لقد كان للمرأة دورٌ بارزٌ في إنتاج الشعرية في الخطاب الشعري السبعيني، وقد نظر الشاعر السبعيني إلى المرأة نظرة تختلف كل الاختلاف عن نظرة الشعراء السابقين، لأنه من المؤكد أن الشعراء السبعينيين قد تأثروا بمن سبقهم في مطلع إنتاجهم، ولكن سرعان ما فرَّوا من هذا التأثير، لتشكل المرأة دوراً بارزاً في شعرية السبعينيات، فكانت رمزاً ثرياً لمرموزات عدة: فهي الكائن المتحرك في النص، ومركزٌ من مراكز القوى في شعرية الحداثة، وكانت الفضاء الذي يتحرك الشاعر فيه، من خلال نصوصه التي يطرحها، أو يفضي إليها بسره الأعظم، وكانت محلاً للبوح الأجش.
وقد كان التمرد سمة رئيسية من سمات الشاعر السبعيني، فقد نظر إلى المرأة بوصـفها «جسـداً يقتل فيه ظمأه» فإن شاعر السبعينيات ينظر إلى المرأة نظرة حسية إيروسية صرفاً، ولا يتحدث عن جمال ما، حسي أو معنوي، إنما يرصد تفاصيل الجسد الأنثوي ويوغل في تجربته الشبقية وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على نزوع الشاعر السبعيني إلى التمرد على التابو. الاجتماعي والديني وكسر هذه الحساسية التي تعتري الإنسان العربي من موضوع الجنس، والجسد المؤنث»(1)فالشاعر السبعيني متمرد بطبعه على الأشياء كلها، لكنه حين نظر إلى المرأة، أراد أن يعبر عن هذه النظرة من خلال تكوينه هو، ونظرته التي تبتعد عن الوصف الزائف المبالغ فيه، الذي يحتاج فيه الشاعر إلى ألفاظ رقراقة، عذبة، ممهدة.
فقد عمد إلى العزوف عن تكرار سابقيه من الشعراء في وصفهم للمرأة، وأسقط مشاعره وأحاسيسه، متمرداً على واقعهِ، وصادماً لمجتمعه المحافظ المتمسك بالعادات والتقاليد، فكان شغل الشاعر الشاغل هو كسر الحواجز، والبوح عن المسكوت عنه.
ولكن المرأة عند الشاعر السبعينى تمثل أبعاداً أخرى، فالوطن عنده امرأة، والحقيقة امرأة، وهي البراءة، والرسالة، والطهارة، والنقاء، وهي الحبيبة، والنجاة، والطبيعة، والحياة، والوردة، والقراءة، والكتابة والقصيدة، والنار، والماء،………….. إلى آخره من دلالات عدة لا تنتهي، فـ (دال) المرأة عند الشاعر السبعينى دال متسع لا نهاية له، ويظهر ذلك بصورة كبيرة عند الشاعر حسن طلب، فالمرأة تحتل جزءاً كبيراً من أعماله الشعرية وعلى سبيل المثال ففي قصيدة «فسيفساء» من ديوانه «سيرة البنفسج» يقول:
يا مرسلةً غزلانَكِ في قمحي
في كَرْمي…. تاركةً خيلَكِ
ما كان أضلَّ خروجك لي
تحت الدوح.. وكان أضلَّكِ
كنت مصوبةً نبْلكِ
لكأنكِ أنتِ المنذورةُ لي
منذ زمانين..
فأي دليل دلَّكِ
هل شجر الليلكِ؟
مَهْلَكِ
عن عِنبي رُدّي خيلكِ
إنى سوف بأكثرك أردُّ أقلَّكِ
وبهتّانكِ.. منهّلك
ويلي منكِ
ومني ويلكِ
أحببتُك حبَّاً
لو قد تحَتكِ كان أقلّك
أو لو قد فوقَكِ كان أظلّك
أو لو قد حولكِ
من لي بك.. بي من لكِ؟
حَرَّمك القمح عليَّ
ولكن الدوح أحلّكِ
ويلي أو ويلكِ
آيّة آلهةٍ وصلت بنهاري ليلكِ؟
لي ما تركتْ إلا جسداً
لو قلّ الوصلُ اعتلّ
فعودي معتلَّكِ
هذي ساعة ما إنْ ظلٌّ…..
إلا ظلُّكِ
رحمتك… وعدلك
ما إن بعدك طيف حبيبةٍ استهديتُ
فلتدعي غزلاني تغزو حقلكِ
سوف بحقلي أفعل فعلك
بل سوف أغنيك
وأغويكِ
لعل فؤادكِ.. أو فلعلك ِ
ويلك
لي قلبٌ.. لو أنّ الحلم مَحَلٌّ
كان أحلّكِ
هل لكِ؟
أو لو كان حبيبٌ دون حبيبٍ
ملَّ حبيباً ما ملّكِ
ويلك يرجو.. لا طللك
سوف أسُوسُ بوعري.. سهلك
قولي لي قولك
منذ زمانين
وميلي ميلك
سوف بشملي.. شملك
ويلكِ
ما كان أجلَّ خروجك لي
تحت الدوح
وكان أجلّكِ
ويلك (2)
تحمل هذه القصيدة رؤى متعددة تجاه المرأة، منذ الدخول إلى المؤشر الأول في العنوان «فسيفساء» بوصفه عنواناً، أو مفتاحاً للنص على حد قول جيرار جنيت الذي عدّ العنوان نصاً فرعياً محيطاً بالنص الأساسي، وقد عدّه السيمولوجيون «مفتاحاً أساسياً يتسلح به المحلل للولوج إلى أغوار النص العميقة»(3)، فالعنوان هو من «أبرز العلامات الدالة على بنية النص الكلية، بوصفه بنية خارجية تشير إلى المدلول الداخلي للنص»(4) فماذا يقصد الشاعر بالفسيفساء، وما دلالتها؟ وإلى أي شيء تشير؟ الفسيفساء هي مجرد «قطع صغار ملونة من الرخـام أو الحصباء، أو الخرز أو نحوها، يُضّمُّ بعضها إلى بعض فيكوَّن منها صـور ورسـوم تزين أرض البيت أو جدرانه»(5). وحسن طلب ينشغل بكل ما هو ثمين وغالٍ، فتراه يستخدم الزبرجد والبنفسج والفسيفساء، لأنه يرى هذه المفردات أكثر دلالة من غيرها على ما يقصده أو يعنيه، فهو يعني كل شيء ثمين من حيث القيمة والشكل، فمحبوبته هي مجرد قطع من الفسيفساء التي تسلب عقله وقلبه، ويعيش معها بوجدانه وفكره، هذه المعشوقة التي تمكّن عشقها من قلب الشاعر وعقله فشبهها بالفسيفساء، نظراً لقيمتها الغالية الثمينة لأن أهم دلالة في الفسيفساء – إلى جانب القيمة – الدقة والتنوع، ولذلك نرى الشاعر يخلق من خيالهِ محبوبتَه التي ترقى بعشقها إليه. فالشاعر يدخل إلى قصيدته بالنداء «يا مرسلة غزلانك» يعني عيني محبوبته الغزلانيتين لاتساعهما وشدة جمالهما، فهما العينان اللتان وقع الشاعر أسيراً لهما. وقد صوَّر الرموش بالنبال التي لا تخطئ هدفها، ثم يصورها بالسيف الماضي، واستخدام الشاعر للمفردات البدوية التي أصبحت جزءاً من معجمه اللغـوي يضعه في دائرة العشق الفطري. والشاعر يحدث نفسه تارة وتارة أخرى يحدّث محبوبته التي هام بها في قصائده، ثم يعبر الشاعر تعبيراً مباشراً معلناً حبه العميق، في قوله: «أحببتُكِ حبَّاً، لو قد تحتَكِ كان أقلَّكِ، أو لو قد فوقَكِ كان أظلّكِ، أو لو قد حولكِ»
وقد تصبح المرأة موضعاً مكنوناً، يلقي الشاعر بأسراره إليه، أو يلجأ الشاعر لمحبوبته طلباً للوصل، لأن الإنسان كثيراً ما يحتاج إلى من يكتم أسراره، أو يشاركه همومه، التي لا تنتهي مطلقاً، وإن كان «الوصل» لا يخلو من دلالة جنسية، وهي النظرة العامة التي ينظر بها الرجل إلى المرأة، كما نرى في قوله: «لي ما تركت إلا جسداً لو قلّ الوصلْ اعتل/ فعودي معتلّك».
لكن المحبوبة في هذه القصيدة: قد لا تقتصر على المرأة فقط، ولكن يتسع مجالها الدلالى لتصبح هي الوطن الذي يعاني الشاعر فيه، أو الحقيقة التي هي أمنية الشاعر في كل زمان ومكان.
وقد يبوح الشاعر باسم محبوبته خلال قصيدته التي تتوج بهذا الاسم، حيث يصورها بالمكان الآمن الذي يفر إليه ويشعر من خلاله بالطمأنينة. ففي قصيدته (الفرار إلى عيون نجلاء) من ديوانه (أزل النار في أبد النور) يصف حبه العميق لنجلاء، ومعركته الأبدية مع عينيها، فيقول الشاعر:
ولأن عيونك مملكتي
أهرب
من معركتي الأبدية
ضد الكون
إليكِ
أخبِّئ قلبي في عينيك
فآخر رمحٍ للحزن
تسمَّر
في آخر جزءٍ لم يطعن
من أنسجتي
وبخلجانك
ها إني أتحمَّمُ
حين استرخى نهداكِ
وغابا في تجويفين بصدري (6).
فالشاعر يفر من معاركه مع الكون / الحياة / الواقع، إلى محبوبته متخذاً منها مهرباً، لينسى همومه، وأشياءه التي تقلقه دائماً، وإن كانت المحبوبة والشاعر يعيشان حياة يملؤها الحنين، أو بمعنى آخر، نشأت بين الشاعر ومحبوبته أو معشوقته، علاقة حميمية، تسودها الألفة والمحبة.
وقد تكون المعشوقة (صاحبة للشاعر) أو بمثابة الصاحب الوفي لقرينه / الشاعر، يقول الشاعر:
آهٍ يا صاحبتي
أتملاكِ الآن…
خلاصة روحي فيك
وميضٌ فسفوريٌّ
خمرك نار في شفتي
أتنفسكِ
انسربي كالعطر…
وكالأفيون
إلى رئتي (7).
تمتزج المعشوقة بروح المعشوق (الشاعر) حتى يكونا روحاً واحدة، فالمحبوبة، هي روح الشاعر، ودماؤها تجري في دمائه والعكس، فهي الإدمان الذي وقع الشاعر في حبائله، وانسرب إلى قلبه.
فالنص الشعري يبوح بتلك العلاقة التي قاربت الامتزاج على المستوى الاجتماعي والروحي، وهذا ما يشي بقوة العلاقة بينهما، مما يومئ إلى قدرة الحب الخلاقة التي سكنت روح الشاعر وروح القرين (المحبوبة).
وينتقل الشاعر إلى العالم الأسطوري مخاطباً المرأة الأسطورية التي تخلق عبر خياله الجامح، مختلطاً بعالم السحر والجن. يقول الشاعر:
يا حوريات الجنّ
هل نجلاء عليكنّ أهلّتْ
فانبهرتْ منكنّ الأحداق
بروعة نور البغتةِ
وانفجرت بالنار العذريةِ
موهبة الفرح الإنسية
فيكن؟
تسألنا نحن؟
أسأل مَنْ؟
سَلْ شجر النار الزيتوني
ومشكاوات النور الغرقى
في ألق اللون اللاشرقي
اللاغربي
أو اسأل أزل الظلمة
وهو يراوغ أبد النور
خلال هيولى الكون (8).
إن الشاعر يكابد في رحلة بحثه عن «نجلاء » ويلاقي ما يلاقيه من وجد وتعب ومشقة حتى ينتهي به الخلاص إلى أن يسأل (حوريات الجن) أو المرأة الأسطورة كما قلنا، فكان مرتكزاً على المفارقة الحسية والجمالية بين نجلاء «الإنسية» والحوريات «الجنية» مفتخراً بجمال نجلاء التي تهلُّ كالقمر، فتنبهر الجنيات بجمالها ويدخل الشاعر في حوار مع الحوريات بحثاً عن إجابة لسؤاله، لكن الحوريات أجبنه بأن يسأل الطبيعة المتمثلة في شجر النار الزيتـوني، ومشـكاوات النور الغرقى. وهنا نلاحـظ أن الشـاعر قد مزج بين حبه الذكوري لنجلاء/وعشقه الصوفي العرفاني لهذا الكائن الذي تَملّك عليه نفسه، عاقداً اتصالاً جميلاً بين أزل الظلمة ومراوغته للنور.
وقد يحقق ذلك من «الهيولا» وهي أصل الأشياء، كما يقول الفلاسفة. فقد ارتبطت المحبوبة (نجلاء) بخلق الأشياء، كما أراد الشاعر أن يعبر عن هذا الحدث الصوفي. ونجد حسن طلب ينتقل إلى الإعلان الصريح عن مغايرته في عشقه لنجلاء، مولداً من ذلك حالاته الحميمية بينه وبينها فيقول الشاعر:
أنا لم أعشق نجلاء ولا قلتُ
خذينى في عينيك
ولا هي ردّت
هات يديك وضمتني
ويقول الشاعر أيضاً:
إننى الآن لا أتألم
فاعشقيني على علّتي
إنني دورة من عذاب منغَّم (9).
إن العذاب الذي يشير إليه الشاعر حسن طلب هو سر معاناته وسر حبه الذي لا يقبل أن يكون مجرد عشق مفرغ من الألم، فالعشق عنده ممزوج بالألم والعذاب. وقد يبوح النص الشعري عند حسن طلب بالمغايرة والاختلاف من حيث إنه عشق خارج التوقعات (إن جاز التعبير) هو وليد هذه المعاناة والمكابدة التي يعيشها الشاعر ذاته، وقد يصدر عن النص مفارقة في نظرة الشاعر الحالمة بالعشق الأبدي، ويتحقق ذلك في قوله «إنني الآن لا أتألم»، أي لا أبحث عن حقيقة ما، لكنه معتل بهذا العشق الأزلي الذي لا يستطيع أن يعيش بدونه، فهو (دورة أو حياة) مملوءة بالعذاب المنغَّم المتنوع الذي قد يومئ إلى شدة هذا العذاب الذي يلازم الشاعر وضخامته وقوّته.
وقد أحس الشاعر السبعيني، تجاه المرأة، إحساساً مجرداً من السعادة التي تنتج عن علاقة المرأة بالرجل، وهذا ما نلاحظه في نصوص رفعت سلّام إن المرأة في جُل نصوص رفعت سلّام هي امرأة تلازم الألم ويلازمها الألم.
وقد تحقق ذلك من خلال بوح الشاعر بذلك السر المتخلق داخله، فقد يستعير الشاعر سلطة الخلق ليخلق امرأته كيفما يشاء، فيقول:
«أسوّي مرأة أخرى من سأم وأرق، لها أيطلا ظبي
وساقا نعامة، وإرخاء سرحان وتقريب تتـفـل، احرثي لي
سهولي وجوعي الليلي، امنحيني برهة نسيان» (10).
فالمرأة عند رفعت سلاّم هي التي ينتج عنها السأم والملل، بل هو الذي يسوي تلك المرأة من سأمه وملله الذي يشعر به، فهي جزء من خلقه الفني في النص. وفي مقطع آخر، يصف الشاعر علاقته الحميمية بالمرأة، مسترسلاً في وصف جسدها الأنثوي، حالماً باقتناص هذا الجسد، مفتوناً به، مستخدماً مفردات حسية توحي بالإشارة الجنسية، فهي رؤية شبقية من الطراز الأول فيقول:
أيتها الصغيرة بين النساء، اركضي على جسـدي،
ثدياك رمانتان مقضومتان، بطنك درب عبّدته الأقدام،
سُرّتُكِ كأس احتساها الشاربون حسوة حسوة،
وصرختك طائر صاده القانصون القانطون(11).
وتتجلى الرؤية الشبقية تجاه المرأة من خلال استخدام الشاعر لبعض المفردات التي تومئ إلى الأعضاء التي تميّز الأنثى مثل: ثدياك، وبطنك، وسرتك.
إن الشاعر رفعت سلاّم يحاول أن يكسر مثلث «التابو» الذي يكون الجنس أحد أضلاعه الأساسية، فيتطرق بنصه الشعرى إلى البوح عن المسكوت عنه، وأن تصبح اللغة الشعرية لغة تضم كل معاني العلائق الوجدانية تجاه المرأة.وقد يصف الشاعر صرخة المرأة المقهورة التي لا تستطيع أن تملك رأسها أو تحدد مصيرها، فمصيرها في يد (عنترة) الرجل الذي يعشقها.
لكن اللافت للنظر في هذا المقطع السابق إنما هو الامتزاج بالواقع الذي يحياه الشاعر، فالشاعر معنيُّ به، مهموم بمشكلاته، لكنه متمرد عليه، يفضحه من خلال استخدام المفردات التي يحرمها المجتمع أو ينفر منها إذا وجدها في (نص شعري) وإن كان الشعر العربي القديم مملوءاً بتلك المفردات التي استخدمها الشعراء بدءاً بامرئ القيس وطرفة بن العبد، وغيرهم من الشعراء الجاهليين الذين وظفوا الجسد الأنثوي في نصوصهم الشعرية.
وقد تأخذ المرأة مساراً آخر عند رفعت سلاّم، من خلال أنها رمز للعقم والجدب والتدميـر، على خلاف الشعراء السابقين الذين كانت المرأة عندهم رمز الخصوبة والنماء والطهر والنقاء. ويقول محمد عبد المطلب: «واللافت أن (المرأة / الرمز) – في تحولاتها – تأخذ طبيعة ضدية أحياناً وطبيعة محايدة أحياناً أخرى، إذ يأتي الرمز موافقاً لتوجه السبعينيات في إنتاج (العقم والجفاف)»(12).لقد كانت امرأة محبطة لا تحقق ما يطمح إليه الشاعر السبعيني. يقول «رفعت سلاّم»:
وكان لي من المدى – مدى
ومن مياه البحر ملح ساحر،
ومن صهيل الأرض – مرأة من الحجر (13).
إن الحالة النفسية لدى الشاعر تمتزج بالحالة الشعرية، فينتج عن هاتين الحالتين واقع مأساوي، يصور الشاعر من خلاله هذه المرأة التي لم تعد تنجب، وكيف تنجب، وهي امرأة من الحجر؟! وأتصـور أيضاً أن المرأة / الرمز في هذا المقطع الشعري إنما هي «الوطن / مصر» الذي ينتمي إليه الشاعر بقلبه، وعقله، ووجدانه، فهي امرأة أصابها الجمود والتحجر «فالوطن / المرأة» لم تحقق ما يصبو إليه الشاعر الحالم، الفخور بأبناء هذا الوطن، ولكن هذه المرأة، لم يجد فيها الشاعر خصوبة ونماءً أو امتداداً للقوة والصلابة والقدرة على التحمل.
ولم تقتصر صورة المرأة عند رفعت سلاّم على النظرة الشبقية أو النظرة المأساوية العقيمة، لكن تتجاوزها لتكون (المرأة/ الرمز) أيضاً هي مركز الخصوبة والنماء التي تنبت عنها الثروة البشرية، المرأة صاحبة العطاء بلا حدود، فهي «الأم – الحبيبة – الأخت – الصديقة – العرافة -……………. إلخ» من الدلالات، وهي أيضاً المطر الذي يسقط على الأرض فتحيا الأشجار والنباتات وينتشر الخير والنماء في كل بقعة من بقاع الأرض يقول:
ولى مساء غابر يسكنني
لي سورة بليلة أسكنها
لي: مرأة من مطر (14).
وهذا التحول إلى مناخ الستينيات، تحول ممزوج بالامتداد الحقيقي بين السبعينيات والستينيات على حد قول محمد عبد المطلب: «وفي تحول مضاد، يوافق توجه الستينيات، تأخذ المرأة – رمز الخصوبة والعطاء بوصفها نبع الحياة للموروث (عند أمومة الأرض)»(15) وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على الامتداد الحقيقي بين الحركات الشعرية العربية على مستوى الشكل والمضمون، حيث إن الشاعر لا ينفصل عن سابقيه، فهم النبع الذي استقي منه ثقافته وعلمه وإن شعراء السبعينيات، قد تربوا في أحضان الجيلين السابقين «الخمسينيات والستينيات» لكن كان خروجهم على هذين الجيلين خروجاً فنيّاً وجماليّاً. ويريد الشاعر السبعيني من هذا الخروج أن يحقق قصيدته التي يطمح إليها، ويسمع صوته الخاص الذي طالما حلم به، لا أن يكون صدى لأصوات آخرين.
والشاعر السبعيني لا يتعالى على جمهوره مطلقاً في تقديم قصيدته، ولكن قصيدته تحتاج إلى جمهور «جديد» يتواصل مع القصيدة السبعينية التي بالغت في التجريب وانتهكت الأراضي التي أمامها كلها بل انتهكت اللغة نفسها، واستخدمت اللغة بوصـفها وسيلة لها يتحقق من خلالها الغاية / الهدف الذي تصبو إليه كما سنرى.
أما عن صورة المرأة في شعر حلمي سالم، فقد تجلت بوصفها صورة شعرية جنسية من الجانب الأول، وهو الأكثر استخداماً وطرحاً خلال النصوص.
وإذا كانت رؤية حلمي سالم للمرأة تنبع من الحالة النفسية التي تسيطر على الشاعر، وهي محاولته كسر مثلث التابو – كما أشرنا من قبل عند رفعت سلاّم – والبوح عن المسكوت عنه في القصيدة العربية فهو يقدم إيماءات عن هذا البوح نلاحظه من خلال نصوصه. يقول:
حبيبتي تنام في الصقيع
وتلعق الفتات من موائد القمار والصخب
وفي المساء تغسل الثياب والنهود في البحيرة العقيم
وتلعن الرجال حين يلعقون وجهها الوديع
وتلعن الذين يعشقون هدبها البديع
حبيبتي أردت أن أنمق الكلام في عيونها أبت
لأنها ترى فؤادي الكذوب خلف رونق القناع
وهاجرت !
وهاجرت !
وفي المساء تغسل الثياب والنهود في البحيرة العقيم
وتقطف الثمار من شجيرة غريـبة محنطة
تجوع دون أن تسأل الرجال كسرة من القديد
رجالها
يرون نهدها وشَعرَها وفخذها فيضحكون
ويشربون نهدها الذي يجف كالرميم
ويلعقون كفها المقددَّا
ويفتلون في الضباب والظلام شعرها المجعَّدا
يجرجرونها على الرصيف عارية !
ويقول في مقطع آخر:
حبيبتى تنام في الصقيع
ضريرة رأيتها على الرصيف ضائعة
حضنتها.. تباعدت !
مسحت فوق خدها.. نأت !
مسحت فوق شعرها.. نأت !
وحيدة وجائعة (16).
إن الشاعر حلمي سالم تسيطر عليه حالة من حالات الحزن، لما آلت إليه «الحبيبة / الرمز»، فهي امرأة تعيش حالة مأساوية، طعامها الفتات المتبقي على موائد القمار والصخب.
والشاعر يستخدم بعض المفردات الحسية التي تومئ إلى الجنس بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، على سبيل المثال «النهود، وجهها، هدبها، عيونها، عارية على الرصيف، خدها، شعرها، وفخذها» إن التمزق الذي تتعرض له الحبيبة / الرمز في نص حلمي سالم، قد يومئ إلى أن هذه المحبوبة ليست محبوبة عادية كالبشر، لكنها محبوبة مغتصبة لا تستطيع أن تدافع عن نفسها، أو تدفع من يجرجرونها، ويتعرضون لها، إنها لا تقوى على الدفاع حتى عن نفسها، مسلوبة الإرادة، ضائعة الهوية، فهي امرأة ذليلة، أصابها الهوان، مما أدى إلى سخرية الآخرين منها والاستهزاء بها. وهذا ما يشي بعناصر الضعف التي تكمن في جسد هذه الحبيبة.لكنها، مع هذا، عزيزة، قد تجوع دون أن تسأل الرجال، وتغسل ثيابها وجسدها في البحيرة «العقيم» ومفردة «العقيم» لا تخلو من دلالة واضحة، وهي انكفاء المحبوبة على نفسها لذا اختارت بحيرة عقيماً لتنشر همومها وقلقلها من خلال ثيابها الملوثة ومن علامات الضعف أيضاً أن الرجال (يلعقون كفها المقددا، يجرجرونها على الرصيف عارية)، مما يشي بالكم الهائل من الذل والضعف والتعذيب والعقاب الذي تعرضت له تلك المحبوبة.
وقد استخدم الشاعر في المقطع الثاني بعض الأفعال الماضية التي تدل على موقف الحبيبة السلبي، فعلى سبيل المثال (حضنتها – تباعدت – مسحت – نأت). إن هذه الأفعال على الرغم من تقاربها زمنياً وحسياً بين الشاعر ومحبوبته، فإنها تشي بمدلولات عدة (تباعدت) تدل على البعد القريب، لأنها خائفة قلقة من حضن الشاعر الفارس، الذي يحاول حمايتها (مسحت فوق خدها…….. «نأت» (النأي) يدل على البعد الشديد والنفور. (مسحت فوق شعرها…. نأت) تأكيد واضح على موقف الحبيبة السلبي.
إن المرأة/ الرمز، التي تحدث عنها حلمي سالم إنما هي امرأة «سلبية»، فهي تقوم بأفعال تدل على إغراقها في السلبية الشديدة، ونفورها من هذا الواقع المؤلم. وإذا لاحظنا ذلك جيداً، يبدو لنا أن الشاعر قد صنع حواراً صامتاً بينه وبين محبوبته، فهذه المحبوبة التي هي أشبه بسيدة خرساء، تكتم همومها في قلبها وتصمت، لأن في الصمت نجاتها وانفلاتها من الموت المحتوم، وعلى الرغم من أنها جائعة، فهي تعيش تجربة الوحدة وتقاسيها، وعدم امتزاجها بالآخرين يدل على انطوائها على ذاتها، وغربتها الداخلية التي تتملكها، إذن فحال هذه المحبوبة كما أشرنا إنما هو حال العروبة الممزقة أشلاؤها في كل مكان الضائعة مع أبنائها العرب.
وقد تأخذ المرأة مساراً آخر عند حلمي سالم، فإنه قد يتحدث عن المرأة بوصفها أُمّاً، وأختاً، ومحبوبة، وحقيقة وعادلة..إلخ من الدلالات، ففي ديوان «سراب التريكو» يذكر امرأة، هذه المرأة هي الأم الحقيقية للشاعر وهي زاهية السيد نصار يقول:
هذه أمي على باب وسط الدار،
دلالها باد في حسرها غطاء الرأس،
ومدنيتها في الابتسامة
لكن نصفها الأسفل
من الضلوع حتى البانتوفل
متآكل
يلزمني أن أراها واقفة
قبل أن يتاح لي أن أفرد أصابعها(17).
إن هذا المشهد الدرامي الذي صنعه حلمي سالم في هذا النص هو في ذاته صراع بين الموت والحياة.إن الشاعر يرصد ملامح هذه «الأم / الرمز» من خلال أفعالها البسيطة مثل (دلالها – انحسار غطاء رأسها – ابتسامتها) هذه هي حياة الأم البسيطة، ولكن الشاعر ينتقل بنا، ليعبر عن المأساة التي حلت بهذه المرأة، وهي تآكل ضلوعها ونصفها الأسفل قد أصبح مشلولاً، لا يقوى على الحراك. وقد يتهرب الشاعر من المشهد الأخير، ألا وهو الموت، فيقول: يلزمني أن آراها واقفة، قبل أن يتاح لي أن أفرد أصابعها وهي ميتة، أو في لحظة الاحتضار. إن الأم هي حياة الشاعر التي يعيش انتصاراتها وهزائمها، فهي عنده بمثابة الروح التي تسري في أجزاء جسده لذلك يقول:
من زاهية؟!
البرد والسلام (18).
إن هذا المقطع القصير، البرد والسلام، يفجر سؤالاً يشي بالتعجب والاندهاش: مَن زاهية؟ الإجابة عن هذا السؤال ليست كأي إجابة، إنها إجابة دالة بالفعل، «فالمرأة / الأم» هي الأمن والطمأنينة، البرد والسلام، كما يصورها الشاعر. وكما يحس الشاعر تجاه أمه بأنها هي الخلاص الوحيد الذي يلجأ إليه، فقد يخلق الشاعر حلمي سالم عالمه الخاص تجاه أمه ومثاليتها، لأنه مرتبط بهذه الأم، ارتباطاً شديداً، فهي محط همومه وقلقه والشيء الوحيد الذي يحفظ سره وحزنه وتجاوزاته. وقد خرج الشاعر من خلال استخدامه لمفردة الأم من المستوى الاجتماعي (الأسرى) إلى المستوى الفني لأن الأم الكبيرة هي (مصـر).
الهوامش
j راجع، إديث كريزويل: «عصر البنيوية»،، ص353.
(1) عبد الفراج خليفة: «قصيدة الحداثة في شعر السبعينيات»، ص472.
(2) حسن طلب: «سيرة البنفسج، مطبوعات، كاف نون»، سنة 1986، ص7 – 11.
(3) جميل حمداوي: «السيميوطيقا والعنونة»، مجلة عالم الفكر، الكويت، يناير، مارس 1996، ص90.
(4) ممدوح فراج محمد: «أشكال التنوع البيئي في الرواية المصرية «ماجستير، مخطوط –2002، ص188.
(5) المعجم الوجيز: «مجمع اللغة العربية» القاهرة، سنة 1993، ص471.
(6) حسن طلب: «أزل النار في أبد النور»، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسر/ 2003، ص38.
(7) السابق نفسه ص40.
(8) السابق نفسه ص 62 – 63.
(9) السابق نفسه ص89 – 91.
(10) رفعت سلاّم: «كأنها نهاية الأرض»، مركز الحضارة العربية، سنة 2000 ص93.
(11) رفعت سلاّم: «كأنها نهاية الأرض»، ص98.
(12) محمد عبد المطلب: «هكذا تكلم النص»، مرجع سابق، ص92.
(13) رفعت سلّام: «إنها تومئ لي»، الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1992، ص43.
(14) السابق نفسه ص43.
(15) محمد عبد المطللب: هكذا تكلم النص – مرجع سابق ص93.
(16)حلمي سالم: «حبيبتى مزروعة في دماء الأرض»، الدار المصرية للنشر1994، ص38 – 39 – 40.
(17)حلمي سالم: «سراب التريكو»، شرقيات سنة 1995، ص13.
(18)المصدر السابق: ص46.
أحمد الصغير
كاتب وأكاديمي من مصر