إنها تمطر الآن! أقول لنفسي، سيبلل المطر قبر إبراهيم الجرادي (1951 – 2018) الذي دُفن للتو في مقبرة الغرباء، وسينبت العشب فوق التراب الطري مثل راية خضراء. لن يحتاج هذه المرّة إلى مظلة، كما أنه لم يحض بحصته القليلة من تراب الفرات كي يذهب إلى اغفاءة أخيرة، تحت شجرة كينا عتيقة بالقرب من بيت طفولته الأولى في قرية بندر خان في مدينة الرقة التي تناهبها البرابرة ولوّثوا ماء فراتها المقدّس بتعاليمهم الظلامية. قبل رحيله بأشهر، وكنّا خارجين من مقهى الروضة، قال لي “أنا مريض”. لم تكن هذه العبارة واحدة من مجازاته. الأرجح أن يقول “أنا عليل”. كان يعني مرض السرطان دون غيره، لكنني تجاهلت النطق باسمه، وذهبنا إلى تجليات أخرى، إلى أن صعد إلى تاكسي في شارع الباكستان نحو بيته في مساكن برزة. كان يختفي أياماً، إلى أن أتصل به تلفونياً كي نلتقي في المقهى، وكان يستجيب على الفور، كما لو أنه ينتظر مكالمتي، فهو منذ عودته من اليمن بعد اغتراب قسري لنحو عقد ونصف، بدا غريباً في الشام، مثل بدوي يزور المدينة لأول مرّة، وكان يبرّر عزلته بأنه لم يعد لديه أصدقاء- عداي ربما- كي يبث شجونه واعترافاته وسخطه. إنه يخترع انشغالات أدبية بترجمة قصيدة لشاعر روسي مجهول، أو توضيب قصائد لطباعتها في كتاب، أو الانخراط في قراءة كتب قديمة، وكأنه توقّف هناك، عند سجالات حقبة السبعينات وأوهامها، وبقي تائها بين برزخي دمشق وصنعاء، وحنين أزلي إلى الرقة التي نأت بعيداً، وبات العبور إليها ضرباً من المغامرة. لم يبق من صورة الشاعر المتمرّد على الأوزان ما يشبه صورته تلك بتضاريسها النافرة، فالذي كان يذهب من مدينته النائية إلى حلب كي يحضر مجلات “الآداب”، و”شعر” البيروتيتين، والذي كان يكتب قصائده الأولى عن البسطامي، ثم ذلك الذي حاول تحطيم بنية القصيدة العربية بالتجريب إلى أقصاه، مازجاً الشعر بالتشكيل والفوتوغرافيا، انتهى إلى حطام شاعر أعزل يردّد حداء أسلافه في صحراء مفتوحة على خرابٍ كلّي، بهتافٍ غاضب، وبعويل حواس اعطبها الخذلان، ونخرتها الهزائم. لم تعد صنعاء ملاذاً، ولا دمشق بيتاً للسكنى، فلجأ إلى يأسٍ مبكّر، وحيرة في تفسير معنى الوطن: هل هو قيد النفوس، أم المنفى الاختياري، ذلك أن ذاكرته الدمشقية توقّفت عند حدود الثمانينات، حين كانت شوارع العاصمة بلا متاريس أو خنادق، أو فحص هويات، وحين كانت دمشق تحتضن وتستوعب عنواناً إشكالياً مثل “أجزاء إبراهيم الجرادي المبعثرة”، أو “رجل يستحم بامرأة”. حينذاك كان الجرادي حصاناً بريّاً بلا لجام، يقتحم الأسوار العالية بلا اكتراث، إلى أن ضاقت به المدينة وضاق بها، هو العائد بكامل زهوه من موسكو، بعد أن أنهى دراسته في مدينة بوشكين ومايكوفسكي ولينين، وشهادة عليا في الأدب المقارن. لفظته جامعة دمشق أولاً، كأكاديمي، لكنه سيعمل مترجماً للخبراء الروس أثناء خدمته الإجبارية في الجيش، ثم تسلل إلى الصحافة المحليّة محرّراً ثقافياً. ولكن مهلاً، هناك محطة أقدم، قادته إلى بيروت متطوعاً في منظمة”الأنصار” للفدائيين، بعد هزيمة حزيران 67 لكنه سيعود إلى دمشق لاحقاً، بعد دورة تدريبية في الجنوب. هذا التشظي في سيرته، سنجد مراياه في مرجعياته الأولى” نهم القراءة وحده من أنقذ حياتنا القلقة في تلك البادية المنسيّة، إلى الدرجة التي تجعل تمرّد ألبير كامو تمرّداً شخصيّاً يخصنا في الدرجة نفسها، نحن جيل ما بعد هزيمة حزيران، ذلك الجيل المشحون بالرفض الوجودي، وطاقة التمرّد، وشهوة الهدم” يقول معلّقاً. هكذا وجد هذا البدوي نفسه، في مهبّ أسئلة وجودية ملحّة، سيجيب عنها بنصوص بلا نسب صريح: مزيج من الموروث المحلّي، وآخر تمثّلات الحداثة، مستثمراً أجراس اللغة، والأبعاد البصرية للعبارة الشعرية، والنزق البدوي، بنبرة شعرية لاذعة وبلاغة نافرة، ومقترح مضاد لتطلعات قصيدة النثر التي أسس لها مجايليه من شعراء السبعينيات، فههنا لن نقع على شفويات اليومي بقدر ما نجد جرعات عالية من الأسى الشخصي والسخط العمومي وهجاء خرائط الهاوية. هكذا سيستظل بطيف محمود درويش في “محمود درويش ينهض” رافداً نصوصه بمعجم غنائي حميمي وغاضب وقلق، من دون أن ينكر سطوة درويش على عناصر قصيدته الجديدة لجهة المجاز والدلالة الجمالية. يقول” محمود درويش بنى لي حدائق أستظل بها، وأستفيد منها، فهو كشّاف شعري من طراز خاص”، لكن العزلة الطارئة، واضطراب سفينة الطمأنينة، بهبوب الحريق السوري، أصابا الشاعر الرجيم في الصميم. بدا في سنوات الحرب حائراً بين اختيار منفى آخر، أو الصمت حيال أهوال ما يجري أمام عينيه لبلاد طالما حَلُمَ بأن تعيش زلزالاً يقتلع أشجار الطغيان، فإذا بها تغرق بالضغينة والعنف والاصطفافات الطائفية. انكفأ إلى ذاته، في “تمارين على الألم”، وقد استيقظت روح البدوي في شرايينه المعطوبة، وهو يرى قوافل الغزو تجتاح مسقط رأسه. هكذا لجأ إلى معجمٍ آخر في بناء نصّ النشيج، وتراجيديا الفقدان ومتاهة شجرة النسب، فاستنجدت قصائده الأخيرة بنبرة إيقاعية صاخبة، لم تكن يوماً من نول التجربة، وسجادة البلاغة المضادة. يفسر هذه الانعطافة بقوله” ما من قوة نقدية نافذة الآن، تستطيع أن تحسم أمراً، والمزج بين النثر والإيقاع ليس تهمة على كل حال، فللشاعر الحرية في أن يختار طريقة حياته وموته”. مات إبراهيم الجرادي! يالها من عبارة جحيمية، غير قابلة للاستيعاب. ولكن ألم يذهب صاحب “دع الموتى يدفنون موتاهم” بخطوات حثيثة نحو الموت؟ هكذا ذهب “صيدلية الأدوية المتنقلة” التي انتهى إليها جسده النحيل إلى اليأس التام، مستسلماً للقراءة وحدها. فما أن نجا من السرطان بعملية ناجحة، حتى داهمته جلطة دماغية أفقدته النطق، وهذا ما جعله يفقد الأمل تماماً باستعادة روحه المتوثبة بأسباب الحياة، مدركاً أن لا فائدة من أن تكون شاعراً بلا لسان، كما لم تنجده أصابعه في الكتابة للإجابة عن أسئلة الأصدقاء. لم يرغب بأن يكون عبئاً على الآخرين، فاستسلم لوحش المرض الذي فتك به مجدّداً على هواه”الشاعر صوت، بل صوت أبيض في منتصف الليل، وهو خارج لغة النحاس ورنينها، كما أفترض، ولذا أفترض، أيضاً، أن الشاعر لا يتكئ على غير ساعده، ولا يشرب إلا من ماء نبعه” يقول. هكذا جفّ ماء نبعه مرغماً، وغادر الشاعر “حديقة الأنقاض”، الديوان الذي ظلّ مخطوطاً دون أن يرى النور، وكان قد أعلن قبلاً بأنه” رهان على تشظي الكتابة، بإلغاء الفوارق بين أشكال التعبير، ويذهب بعيداً في خلط الأجناس، من دون أن يؤدي إلى التناقض. نص كلّي لا يخضع لتوصيف معيّن، ولا يستسلم لمشهدية مستقرّة، لعله ترجيع بصري للمشهد السوري اليوم بكل اضطرابه”، ويضيف”
على الشعر أن يوقظ الجمال من نومه، كي يقوم بمهامه اليومية المفترضة، وعليه أن يضرم النار في حشائش الباطل، والكاذب، والقبيح، ويهدم أبنية الظلام، والخطل، والدسيسة، ويقيم على أنقاضها ما يغوي الموج والسهل والأغاني من دخول حديقة الحياة”. وسيكتب مرثيته الشخصية بكامل يأسه” بدَداً صيّرني الوقتُ، وقلبي مُسْتَباحْ، وأنا حقلٌ من الشيحِ، ستسفوهُ الرياحْ، وأنا أحمل ميراثي، وميراثي دمايْ، لستُ محظوظاً لكي أغفوْ على وترٍ ونايْ”.
ذهب الأليف والوليف وما غاب!.
خليل صويلح *