I. النشاز الحضاري
السؤال عن موقعنا في العالم سؤال قديم لا ينفك يتجدد، على وقع الإخفاقات المفاجِئة والتراجعات المتواصلة. من جانب المثقفين والإعلاميين أو المفكرين والمحللين.
كان السؤال في زمن محمد عبده وشبلي الشميّل: لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟ أما اليوم فالسؤال: لماذا يتأخر العرب وتتقدم بلدان كانت وراءهم، أو كانت مغمورة لا يسمع بها أحد، فإذا بها تتقدم وتصبح أمامهم. وهكذا فالعالم العربي، وباستثناء دول الخليج، يسير وفي غير دولة من دوله، من سيء إلى أسوأ. وهو الآن في أسوأ أحواله تمزّقاً وتفكّكاً وتوحشاً.
كيف نقرأ ما يحدث ويصدم، وأعني بذلك أن البدايات كانت واعدة، فيما المآلات أتت محبطة وبائسة؟
بحسب قناعتي ومنهجي أرى أن المشكلة هي فكرية بالدرجة الأولى، إنها مشكلة عقليات وقيم أو مفاهيم وأساليب. فالعرب يملكون ثروات هائلة مادية ورمزية، طبيعية وثقافية، ولكن مقابل غياب في الأفكار الخلاقة والنماذج البنّاءة، في الرؤى المستقبلية والاستراتيجيات الفعالة.
على هذا المستوى يشكّل المسلمون عامة، وعلى رأسهم العرب الذين خرجوا بالإسلام ونشروه في العالم، استثناءً بين بقية الأمم والشعوب. ولكن بالمعنى السلبي، الرجعي والعدمي. بالطبع هم يقيمون وسط العالم وفي قلبه، يشغلونه بحروبهم وأنظمتهم المارقة ومنظماتهم الإرهابية، كما يربكونه بعاداتهم، على ما تشهد السجالات حول الحجاب في الدول الغربية، بين السكان الأصليين والوافدين من المسلمين. ومع ذلك فهم يعيشون بين الناس، بوصفهم شذوذاً أو نشازاً، بقدر ما تتحكم في عقولهم وتصرفاتهم، مسلّمات ومعتقدات وتهويمات أو أطياف وصُوَر وعُقَد تقودهم، من حيث لا يعقلون، إلى إعادة إنتاج المشكلات بشكلها الأسوأ والأردأ أو الأعنف والأخطر.
وهذه بعض وجوه الأزمة ومكامن العلّة.
1) التقديس
وحدهم العرب المسلمون، من بين سائر الناس، يشتغلون بتقديس الكتب وعبادة السلف والتشبث بالأصول والثوابت. كل الأمم تتباهى بتراثاتها، ولكنها تعمل على ما أنجزه الأسلاف، لتحويله إلى عملة ثقافية راهنة تصلح لبناء حياة معاصرة. هذا باستثناء المسلمين الذين يتعاملون مع التراث كهوية ثابتة ومنجزة، أو كمتراس لشن الحرب على الآخر. مثل هذه العقلية، التي تجعل صاحبها عبداً لأسمائه وكتبه، لا تنتج معرفة ولا تصنع مستقبلاً، ولا تبني ثقةً أو تحقق سلاماً، بل تصنع أناساً، هم ضحايا أفكارهم، يستبدون بها أو تستبد بهم، بقدر ما هم مبرمحون ثقافياً ضد كل ما هو جديد أو مختلف.
2) النرجسية الثقافية
ينظر المسلمون إلى أنفسهم بوصفهم، وحدهم من دون سواهم، “خير أمة” أخرجت للناس. وأساس هذه النظرة اعتقادهم بأن الله قد اصطفاهم، عبر النبيّ العربي، ليختم رسائله ويبلّغ بقية العالم آخر مقرراته من التعاليم والشرائع، التي عليهم الأخذ بها وتطبيقها، بوصفها الحقيقة الأولى والأخيرة في النظر والعمل، في الفكر والمسلك.
مثل هذا المعتقد، الذي ورثه العرب المسلمون عن اليهودية، وضاعفوا منسوبه الاصطفائي، يشكّل الجرثومة الأصولية الفتّاكة التي شلّت الطاقة الحيّة على الخلق والإبداع، وحوّلتهم إلى ديناصورات فكرية، إذ تجعلهم يتخيّلون مستقبلهم على شاكلة ماضيهم في صدر الإسلام أو في العصور الوسطى.
صحيح أن المسلمين الأوائل آمنوا وصدّقوا بما أتى به صاحب الدعوة والرسالة، ولكنهم أعملوا العقل التنويري في النص والحديث، شرحاً وتأويلاً، تشكيكاً وتفكيكاً، صرفاً وتحويلاً، فأنتجوا معارف حول النص والواقع تصدّروا بها واجهة الحضارة لقرون طوال، بالطبع بالإفادة من مكتسبات الحضارات السابقة. هكذا كان القُدامى خلاقين، فاتحين، راشدين، بناة… ولكن المسلمين المعاصرين الذين اتخذوا التطابق مع الأصل مبدأً والتقليد منهجاً، ناموا على ما أنجزه الماضون، لكي يصبحوا في مؤخرة الركب الحضاري. وتلك هي حصيلة الاصطفاء العقائدي: أن تتحول النبوة الخاتمة إلى ختم على العقل وعلى الجسد، يترجم قصوراً وعجزاً أو تخلّفاً وفقراً، كما تشهد النهايات الكارثية للدعوات والمشاريع.
وهذا فارقٌ بين الماضي والحاضر بليغ في دلالته وفاضح في تعريته، كما تشهد الأقوال والمواقف. وأراني استحضر هنا موقف أبي بكر الصدّيق، عندما تسلم أمر الخلافة، إذ قال قوله الشهير: “وُلّيتُ عليكم ولستُ بأفضلكم”. أما اليوم فالشعار هو: أنا مالك الحقيقة، أنا الناطق باسم الإسلام الصحيح، أنا الأحق والأصدق والأفضل. هذا الفارق هو الذي يُفسر ما نُفاجئ به ونمارسه من الحقد أو نحصده من العنف.
3) الزيف الوجودي
الوجه الآخر للنرجسية الثقافية هو الإيمان بأن كتاب المسلمين ينطوي على العلم بكل شيء وفي كل مجال. هذا الاعتقاد لا يشلّ الطاقة على الإبداع وحسب، بل حول الدعاة المسلمين، ومن يفترض فيهم تطوير العلوم والمعارف، إلى لصوص يسطون على النظريات العلمية المنتجة في المجتمعات الغربية، لنسبتها زوراً إلى الإسلام والقرآن. وهذا هو مآل إدّعاء العلم بكل شيء .. ممارسة التشبيح الفكري والزَيْف الوجودي، والعجز عن إنتاج معرفة وازنة أو ثمينة بأي شيء من الأشياء.
4) الفتوى والمافيا
في مجال التشريع، أيضاً وأيضاً، يشذ المسلمون عن سائر الجماعات البشرية، بتمسّكهم بالنصّ ضد العقل، والفتوى ضد الرأي، كما يتجسّد ذلك في ثنائية الحلال والحرام التي هي الوجه الآخر لثنائيات الإيمان والكفر أو المقدس والمدنّس أو الطهر والرجس.
هذه الثنائيات صنعت نموذجاً يستسلم لمنطق الإيمان الأعمى بالنص المقدس والكلام المُنزل. ومن هذا شأنه يتوقف عن التأمل والنظر، تبصراً وتدبراً، لتبيان ما هو معقول أو لصنع ما هو مفيد أو لابتكار ما هو جديد أو لابتداع ما هو جميل… مثل هذا النموذج ينتج تعصباً ولا يورث إلا إرهاباً يترجم بانتهاك المبادئ، أو بإقصاء الآخر، رمزياً أو جسدياً.
من مثالات ذلك أن الاسلاميين على اختلاف فرقهم، إنما هم منخرطون في العالم المفتوح بعضه على بعض، يستغلّون شبكات التواصل وأنظمة المصالح، كما يستخدمون المكتسبات العلمية والتقنية، فقط من أجل الوصول إلى السلطة والقبض عليها بأي ثمن، أي بالتواطؤ مع من يدعون محاربتهم، الأمر الذي حولّهم إلى مافيات أو عصابات تعمل ضد الدول والقوانين والاعراف، ولا تحسن سوى انتهاك ما تدّعي الحفاظ عليه.
الوجه الاخر لهذا النهج العدمي هو التصرّف البربري، كما يتمثل في العداء للفنون، وكما تشهد بنوعٍ خاص هجمات الجهاديين على المتاحف والأماكن الأثرية لتحطيم التماثيل والرسوم أو المعالم والصروح، وسواها من روائع التراث الإنساني. وفي هذا منتهى الشذوذ الحضاري.
طبعاً هم يسوغون ذلك بدعوى محاربة الوثنية، ولكن ما يفعلونه هو تدمير ما هو ثمرة للخيال الخلّاق ولحرية التعبير. من المآثر المعمارية والتحف الفنية، لكي يمارسوا وثنية عقائدية، رمزية، قوامها تأليه الأسماء بذكر أصحابها والتسبيح بحمدهم صبح مساء. وفي هذا شاهد على أن الإنسان يصنع عبوديته بنفسه، عندما يسدل الستار على عقله ويسلم أمره إلى غيره من دون قيدٍ أو شرط.
العزل والحجب
من وجوه النشاز الفاضح ما تمثله وضعية النساء في البلدان الإسلامية، التي تصرّ على حجب المرأة بوصفها قاصرة أو عورة أو فتنة.
أعرف أن المرأة في العالم، وبالرغم من ثوراتها التحرّرية، ومن المساواة بينها وبين الرجل على مستوى التشريع، ما تزال تعامل ككائن مستضعف ومن درجة ثانية، على مستوى المعاملات اليومية والعلاقات المجتمعية والوظائف السياسية أو الإدارية. ومع ذلك، فالمرأة المسلمة وحدها تشذّ عن نساء الدنيا الواسعة، بحجابها وبرقعها، بمحرماتها الذكورية وقيودها الفقهية. هذه الوضعية كادت تنكسر مع الدخول في العالم الحديث، حيث خرجت النساء سافرات إلى ميادين العمل وساحات النضال.
ولكن، ومع صعود الموجة الأصولية، عادت الأمور إلى الوراء، لكي يعود الحجاب عودته المظلمة ويكتسح الفضاء العام. والأسوأ أن أعمال العنف التي تتعرض لها المرأة، والتي تزداد عما كان الحال عليه من قبل، تكاد تتحول إلى ظاهرة، وكما تشهد حوادث الاعتداء المتكررة على النساء في الشارع أو في الأماكن العامة، وفي غير بلدٍ عربيٍ. وبعض النساء لهنّ قسطهنّ في هذا التدهور. فالمرأة السلفية التي تصرّ على ارتداء حجابها في الدول الغربية حيث تقيم، بحجة ممارسة حريتها في التعبير، ولكن لتقوّض الحرية من أساسها، هي الوجه الآخر للنموذج السلفي المتطرف الذي ينصّب نفسه حسيباً يعاقب المرأة بالاعتداء عليها إذا خالف لباسها أو سلوكها معتقداته وعاداته.
والوجه الآخر لحجب المرأة في الثقافة اللاهوتية الذكورية، هو استعبادها وتدجينها وجعلها ترضخ لِـ “شرع الله” الذي يُجيز للرجل ممارسة فحولته، بأن يجمع ما شاء له من النساء أو الجواري والإماء. وتلك هي المفارقة الفاضحة. فالمسلمون هم مع الوحدانية في كل المسائل، إلا في قضية المرأة، فهم مع تعدد الزوجات. وفي كِلا الحالين هم يشذّون عن بقية البشر، كما هو شأنهم في مسألة الحقيقة. وهذا شأنهم خاصة في مسألة السلطة. ولهذا فإن بعض الحكام الذين اتخذوا شعاراً لهم (أنا أو لا أحد)، يواجهون مطالب الشعب في الإصلاح والتغيير بتغيير الشعب، تهجيراً أو إبادةً.
5) الهوية ضد المواطنة
وهذه هي الحال في مسألة الهوية. معظم البلدان والتجمعات الإقليمية تخلّت عن استخدام الصفة الدينية في تعريف الهويات والانتماءات، وذلك باعتماد صفات وأطر وطنية أو قومية، جغرافية أو إستراتيجية، كما تشهد تسميات مثل الجمهورية الفرنسية، أو الاتحاد الأوروبي، أو حلف شمال الأطلسي، أو دول البريكس، أو منطقة الشرق الأوسط…
ولا يعني ذلك التخلّي عن الدين، وإنما يعني إنزاله عن عرشه القدسي، وكسر وصاية رجاله وعماله على الناس، بالتعامل مع الجماعات والطوائف الدينية، كفاعليات مجتمعية أو ثقافية، لا أكثر، بحيث تخضع لقوانين الدولة، ولا تكون ضدها أو فوقها.
وحدهم العرب والمسلمون مصرّون على استخدام الصفة الدينية في التعريف بهوياتهم، كما تشهد التسميات والثنائيات مثل الدول الإسلامية، الخلافة الإسلامية، الجمهورية الإسلامية، رابطة العالم الإسلامي، الإسلام وأوروبا، أو الإسلام والامبريالية.
صحيح أن معظم الدول العربية لا تستخدم العنوان الإسلامي، ولكنها تعتمد على الشريعة الإسلامية أو تستند إليها. وأكثر رعاياها، ولا أقول مواطنيها، بمن فيهم كثر من الحداثيين والعلمانيين، يغلّبون في وعيهم لهويتهم الدين أو الطائفة على المواطنة.
هذا مع أن المسلمين أثبتوا أنهم عاجزون عن توحيد حيّ في مدينة، لأن كل فريق أو مذهب أو حزب يعتبر نفسه، وحده من دون سواه، يمثل الإسلام الأصولي الصحيح وينطق باسمه، أما الآخرون فهم كافرون أو مبتدعون أو خارجون. ولا شكّ أن مثل هذه الوحدانية لا تنتج سوى الفرقة والشرذمة والحروب الأهلية، كما تشهد فصولها الدموية وكوارثها البربرية في هذه الأيام.
II. النكوص والتراجع
لا شكّ أن هذا العالم المغلق على ثوابته، المتمركز حول أصوله، قد انكسر مع الدخول في العالم الحديث والتأثر بمفاهيمه ونظمه وقيمه، الفلسفية والسياسية والمجتمعية… الأمر الذي جعل المسلمين يخرجون من فلك العصور الوسطى، وينخرطون في صنع حداثتهم تحت شعارات غير دينية، كالنهضة والتنوير والحرية والتقدّم. تجلّى ذلك في الانفتاح على الرؤية العقلانية والتدرب على المنهج النقدي، وعلى ممارسة حرية التفكير والأخذ بالنظام الديموقراطي التعدّدي.
هذه المكتسبات تمّ التراجع عنها مع مجيء العصر الإيديولوجي بنسخه القومية واليسارية والإسلامية، حيث سيطر الاسم الواحد والمرجع الواحد والرأي الواحد والحزب الواحد. بذلك وقعت المجتمعات العربية فريسة لثنائيات خانقة جعلتها تتردّد بين عبادة الشخص والفكر الأحادي، بين احتكار الحقيقة واحتقار الناس. وكانت الحصيلة الجمع بين مساوئ العالم القديم ومساوئ العالم الحديث، بين عنصرية الطائفة وفاشية الحزب، بين النظام الدكتاتوري والعقل الأمني، بين الإرهاب التيوقراطي والنظام الشمولي.
III. الفشل والجهل
أين هو المثقف العربي اليوم وسط هذا الاضطراب الكبير؟
لقد اعتاد المثقفون وضع الملامة على الدول والأنظمة السياسية، والحركات الدينية، أو على القوى الكبرى والدول الاستعمارية، فضلاً عن الرأسمالية والعولمة والليبرالية الوحشية.
ولكن هذه هي برأيي قراءة العاجز القاصر، لأن المشكلة من منظور تنويري، نقدي، ذاتي، إنما تكمن في أفكار المثقفين، في تصوّراتهم للواقع وفي برامجهم لتغييره. لقد أرادوا تغيير العالم، فتغير بعكس ما فكروا فيه وخطّطوا له.
نعم، لقد تحدثنا، طوال عقود: عن الحرية والديموقراطية والعقلانية والتقدم وحقوق الإنسان. ولكننا، وبعد هذه التجارب الفاشلة والمآلات البائسة، أثبتنا جهلاً المركب. الجهل أولاً بالواقع الذي أردنا الثورة عليه وتغييره. الجهل ثانياً بمباني أفكارنا ومآلاتها، بمفاعيلها وتداعياتها.
هذا الجهل المطبق هو ما كشفت عنه الانتفاضات الشعبية الحاشدة التي شهدها غير بلد عربي، والتي فاجأت المثقف العربي من حيث لا يحتسب ولا يتصور، كما صدمته نهاياتها التي فاقت أيضاً التصور من حيث بشاعتها وبربريتها.
ثمة شاهد آخر حصل قبل عقود. لقد أراد اليساريون اليمنيون، بعد أن استولوا على السلطة في عدن، تطبيق النظام الاشتراكي، فكانت النتيجة أنهم اختلفوا وتنازعوا واقتتلوا بما يفوق التصور شناعة وفظاعة. هذا المثل لا يشهد فقط على جهل المثقف بالواقع، وبالاشتراكية، وإنما يشهد أيضاً وخاصة على جهله بنفسه، وبأنه ليس أهلاً لما رفعه من الشعارات أو لما مثّله من القيم. وهكذا لقد طرح المثقف شعارات تحررية، تنويرية، ولكنه نادراً ما عمل بها، لأن ما يتحكم في فكره وسلوكه هو منطق الإدانة والإقصاء أو النفي والإلغاء، وكما تشهد العلاقات على الساحات الثقافية. وتلك هي الفضيحة.
صحيح أن كل المجتمعات فيها طغاة وفاشيون أو فاسدون ومجرمون، ولكنهم يتراجعون أو يحاسبون ويعاقبون في البلدان الديموقراطية، باستثناء البلدان العربية، حيث الطاغية والفاشي والفاسد والقاتل هو محل مديح وتمجيد وعبادة، ومن جانب كثر من المثقفين.
فلا نسألنّ إذن من أين يأتي كل هذا العجز، أو كل هذا التوحش، في ما يخص مشاريع النخب الثقافية. ما يحدث هو ثمرة لثقافتنا وعقلياتنا ومجتمعاتنا، بقدر ما يشهد على أننا لا نعرف أكثر من سوانا.
ولعلّ هذه حال المثقفين الكبار في العالم، كنعوم تشومسكي وسلافوج جيجك وريجيس دوبريه وآلان باديو وسواهم، من دعاة تغيير العالم. فمع أن هؤلاء، وعلى عكس المثقفين العرب، قد مرّوا بمصفاة الحداثة والعلمنة وتحولات الديموقراطية، فإنهم قد أثبتوا بدورهم، جهلهم بالمجريات، وبأنهم لا يعرفون كيف يسير العالم ويصنع، إذ كان همّهم نفي الوقائع لتصح مقولاتهم، مما حولهم إلى باعة أوهام. ومن المثالات الفاضحة على هذا الجهل أن فوز إمانويل ماكرون بالرئاسة في فرنسا، هو حدث أول من فوجئ به هم المثقفون والفلاسفة الذين يتصدرون الواجهة في هذا البلد الذي شهد ولادة المثقف الحديث. هذا مع أن ريجيس دوبريه لا يُكابِر، كما يفعل نظراؤه، وإنما يعترف بالفشل والإخفاق، كما جاء في كتابه الأخير “بيان الإفلاس”.
IV. الخلق والفتح
في ضوء ما سبق من المقاربة، أقترح ما يلي، على سبيل المعالجة:
1. التوقف عن السعي إلى حلّ المشكلات، بما يفضي إلى هدر الجهد وإضاعة الفرص. والمثال هو الدعوة المتواصلة إلى المصالحة بين الإسلام والحداثة أو بين الإسلام والعالم المعاصر. فالمحاولات التي جرت في هذا الخصوص، منذ أكثر من قرن، مع كبار الدعاة والمصلحين، كمحمد عبده في مصر ومحمد إقبال في باكستان، قد أخفقت وأعطت مردودها العكسي: ما نفاجأ به من النماذج التكفيرية الإرهابية، سواء لدى الجهاديين من أهل الخلافة، أو لدى المجاهدين من أتباع الولاية.
وهذا يعني أن الصيغة الدينية اللاهوتية قد استهلكت، ولم تعد تصلح كعنوان لأعمال النهوض والإصلاح أو التطور والتقدم. فالأجدى أن نستقل بفكرنا الذي هو ميزتنا وحيلتنا، فنتحرّر من سطوة الماضي ونصوصه المقدسة، لكي نمارس حيويتنا الوجودية وننصرف إلى ما تُبنى المشروعية وتمارس الجدارة على سبيل الاستحقاق: الإنتاج والابتكار لما تحتاج إليه صناعة الحياة، والمشاركة في صناعة الحضارة القائمة من العلوم والمعارف أو المفاهيم والقيم أو النظم والنماذج.
2. ممارسة التقى الفكري بكسر الادعاء الذي يوهم صاحبه بامتلاك الحقيقة أو احتكار الحلول للمشكلات. فلا وجود لحقيقة مطلقة، كما لا وجود لحلول نهائية حاسمة أو فردوسية.
الحقيقة هي ما نقدر على خلقه، وما نحسن إنجازه أو أداءه في مجال من المجالات. مثل هذه القناعة تحتاج إلى مراس ودربة، وكما تحتاج إلى وعي نقدي تجاه الذات قبل الغير. ومن هذا شأنه يعتبر أن ما يطرحه من أفكار أو مشاريع هي مجرد قراءة تشخص الواقع بين قراءاتٍ أخرى، أو مجرد رهان لتغييره بين رهانات عديدة.
3. ممارسة التواضع الوجودي، بحيث يكف المثقف عن الوصاية على المجتمع، بعد أن أثبت جهله وفشله بما ادعاه أو دعا إليه، بحيث يعيد النظر بعناوينه الحضارية وشعاراته التنويرية التي فقدت فاعليتها وجاذبيتها، وباتت بحاجة إلى إعادة البناء، على سبيل التوسيع والتطوير.
وذلك يعني نهاية مرحلة كانت سماتها سذاجة الشعارات وطوباوية المشاريع وأفخاخ الهويات أو عمى الإيديولوجيات، لتبدأ مرحلة جديدة، على المستوى المعرفي، ينكسر معها منطق التيقّن والقبض والتحكم، ويتم تفكيك أسطورة الحقيقة التي لا يرقى إليها شك. فالحقيقة لها حيرتها وإشكاليتها أو ازدواجيتها ، تماماً كما أن الواقع له تشابكاته والتباساته ومتاهاته، الأمر الذي يقتضي تطوير مفهوم الحقيقة، بفتحه على ما عداه، على المجاز والاستعارة أو على النسبية والاحتمال أو على الضد والمغاير أو على المتعدد والمتحول…
كذلك في المسألة الخُلقية. ثمة حاجة لكسر ثنائية الخير الأقصى والشر المحض، والعمل على تجديد عالم القيم، بفتحه على ما يُفاجئ ويصدم من الأهواء والعصبيات والنزوات. من غير ذلك سنواصل انتهاك المبادئ والمُثُل، مع تكرار المعزوفة القائلة، بأن ما يحدث من شرورٍ ومفاسد هي ضد قيمنا وتقاليدنا.
4. النظر بعين مفتوحة، ومن غير مسبقات معيقة تحجب وتطمس، إلى التطوّر الهائل الذي طرأ على العالم الآخذ في التشكّل من جديد، بمفاهيمه وعناوينه، بقيمه وقواعده، بأدواته وإيقاعه، ببنيته وعلاقاته، بمشهده وخرائطه…
لقد تغيرت المعطيات لتتغير معها المعادلات وقواعد اللعب، بعد كل هذه الموجات الحداثية الفائقة والثورات التقنية المتلاحقة. ولم يعد من المجدي إدارة الدول وبناء العلاقات بين الناس، أفراداً أو مجموعات، كما كان الأمر في عصر التنوير النخبوي أو في عصر الإيديولوجيات التحررية. ولذا فالعلاقات المركزية، العامودية والبيروقراطية، تعرقل اليوم أعمال النهوض والتقدم.
نحن نتجاوز الآن ثنائيات النخبة والجمهور أو الزعيم والحشد أو القائد والقطيع، لكي ندخل في مجتمع جديد هو المجتمع التداولي الذي هو شبكة تأثيراته المتبادلة وصيرورة تحوّلاته المتواصلة. وفي مجتمع كهذا، هو مجتمع المعلومة والشبكة أو الموجة والطفرة، كل فرد أصبح يملك قدراً من المعرفة والخبرة، وكل عمل بات يحتاج إلى فاعل يشغل طاقته الفكرية على سبيل الابتكار والتجديد، وكل فكرة خصبة أياً كان منتجها أو من يتداولها تحتاج إلى العمل عليها وتحويلها وإعادة ابتكارها لكي تؤتي ثمارها في حقول العمل
خلاصة القول: لا ننخدعنّ باستيقاظ النزعات العنصرية وانبجاس الحركات الشُّعبوية، التي هي الوجه الآخر للمشاريع الأصولية والحركات السلفية. فالعالم لن يعود إلى الوراء. نحن نلج إلى واقع معقّد ومتشابك، متحرّك وسيّال، يحتاج في إدارته وتسييره وتغييره، إلى فكر حيوي، خلاّق، مركّب، متحوّل، يتيح مضاعفة مساحات الإمكان واستجماع القوى، بفتح المعالجات على غير اختصاص ومجال، أو على غير صعيد واتجاه.
بهذا المعنى إن أعمال النهوض والإصلاح، في أي بلد، هي صناعة مشتركة يساهم فيها المجتمع بمختلف فئاته وقواه. ولذا فإن إن الخير المشترك لا تنجح إدارته، إذا تم التعامل معه بفكر أحادي وعقل ضيق ومنطق ايديولوجي اختزالي. من هنا يحتاج في صنعه وبناءه أو في تنميته ورعايته، إلى فكر تعددي، تركيبي، بنائي يبقى قيد التعديل والتطور باستمرار.
علي حرب *