قلت في حوار سابق: منذ أن وعينا شتاتنا حملنا عودتنا على ظهورنا ولم نزل.
ll هل هناك أدب للمخيمات يوازيه أدب آخر للمقاومة؟
– لا بالتأكيد، لأن الأدب الفلسطيني كل متكامل، ولكن له أطيافا متعددة، ومذاقات نابعة من تجارب وأماكن لها خصوصياتها، واختلافه هذا، جزء من حيويته وتجدده.
أسئلة وقضايا في السينما وفي التشكيل والمسرح
ll في طفولتك رغبت بتعلّم الموسيقى ولكن العائلة رفضت بشدة؟ اليوم وأنت تكتب في السينما وفي التشكيل، كيف تنظر للموسيقى وجرسها في هذين الوسيطين؟ متى تحضر الموسيقى ومتى لا تحضر؟
– الموسيقى يجب أن تحضر في كل فن، إنها الإيقاع في الشعر والرواية والفيلم واللون، كثيرا ما نقول: إن إيقاع الفيلم بطيء، أو سريع، وفي الحقيقة نتحدث هنا عن الموسيقى، وكذلك في الرواية، هنالك فرق كبير في الإيقاع بين رواية ذات جمل قصيرة ورواية ذات جمل طويلة؛ رواية تقوم على اللغة ورواية تقوم على الحدث؛ رواية تقوم على الوصف الخارجي وأخرى تذهب للوصف الداخلي؛ والأمر نفسه في الشعر. وهناك تناغم اللون، بعض الألوان تحسها في اللوحة نشازا، لأنها نافرة بصورة غير متلائمة مع انسياب ورقة الألوان، أو العكس. وهناك التوزيع اللوني أيضا، الذي أعتبره ليس جزءا من البناء فقط، بل من موسيقية اللوحة.
ولذا، كل عمل جيد هو بالضرورة مدرك لإيقاعه، ولموسيقاه، وهذا الأمر لا ينطبق على الشعر وحده، إنه ينطبق على كل شيء، حتى حركات أيدينا ومشيتنا وكلامنا. ببساطة، للموسيقى حصة في كل شيء من هذا الوجود. فكل شيء خارجها هو التعثُّر.
ll قلت بأن «السينما عمليا مفتاح للقراءة» هل توضح هذه الكيفية؟
– كانت السينما في فترة ما، هي مفتاح القراءة لدينا، لأننا حين كنا نرى فيلما في طفولتنا مأخوذا عن رواية، كنا نذهب للبحث عن الرواية، وبالتالي قادتنا السينما إلى القراءة، وهناك اكتشفنا أن الروايات أجمل من الأفلام، وهذا ورَّطنا، إيجابيا، في البحث عن روايات أخرى.
ll في التداخل ما بين الأنواع ظهرت إشكالية التلقي كواحدة من إشكاليات الزمن والحداثة. لقد تحول الكاتب من ذات كاتبة إلى ذات تكتب عن نفسها، كما يتحول الممثل المسرحي من المشهد النصي إلى المشهد البصري والقارئ نال نصيبه في التحول إلى مشاهد. في تقديرك: ما شكل القارئ في الأزمنة الحديثة القادمة؟
– هناك كتابات مختلفة، يمكن القول إن روايتي (طيور الحذر) عني بصورة من الصور، لأنها أفادت من سيرتي إلى حد بعيد، لكنني لا أستطيع أن أقول، مثلا، عن (تحت شمس الضحى) أو (طفل الممحاة) أنها كتابة عن النفس.
بالنسبة للقارئ في المستقبل، مسألة بعيدة بالنسبة لي، إذ إن علينا أن نجد لنا مكانا في القراءة اليوم، كعالم عربي، قبل أن نفكر في المستقبل.
كل مرحلة لها ظروفها، وأظن أن اختراع الورق أصاب العالم بالرعب، بعد أن كان يكتب على الطين والحجر، واختراع الطباعة أصاب العالم بالهلع، وهو يرى خط اليد يندثر، وصولا إلى الكمبيوتر. لكن القراءة تطورت، بل وازدادت إلى حدود غير متوقعة أبدا.
رواية (زمن الخيول البيضاء)
ll هل تتمنى أن تحول رواية (زمن الخيول البيضاء) إلى عمل تلفزيوني؟
– منذ أكثر من عامين تم شراء حقوق تحويلها إلى مسلسل، وهذا أمر جيد، وقد كتبت له السيناريو، وكانت تجربة رائعة بالنسبة لي، ونحن اليوم ننتظر اتفاقا مع محطة كبيرة لبدء العمل، فكل شيء جاهز. وكان من المفترض أن يخرجه حاتم علي في ذلك الوقت.
ll من خلال إطلاعي على المسرح لاحظت أن العروض المسرحية عن فلسطين تسير باتجاه المسرح التسجيلي. في تقديرك: هل نحن في زمن يجب أن نوثق فيه لفلسطين، فيغيب الحدث الدرامي وتفاصيل الناس وذاكرة المخيم لأجل عرض وثائقي فحسب؟
– هناك مسرح مهم في فلسطين، ومنذ السبعينات، ولكنه مسرح محاصر بظروف الاحتلال، وتحرك المسرحية بطاقمها ليس أمرا سهلا، لكن هناك أعمالا رائعة فعلا، كما حدث في السينما.
أسئلــــة عامـــة
ll ما طقوس الكتابة عندك؟ كيف تبدأ يومك وكيف تضع في آخره نقطة؟
– في فترة ما قبل التفرغ للكتابة، أي حتى ما قبل أربع سنوات، كنت أكتب صباحا، أما الآن فأكتب صباحا ومساء، وحين أكتب ألتزم بذلك يوميا، ولا أسافر أيضا. أما متى أتوقف، فذلك يحدث حين أتعب أو حين ينتهي فصل ما، ولا أستطيع بداية فصل آخر، ونادرا ما أترك فصلا في منتصفه.
والأمر كذلك بالنسبة لكتابة الشعر، فمنذ سنوات يكون الديوان لدي حالة نفسية واحدة، أو حالة درامية واحدة، وهذا يقضي أن تظل داخل الجو واللغة. وحين أكتب الشعر لا أكتب الرواية، والعكس أيضا.
أما في الليل فغالبا ما أشاهد فيلما.
ll ما دور المثقف والمبدع العربي اليوم؟ وكيف تنظر بعد كتابة (عو) إلى العلاقة بين المثقف والسلطة؟
– استطاع النظام العربي أن يمتلك فعليا الجريدة والإذاعة والتلفزيون، وكثيرا من المثقفين، وأرى دور المثقف هو التنوير خارج ظلامية التسلّط، والوقوف بشجاعة ضد التزوير الذي يحدث على الهواء مباشرة أمام أعيننا.
(يتبع بقية الحوار بموقع المجلة على الانترنت)
أما عن العلاقة اليوم بين المثقف والسلطة فهي لا تسر، إذ استطاعت السلطة أن تروض كثيرا من المثقفين، بحجة دعوتهم للتغيير من الداخل، وللأسف لم يحدث أن استطاع أي واحد منهم أن يغير شيئا من الداخل، لقد تغيروا جميعا.
ll ماذا أضافت لك جائزة العويس؟
– الجائزة كانت مهمة لي على أكثر من مستوى، وأنا أعتز بها، لأنها واحدة من أنصع الجوائز تاريخا في عالمنا العربي على صعيد أهميتها ومصداقيتها، ولكن في واقعنا العربي على المرء أن يدفع ثمن نجاحه، وفي ظني أنها زادت عدد حسادي، حتى لا أقول أعدائي، وبقدر ما أفدت منها فإنني دفعت ثمن الحصول عليها في أكثر من مكان. وهذا أمر، للأسف، لا يحدث إلا في العالم العربي ربما.
ll فكرة المنفى في تشكيل المخيلة الإبداعية. ما علاقة الولع بالطبيعة بهذه المفردة تحت ضغط المنفى؟
– ربما يكون غياب الأرض وما عليها، يستدعي لديَّ كل مفرداتها من نبات وحيوان وجماد أيضا، ولكني أحس بأن الطبيعة يجب أن تكون فاعلة في العالم الكتابي، ولنا أن نتصور كيف سيكون وجود البشر دون وجود النبات والحيوان على هذا الكوكب!
ll رواية «شرفة العار» أنت دفعت لأجلها ثمنا عاليا للرقابة. حدثنا عن هذا الثمن؟ هل يتراجع المبدع عن كلمة خطها أمام نفسه وأمام العالم؟
– شرفة العار مرت بسهولة، فلا أحد يستطيع الوقوف ضدها حتى أولئك الذين يبررون جرائم الشرف. لكن هناك روايات وقصائد أدت إلى أن أدفع الثمن، مثل المنع من السفر لست سنوات، ولك أن تتصوري مثلا أنني لم أدع لأي برنامج في التلفزيون الأردني منذ ثلاثين عاما. مع أن من يعد بعض هذه البرامج أصدقاء، فهناك بالتأكيد لوائح سوداء، ذهبت الأحكام العرفية ولكنها موجودة، والأمر تحسه في أشياء كثيرة غير الإعلام الرسمي، وهذا هو الأكثر خطورة.
لقد أصبح عمر تجربتي الآن، منذ صدور كتابي الأول اثنين وثلاثين سنة، وإن كان هنالك ما أعتز به فهو أنني لم أتراجع، وإذا كان ذلك الزعيم المصري الكبير لم ينحن لملكة بريطانيا ذات يوم لأن عشرين مليون مصري يشدونه من الخلف، فهناك مئات الآلاف من الشهداء والجرحى والأسرى وعذابات عشرة ملايين فلسطيني تمنعك من أن تكون أقل من قضيتك.
(-) كيف تنظر إلى علاقة جيل الشباب بالثقافة خاصة، ونتاجاتها من سينما وموسيقى وتشكيل، وكيف تنظر لهؤلاء بأعمالك الروائية والشعرية؟
– هناك تفاوت بين بلد وآخر، ولكن، إن كان هناك من شيء مهم فهو علاقة أدبي بالشباب، ويوميا أتلقى عشرات الرسائل منهم، وأراقب أحيانا تعليقاتهم على كتبي في النت، الأمر في غاية الأهمية ويتطور، وجزء كبير، إن لم يكن الأكبر من قرائي هم من فئة الشباب.
(-) أنتَ الشاعر والروائي والسينمائي والتشكيلي: إلى أيّ الجوانب تميل؟
– بالطبع للشعر والرواية، فمشروعي هنا، أما البقية فهي معايشة لهذه الفنون، لكي أفهمها أكثر ولكي تكون جزءا فاعلا في كتاباتي.
(-) كيف تنظر إلى عملية تسويق الأدب في عالمنا العربي اليوم؟
– هناك فرق كبير بين ناشر وناشر، وقوة الناشر قد تضاعف حجم وصول كتبك للقارئ عشرات المرات، لكن التسويق رغم ذلك لم يصل إلى ربع المستوى الذي نتمناه، ولعل مشكلة التوزيع هي الأساس.
(-) هل وجود قضية يخدم الكاتب أم العكس؟
– كل كاتب بحاجة لقضية ما، لكن هذه القضية ستكون قاتلة لك، إن لم تكن في مستواها. في فترات ما، كان الانتماء لقضية يبرر الركاكة والضعف الأدبي، لأن السياسة كانت هي الأهم، لكن الأمر تغير تماما منذ سبعينات القرن الماضي. الكتابة الحقيقية تساهم في حياة القضية، أما الكتابة التي تقتات على القضية، فسرعان ما تموت، فالقضية وحدها لا تكفي للعيش إن لم يكن للأدب مستوى كبير.
(-) ما مشاريعك الإبداعية القادمة؟
– الآن أعمل على رواية تدور أحداثها في فلسطين في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وقد أنجزت نصفها تقريبا.