موسى حوامدة
سأقترضُ من المنحدراتِ قيعانَها، ومن الصخور غدرانَها، ومن سفوحِ الجبالِ شلالاتِها، ومن الأنهارِ مصباتِّها ومجاريها. سأستعيرُ من الطبيعة بعضَ الجداول والينابيع، أريدُ ماءً غزيرًا، ودمعًا مدرارًا. أريدُ غيومًا فائضةً على حاجة السماء، أريدُ مطرًا يسحُّ من عينيَّ، يغمرُ وجهي، يغطي المآقي ويزيد. أريد العَبَرات تغسلُني، تغسلُ كآبتي وحزني وندمي، وخطايا الولد الخاسر، والتائه.
ترى من يعوِّض خساراتي؟ من يُغيِّر طعمَ الحامضِ الَّذي استوطن لساني وحلقي، وأقام مملكةَ العلقم داخلي، من يعيدُ لي هناءَ البعيد، أو وهمَه الجميل، من يَقدرُ على إعادة سبك ذلك اللوح الزجاجي، اللوح الَّذي سقط من ارتفاعه الشاهق. من يُرجع حلاوةَ الماضي؛ ذاك الماضي الَّذي تناثر بين يديّ مرةً واحدة، من دون مقدمات أو إشارات، وجاء سقوطه سريعًا مدويًا، كأنه دُفِعَ من علوٍ شاهق، فخرَّ هابطًا فوق صخرٍ قاسٍ وصلب.
حتّى إذا حدث ما حدث، انتبهتُ من نومي العميق، وطمأنينتي الزائلة، تلك الَّتي لم أذق طعمها، وأنا في مرابعها، وتحت ظلالها، بل كدتُ أمسك طرفًا من حلاوتها، بعد انقشاعها، ورحيل هُنيهاتها الحلوة، فرأيت خسارتي شاهدةً تسعى أمامي؛ شاهدتها بأم عيني متجسدةً، ماثلةً، مُحدقةً فيّ بعينين وقحتين، ولمحتُ تلك الطمأنينة الماضية، معصوبةَ العينين، تتهيأ لحبل الإعدام، الَّذي التفَّ على رقبتها، وجزَرَها جزرًا، لا فكاك منه، ولا مناص.
أرى الآن، جثَّةَ كلماتي، تتكورُ أمامي، تُدحرج حياتي الَّتي قامرت بها من أجل حريتي؛ تلك الحرية الَّتي توهمت أني امتلكتها، حين تمردتُ على ظلال ذلك الحلم البعيد، فاكتشفت أنني أضعت حياتي، حين توهمت أني ربحت حريتي، ولم أك أدري؛ أني خسرت حريتي أيضًا، حين أضعت مهدَ الطفولة والصبا، فضيَّعت الغايتين، حين أيقنت أني خسرت الأولى؛ لم أمسك بالثانية حياتي.
وشعرت أني خرجت مهزومًا، من معركةٍ كنتُ أظن أنها أقلُّ من شجاعتي، وكفاءتي، وقدراتي. فإذا بي صفر اليدين: لا أملك شيئًا من حطام الحرية، ولا بعضًا من حرير الراحة، وهناء الأبناء الوادعين، الماثلين للرضا والقبول.
نادم كبير، وخاسر أكبر، أعرف، ومع ذلك لا أنسى؛ أنني حين ملكت تلك الحياة الموهومة، وجدتها سرابًا لا يتحقق، وصحراء لا تدرك، وطيشًا لا يرضي الغرور. وحين عشت حريتي -بكامل إرادتي- تبخَّرت حياتي، بمنتهى العجز واللاإرادة، ولم أدر لِمَ يحدثُ خلق المعاني، والكلمات الفائضة على الواقع، والذاهبة في الشعرية، حد نسف الطمأنينة والسكينة، وهدأة الرياح والخواطر، والأنواء الَّتي حملت أوديسيوس بعيدًا عن إيثاكا وبينلوبي، سنوات وسنوات.
تلك قرصنة أخرى يضيفها القدر ليوم الولادة، ومصير المخلوق التَّعِس، ولا أدري، لعلِّي أيضًا، لو تخليت عن حريتي، منذ مطلع الوعي -إن كان قد بدأ أصلًا- لكنت في درب هلاك آخر، ولما كسبت شيئًا، بل لعلي أكون قد خسرت حتّى نفسي الَّتي تتأرجح الآن، بين العمى والنور؛ بين الغواية والندم؛ بين الفقد والخسارة، فالخسارة قرينة الطيش، والمقامرة أولى رفيقات الصبابة، والفتنة ذاهلة عن المفتون والمُفْتَتن.
ولعل الرضوخ أيضًا، لشروط الطاعة، وكسب الراحة والدعة واليقين، نهايةُ العبيد السعداء الراضخين، إن لم يكن ديدَنهم وحياتَهم الجوفاء، مع ما يشمل ذلك من رداءة وبؤس، وإذلال وازدراء، أو حياة فارغةً بلا معنى، لا تختلف كثيرًا عن حياة العناكب والجنادب، إلا بمقدار ما تتسبب به هذه المخلوقات في تلويث الطين والهواء، وإشغال حيز -في الفراغ- على سطح هذه المعمورة.
أقول ذلك في وداعِك، نعم في وداعك، أيُّها الأب الَّذي كان، أيها الأب الذي لم يكن، أيها الأب الذي لن يعود، أقول ذلك اليومَ، وبعد موتك العادي غير المفاجئ في وقوعه، بل في وقعه وتأثيره، وقدرته على قلب كل اتِّزان، ويقين ومعرفة.
ها أنت -برحيلك- تُفجِّرُ كلَّ التواريخ والأفكار والقناعات والأوهام، وتعيد سيرة العمر من أولها. تكشف الحماقاتِ والأخطاءَ، والعثرات والسراديبَ المعتمة، داخل النفس النافرة من كل ماضيها وحاضرها وغدها، المتقلبة على نار الخطيئة، وجمر الجنون، وماء المعصية.
فتعال يا أبي، يا مانحي بصيص الحياة، وبذرتها الأولى. تعال يا نافخَ الكير، ومُشعلَ الحريق، ونار الجوانح والجوارح. تعال أيها الرجل الَّذي كان.. أيها الراحلُ رحلتكَ النهائية، وسفرَك اللارجوع منه. تعال أعيد الحياة معك، لعلي أعرفك من جديد، وأعرف نفسي من جديد، أغربل الماضي لأراك -مجددًا- وأراني من بدء الخلق والنشء والتكوين.
لا همّ لي الآن من بعد رحيلك، إلا تذكرك، وإنعاش صورتك، وإحياؤك، فلست مقتنعًا أن عمل ابن آدم لا ينقطع من الدنيا، بل ينقطع وينتهي ويموت، إن لم يجد محبًا يستذكره، وولدًا يعيد خلقه، أو بنتًا تنعش ذكراه، وحفيدًا يحمل جيناته وسماته، أو حلمًا ملائكيًا ناعمًا يرسمه من جديد. وليس مضطرًا كلُّ حي للتناسل، فلربما يجد المرء نفسه في ابن غيره، أو نسلِ سواه، او ابن امرأة ورجل آخَريْن، ومن بلد آخر، وجغرافيا بعيدة، أو من أتباع دين بعيد. ولكن إن أحس بالفقد مَنْ نَتَجَ مِنْ صلب أبيه، وحمل صليبه، ونعشه، وجسده الحي إلى آخر الممر المفضي إلى العتمة، أو إلى النور أو الغبش والهيولي، فذلك أمر حسن، أو لعله مقبول وممكن، وقد يكون عظيمًا أو دنيئًا. لا أحد يعرف ولا أحد يحكم، فكل فكرة تحمل نقيضها، وكل حكمة تملك رعونتها، كما كل تفاحة تحمل عفونتها، وكل وردة تقبض على طاقة ذبولها، وسرِّ جفافها. لا شيءَ مكتمل، لا شيءَ تام، ولا شيءَ حقيقي أو جميل، إلا بنظرتنا -نحن الرائين- وحسب جرعة الدهشة الَّتي نبتلعها، أو تُهيأ لنا.
الآن، وقد مضت على غيابك أيامٌ طوال، بل سنوات زادت على العشرين، ما زلتُ كأنني قد سمعت نعيك للتوِّ، أعيش موتك الأبدي وكأنه صار المناسبة الأهم، والأنسب في حياتي. لا بل قل: كأن الزمن توقف هناك، وتجمَّع الماضي والحاضر والغد، في لحظة درامية واحدة، فصارت لحظة غيابك، هي اللحظة الَّتي تتجمع عندها كل خيوط الزمن، وصرتُ لا أرى غيرها، ولا أعيش سواها: أحياها، أعيد إحياءها، أعيد ترتيب الماضي، الذي يبدو الآن، كأنه يتلاشى، يتناسل مثل خيوط النسيج المتآكلة، يمضي، ويتشكل من أجل هذه اللحظة بعينها، وأرنو إلى الغد، يُقبل بطيئاً كأنه لا يريد الابتعاد، أو مستعجلًا كأنه يريد العودة للوقوف بين يدي هذه اللحظة بالذات، والتمركز داخلها وخارجها، من أجل أن يتأملها ويعيشها ويمضي بعيدًا وقريبًا، ليرتدّ إليها ويتكسر عند حوافها، ويتماهى بها ويصيرها.
حُكمُك، يا أبي، وحِكمَتُكَ. طيشُك، يا أبي، وجنونُك. علِّتكَ يا أبي، وصحتُكَ. غنى نفسِك وفقرُك. عزتُّك وخوفك.. قوتك وضعفك.. جمالك وشدتك.. بأسك ورحمتك.. كل عيوبك وحسناتك تتراكض الآن، بين يدي، وأمام ناظري.. تتخلق من جديد، تتنامى وتحيا كأنها تولد للتوِّ والحين. ولأني لا أستطيع العودة إلى الزمن الماضي لأجدك هناك، سأحضر الماضي ليعيش معي، في هذه اللحظات. انظرْ إليَّ، يا أبي، تجدني أعيش الحاضر، كأنني واقف تحت الصخرة نفسها؛ لا أتحرك من تحتها، ولا تتزحزح خواطري بعيدًا عنها، ولا تسعى إلى التمرد عليها، أو الوقوف حتّى خارج ظلها وفيئها ودائرتها. وكأن الحرية، الَّتي ملكتُها بعيدًا عنك، صارت تتشهّى عبوديتي، تحت سماء ذكراك، وفي أزقَّة سيرتك، وفي سجن ماضيك وماضيَّ، وتُمتِّعني بالعيش معك، بل العيش من جديد.
ولا تظن أني أبالغ حين أقول لك: إنني أعيش معك، اليومَ، حتّى بعد موتك المادي، فلا تنحصر العلاقات في أجساد تتمايل، ووجوه تبتسم، وأصوات تتطاير، وأيدٍ تتصافح، ولا تتوقف العلاقات بين كائنات من لحم ودم، وليست الحياة واقعًا يعاش آنيًّا، بل روح تسكن الدهر والعمر والزمان، ورائحة تغمر فيوض البدن والعقل، وتمتد في المرئي والمعقول والممكن، بل تمتد في غير الممكن، وغير المعقول.
هكذا تجدني أعيش حياتك السابقة؛ حياتي؛ حياتنا السابقة، أو قل: تلك العلاقة الغامضة والمركَّبة، بين أب كأنه قُدَّ من حجر، وابن خُلِق من نفور وعصيان.
أمضي في تلك الحياة، أمشي فوق طرقاتها المغبرَّة، وحاراتها القديمة، وقصصها المتجددة، أشرب من حكمتك وأُبوَّتك ومائك العذب، وأتدفأ بنار لهفتك، ورقَّتك، وهشاشتك الَّتي عشتَ عمرك تخفيها، وتمارس عليَّ خُدْعَةَ إظهار القوة والبأس، بينا جوانحك تضطرب، وقلبك يخفق، بل يخفق بلا هوادة ولا رحمة، وقد سبرتُ غورك، ولمحتُ ضعفك، بعيني ذئبٍ مطرود، كانت عيناك تفضحانك، ويداك تشاركان في كشف سرك، حين تظهران تلك الارتعاشة الخفية، وأنت تحاول التظاهر، وإخفاء داخلك اللَّيّن الرجراج، وتغطيته، بينما تُظهر قشرتَك الصلبة.
اعلمْ علم اليقين، أيّها الحيُّ الميت؛ الميت الحي، الغائب الحاضر، الحاضر الغائب، أنني صرت من فرط تعلقي بهذه اللحظة -أعني لحظة رحيلك وغيابك- متعلقًا بكل لحظة تشبهها؛ فكلما سمعت نبأً أو نعيًا، تخيَّلتك، وكلما شاهدت رجلًا كبيرًا، أحنيت كتفيّ ليتكئ عليهما، ومددت يدي ليأخذ بها، وصرت -من فرط تعلقي بك- أحترم الكبار لتشبههم بك، وأضعف أمام الأبناء؛ فقد يكون لهم آباء يشبهونك، وأحنو على الأطفال، لأن لهم أجدادًا مثلك، وأشفق على كل إنسان، فربما يملك بعض صفاتك، وأخفِّفُ الوطءَ على كل أرض، فربما حرثها فلاح مثلك، وأحنُّ على كل حجر وجدار، فربما جلس، أو اتكأ عليهما، أو لمسهما أبٌ طيب.
بل صرت -كلما تراخى إلى أذنيَّ لحن موسيقي عذب، أعني: سعال رجل بعيد- أنتشي حنينًا لك، وأطرب خفةً بتذكُّرك؛ لقد صار يطربني صوت السعال، فأخرج من عباءتك لأعود إلى وجهك ويديك وصوتك وصدرك وجسمك الحي. وصرت -كلما هبَّت عليَّ رياح شكٍّ، أو صَبا يقين- خطرْتَ ببالي، أو نعمتُ ببعض دعة قفزت إليَّ، بل صرتَ لا تفارق لحظات حياتي، إنْ سرورًا أو حزنًا.
خذ مثلًا: هذا الصباح شرد مني خاطري، أيضًا، مع تحوطي لعدم هروبه باتجاهك، وإصراري على تجاوز الأمر، حسب نصائح المعزِّين وبعض الأصدقاء: “خذ قرار النسيان، وابدأ حياتك، كأن شيئًا لم يكن”.. أضحكوني كثيرًا: تخيَّل أن موتك لا يعني لهم شيئًا، يريدون أن أمرَّ عليه مرور الكرام، كأنك شخص لا يعنيني، ومنهم من قال: “عليك أن تنسى الأمر تمامًا؛ اعتبره حيًا، مثلًا؛ اعتبر أنه ميت منذ عشرين سنة؛ اعتبر أنك تَيتَّمت صغيرًا، ولم تعرفه، ولم تره أبدًا”.
ومنهم من اقترح عليَّ تعليق صورتك على الجدار، وبذا أتحايل على غيابك، وأتوهَّم أنك موجود، ومن الممكن -كما قيل لي- أن أتحدث إليك، أو أشرب قهوة الصباح بين يديك، لكني لم أستطع أن أصلبك في صورة على حائط، وأنت المنتصب الحي في ذاكرتي وعقلي ويقيني. وهناك من وعظني بضرورة التسليم بالقدر، والإيمان به، وتناسي الموت، والتعامل معه بروح رياضية. هذا ما قيل، ويقال مرارًا، وكأن الأمر طَيِّع، أو كأنك مجرد شخص مات بسهولة ويسر. البعض لا يتوقف عند موت الأب، وهو يعتبر ذلك أمرًا نافذًا، وقدرًا لا يقبل الجزع، أو أنه أجلٌ محتوم، أو صعقته المنية، وقد دنت، وأزف موعد النهاية، وفقَ ناموس الطبيعة، وقد نفذ سهم القدر، وأطاع ملاك الموت الأمر، وعليك ألا تناقش الأمر، فكل حي سيموت، وكل حي في حكم الميت: من بشر، وشجر، وحتّى جماد.
آخرون يرون وفاة الأب شيئًا واقعيًا، سهلًا، بل عاديًا جدًا، لا يحتاج للتوقف طويلًا عنده، ولا يحتاج لمراجعة أو استذكار، ولا حتّى لذرف دموع غزيرة عليه. ومنهم من يرى أباه عبئًا وانزاح، أو كابوسًا ورحل، أو سلطة مستبدة وانهارت، أو حارس ميراث آن تقسيمه، والتنعم بما كان يملك.
والبعض يرى؛ أن مجرد إدامة التذكر والتفكر نوع من المعصية، لأن الموت حق، وهو قدر، وقرار رباني لا يجوز الاعتراض عليه، وإلا صرنا في عداد غير المؤمنين الموقنين بالله، واليوم الآخر، فالموت حكم رباني طبيعي، يجب أن نأخذه بكل تسليم وخشوع، ولا مبرر للتساؤل أو تدخل البشر فيه.
وكما تعلم، أيها الحاضر البعيد، فإني لا أنازع أحدًا رأيًا، ولا أريد أن أخالف سنن البشر والطبيعة، فأنا أعرف أن الموت كأس لا يُستثنى من حِمامه آدميٌّ، وأنني مقبل على تذوُّقه -بإرادتي أو رغمًا عن أنفي- لكنني لا أستطيع إغماض عيني، وجثمانك مسجىً أمامي.
أكذب لو قلت إنني أتلقى الأمر بنوع من القبول والصبر والتسليم، أو أن الأمر امتحان للمؤمن، لا بد أن يُثبت فيه حُسْنَ تقبُّله القدرَ، وإن كان موتك امتحانًا لي، فاسمح لي أن أقول: لست في حاجة إلى كرب من هذا النوع، ولا مصيبة بهذا الحجم، لكي أثبت قدرتي على الصمود، فقد تعرضت لامتحانات كثيرة، لم يكن فيها سوى سؤال واحد ليست له إجابة. وحين كنت أحاول نسف السؤال قبل تدوين الإجابة، أو البوح بها -كما يلمح لي الخاطر- تصفعني عصا التحريم والتقريع والوعيد، ويبرز وجه شيخ الكتاتيب غاضبًا، فأخربش كلامًا مما سمعته في المدارس والدواوين، وأملأ ورقة الامتحان بالترهات، وحين أضع علامة السؤال في نهاية الفقرات، يشطب المصحح الورقة كاملة، صارخًا: أنت لا تسأل، كان عليك أن تجيب فقط، فهذه الورقة للإجابة، وليست لوضع الأسئلة!
هنا، سواء شئتَ أن تتقبل الأمر بإرادتك أو رغمًا عن أنفك، فعليك أن تكون قابلًا لحكم القدر، راضيًا به، مَرِض أبوك، قل: هذا قدره والحمد لله. أصيب بأزمة صدرية قاتلة منذ خرج -ذات صرخة مدوية- تلبية لنداء من عمه، في ليلة صقيع فتاك، قل: نصيبه. مَرِض بالسرطان، قل: بلاء من رب العالمين. أصيب بالجلطة، أو مات تحت جنازير دبابة محتلة، قل: رحمه الله. اختنق من رائحة الغاز، قل: هذا قضاء وقدر. اختفت والدتك، بتوقف التنفس وانحباس الدم، أو بحادث دهس، أو قصف همجي، أو طاعون -لا فرق- قل: انتقلت إلى مثواها الأخير، فالإيمان أبقى، والمصيبة تخفُّ بالتقبُّل والطاعة، لا بالتساؤل، والتشكك، وعدم القبول، والنكران.
ولكن ما شأنُ كل ذلك بموتك، والكتابة عنه؟ أأكون أيضًا عاصيًا إن فكرت وتأملت واستذكرت؟ إنني -ببساطة- لم أستطع أن أعتبر الأمر يسيرًا، فأنساه، ولعلي أستطيب -أحيانًا- تذكره، وحين أغفل عنه أحاسب نفسي، لأنني حاولت -مثلًا- التكيف مع ذلك، ونسيان الأمر، لكنني فشلتُ، تخاملت، تغاضيت؛ تناسيت، تجاهلت، وحاولت، لكنَّك بقيتَ عصيًّا على النسيان.
تريدني أن أعتذر يا أبي، أو لا تريدني، لقد أصبح عدم الاعتذار حسنة، انْسَ الأمر، لكنني لن أنسى ما يسعدني قوله لك: “في هذا الصباح ظللت أزيح صورتك عني، أدفعها بلطف كي أعود إلى وضعي النفسي الاعتيادي، ولكن هرب مني خاطري، الَّذي أدمن الهروب إليك، واستطاب استمطار ذكراك وصورك وأيامك، وكل ما لا تستطيع الذاكرة محوه، أو البراكين إطفاءه”.