وحيد غانم
كاتب عراقي
للهوى مآربهُ!
كانت عبارة لمحها أستاذ ناجي الخضر في مفكرتهِ العتيقة قبلَ سفره إلى أثينا برفقة محبَّين تأرجحا على كفتي ميزان الهوى، مندسّة في زاوية الصفحة وسطَ كتاباتٍ كثيفةٍ.
في حياته هو المحالُ في سن الثالثة والأربعين على تقاعدٍ مبكر بسبب سلوكه المشين، مفكرة واحدة تعتصرها أصابعُه، صادرة سنة 1958، التقطها منذ 1962، وقد زيّنتها نجمةُ الجمهورية الفتيّة، وبمرور السنوات غدا كلُ شيء فيها عتيقًا مصفرًا.
مفكرةٌ عزيزة على قلبه.
محتجًّا: أمَا يحتفظ كلٌ منّا بمفكرة ما؟ بشكل معلنٍ أو مخفي، في خيالهِ أو جيبهِ، تحت وسادته، في سلّةٍ أو دُرجِ دولاب، في حياته أو آخرته. في الآخرة بإمكانه أن يتصوّرَ شيئا جحيميا غلافه متفحّم، تخيّل مَلَكين ينتظرانه، يرمقانه بفتور، وتحت أنظارهما مفكرة عتيقة يستنتجان من الرموز التي فيها كل أخطائه المنسيّة!
أرادت حمام مغنّيةُ أوتيل وردية رؤيةَ أثينا، سقى أستاذ ناجي الخضر رغبتها وهو يثرثرُ عن زيارتهِ لليونان وأوربا بحثًا عن إكسير الشباب، ولم تصعبْ أمنيتها على تاجرِ السجّاد الذي جنَّ بمنابع جمالها وبحّةِ صوتها التي ذكرته بالمطربة زهور حسين. رمت المصادفة في طريقه أستاذ ناجي الخضر، مترجمًا يرافقهما، شخصًا ظنّه عارفًا بأثينا، لا يثيرُ ريبتهُ.
وفي صباح الجمعة حضر المعلمُ المتقاعد معتقدًا أنه يومُ السفر فصاح تاجر السجّاد: خيرًا! ماذا يفعل أستاذ ناجي هنا اليوم؟
تلقاه كاظم أبوعبد بنظرة الدلّال القديمة الفاحصة، نظرة عينه اليمنى فحسب، فالأخرى الذاهبة يسارا لا يبدو أنها تُذعن له، ولم يكن سؤالا بقدرِ كونهِ استطرادًا وكأنه يواصل حديثا قاطعه الخيال المارد للمعلم الذي تلبّثَ عند مدخلِ أوفيزه، بين دعامتي بابِ خشب قديم، وقد شعَّت لمّة شعره في الضوء، وكانت شعيراتٌ تبرز من أذنيهِ وأخرى تلتفُ في منخريهِ، تطلعَ أستاذ ناجي الخضر وكذلك فعلت مفكرته المطويَّة بيده، إلى الداخل، وكان الحمّالون ومنظفو ومرمّمو السجّاد، التفتوا إليه وابتسموا بمكر، سُحنهم زيتيةٌ وعيونهم معتلّة وذقونُهم وحشيةٌ، وكما لو أن نظرة «كاظم أبوعبد» الثاقبة كشفت بلاءَ المعلمِ المتقاعد، عرَّت التواءَ حياته، فتضاحكوا.
إن ما يضيعُ من وجدانهِ تستحضره مفكرتُه، فطوالَ سنوات نما دغل كثيف من عباراتٍ مهينة وأبياتِ هجاء قفّاها ضدَ نفسهِ والمجتمع إضافة إلى مصطلحات طبّية وآراءٍ مشوّشة، وفي المفكرة احتفظ يوم الاثنين من تموز بسيرة التاجر«كاظم أبوعبد» إذ رحل أبوه عيسى الدلّال من مدينة العمارة الجنوبية إلى الكاظمية في بغداد وتاجر هناك بالسجّاد وأُغرم بهتلر، بينما أحبَّ الابن في صباه الوصي على عرش العراق الأمير عبدالإله*، استهواه وجهُه النحيف الناعمُ في مقابل مقتهِ الشيوعيين على غرار أبيه، الشيوعيون مقتوا الوصي كما فهم حينها، وكما حلم فيما بعد بسجاجيد القصر الملكي وتمنّى سلبها والاحتفاظ بها، وقد اكتفى بصورة للوصي حشرها في محفظته، وبعد سنوات على مقتله أضاعَ الصورة.
ابتسم استاذ ناجي الخضر متطلعا ببلاهةٍ إلى وجوهِهم أو أنه ألقى التحيةَ في تلك اللحظة، لكن لا! لم يتلبّث انتباهه عند معرض الانتيكات الزجاجي الذي عزلهم عنه، ولا صور العائلة المالكة ورؤساء الجمهورية المركونة على رفّ التحفيّات، وهو كما يبدو سبب آخر لانزعاج التاجر، فعينا المعلم الزائغتان لم تريا خلف إطار الوجوه والأجساد المتعبة إلا شابًا جميلا تأرجح مميلا كرسيَّه على قائمتيه الخلفيتين، شابًا وسيمًا، (good looking!) وعليك تمعنُه بعين الخبير، قال، فستكتشف ما خسرته إلى الأبد أو ربما ما لم تنله يوما، شابًا ممشوقًا منتصب العنق! وقد ارتجفت ابتسامة على شفتي المعلم فالتاجر ما فتئ يستخدم شبابًا وسيمين في الترويج لأعماله هنا أو في بغداد.
رافق التاجرَ ومعشوقتَه إلى أثينا، لكنها لم تكن في كل الأحوال رحلةَ حبٍّ، فمن وجهةِ نظرِه هي أقربُ للخطفِ والافتراسِ، المغنّية التي بلغت الثلاثين لم تجذبْها غيرُ محفظة عشيقها، كان يوقظها فجرا للصلاة دون أن يحفل من أي مِلَّة هي أو أنها تصلّي أصلا، ثم يضاجعها ويدمي جيدها عضًّا، وفي كل فجر يرفع عقيرته بالأذان فتردِّدُ حيطانُ الفندقِ تكبيراتِه متلقِّيًا الشتائم من كل صوب، ولم تلجمه إنذاراتُ إدارة الفندق، ما دعا المغنّية إلى الفرار منه في الأسبوع التالي.
رافقها أستاذ ناجي الخضر، جرَّ قدميه الكبيرتين خلفها حاملا حقيبتَه الصندوقيَّة الصغيرةَ، لم يتذكّر ما وضع فيها، إذ هبَّ كالأعمى تحت وقع طرْقاتها على الباب بعدما تقلّب في فراشه لياليَ تهزّه تأوهاتهما وصرخاتُها في الحجرة المجاورة، مفسّرا وحشيةَ التاجر بقدرة الأجواء المتوسّطية على إثارة الشّهوة.
وفي فرارهما أحاطه صدى كونه مترجمًا يرافقُ ثريًّا مولها دفع تكاليفَ سفره وإقامتِه وطعامِه، فتخبَّط في متاهة دروب أثينا، كما أن المغنّيةَ نفسها اختفتْ فجأة بعد يومين، وحين عاد إلى الفندق وهو يتضوَّر جوعا سأله كاظم أبوعبد عن مكانها فتذرَّع بعدم معرفته وكان التاجر ينظر إليه ببلاهة ثم سكرَ وطرده، ربما كان يومَ خميس فرقصةُ الأيام تُرهق ذاكرتَه، كما أن التاجر لم يفهم أن اهتمامَ المعلم بالآخرين كان شبحيًّا فما إن يغيبوا عنه حتى ينسى وجودَهم ولا تعذّبهِ ذكراهم إلا بعد سنوات، كأنما يبعثُهم هاجسٌ ما، تنحل عنهم لفافة ذاكرته، فيضع إصبعه على سطر ما في مفكرته، كما حدث وشعَّتْ ذكرى حمام في رأسهِ بعد سنة من اختفائِها.
لعل الأمر كلَّه أن المغنّية أرادت البقاءَ في أثينا، ما إن بلغوا ميناء بيريه، أحبّت المدينة دون أن تفهم شيئا من تاريخها الذي رواه المعلم المتقاعد، لم تعنِها آثارُ الإغريق بل استهواها الشبابُ وأنخابُ النبيذ والموسيقى في الليالي، وبعد أن خسر رفقة تاجر السجّاد المخون والساخط، بات هو ومفكرته وحيدين في مدينة غريبة، كان قربان الصورة التقليدية للموانئ الذي يُضحّى به على مذبح اللقاء والفراق، وبلغ شفا الهلاك لولا علاقة طارئة جمعته بشاب يوناني شاحب، كستنائي طويل الشعر، اسمه (Adras) أهو اسمه أم أن اللفظة نبعت من داخل المفكرة فيما بعد؟ ربما كان اسمًا صُمّم في الأجواءِ الأسطورية الغايةُ منه منحُه المتعةَ والأملَ بالنجاة، باستعادة شبابه الذاوي، وقد أرهقه البحث عن إكسير الحياة في المدن التي زارها. أفهم الأثيني رغبته في استعادة شبابه وقدرته على الحبِّ، فتهدَّج الشاب بإحدى أغاني أديث بياف ثم رافقه إلى الساحل وبعد أن استحما وكشف له عن جسده المحسود، أراه جزرًا بعيدةً تغمرها الزرقةُ والنور، وقال: يا تركي! رافقني إلى هناك فسنجد الكثير من كهوف الأبدية!
لكن الأثيني تغيّر مزاجه فجأة بعد أن ثملا في الليل، خاف أن يسرق التركي روحه فبصق عليه وشتمه، كما لقنته جدته في صباه، قالت أيام المفكرة، أخافته نظرةُ الغريبِ المتطلعةُ بقوَّة وشعر وجهِه اللامع فأمطره بالبصاق، ثم مضى إلى البحر وغطس في أمواجهِ المظلمة.
وبالكاد تدبَّرَ أستاذ ناجي الخضر حجزا على السفينة (أوندايك) المتجهة إلى سورية، ودون أمل اكتفى بوجبةِ معكرونة في العنبر يُعدّها طاهٍ طلياني بغيض، ولم يحجز مقصورة، سمحوا له بكرسي على سطح السفينة الأبيض، أبيضَ ومشعّ في النور البحري، كرسي يُمد ويُطوى، عرشُ راحتِه وتذكّره وغثيانِه البحري، والحقيبةُ بين قدميه الكبيرتين تنزلق يمينا وشمالا، كرسيٌ لتصريف شؤون حياته.
وفي أول نهار إبحارِه غطس في ظلمة وعيٍ مشتّت، أعمته شمسُ أثينا المتنائية، كالتناسق والجمال والقوّة التي توهمها ساطعةً لوهلة من خلال جسم اليوناني الشاب، حتى شاء القدر، وهو هنا ببساطةٍ السفينة ومن عليها أن يلتقي بالدكتور جبّور، النحيف المتناسق الأعضاء في الظاهر، الخاوي تحت ثيابه، والذي ذكّرته ملامحُه بشكل الوصي عبدالإله، صادفه عند حاجز السفينة الحديد، ينظر للأمواج المزبدة في النور،مرددًا: آه أوندايك بذّتك الغوالي! كأنهما مهاجران نحو سواحل المحيط.
تعرَّف المعلم على الدكتور جبّور واستماله إذ أراه صورةً جمعتهُ بحمام في مرقصِ كارلا، فدعاه الدكتور على وجبة غداء في مطعم السفينة، صورة حمام أربكتْ حدس الدكتور فظنها عشيقته، وبدا مُحبطا لدى المقارنةِ بين جمالها وخلقةِ أستاذ ناجي الخضر الذي اضطر للتلويح بيديه طاردًا الفكرة: لا لا لا..! أنا عائبٌ ولا يمكنني مبادلة الحبّ! هل فهمت كيف؟
على أن صفحةَ لقائهما طويت سريعا ما إن مالت بهما الباخرةُ إلى ساحل الإسكندرية وغادر الدكتور جبّور، في وقت ما برحت فيه آلامُ جمال عبدالناصر تُبثّ عبرَ التلفاز الأبيض والأسود، وسطَ رعشةِ تلك الجزيئات الكونية الرمادية، بينما نبرته تعصرُ القلوب، ملوحًا بكفه للا أحدَ ، لا أحد مطلقا، إذ تملكته الرغبة أن يطَأ رمال الشاطئ الأبيض المهجورِ الذي تلهبه الشمس ويسير بين أجسادٍ وهميَّة عارية يغيّبها الوهَج!
وعندما نزل في ميناء اللاذقية حظي بتوصيلة مجانية إلى حلب من سائق ثمل في ظل رفاقيةِ النكسة، وأمضى ليلةً في محطة بغداد، مستجديًا أجرةَ عودته بعربة نيرن، الأحرى أنه حُشر بالخلف جوارَ تواليت العربة واستسلمَ من فوره للنوم، حتى أيقظَه ما يُشبه التطامَ الأمطار بالزجاج وكان شهر حزيران، والهواءُ لافحٌ، وعندما نظر إلى النوافذ إذ ألصقَ الجميعُ وجوهَهم، بدا له ظلٌ أصفرُ كعاصفة رملية، يهبّ ويرشق العربة التي توقّفت، وفي تلك اللحظة كان الجميع يصرخون: جراد! عاصفة جراد! فأسرع للنزول غير آبهٍ بتحذيراتِ الركاب، ورأى أمريكيا اسمه ريتشارد قد سبقه وهو يلتقط الصور، وتجمَّد وجهُه الدهشُ مرارا في ضوء الكاميرا فرأى الريح والظلال. كانت سحابة تغطي السماء وتحجب ضوء الشمس، تمطره آلاف الجرادات المتساقطة، تصفعهُ وتضرب بدن العربة، كان وحدَه والأمريكي، بينما وجوهٌ خائفةٌ تنظر من وراء نوافذ العربة، في الامتداد الصحراوي، مكشوفين لقصف حشريّ أعمى، وكان بإمكانه أن يتذكّر بعد أشهر في منامه تلك القيامة وسجادة الجراد الصحراوي، تهمش نابضةً، زلقةً، بامتداد الطريق، حتى شتمه أحدُهم، السائقُ أو مساعدُه وسحبَه إلى داخل العربة.
ربما لم تحدث تلك الرحلة فهو يهذي كثيرا عن خيالاتٍ تسكن رأسه الذي بقي حبيس مفكرته، القوقعة المغتصّة بالاحتمالاتِ، مع أنه مال إلى طيف ريتشارد الأمريكي الغامض الذي دفع ثمن طعامه خلال السفر
-فمن أطعمه يومئذ؟ لا لا لا! هو الأمريكي المريب!- زاعمًا أنه يحمل ميولا يساريةً، وقد نزلا في فندق الأخوية المسيحية في شارع السعدون عام 1967، بُعيد النكسة بأيام، وبدا أن ثمة فراغًا وغضبًا يتآكلان النفوس، وهو غضب لم يمنع بائع الفلافل من مواصلة عمله في دربونة بمحلة البتاوين.
كان تاجر السجّاد وصل بغداد وانشغل بإدارة أعماله، وكذكرى غامضةٍ لمعت على صفحة من صفحات مفكرتهِ، قاد المعلمُ «صديقه» الأمريكي لمقابلته، فاستشاط التاجر حين رآه، وعندما هدأ أراه المعلم صورة جمعته بحمام فبكى ومزَّقها ثم ندم وجمع أجزاءها، ولم يبد عليه أنه سامحه، لكنه تصاغر أمام الأمريكي الذي صوّره، تناسى كاظم أبوعبد غرورَه الجريحَ ودعاهما إلى الملهى الذي غنّت فيه يوما ما زهور حسين، وكما قال ريتشارد فهو برأيه رجل لم تهمه النكسةُ ولا الحروبُ ولا الانقلاباتُ، يسكر وببذخ ليلا ويصلي نهارًا، وقال عنه:«إنه يتمتّع بحياته القصيرةِ ويصلي من أجل عينٍ واحدة!» .
وبعد شهر على عودة المعلم المتقاعد إلى البصرة، انبعث وجهُ دكتور جبّور عبدالأحد من مفكرته، فمضى باحثا عن عيادتِه في الأزقة، وعند باب حديد ضيَّق في بناء قديم تلقاه مضمدٌ اسمه حسين فالح، الثعبان القوي وليعُ شغفه بسرِّ الشباب والقوة من خلال خلطات الأعشاب، وأغراه وضعه فسأله عن حالته فقال المعلم بصوت مدوٍ: لا لا لا! لا شيء! أنا عائب! لا يمكنني مبادلةُ الحبّ!
ابتسم المضمد ساحبًا ضلعَ الستارة الخضراءَ، مشيرا عليه بالجلوس، بشبه انحناءةٍ، فكأنما أحنتهُ نظرتُه الرمادية الثقيلة، وبرجاء للحفاظ على جو الهدوء.
استقبله الدكتور جبّور عبدالأحد، وبدا أن صورة حمام الجميلة استقرت في زاويةٍ نائيةٍ من طيفه المسافر، إذ سرعان ما تذكرها، صورة لم تمزّق بعد، فالمرء لا تجذبه امرأة دون أن يثيره شيءٌ من محاسِنها، كما أن لدى الدكتور ما يكفي من الفراغ للتفكير برفيقها التعس الذي يكبره ولا يقدر على مبادلة الحبِّ، وهو لم يتوقعْ أن يزجَّه في عالمِه الخرِب، إذ أمطره منذ تلك اللحظة برسائله التي استهلها معرّفًا بمشكلتهِ الأبدية.
«بسم الله الرحمن الرحيم..عزيزي الدكتور العالم جبّور عبدالأحد المحترم.. اقتنيتُ كتاباً نُشرَ عن الطب البديل باللغة الإنكليزية قبل مُدّة وقرأته بإمعان، ففهمت منه أن هناك أكثر من عيادة في لندن لعلاجِ الخلايا -تجديدِ الشباب- أرجو منك مساعدتي في نقل التجربة إلى العراق وخصوصا البصرة لتشجيع السياحةِ وتجديدِ الشباب..»
مسكونًا بهاجسِه، سافر خيالهُ برفقة الدكتور متصفّحًا دليلا لندنيا صادرًا عام 1920، مؤشرًا بقلم الرصاص مشفىً ما في حي ضمن نطاق لندن الكبرى محتهُ قنابلُ الحرب العالمية، آملا بزيارته، إي إي! سنغطس في حوضٍ ملائكي ونجددُ الخلايا ونستعيدُ الشباب! لأنك خاوٍ يا دكتور وتحتاج لتجديد الشباب! ربما أقنعُ صديقي التاجرَ الرأسماليّ بمرافقتنا! ولم يكن يعرف إن كان تاجر السجّاد الذي عاد إلى البصرة سامحهُ أو أنه نقمَ عليه إلى الأبد.
انتهى تساؤله وسط اللغط الذي تشرّبه بابُ الخشب والحيطانُ التي تكدّس جنبها السجاد واللوحات الزيتية، وعندما تجاوز فكرة وجود الباب الذي له صلةٌ بحرّ البصرةِ القديمة البالية والأصوات والغرباء، لم يجد نفسَه في الأوفيز الجانبي المزجّج الظاهر للعالمِ ولا في يوم الاثنين أو الخميس ولم ير الشاب الجميل الذي هزّه طيفهُ ولا في قوافل طرق الحرير المرسومة بألوان تيبّستْ ولا بين نُضُد السجّاد والرائحةِ الوبرية. دخل قبوًا أجوفَ معقودَ السقفِ، تنحني أضلاعُه العاليةُ وقد أضاءتْه كوى ثلاثٌ تسكب نورًا صفَّره الغبارُ السماوي، وهناك لاذ اثنان، كاظم أبوعبد وحسين المضمد. اقتعد التاجر كرسيًّا خشبيًّا صغيرا وأسلم رأسه للمضمّد الذي انهمك بإزالة شعر أذنيه على الطريقةِ الإسطنبوليةِ القديمة.
قال أستاذ ناجي «خِفّـة يد!» وسأله التاجر إن عرف شيئا عن حمام؟ فهو لم ينسَها. كان عاشقًا حقيقيًا غيورا، لم يصدقْ أنها هجرته واختبأت في مكان ما بأثينا، ولم يفارقه ظلُها بعد مرور الوقت، فأجابه أستاذ ناجي الخضر بصوته الجهير أنه لا يعرف كل مكان في اليونان، لا لا لا! مع أنه زار أثينا مرّتين بحثا عن إكسير الشباب، فابتسم حسين المضمد، وكان يصغي إليه ملهبًا فتيلة قطن، كأنه يؤدي طقسا سرّيًا، نارًا زرقاءَ ضئيلة تزهر في العتمة وتلمع في عينيه، ثم إنه برم الفتيلة في صيوان أذن التاجر الذي لم يبد رد فعل مع أن رائحة شاطت في الجو، وبخفّةٍ نفخ الأذن ومشَّط الشعر الذي عدَّله وصبغه وحدَّده، ربما سمع التاجر يقول، أنا ابنُ حرام لأسألَ خرِفًا يعيش في عالمٍ آخرَ!
كان يزور الدكتور جبّور مرتين أسبوعيًا، حاملا له رسالةَ أمل، وقد تملكه هاجسٌ بأن المضمد حسين يفكر بسرقةِ مفكرته فكان يشدّ أصابعَه عليها كلما ألتقاه، أحسَّ المضمد بريبته. اقترب منه وأخبره أنه شخصٌ مسكين وحق الله، وقال إنه يعتاش على حيلهِ الصغيرة فالناس غنيُها وفقيرُها تستلهمُ أملا بقوى الغيب، لكنها لا تتقبل شيخوخة شهواتها، ثم اقترب أكثر وهمس في أذنه الكبيرة المشعرة أن التاجر وسَّع ثروته من خلال أمورٍ أخرى!
وقالت الأيامُ في مفكرته أن نهاية مبكرة تربّصت بالمحبِّ المعذَّب، في تلك السنة بلغ أبوعبد الرابعة والخمسين وقد استعاد ولهَه وسعادته لدى رجوعِ حمام متناسيًا هجرَها له.
استمالها مجددًا، مع أنها عادَتْ سقيمةً، بينما وهَبها أستاذ ناجي أملا بالشفاء واستعادة نضارتِها، كما يُمحَّص الذهب بالأسيد الحارق، فالمشكلة تكمنُ في القدرة على الحبِّ! وقد عانيتُ من ذلك طويلا. ليس هناك أحدٌ مدَّ لي يد العون سوى البحثِ الطبيِ الناجعِ السريعِ وإن شاء الله ينقل الدكتور جبّور التجربة في ظرف وجيز وأنال الشفاءَ، سنغطس في حوضِ تجديدِ الخلايا! لأنك تعانين من عدم القدرة على الحبَّ!
كان تاجرُ السجّاد خائفا فضمَّتهُ حمام بدمعةٍ وصفعةٍ خفيفة على خده عندما ذكّرها بهجرِها له، مع أنه سامحها، إلا أن نظرةً غريبة في عينهِ أخافَتْها، وكأنه يعرف أنها لم تحبَّه، لكنها أرادته كشيءٍ غامضٍ كثير التفاصيل ومتكتِّم وأملسَ، فهو شخصٌ لا يُحب ولا يملك صفاتٍ شابَّة تفتنها، لا شيءَ إلا محفظَته، بينما احتاج هو لمن يطفئ قلقَه، فنسي مخاوفَه في حضنِها ووعَدها برحلةِ علاج إلى لندن «سيرافقنا الخَرِفُ، نعم، لخاطرِك!».
خلال خريف السنة الأخيرة من حياتِه حذَّره بعضُ معارفهِ من شبهاتٍ تحومُ حوله، وكانت سلطة قاسية تفتح عيونَها في زوايا تجارتِه وحياتِه متقصِّية.
أرسلت المغنِّية خادمَة الفندق العجوز «نملة» للبحث عن عيادة خامل الذكر الدكتور جبّور، نملةَ النحيلةَ مشدودة العصب، فليس واردًا أن تجوبَ المغنِّية بنفسِها أسواقَ العشّار، متجَنّبةً دوما نظرات الناس، فهي تشعر بأنها مكشوفة، وستمزقها انظارُهم وأصابعُهم، نحن مكشوفون، كنت مكشوفًا دائما ومعرَّضًا للأذى، فاليونانيون بذروا في قلبِها بذرة الغرور النصراني، حبّة الغار في أرض عدن، تفيؤها ظلال السعفات من لهب الشمس، فرديتها. هل فهمت دكتور؟ لا لا لا! لقد عرفتْ ذلك وتشربتْهُ روحُهُا عندما أمضت عاما في مرقص كارلا بأثينا.
وكان على «كاظم أبوعبد» أن يقلَّها بعربتهِ الدودج 59 الحمراء ذات الزعانفِ الخلفية إلى عيادة خامل الذكر، في أزقة العشّار الضيقةِ.
أيقظه في زيارته الأولى سطوعٌ صاعقٌ ما أن رأى الدكتور جبّور، أدهشه منظر الوصي جالسًا في مقعدٍ دوّارٍ، فاهتز كيانُه واقتعد أولَ كرسي، مرتجفًا، هو الذي لم يعد شيءٌ في الدنيا يفاجئه، كان شبهًا غريبًا، وقال إن أحدًا من جلدةِ الأمير عبدالاله -رحمه الله- إن وجد على قيد الحياة لن يحمل ملامحَه كما يحملها الدكتور، حتى إنه لم يستطعْ كبحَ رغبةٍ بسؤالهِ: هل لك صلةُ قرابةٍ بالعائلة الملكية؟ فنفى الدكتورُ وابتسامة خجول تداعبُ شفتيه فهو مسيحي! من أب وأم، وبدا فرحًا برؤيةِ حمام.
لكن من يدري!
قال أستاذ ناجي الخضر، واستفسر التاجر من المضمِد، الذي دخل سردابَ أسرارهِ الجنسيةِ، فلم يجبهْ بما يُرضيه، لكن الشبَه فتنه، ووجَد ألفَ سبب لزيارته، فكلما أنَّت حمامُ هُرع بها إلى عيادته، وقد بحثَ في أغراضه القديمةِ عن صورةِ الوصي، كأنَّ حنينًا عميقًا تفتَّح داخله، شغفا بالوجهِ الذي استهواه صبيًّا، لكن لم تقنعه صورة الأمير الذي يقف بين أفراد عائلتِه في صور الأنتيكاتِ، ولا عشراتِ صورهِ الشخصية، بل واحدة خاصة له وحدَه سبق ودسَّها في جيب محفظتِه يومًا ما، ولو بحث عن فراشةٍ طيَّ كتابٍ أو طابعٍ ملكي لكان أسهل عليه.
لن يجدَها أبدا. لا لا لا..! أستاذ ناجي ومفكرتُه البالية وأيامُها يعلمون أنه شخصيًا بحث طويلا عن أشياء طالما أُهملتْ في زاويةٍ من حاضرهِ ولم يجدْها.
مرّة أخرى استعان كاظم أبوعبد بالمعلم في طلب صورةٍ شخصية من الدكتور وقد حصل عليها، وضعها في محفظتِه فرِحًا، أيقظت صورة الدكتور ذكرياتهِ، منعزلا في قبو أوفيزه كان يخرجها ويطيل النظرَ إليها، صورةُ الوصي شابًا حيّا وناعمًا ولطيفًا.
أما أستاذ ناجي الخضر فعاود زيارة المغنِّية حمام.
وفي يوم الجمعة أثارَها معتوُه مرَّ كاشفًا عورته وهو يغني في الشارع الخاوي، لاحظ بريقَ نظرتها ونعومةَ ضحكتها، كان خدّاها يتورّدان تحت أثر فازلين خفيف..
همست مفكرته: للهوى مآربه! لا كما زعم أساتيذُ الحبِّ والجمال!
ورآها تدفع مصراع شبّاك الخشب وتطلّ، أعلى قليلا من غصون شجرة السدر التي التوت وريقاتُها واصفرَّتْ، فلمحها المجنونُ بثوبِها المخرّمِ وجسدِها الشهي، ورفع عقيرته بالصياح. مرَّ بقذارته وأسماله، ورآها أستاذ ناجي الخضر في مرآة الكوميديون منحنية تدندنُ بأغنيةٍ فضحك وارتعشتْ كل شعرةٍ في وجهه.
بينما أصغى لصوتِ المجنون ينطلقُ مردّدًا أغنيتها في الأسفلِ ورآها تملّسُ بطنها، آلمتها رغبةٌ حارقةٌ كما يحدث لها أحيانا حين ترى شابًا وسيمًا أو تهبّ من حلمٍ مثير، ولم تكن نامت ليلتئذ عدا ساعة، فلم يكن بطنها سليما بعد ليلة كدٍّ.
وفي فصل الشتاء، ندبت أيام المفكرة تاجر السجّاد المحبّ، احتضنته مودّعةً وغَمرهُ اصفرارُها كسحابةِ جراد، أُعدم كاظم أبوعبد بعد أشهرٍ من اعتقاله برفقة ثلاثة آخرين، استيقظ أحد القضاة يومًا ما وحكم عليه بالموت. اُتّهم التاجر بتهريبِ الحشيش الإيراني في السفن الآسيوية، واستوَلتْ السلطاتُ الجديدة على أموالهِ وأملاكهِ، قُدر لحمام من خلال توسّط البعض زيارته، فالجميع خافوا التورّطَ، وقد تركت دمعة تتلألأ كشمسِ رحلةٍ متوسطيّة على راحته، طلبَ منها أن تجلب له صورة، لا صورتها أو صورة أحد من ذويه بل صورة الدكتور جبّور!
وفي الأثناء زار ريتشارد الأمريكي مدينة البصرة والتقى أستاذ ناجي الخضر، فاستعادا ملامح التاجر مفتقد الحبّ الذي يصلي نهارًا ويعربدُ ليلا. البقاءُ للأوهام الكبيرة. لم يكن الأمريكي (good looking). انبعث من أشباح مفكرته، كانت عيناه الرماديتان المغلقتان تعرفان الشيء الكثير عن تعاستي ولديه شكوكهً!
فجرًا، في ساحةٍ أم البروم وسط المدينة، تدلَّى كاظم أبوعبد معلقا بين ثلاثةٍ آخرين، بينما اعتصرت أصابعُه صورة الدكتور جبّور، كان هوى غريبًا نبعَ من شبهٍ بعيد، ولم يكن الأمريكي قدم إلى البصرة لفهم تلك المقاصدِ الغامضة.