منذ أن بدأ الكاتب والمفكر إبراهيم فتحي حياته الفكرية والسياسية والأدبية, وهو لا يتوقف عن المتابعة والإبداع المتواصل, عبر أكثر من أداة, وكانت الترجمة هي إبداعه الأول الذي بدأ به النشر, إذ كان مستشارا لدار الفكر المصرية, والتي كان يملكها ويديرها المناضل والمثقف لطف الله سليمان, وأصدرت هذه الدار عددا كبيرا من الكتب والترجمات, ساهمت في صياغة وسيادة مناخ فكري طليعي, وكان ذلك في عام 1958, وكان من إصدارات هذه الدار مسرحيات نعمان عاشور : الناس اللي فوق و الناس اللي تحت, وكتاب ثورة الجزائر لعلي الشلقامي، وكتاب الثورة العراقية لمحمد عودة, وألوان من القصة القصيرة المصرية قدم له الدكتور طه حسين, وكتب دراسة عن القصص الناقد محمود امين العالم، وصدر أيضا الديوان الأول (كلمة سلام ) للشاعر صلاح جاهين وقدم له الشاعر كمال عبد الحليم..
والى غير ذلك من عشرات الكتب المؤلفة، هذا فضلا عن الكتب والروايات المترجمة, وترجم الكاتب الشاب آنذاك إدوارد الخراط الجزء الأول من رواية (الحرب والسلام) وترجم إبراهيم فتحي رواية الهزيمة للكاتب الروسي فانسسيف, وترجم للدار عدد كبير من الكتاب والمترجمين المصريين، وكان لابراهيم فتحي دور في اختيار وتقرير نشر هذه الكتب, التي لعبت دورا أساسيا في صياغة مناخ ثقافي طليعي وتقدمي وثوري كبير في ذلك الوقت, قبل أن يغيب اليسار المصري كله في المعتقلات والسجون.
وكان قبل ذلك قد شارك ابراهيم فتحي في الحركة اليسارية المصرية, عندما كان طالبا في كلية الطب، والتي لم يكمل الدراسة فيها لأسباب يوضحها في حواره مع الدكتورة جمال حسان, ولا داعي لسردها مرة أخرى, وكانت مشاركة ابراهيم فتحي في الحركة الوطنية واليسارية المصرية, بمثابة مدرسة حقيقية للتدرب والتدريب على إتقان التفكير الجدلي والمنهجي والعلمي الصارم في آن واحد، حيث أنه ترك بصمة عميقة في طرق النضال والحوار السياسى والفكري العميق في حياة من شاركوه في النضال في ذلك الوقت, ويحكى عنه أصدقاؤه الذين رافقوه في هذه المرحلة حكايات تنم عن مدى تأثرهم العميق بمنهجية ابراهيم فتحي في التفكير الجدلى, والعميق.
وعندما دخل ابراهيم فتحي المعتقل عام 1959, لم يخرج إلا عام 1964, وكان نشاطه قبل ذلك منخرطا في الترجمة، ولكنه بعد خروجه, بدأ مشروعه النقدي والفكري في التجلي, وظهرت هذه التجليات في مجلات الشعر والثقافة ومجلة المجلة, وكان يحرر في مجلة (المجلة)بابا يهتم بعرض موضوعات المجلات الأجنبية,لقدرته العالية والدقيقة على فهم اللغتين الانجليزية والفرنسية, وتشكل هذه الكتابات تراثا كبيرا لم يجمعه ابراهيم فتحي حتى الآن في كتب, ولو فعل ذلك, سيثري المكتبة العربية بكتابات وترجمات ستكشف عن طبيعة الثقافة الطليعية التي كان يقدمها فتحي ومازال للقارئ المصري والعربي.
وربما يعود عدم جمع هذه الكتابات والترجمات التي أنجزها ابراهيم فتحي في تلك الآونة، الى عدم الاستقرار الذي عاناه فتحي دوما, فهو بعد خروجه من المعتقل عام 1964، عاد إليه مرة أخرى في سبتمبر 1966، وكان معه حفنة مثقفين طليعيين وشباب, فكان معه الشعراء عبد الرحمن الأبنودي وسيد حجاب, والنقاد صبرى حافظ وغالب هلسا وسيد خميس, والكاتب جمال الغيطانى, والصحفي صلاح عيسى، وكانت الحبسة هذه مثار جدل كبير, تدخل فيها جان بول سارتر نفسه, وكانت الأهرام قامت بدعوة الفيلسوف الكبير آنذاك ليلقى محاضرة فلسفية وسياسية في القاهرة، واشترط سارتر أنه لن يزور القاهرة وهناك, من تعتقلهم السلطات, وكانت السيدة عطيات الأبنودي تقوم بجهد كبير في إيصال رسائلها الاحتجاجية الى العالم, كما شرحت ذلك في كتابها (أيام لم تكن معه ), وهكذا جاء سارتر القاهرة, وكان المعتقلون مفرجا عنهم, وبينهم الناقد الكبير والمترجم والمناضل ابراهيم فتحي, الذي واصل عطاءه النقدي الكبير عبر ندوات ولقاءات ومطبوعات مستقلة, وتجلت كتاباته النقدية في مجلة جاليرى 68، والتي شارك فيها عدد من الكتاب والشعراء والمثقفين الطليعيين, على رأسهم المترجم والمثقف الراحل ابراهيم منصور, ومعه ادوارد الخراط ويسرى خميس وجميل عطية ابراهيم وغالب هلسا, وقدمت المجلة ثقافة نوعية تتسم بطليعية منكورة من المجلات الرسمية, وكانت كتابات ابراهيم فتحي جد لافتة, ومؤثرة وقائدة, ولم يرتكن إلى العقائدية النقدية, والتي كانت تعلب الفن والإبداع في صناديق سابقة الصنع, وجاهزة التقفيل, وشن أشكالا من الهجوم من تلك الانغلاقية النقدية التي كانت تؤطر الإبداع عموما, وكانت هذه الانغلاقية المتأثرة بالنظرة الميكانيكية للفن والإبداع, والتي كان يقودها الناقد الروسي جدانوف, حتى اشتهرت باسمه, وأطلق عليها الجدانوفية, وهاجم ابراهيم فتحي الجدانوفيين المصريين, والذين قولبوا الإبداع, ووضعوه في أطر بعيدة تماما عن حرية الإبداع, وشفافية الفن وهكذا كتب مبشرا بابراهيم اصلان الكاتب الشاب آنذاك, وقد غامرت المجلة, وأعدت ملفا كاملا عن هذا الكاتب, الذي لم يصدر له كتاب حتى تلك اللحظة, ونشرت المجلة خمس قصص لأصلان, وكان المقال الأبرز في الملف لابراهيم فتحى, ومعه غالب هلسا وخليل كلفت, وكتب فتحي ايضا دراسة نقدية في تلك المجلة عن توجهات القصة المصرية القصيرة, وكان جيل الستينيات قد تجاوز كثيرا العقدة الإدريسية، والنقاد يعتبرون جيل الستينيات جيلا قصصيا, وإنجازهم الأساسي في القصة القصيرة, لذلك كانت دراسة ابراهيم فتحي مضيئة وفاعلة وموجهة للعناصر البارزة في طبيعة كتابات جيل الستينيات, وكانت قد برزت كوكبة من الكتاب مثل يحيى الطاهر عبدالله ومحمد البساطي ومحمد حافظ رجب وبهاء طاهر وجمال الغيطاني وغيرهم، وهكذا فأنا اعتبر أن ابراهيم فتحي هو الناقد الأهم الذي تابع وقرأ وكتب ونظر للكتابة الستينية, وله النصيب الأكبر في اكتشاف هذا الجيل لذاته الإبداعية, وابراهيم فتحي يفعل كل هذا متجردا من هذه (الانا) الكريهة التي تنتاب النقاد الذين لاتتجاوز كتاباتهم مجال النقد الصحفي, وهناك بالطبع تقصير ملحوظ في إدراك دور فتحي بشكل دقيق, لأن هذه الكتابات مازالت تنتظر مهمة تجميعها وضمها في مجلدات, اللهم اعطنا القدرة على ذلك.
ولم تكن طبعا السجون والمعتقلات هي السبب الرئيسي الذي وقف حاجزا بين فتحي وجمع دراساته وبحوثه وترجماته في كتب ومجلدات, ولكن ابراهيم ظل طوال حياته – أمد الله في عمره – مشغولا بالتواصل المباشر مع الحياة الثقافية, عبر الندوات والملتقيات, والتي كان يعقدها بشكل شبه منتظم في المقاهي, وكانت له ندوة اسبوعية بمقهي (علي بابا) وكان يعقدها كل أحد من كل اسبوع, وكان من روادها مثقفون بارزون مثل سعد صمئيل وعاطف أحمد وسلوى بكر وهناء سليمان, وكانت الندوة لا تقتصر على المصريين فقط, بل كان المثقفون العرب دائما يحضرون الندوة, وكان ابراهيم فتحي قد أسس مع مجموعة من المثقفين الطليعيين جماعة شهيرة أسموها (جمعية كتاب الغد) ولعبت هذه الجمعية دورا بارزا في الحياة الثقافية والفكرية والسياسة المصرية, وتصدت لكافة اشكال الردة السياسية التي ظهرت آنذاك, بعد تنصيب أنور السادات رئيسا للجمهورية, وخاضت الجمعية نضالات شرسة ضد الرجعية الثقافية والأدبية في ذلك الوقت, واصدرت بعض المطبوعات الأدبية كان أبرزها ديوان (وش مصر) للشاعر زين العابدين فؤاد وديوان (مدخل الى الحدائق الطاغورية) للشاعر عزت عامر, وكتب ابراهيم فتحي تقديما نقديا مذهلا للديوان. وبمناسبة المقدمات النقدية فناقدنا الكبير له مقدمات كثيرة لإبداعات متعددة، لكتاب كثيرين مثل مقدمة لمجموعة (عطشى لماء البحر) لمحمد ابراهيم مبروك، ومقدمته النقدية الضافية والشاملة للمجموعة القصصية (أوراق الحب والعطش) للكاتب محمد عبد الرحمن, وتقديمه النقدي الجامع المانع للاعمال الشعرية للشاعر سمير عبد الباقي, وهذا غيض من فيض, جادت به عبقرية ابراهيم فتحي, ولن ننسى أيضا أنه في تلك الآونة دخل المعتقل مع مثقفين جدد, مثل الناقد والمترجم خليل كلفت وآخرين، وخرج ابراهيم بعد أن ظل شهورا عديدة تحت التعذيب عام 1972, ليواصل المسيرة, إنه ناقد ومفكر ومناضل عنيد وعتيد, لم تستطع كافة الظروف الاستثنائية التي عاشها أن تثني عزمه عن المواصلة والإبداع المتعدد الوجوه في مجالات الترجمة والكتابة النقدية الهامة، ولم تتركه السلطات حتى وهو في عمر متقدم إذ اعتقلته السلطات في عام 1989 وهو يقترب من الستين من عمره, وكان معه المفكر الراحل الدكتور محمد السيد سعيد, وتعرض الاثنان لعمليات تعذيب مبرمجة وممنهجة, ووحشية, ليس للحصول على اعترافات منهما بقدر ماكانت هذه العمليات محاولات لتحطيم هذه القدرات عن الصمود والوقوف في وجه السلطة الجائرة، ولكن يخرج ابراهيم فتحي اكثر عنادا,ويذهب إلى المنتديات لمناقشة النصوص الروائية والشعرية للشباب, وكانت الندوات تعقد في أماكن ثقافية شعبية مثل اتيليه القاهرة او ورشة الزيتون, او المقاهي الكثيرة المنتشرة في القاهرة, وقد اطلقت إحدى المجلات الإنجليزية عليه (ناقد الرصيف) هذا الناقد الذي تعتز وتفتخر به الحياة الثقافية المصرية لماقدم لها من عطاء فكري ونقدي كبير ومؤثر.
وعلى المستوى الفكري قدم ابراهيم فتحي كثيرا من المساهمات المرموقة, والتي صدر بعضها في كتب, مثل كتابي (الماركسية وأزمة المنهج) و(هنرى كورييل ضد الحركة الشيوعية العربية)وانتقد بشدة التحريفية العربية, واوضح الاسباب التي تقف خلف هذا التحريف, وكشف عن انحرافات فكرية عميقة في هذا المجال, هذا طبعا غير كتاباته النقدية, والتي تعتبر علامات, مثل كتابه (العالم الروائي عند نجيب محفوظ) و(كوميديا الحكم الشمولى) و(الخطاب الروائي والخطاب النقدي في مصر) و(القصة القصيرة والخطاب الملحمي عند نجيب محفوظ) وكتابه الهام عن الكاتب اليهودي الحائز على جائزة نوبل والذي جاء عنوانه (سول بيلو انفصام شخصية الروائي اليهودي) ويعتبر هذا الكتاب في غاية الأهمية, ولكنه لم يأخذ حيزا من الاهتمام حين صدوره,وبالطبع لم تعد أي من دور النشر إصداره،
هذا ملخص غير واف لناقد ومفكر ومترجم استثنائي, نحتفي به بقدر لا يفيه أبدا قيمته, لافتين النظر إلى اهمية نشر إبداعاته التي تابعت الحياة الثقافية والأدبية والفكرية تصل الى ستة عقود من الزمان, وما زال ابراهيم فتحي, يواصل عطاءاته بروح صلبة, ويندر أن تتكرر في حياتنا العربية.