صورته تزين غلاف كتابه الصادر من دار الشروق بعنوان شيء من هذا القبيل.أنظر إلى عينيه ويباغتني وجع حنين خفيف للطف حضوره عبر السنوات, دماثته, ذكاؤه, صداقاته وتجواله في وسط البلد في القاهرة وتعبيراته القليلة والضاربة كالسهم في كبد الحقيقة. أتذكر مكالماته الأخيرة لي في 2011 و2012 قبيل وفاته المباغتة.كنا في زمن طوارئ ومنع تجوال وبدا غريبا أن نحبس في بيوتنا من السابعة مساء حتى السادسة صباحا وأن تبدو القاهرة خاوية وصامتة كل تلك الساعات ولشهور. وكان إبراهيم أصلان من رواد المقاهي ووسط البلد وله أحباؤه وأصدقاؤه الذين لا يستغني عنهم سواء من الوسط الأدبي أو خارجه.ولطالما شكل إبراهيم أصلان ثلاثياً في الثمانينيات مع عبد الحكيم قاسم وسعيد الكفراوي حتى وافت المنية عبد الحكيم في الثمانينيات بعد جهد بذله في الدخول في انتخابات فشل فيها.
كنا نلتقي في كل مكان عبر عقود من الزمان :في ريش وزهرة البستان والأتيليه والأوديون وستيلا ولو جريون وفي شوارع ميدان طلعت حرب أو في مقاهي المجلس الأعلى للثقافة في الأوبرا وغيرها.كان عبدالحكيم قاسم القاص الرائع ابن القرية ودارس الفلسفة في ألمانيا ينحو نحو السياسة والفلسفة والصوفية والدروشة والنقد في حواراته فيما ينحو سعيد الكفراوي إلى الحكايات وقصص الريف المصري وأخبار الأنشطة الأدبية أما إبراهيم أصلان فكان يسأل أكثر مما يجيب ويتأمل وتحس شغفه بالجمال والهدوء والوداعة والفن ولا تفارقه ابتسامة حنونة أحيانا وساخرة أحيانا أخرى. كان قد ترك إمبابه والكيت كات خلفه وانتقل إلى المقطم غير أنه لم يكن سعيدا بذلك. وقد داهمه مرض القلب منذ سنوات وخضع للعلاج لكنه كان دائم الحضور في وسط البلد رغم تعبه.في مكالماته الأخيرة لي كان يبحث عن جواب ما لدي.سألني من هؤلاء وما الذي يريدونه بمصر ولماذا نحن في حالة خوف ورعب لم يسبق لها مثيل قد شاهده ولا حتى نكبة 1967؟
لقد فرح إبراهيم أصلان ابن الحي الشعبي والطبقة العمالية والأديب والعاشق للفقراء وأبناء البلد وأهله وناسه ومصر,فرح بقيام الثورة ووعي الشباب ومطالب العيش والحرية والعدالة والكرامة الاجتماعية وسقوط مبارك ومشروع التوريث لابنه جمال. غير أنه فجع بما تبع كل ذلك: شاهد شعبه يخرج بالملايين من أجل مطالب حتمية وعادلة ومن كل الفئات من نساء ورجال وشيوخ وشباب وأطفال ومن كل الطوائف والأديان في مصر وفي كل المدن والقرى وإن كان ميدان التحرير في القاهرة هو رمز المكان وثورة 25 يناير 2011.
غير أن هذا الرجل الوديع المكافح ابن أخلاق الحياء والتهذيب الشعبي المصقول بنبل الإبداع والثقافة والفن والكتابة فجع بوجوه وممارسات وأحداث لم ير لها شبيها في عمره الطويل في مصر.فجع بالبلطجة والقتلة واللصوص والسرقات والتخريب والاعتداءات والقتل الغامض لشباب الثورة والإرهاب والرعب الذي أختطف شخصية وروح المكان والناس في مصر .فجع بثورة بدأت نبيلة تخطف وتحور وتخرج من مسارها وتبدو بلا قيادة وأن يخرج إلى المشهد وجوه مجرمون كانوا وراء القضبان ويصبحون هم القادة من إرهابيين ومتطرفين تمتلئ كلماتهم بكراهية ضد مصر والعروبة والحرية والتفكير والإبداع. لقد فجع إبراهيم أصلان بالخراب الذي عم مصر والحرائق والمواجهات والقتل والرجعية المخيفة والتحالف الغامض في ذلك الوقت بين السلطات وحركة الأخوان المسلمين ضد الثوار الأصليين والمتحررين فكريا في مصر ممن يملكون تاريخا طويلا في النضال المدني في مصر.كنت مثله متألمة مما يحدث وكان جوابي الوحيد أنها ثورة نبيلة لم تمتلك القيادة وأن قوة الشباب لم تكن تكفي لمواجهة كل ذلك الخفي الذي انكشف وانفجر نتيجة سياسات جرفت مصر وأهملت أغلبية المواطنين تاركة إياهم في بؤرة الحرمان والجهل والمرض والفقر وتجار الدين وتجار المخدرات وتجار الوعي المزيف.
لم يحتمل قلب إبراهيم أصلان كل ذلك ومات في يناير 2012 مكتفيا بما قد شهد من دمار ضرب بلده والعالم العربي ولم يجد له تفسيرا مقنعا.وقد أشار في أحد مقالاته في الأهرام إلى أحد حواراتنا حول ذلك الأمر.
أقرأ كتاب شيء من هذا القبيل الذي صدر عن دار الشروق في عام 2007,أتصفحه بحنان وحنين وبعض الدموع والشوق لتلك الفئة النبيلة التي عرفتها وعشت معها من مبدعي مصر الذين كانوا كبارا في إنسانيتهم ونبلهم وودهم وإبداعهم وكانوا خير صحبة عرفتها في حياتي.أوقد شمعة لروح إبراهيم أصلان وأرواح آخرين من تلك الفئة النبيلة التي رحل معظمها عن هذه الحياة.
تشبه كتابة أصلان نفسها فالقصة والمقالة والرواية وربما حتى الحكي العادي لديه له نفس السمة, ولم يعرف أصلان نفسه بالصحفي ولا الروائي ولكن بكاتب القصة القصيرة طيلة عمره فلذلك يمكن اعتبار ما ورد في كتابه شيئا من هذا القبيل قصص وسرد وسيرة ذاتية معا.يكتب عن الناس والشوارع والمهمشين والبيوت والمقاهي والكتابة وعن رحلاته وعن الكتاب الين شغف بهم مثل تشيخوف ودستوفسكي ويكتب عن صداقاته وعن نجيب محفوظ وإبراهيم منصور وعن الموسيقى وعن كيف أصبح كاتبا وعن فشله في الدراسة واضطراره للعمل منذ الصغر وعن عمله كساعي بريد وعن دور نجيب محفوظ ولطيفة الزيات في حصوله على منحة تفرغ أدبي أنجز خلالها روايته مالك الحزين التي تحولت فيما بعد لفيلم سينمائي شهير بعنوان الكيت كات وعن ما آلت إليه الشخصيات الحقيقية لتلك الرواية في الواقع.
يقدم لكتابه بهذا المقطع:
“أنزع الآن عن إمبابه/ كما تنزع قطعة لحاء جافة
وإن كانت حية/ عن جذعها الطري/ كيما تلتصق بجذع آخر.”
يضم الكتاب حوالي 34 نصا أو قصة أو مقالة فللقارئ أن يصنفها كما يشاء.
يبدأ بالطفولة والنيل والطمي وإمبابه وعلاقته بالقراءة وشقاوة اللعب وبأبيه وأمه ودهشة الحياة الأولى تجاه كل شيء.يسرد علاقته بالقلم وشغفه بقلم الأبنوس والحبر واكتشافه لعالم الكتابة والموسيقى والقراءة والشخوص الذين أثروا حياته الأولى وأثروا فيها.يكتب عن قلم الكوبيا ومدفع رمضان وأنوار كنيسة الزمالك والجيران وطقوس الحياة البسيطة العذبة في ذلك الوقت.يكتب عن فلسفته حول الكتابة وماذا يكتب وكيف يكتب.يسرد ماتفعله القسوة في الحياة وكيف أن كتابا كبارا رصدوا ذلك فيكتب عن ريجيس دوبريه وكتابه حياة الصور وموتها وعن الإيطالي كورسيو مالابارتي وكتبه الانهيار التام وتكنيك الثورة وجلد الإنسان وعن المشاهد القاسية التي شهدها وسجلها الكاتب في الفترة النازية والفاشية في أوروبا.يكتب عن منزل دوستفسكي وزيارته لروسيا وعن علاقته بمحمد عودة ونجيب محفوظ وإبراهيم منصور ويحي حقي .يكتب عن شخصيات عاشت حوله أو بقربه وجيران وبسطاء وبشر يراهم في الشارع وعن مفارقات في حياة البشر.يكتب عن سيارته التي يحبها الفولكس 58 والميكانيكية والحرفية وحكايات الطبقة العاملة والصنايعية.
يسرد إبراهيم اصلان نفسه وكتابته ومصر كما يراها ورؤيته للحياة والكتاب من أهل زمنه ومن تأثر بهم على مستوى العالم وهذا الكتاب بورتريه حقيقي لهذا القاص النبيل تقرأه فتتعرف بحق على كاتبه.رحم الله إبراهيم أصلان.
ظبية خميس*