بدأت المباراة عند الخامسة عصرا.
إنه صيف عام 1980. مالت الشمس خلف الجبل الذي ألقى بظله الهائل، والوديع، على السفح الواسع حيث حدد الأولاد ملعبهم ونقوه من الحصى إلى أن أصبح، مع كثرة الوطء ومرور السنين، مسطحا من الحصباء والرمل والغبرة المتناسلة.
أمامهم ساعتان ونصف الساعة قبل الغروب تكفيهم لإنهاء المباراة والتلذذ بالنصر أو التخلص من طعم الهزيمة.
لم يكن ثمة موعد محدد لعقد هذه المنافسة. تجري مرتين في السنة أو ثلاث مرات وقد تمضي سنة أو سنتين من غير أن تُقام. كل شيء تحكمه الصدفة، تماما مثل انعقاد الريح وتجمع السحب وهطول الأمطار.
ولم يزد عدد الفرق المتنافسة قط عن ستة فرق. إنه الرقم الأنسب لأولاد الحي الفقير لتنظيم مسابقتهم هذه. هكذا جرى الحال منذ أول مرة أقاموا فيها الدوري قبل عدة سنوات وهكذا استمر حتى اليوم.
ستة فرق لا أكثر. كل يوم مباراة، تبدأ عند الخامسة مساء أيام الصيف أو في ساعة متقدمة فيما عداه من الفصول، وتنتهي حينما يشاء الله ذلك.
لأول مرة يتولى أحمد قيادة فريقه، فريق الفرسان السبعة. ليس هو الأفضل بين أترابه، فهناك سليمان المهاجم، الذي ولد برأس تشبه الكرة وبقدم يمنى تتحرك لركلها. وهناك بدر الهداف الذي وهبه الله أسرار هذه اللعبة بشكل يدهشه هو نفسه. وثمة نادر، المدافع والعملاق بسنواته الأربعة عشرة، التي كل سنة منها، عضلٌ وقوة وعزيمة. كل هؤلاء يلعبون أفضل منه، بيد أنه استطاع أن يتصدرهم ويقودهم خلفه. كان يريد ذلك، بقوة وعناد.
ولكن لماذا هم سبعة لاعبين فقط؟ – قد يسأل سائل! لا جواب حقيقي عن هذا السؤال ولا عن أي سؤال آخر في حي الوادي الفقير. ربما بحكم العادة، محض الصدفة أو لأن الأمور جرت بهذه الطريقة منذ البداية، هي ذي الأجوبة لمن يبحث عنها. ولكن، بعد كل شيء، فمن الأفضل ألا تُطرح أسئلة بعد الآن، لا ولا حتى تساؤلات. أن لا يكون ثمة سائل البتة، فالحياة هنا، في حي الوادي الفقير، بسيطة وواضحة وضوح الشمس، ولا وجود لظلال زائدة هنا والأرض لا تخبئ الأسرار.
وقف الحكم في وسط الملعب (تقريبا) ممسكا الكرة القديمة بكلتا يديه. ألقى نظرة إلى يمينه وأخرى إلى يساره، وبحدسه قاس المسافة وتأكد من صحتها. مع ذلك قرر أن يسأل اللاعبين: “هل توافقون أن نبدأ من هنا؟ أعتقد أنه منتصف الملعب!”
كان التوتر يلعب بأعصابهم قبل أن يبدأ اللعب. كل فريق يرمي نظره إلى مرمى خصمه ويراه يدنو منه ويبتعد… وقبل أن يطلق الحكم صفارته الصفراء، التي انتزعت من أحشاء لعبة قديمة، كان كلا الفريقين متحمسا للفوز ويراه قريبا منه، بل إنه لا يرى شيئا آخر غير الفوز.
نظر أحمد إلى خصمه، رمضان، قائد فريق القمصان البيضاء. أطول منه، ساقاه هزيلتان ومعقوفتان ولكنهما قويتان ومرتكزتان في الأرض. وبالرغم من هزاله البادي، إلا أن عضله يلوح من تحت الغبار الذي كسى جلده. أما عيناه فكانتا خطين دقيقين، تلمعان كشفرة النصل ولا تقبلان شيئا غير التحدي والمبارزة.
لبرهة ارتبك أحمد من صورة غريمه وهيئته المتأهبه ثم سرعان ما أحجم عن النظر إليه وصرح للحكم أنه يوافق على المكان المذكور، ورفع يده إلى فريقه ليستعدوا.
وقف بعض المارة حذو الملعب، منهم من اتخذ مقعده فوق حصاة من حصى الوادي وآخرون هيأوا مجالسهم على الأرض. هناك من توقف برهة، طالت قليلا أو قصرت، واصل طريقه بعدها ومضى في سبيله.
– مبروك! ارمِ السيجارة لو سمحت وانتبه للعب. ستبدأ المباراة الآن – قال نادر الوحش للحارس، مبروك الأعرج.
– طيب، طيب، لا تصرخ. انتبه أنت لسروالك المشروخ ودعك مني، يا جحش. ها ها ها ها ها.
بلا! حارس فريق الفرسان السبعة أعرج ويلزمه الوقت لنقل خطواته: يُعامد يده اليمنى على ركبة رجله المعطوبة ويتحرك، خطوة إثر خطوة وخطوة فوق أخرى. كل شيء عنده مزحة، وكل مزحة حقيقة. مع ذلك، وبعد كل شيء، فهو الحارس الذي يحمي مرمى فريق الفرسان السبعة في مباراتهم قبل النهائية والمصيرية هذه.
– اسمع نادر – تحدث مبروك وما زال يحتفظ بالسيجارة بين اصبعيه – لا دخل لك بي… أنت مدافع وأنا حارس… كل واحد بشغله. والله العظيم إذا قلبت وجهك صوبي سأترك الملعب… دعني فقط أستمتع بطيزك الكبيرة والفوز لكم… أعدك… ها ها ها ها.
تجاور المهاجم سليمان والهداف بدر خلف أحمد، قائد الفريق. الجميع يعرف أنهما يستحقان القيادة أكثر منه. وهما مدركان لذلك أكثر من أي أحد آخر. ولكنه يقف الآن هناك، بشعره الذي يخيم على رأسه، وجهه نحيف، ممشوق، بينما السلسلة الفضية تتدلى من عنقه، حلقاتها ثخينة تعلن عن جرأة لم يعهدها الوادي من قبل، يقف بجوار الحكم، يفاوضه ويؤكد القيادة لنفسه.
سادس فريق الفرسان وسابعه هما حسين وراشد. يقفان على طرفي الملعب. ممتلئان وخدودهما منتفخة. حسين بوجه أسمر محروق، تخالطه حمرة حين يعرق أو يغضب، وما أكثر ما كان يغضب. وراشد، ولد بارد وشارد. لا يتخلى عن العلكة التي أصبحت جزءا منه. ليس هنا ولا هناك ولا حدود بين يقضته وغفلته، بين واقعه وأحلامه.
بدأ الصدام وارتفع غبار الملعب. شاهد مبروك ذلك، سحب نفسا عميقا وألقى بسيجارته التي لم يتبق منها سوى جمرة هامدة. بدأ يشعر بحمى المباراة تسري في عروقه وتدب في جسمه المائل، ومثلما يفعل حين يدهمه خطب مفاجئ، بصق في يديه وفركهما وضرب على رجله المعاقة بقوة تعادل قوة حجر.
فاتنا القول إنها المباراة الأولى التي يشارك فيها مبروك في الدوري، بل هي أول مباراة حقيقية يلعبها في حياته كلها. كان منصور هو حارس الفريق فيما سبق، ولكن عائلته غادرت الحي وانتقلت للعيش في مكان آخر.
الصراخ يشتد في الملعب ويتردد في الأفراد الذين توقفوا للمشاهدة. الكل يصرخ، بمن فيهم الحكم، ولكن صراخه عكس صراخ الآخرين وموجه ضده، وقد أوقف المباراة أكثر من مرة ليجبرهم على السكوت، ولكن أحدا لا يسمع له. وللأسف لم يكن بمقدوره إشهار البطاقة الحمراء لمجرد تصايح اللاعبين.
كان سليمان وبدر يحتلان منتصف الملعب ويشكلان بؤرة فريق الفرسان السبعة. هذا يُسّكنُ الكرة بصدره ويتركها تنساب منه ليتلقفها الآخر بعقب قدمه ثم يدوّرها ويجري بها إلى الأمام قبل أن يعيدها لرفيقه. نادر الوحش يصد بكتفه مهاجمي فريق القمصان البيضاء ويحشر حذائه الكبير ليصطاد الكرة من بين أقدامهم. أما مبروك، وحتى هذه اللحظة من عمر المباراة، فكل الكرات كانت تصيب جسده، غفلة منه وكيفما اتفق، وتربض أمامه طواعية.
بلغة الرياضة تقام المباراة على أرض الفرسان السبعة. الجبل الكبير وحده ما يفصل بينهم وبين بيوتهم، وقد اختصروه عبر أخدود وعر يصلهم بسفحه الآخر، المشرف على مجرى الوادي. أما فريق القمصان البيضاء فيأتون من حارتهم في أقصى الطرف الغربي للحي.
حارة البلوش التي تحدها جبال صغيرة، متكررة، تشبه قافلة مرتحلة تتهادى في الأفق القريب والبعيد. ثمة واد ضيق يفصل بيوت الحارة عن سلسلة الجبال، وعلى جنباته أشجار معمرة لا تتعب من ترقب السحب ولا تكل من انتظار المطر. ومثلما هي الجبال، كان الوادي يرسم طريقه الدهري هو الآخر، بفتور ولا مبالاة.
كانوا يقطعون ثلث ساعة مشيا، من حارتهم حتى أخدود الجبل الكبير شرقي الحي، وعشر دقائق من هناك حتى الملعب في السفح الأجرد. ومع أنهم لم يبرحوا حي الوادي وما زالوا يجوبون طرقاته الملتوية، إلا أن الشعور بالنأي يؤجج خواطرهم ويزنر خطواتهم كلما ابتعدوا عن حارتهم خطوة أخرى.
سبعة لاعبين بقمصان بيضاء مختلفة الأشكال ودرجات اللون، وشورتات لا تتشابه في شيء، يشيعهم ثلاثة أو أربعة من رفاقهم، هم جمهورهم والشاهدون على لعبتهم وهم أيضا اللاعبون الاحتياط حينما تدعو الحاجة إليهم. كان بإمكانهم، وهم ينهبون طرقات الحي المتربة والزاحفة بين بيوته، أن يعبثوا بأي شيء في طريقهم. قوتهم فائضة وجسارتهم مشهود لها، والطريق الجديد يتحرش بحواسهم ويحرك حفيظتهم. ولكنهم لا يُقدمون على شيء يجلب العار لأهليهم، هؤلاء الصبية البلوش، ويكتفون من طاقتهم بما يشد عزمهم للمباراة، وبضجيج وهرج يتحرك معهم ولا يتعداهم.
لا ترجح كفة اللعب لأحد الفريقين إلا لتنتقل إلى الفريق الآخر. فريق الفرسان السبعة متنوع ورشيق ولكن الأنانية تغلب على لعبه فتنقطع كراته قبل وصولها المرمى، وفريق القمصان البيضاء متحد ومندفع مثل عاصفة، ولكنها عاصفة عمياء ومعظم كراته تصطدم بالحارس أو تنحرف إلى الخارج.
لم يخف على أحمد ما يضمره رفيقاه، بدر وسليمان، من استخفاف نحوه وشعور بالتفوق عليه وإن كان هو قائدهم ورأس حربة الفريق. يظل يصيح بهما ليمررا إليه الكرة في هجمات حاسمة وفرص لا تعوض ولكنهما لا يستمعان إليه ويواصلان لعبهما الثنائي. لم يحقد عليهما، ولم يكن بوسعه، في هذه المباراة الحاسمة، أن يشغل نفسه بالتشفي منهما. كان همه تحقيق النصر وإيصال فريقه، الذي يقوده للمرة الأولى، إلى المباراة النهائية. وكان يعلم أن الفريق بدون بدر وسليمان لا حظ له في شيء. حاول أن يؤثر عليهما ويطيب من خاطريهما فصفق لهما عند كل هجمة وأرسل المديح إليهما ولكن بلا فائدة: لم يعترفا به وجعلاه يتمنى أي شيء سوى أن يمررا إليه الكرة، مهما علا صياحه أو كان قريبا من المرمى وجاهزا لتسديد الهدف.
قبل أن يعلن الحكم نهاية الشوط الأول بدقيقة، حزم أحمد أمره وضمر في نفسه شيئا ينقذ به كرامته، ولتكن بعدها نتيجة المباراة ما تكون.
خمد غبار الملعب بعد أن غطى وجوه اللاعبين وكسى أجسامهم، وإلى قناني الماء التي أحضرها نادر وأتمن عليها إسماعيل، أخاه الأصغر، هرع فريق الفرسان السبعة. مثلهم فعل أصحاب القمصان البيضاء فتسابقوا على الماء الذي جلبوه معهم وعهدوا به إلى أحد رفاقهم الجالسين خلف حد الملعب.
تجاذبوا القناني، ومن شدة العطش أهرقوا ماء كثيرا على الأرض، وكان نادر الوحش يدافع عن تنظيم الشرب مثلما كان يدافع عن مرماه، ويحرض إسماعيل الصغير على التمسك بالقناني، ولكن الأخير لزم مكانه، مبهوتا وفاغرا فاه، مثل عصفور غُدر به في عشه.
بعد أن ارتووا، ومنهم من تجرأ وملأ صدفة يده ليرطب وجهه ويزيح عنه الغبار، وسط الصياح والسباب (عادة ما يفعلها حسين، السمين، سريع الغضب والمتأهب لكل ما هو محظور) احتلوا بعدها أماكنهم، على الأحجار أو في أرض الوادي ووسط غبرته، واتخذوا أوضاعا تعبر عن أحوالهم النفسية والجسدية وعن أشياء أخرى في علم الغيب.
كان هناك أحمد الذي جلس جامعا ركبتيه بيديه، ومبروك الذي مد رجله اليمنى، المعاقة، أمامه واتكأ على الأرض بمرفقه الأيسر، ونادر، الأسمر الضخم، مجسدا جلسة اليوغا على الرغم من فخذيه الكبيرين، وحسين السمين، الأسمر المحروق، والأحمر الغامق دائما من كثرة ما يغضب؛ يبدل جلسته كل عشر ثوان. هؤلاء في ضفة واحدة: متجاورون ويدخنون من نفس السيجارة. إلى جانبهم رفاقهم الذين لا يدخنون. يختلفون عنهم ولكنهم ملتصقون بهم كالتصاق الخاتم بالإصبع. سليمان، الوجه الجميل والجسد الرياضي المبهر، ظل واقفا ومحتفظا بالكرة بين قدميه. بدر وقد خبأ رأسه بين يديه الممدودتين على ركبتيه فبرزت فقرات عنقه الطويلة، يغطيها الغبار ويلوثها العرق، مع أن شيئا في الحي الفقير لا يمكنه أن يلوث هامته التي تشي بأرستقراطية غابرة. وفي ضفة فريق الفرسان السبعة هذه ثمة راشد الذي لا يتخلى عن العلكة، السمين مثل حسين، بيد أنه لا يغضب مثله وإنما يطلق العنان لأفكاره وأحلام يقظته لتمرح في مروج بعيدة، بعيدة، ولكنه يراها قريبة. كان راشد يعتلي أكبر صخرة في المكان ويفرقع أصابعه بشرورد.
غمغم نادر بصوت متوحش يشبه فروة رأسه، الفحمة المتجعدة، المغبرة الآن. قال إنهم ضيعوا فرصا كثيرة لإحراز الأهداف: “شباب، لازم ترتبوا أموركم. أنا أحمي المرمى وهذا دوري، ولكن رجاء لا تضيعوا الفرص أكثر… سيهزمنا البلوش والسبب أنتم”. نظر أحمد إليه بطرف عينه ثم نظر إلى بدر وسليمان، عن يساره، بطرف عينه الأخرى.
ومن مكانه، كقط مُثار، هجم حسين الأحمر على نادر الأسمر ورماه بسهم غضبه: “ومالك والبلوش يا زنجباري! انتبه! سأقتلك لو تكلمت عن البلوش ثانية… والله العظيم سأقتلك”. في الحال استقرت عين أحمد على حسين ودنى إليه برأسه وأسر في أذنه شيئا تقبله الأخير بابتسامة رطبت وجهه وأطفأت نار غضبه.
طالت فترة الاستراحة حتى نسي البعض شأن المباراة. نفخ الحكم في صفارته الصفراء الرقيقة، مالئا إياها بالبصاق ومهددا اللاعبين المتأخرين بأنه سيعلن الفوز للفريق الآخر إن لم يعودوا إلى الملعب. في تلك الأثناء وقف أحمد على رأس فريقه وأعلن التغيير الذي سيأخذ بموجبه سليمان مكان حسين في المؤخرة ويتقدم حسين ليحتل منطقة الهجوم. صعق الجميع، حتى مبروك الأعرج، الذي يجهل شؤون الكرة، شعر بحرج اللحظة وأحس بخطورتها.
– هذا كلام خطير – همهم نادر لأحمد.
– أسكت، أنا الكابتن وأفعل ما أريد – رد عليه أحمد.
احتج سليمان وأشاح بوجهه وأراد أن يرفع حجرا يرمي به أحمدَ، ولكنه كان محصورا بين الحكم الغاضب من تأخر اللعب وبين سطوة أحمد وحقه في قيادة الفريق.
– نلتقي بعد المباراة يا كلب – تحدث سليمان والوجوم يكسو وجهه. وهكذا دخل فريق الفرسان السبعة الملعب بخطة جديدة لم يجربوها من قبل.
أثناء تلك الاستراحة أجهد أحمد تفكيره وهو يبحث عن مخرج لوضعه، يحميه من المذلة ولا يفسد مباراة فريقه الحاسمة. وحين تصدى حسين لنبيل، وتحدث إليه بلكنته البلوشية، التي أحدثت وقعا خاصا في أذنه لم يعهده من قبل، حينها ارتسمت في رأسه الخطة التي ستحقق مراده. اقترب من حسين وأسر إليه في أذنه: “ما رأيك لو تأخذ مكان سليمان في الهجوم؟ يقولون إنك لم تحرز هدفا في حياتك، اليوم فرصتك”.
حسين هو الأقرب إليه من الآخرين. جاره وزميل دراسته وشريك أسراره. سيجعله بجواره في المباراة ويضمن تمريرات الكرة إليه، وسيتخلص، فوق ذلك، من بدر وسليمان ورقصهما الذي لا طائل منه. أراد أحمد أن يلقي بكل حيلته في الشوط الثاني فوجد ضالته في هذا القرار.
لم تمض خمس دقائق على بداية الشوط الثاني حتى أحرز فريق القمصان البيضاء الهدف الأول في المباراة. رقصوا بقوة ورفعوا يوسف الذي جاء بالهدف فوق أيديهم. كانوا وهم في نشوة فرحتهم يتحدثون ويهنئون أنفسهم باللغة العربية، فيوسف، صاحب الهدف، لا يتحدث البلوشية، وإنما يلعب في فريقهم لأنه رفيقهم وابن حارتهم.
هاج سليمان وثار في وجه أحمد وكاد أن يشتبك به لولا وقوف حسين بينهما ووجود نبيل الوحش. أما مبروك، الذي انفرطت الكرة من تحت قدمه المعاقة، الشبيهة بجناح مكسور، فكان مشدوها ويتجرع حسرة سالت فجأة في حنجرته، حسرة جديدة عليه، بعثرت أحاسيسه وجعلت جسمه يرتعش بقوة.
كان قلب أحمد يرتجف وينبض في رأسه بدل صدره. لم يدر ما يفعل وكيف يتصرف فقد تشتت أحاسيسه وتملكه الارتباك. فريقه يلعنه بسبب فعلته والفريق الآخر يتباهى بقوته أمامه ويشمت به.
تمنى، وهو في وسط الملعب، أن يعاودوا اللعب بسرعة إذ لم يكن قادرا بعد على الوقوف من غير أن يحرك شيئا. أنقذه الحكم حين آذن باللعب فاستلم تمريرة البداية من حسين وانطلق بها كالمجنون إلى مرمى الخصم، ولكنه وقع بقدم أحدهم وتجندل فوق الحصى والغبار. أصيب بخدوش موجعة في ركبته وكوعه، ومع ذلك، أو بسبب ذلك وحده، شعر بأنه أفرج عن كربه واستعاد توازنه. تمّسك بالكرة ولم يسمح لأحد غيره تنفيذ الخطأ؛ وكانت تسديدته في طريقها إلى الهدف لولا انتباهة الحارس في اللحظة الأخيرة.
على ضفة الوادي الأخرى، وفي بطن الجبل الأبعد، دوت انفجارات الدينميت لشركة بناء الطرق وغطى الغبار وجه السماء فوقها. شعر أحمد بصوت الدينميت يهدر في صدره وبقوة جديدة تنبعث في جسمه وتحرك دمائه.
يمتلك لاعبو القمصان البيضاء قوة بدنية وقاماتهم تفوق قامات الفرسان السبعة، ولكن لا أحد منهم يضاهي مهارة سليمان وبدر، لا سيما حين يكونا بجوار بعض. الآن، وبعد أن فرق أحمد بين ذلك الثنائي المكتمل والفريد، وجب عليه أن يتحمل عاقبة قراره ويحتمل النتيجة مهما كان نوعها.
لم تهدأ عاصفة القمصان البيضاء ولم يزدهم هدفهم إلا اندفاعا نحو مرمى خصمهم. ولولا شراسة نبيل في دفاعه عن المرمى لكان وقع النتيجة قاسيا على الفرسان السبعة.
يرشقون الكرة أمامهم بقوة، غير عابئين بالحصى ولا يعيرون السقوط المؤلم أي أهمية أو مبالاة. يتصايحون فيما بينهم باللغة البلوشية، ولكنهم يتحولون إلى العربية بسرعة تعادل سرعة لعبهم ما أن تتحول الكرة إلى يوسف، رفيقهم وابن حارتهم الذي لا يفهم لغتهم.
وإن كان من أحد يستحق الشفقة أكثر من غيره فهو مبروك. لقد كان مسحوقا بالإهانة التي لحقته من دخول الهدف في مرماه، وخائفا من تكرار الأمر، خوفا وكأن الجبل المنتصب خلفه سيقع على رأسه. سوى ذلك فهو لا يدري، البتة، ما هو المطلوب منه ليفعله.
أخبره نبيل أن يقف معاكسا له. فإن كان الهجوم قادما من الجهة اليسرى، عليه أن يأخذ الجانب الأيمن من المرمى، والعكس كذلك. قال له نبيل ما قاله ليبرئ ذمته أمام نفسه، إذ لم يخطر بباله قط، ولا في أردأ حالاته النفسية، أن يقف خلفه حارسا مثل مبروك. أخوه إسماعيل ذو السبعة أعوام، حارس الماء الذي دخل المدرسة لتوّه أفضل من مبروك لحراسة المرمى ألف مرة.
ولكن حال فريق الفرسان السبعة تغير ما أن جاء هدف التعادل.
تراكضوا كلهم صوب أحمد الذي كان يتحرك بلا هدى، يكاد نفسه ينقطع من الذهول والفرحة. طارت الكرة من جهة حسين إلى قدمه بينما ظهره ناحية مرمى الخصم، فقوسها من فوق رأسه ومباشرة ذهبت إلى الهدف. هكذا بكل سهولة. حتى مبروك دفع بجسمه إلى وسط الملعب ليلتحق بالمهنئين ولكنه آثر العودة بعد سبع خطوات سلامة لقدمه العارية.
أصبح الوضع مختلفا الآن. فريق الفرسان السبعة فرح بالهدف الذي وحد صفهم وأعاد الأمور إلى نصابها وفريق القمصان البيضاء منكسر ويستبدل الحماسة بالحسرة.
“كيف صنعت هذا؟” – كان أحمد مرتبكا كالمرة السابقة، ويتمنى لو يطلق الحكم صافرته بأسرع ما لديه فيستأنفوا اللعب. قدماه ترتجفان ووجهه يرتج، إنما بسبب الفخر الذي يتوجه هذه المرة لا خوفا من العار. كما أنه، ويا للعجب، يشعر بوطأة موقفه الآن مثلما شعر به من قبل، بل وبحرج أشد ومشقة أكبر.
تقابل الفريقان من جديد وكان الإنهاك من الصراخ والجري واستنشاق الغبار قد أخذ منهما كل مأخذ، وبدأ اللعب بوجوه عفرة وعيون محتقنة، مليئة بالتحدي. وهكذا، بعد أن ذاق كلا الفريقين طعم الفوز والخسارة معا، وبعد أن تعرف كل لاعب في الملعب على نفسه أكثر واكتشف الآخر، أكان من فريقه أو من الفريق الخصم، حينها لم يتبق أمام الجميع سوى تحقيق النصر الأخير، بأية وسيلة كانت ومهما كلف الثمن. بيد أنه، وبما أن فوز أحد الفريقين هزيمة للآخر، فقد انطلق اللعب بطريقة منفلتة وجنونية، تنازع فيها الخوف الرغبة وتصادم الحذر بالاندفاع.
غابت معالم اللعب في فوضى الأقدام وكومة الغبار. الجميع يدفع بالكرة إلى الأمام ويجري لتسديدها أو يتراجع إلى الخلف لصدها عن مرماه. مبروك الأعرج نفسه تلبسه التوتر العنيف الذي لا يأتيه إلا في أشد الحالات خطورة وأكثرها فجاءة، فصار يرتكز على قدمه السليمة ويحرك جسده ويديره بها: يرتمي على الكرة، أو بالأحرى على أقدام اللاعبين، بتهور وكيفما وافقه الحال. ويبدو أن الحكم قد أخذ إعاقة مبروك بعين الاعتبار ولم يحتسب، ولا لمرة واحدة، ضربة جزاء بحقه، وللسبب نفسه لم يطالب الفريق الخصم بحقه في ضربات الجزاء.
الصراخ وخشونة الأرض وسحابة الغبار والقيظ وما يخلفه من عرق واحتراق الجلد تحت الإبطين وبين الإليتين وأعلى الفخذ يأجج من عواطف اللاعبين ويوصل حماستهم إلى ذروتها. وكان انفجار آخر يشق الفضاء وسحابة غبار هائلة غشيت سماء الجبل الأبعد، إلى جانب زمجرة آلات الشركة التي كانت تكسرالحجر وتحفر للناس مسارا وقدرا جديدين، عندما علا صياح الفرسان السبعة وانطلقت قفزاتهم تنهب أرجاء الملعب. فرحتهم لا توصف بإحراز الهدف الثاني، لاسيما أن المباراة أوشكت على نهايتها.
مرر حسين الكرة إلى أحمد، تقيدا باتفاقهما على أن يحول إليه كل الكرات التي تصل إليه. وقد التزم حسين بالاتفاق بشراسة وشرع يرشق الكرة إلى صديقه وجاره وزميله في المدرسة حتى وإن كانت وجهتها خطأ أو أن وصولها إليه مستحيلا. جاءته الكرة من أحدهم بالخطأ فمررها إلى أحمد الذي دفعها أمامه. تعدى أول لاعب من القمصان البيضاء، وأمام اللاعب الثاني لم يعرف ما يفعل ولكنه اندفع فتعداه هو الآخر، فجاءه الثالث ولحق به أحدهم من الخلف، صرخ به بدر لينقذ منه الكرة ولكنه استمر في الهجوم، مندفعا وخائفا ومرتبكا. ترّصده الدفاع الذي انقض عليه، تحاشاه وتقدم والكرة، وياللعجب، مازالت معه، وهكذا إلى أن وجد نفسه في مواجهة الحارس. أحس أن الخوف والحرج يكبلان قدميه ويهدان أعصابه، ولكنه استطاع أن يستجمع قوته. أغمض عينيه وركل الكرة أمامه ركلة أصابت الهدف… وفيما بعد قالوا له إن ركلته كانت بديعة.
كانت هجمة غريبة جلبت معها الفوز وصعود فريق الفرسان السبعة، ولكنها بقيت معجزة حقيقية بالنسبة لأحمد، لا علاقة لها بالواقع، وقد بقيت كذلك لوقت طويل بعد المباراة.
تقلص الجمهور الصغير الذي تجمع لمشاهدة مباراة أولاد الحي إلى النصف وبقي منه خمسة أشخاص تفرقوا عند حدود الملعب. طارت الكرة وتصادم اللاعبون وكثرت الشتائم فيما بينهم بالبلوشية والعربية والسواحلية. وقبل نهاية المباراة بدقيقة واحدة، قفز رمضان، قائد فريق القمصان البيضاء، قفزة عالية كاد أن ينبت لها جناحان ووثب بعنف على أحمد. رفسه في صدره ووجه إليه اللكمات فما كان من الآخر إلا أن رد عن نفسه وأنشب على خصمه ركلا وضربا بالقبضات. حينها، في تلك اللحظة من المباراة وكانت في نهايتها، أخرج الحكم بطاقة حمراء، منزوعة من غلاف دفتر بهت لونه، وأشهرها في وجه رمضان المهزوم وأحمد المنتصر، الذي، وبحكم قوانين منظمة الفيفا التي لم يسمع عنها أحد، بمن فيهم الحكم، لن يشارك فريقه اللعب في المباراة النهائية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* فصل من رواية.
أحمد م الرحبي*