البحر أول مرّة
1
فجأة،
يذوي ضجيج التلاميذ في الحافلة،
يصير مهمهمات.
تتزاحم الرؤوس الصغيرة عند النوافذ
حين تلوح رافعات الميناء
وتبان حواف السفن العالية.
قشعريرة في الجسد
ودهشة في فضاء العيون.
انه البحر،
ولكنني لا أراه.
2
رمال الأزقة تحت أقدامنا
طريا، طريا
والنوارس في سماء المغيب
انه البحر،
ولكنني لا أراه.
3
أحاول النوم
فيمنعني هدير الموج في الجوار
وتمنعني رغبتي في ملامسة الماء
فأعدّ عوارض السنديان في السقف:
1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9….
وأنام
أبي
رائحة التبغ، آثار جرح في الجبين.
النهار للحقول،
والليل للحنين والعبادة.
صورته بزيّ مقاتل على الجدار:
(عرفت فيما بعد
أنها صورة عبد القادر الحسيني
الذي استشهد عام 1948
في معركة القسطل دفاعا عن القدس).
أنا
كانت أمي تحمل وتلد كل عامين؛
رقيّة، آسيا، إبراهيم، محمد
وتوفيق الذي ولد عام 1952.
ولكنها في شتاء 1954،
وباستثناء وحيد
حملت و أجهضت في الشهر الخامس مضغة مدماة،
تم دفنها في أصيص الريحان المركون عند عتبة الباب.
مع أنني ولدت صيف 1956،
إلا أن إحساسا قويا وغامضا، لا زال ينتابني
وينبئني بأن الكائن الذي أجهض عام 1954
هو أنا.
فلسطين
1
بيتنا على طرف البلدة يا ولدي
ابيض، واسع وجميل
في حديقته شجر مثمر/
تفاح وتين وكمثرى،
عنب ومشمش
وبئر عميق.
2
قبل أن أتعرف على تضاريس حارتنا في المخيم
عرفت التلال المحيطة بقريتنا في الجليل.
عرفت الكنيسة والمسجد الشاذلي
عرفت جهات الرياح
ولون الندى.
عرفت حكايا ليالي الشتاء
ورائحة العليق ينمو على شفتي الطريق الطويل
إلى قلعة جدين- احمر حامض/ اسود كالعسل.
عرفت الدروب التي تنتهي
إلى بحر عكا
وتلك التي تنتهي في الطريق الكبير إلى طبريا.
3
«ولقد طوّفت في الآفاق حتى
رضيت من الغنيمة بالإياب»
امرؤ القيس
4
في الطريق إلى أريحا
كان القمر كبيرا
وكان البحر الميت يحيى بين يدي.
النهر
1
الماء أبيض،
الحصى ملون
والدفلى سيد النبات.
أخطو، أتعثر ثم يأخذني الماء.
هل سقطت في النهر
من يد السيدة
أم أن السيدة هي التي غمرتني
لأرى موتي من خلال ستار رموشي
بشهقة في الفم
بعيون مفتوحة
ثم رفعتني
لأرى وجهها المفزع
يضحك فيه الشيطان.
2
«أيها النهر لا تسر
وانتظرني لأتبعك
أنا أخبرت والدي
أنني ذاهب معك».
3
في أول أيام العيد
كنا نذهب إلى المدينة
نأكل الفلافل، نشرب الكازوز،
وننحشر في الجمهرة المحتشدة أمام دار السينما
لمشاهدة فيلم أجنبي من بطولة جوليانو جيما.
نلتقط صورة تذكارية أمام تمثال أبي فراس الحمداني
عند مدخل الحديقة العامة
ثم نقف على ضفاف نهر «قويق» لساعات
نتفرج على القوارب الصغيرة
وهي تعوم بركابها المبتهجين
على مياه تجمعت خلف سدّ خشبي مرتجل
ونحلم بالسفر إلى أقاليم بعيدة وجميلة
شاهدناها للتو على شاشة السينما.
4
تهبط الكرديات السفوح
بجرار الزبيب وأغاني البيادر
في ضفائرهن أزهار الدفلى
وعلى أياديهن تعب النهار.
لقد تركن النهر وحيدا
هناك، خلف التلال.
حرب الجزائر
لأن بشرتي كانت الأكثر بياضا من وجوه أقراني في روضة حياة الدسوقي انتدبني رفاقي لتمثيل دور الفرنسي في حرب الجزائر.
قبلت بالدور وتمددت على الأرض ليطأ عبد الحكيم، الأسمر الطويل صدري بحذائه الملوث بالوحل وهو ينشد مقطبا حاجبيه بصوت جهوري غليظ:
«قثما بالثاحقات الماحقات…والجبال الشاهقات الراثخات»
اليزابيت
قلبي متعب
وأصابعي على الطاولة:
خمس حيات مترعات بالشهوة والوجل.
عيناي على وجهها
وعيناها على دوائر النبيذ المرتجف في الكأس.
قمر أيلول يسرب ضوءه عبر أغصان الدالية
إلى حواف الشرفة
في الطابق الخامس
وضجيج ترام آخر الليل يوقظ الحنين؛
حنين إلى الكائنات الغافية في حجرات الذاكرة.
آه لو تهتز الأرض بزلزالها
فأعانقها.
الخوف
1
الشياطين ترقص في الملابس المنشورة
على حبل الغسيل في ضوء السراج الخافت
المعلق عند النافذة.
2
شبح جارنا أبو العبد
الذي شاركت في مراسم دفنه
يعترض طريقي في المساء
كلما طرقت الزقاق-
الممر الاضطراري إلى البيت.
3
في معسكر الأشبال تدربت على استخدام السلاح وإسعاف الجرحى وتنظيم الكمائن والإغارة على المستوطنات استعدادا لخوض معارك تحرير فلسطين.
ولكنني، ذات مساء نال التعب منّي فتخلفت عن رفاق الطابور الذين استمروا في الهرولة إلى كروم الفستق البعيدة.
وحين داهمني الليل أخذت انتحب باكيا من الخوف والبرد والوحدة.
خالـــد درويــش شاعر من فلسطين