يقدم لنا محمد شعير في مؤلفه أولاد حارتنا سيرة الرواية المحرمة سرداً شيقاً للصراع الذي دار حول رواية نجيب محفوظ منذ أن شقت طريقها إلى صفحات الأهرام التي نشرتها في حلقات في أواخر الخمسينات من القرن الماضي إلى أن تبنتها دار الآداب البيروتية وظهرت في كتاب بعد هجرتها القسرية إلى لبنان إذ أن مصرها منعت نشرها في كتاب.
يرصد لنا محمد شعير تفاصيل هذا الصراع الذي اشتركت فيه أطراف ثقافية واجتماعية وسياسية متعددة الأطياف كما أن مؤسسات الدولة على تنوعها من الأزهر إلى وزارة الإعلام مروراً بوزارة الثقافة أدلت بدلوها في التعليق على الرواية حتى قبل أن تظهر في كتاب، أي أن الكثير من التعليقات ورد وكأنه خبر مسند لا يستند إلى غير نص الرواية الذي حظيت به صفحات الأهرام والتي لم تعد في متناول القارئ بسهولة آنذاك!
وقبل أن أخوض في تفاصيل الحديث عن هذا السّفر القيّم أود أن أشير إلى الملاحظات التالية:
أولاً: نهج محمد شعير أسلوباً توثيقياً إذ يقوم بدعم ملاحظاته وآرائه وأفكاره بكل ما يتصل بالموضوع. وهكذا نراه يعد العدة لتقديم منشورات الصحف والمجلات والتصريحات لمختلف الأطياف من الأقلام الثقافية والإعلامية دون ملل أو كلل، يحاورها ويتحاور معها دون أن يفرض رأيه ودون أن يجعلنا نحس بتقييم سلطوي من نوع أو آخر، أي أنه يلتزم درجة عالية من الحياد والموضوعية.
ثانياً: رغم أن الأسلوب توثيقي في ظاهره إلا أنه سردي في باطنه، أو لنقل أنه يزاوج بين ظاهر التوثيق وباطن السرد الذي يوضح التوثيق ويرقى به من الواقع المباشر إلى التصوير الذي ينفذ إلى أعماق الوثيقة ويسبغ عليها قيمة تفوق مجرد حضورها في المتن.
ثالثاً: نجح شعير في رصد روح العصر التي واكبت ظهور الرواية؛ فالهجوم الذي تعرضت له الرواية لم يأتِ من فراغ بل من معتقدات ومسلمات سادت المجتمع المصري بشكل خاص والمجتمع العربي بشكل عام مفادها عدم القدرة على التعامل مع الفن الروائي واختزاله إلى أطروحة دينية أو اجتماعية أو حتى ثقافية مضللة.
أما الملاحظات التي أود أن أبديها دون انتقاص من شأن ما ورد في مؤلف محمد شعير فهي:
أولاً: إن الهجوم الذي انصب على الرواية والذي دوّنه محمد شعير ينطلق في مجمله من اختزال الرواية إلى مضمون ديني بحت. أي أن نصوص هذا الهجوم تحاشت عن عمد أو غير عمد التعرض للناحية الفنية التي كان يمكن أن تغير اتجاه القراءة غير المنصفة في الرواية بل وأن تضعها في منظور فني ربما كان من شأنه أن يقدم الرواية من زاوية مختلفة. ويرجع هذا إلى نقص لمفهوم الرواية، بشكل عام، وأركانها الفنية ومكوناتها التي تتخطى مكونات المقالة الصريحة المباشرة. لهذا نلاحظ أن الرّد الذي كان يقوم به نجيب محفوظ على خصومه لا يلتقي مع آراء أولئك الخصوم الذين أقدموا على قراءة الرواية وكأنها أطروحة اجتماعية واضحة وصريحة. أي أن الحوار بين القيمة الفنية للرواية وخصوم نجيب محفوظ ظل معطوباً بسبب أحادية التوصيل. ولو كان كتاب محمد شعير يتعدى في اهتمامه الرئيس سيرة الرواية لقدم شعير نقداً أدبياً كافياً لهذا الموقف بغية قراءة الرواية من منظور منصف على الأقل.
ثانياً: يرد ذكر رواية الأجيال في مناسبات كثيرة على أنها جنس أدبي تبناه نجيب محفوظ في أولاد حارتنا وترجمة المصطلح بالإنجليزي أدق بكثير من المصطلح العربي وهو Fathers and Sons. وأود أن أضيف هنا أن هنالك جنسا أدبيا آخر هيمن على العديد من الروائيين في الغرب والشرق بما فيهم نجيب محفوظ وخصوصاً في أولاد حارتنا. رائد هذا الجنس الأدبي هو جوته التي تعد روائية وليم ماستر Wilhem Meister أنموذجاً امتدت هيمنته في الشرق والغرب من نهايات القرن الثامن عشر، تاريخ صدور رواية جوته إلى يومنا الحاضر. وعلى سبيل المثال لا الحصر نستذكر رواية ديكنز الآمال العظام في القرن التاسع عشر ورواية جويس صورة الفنان في شبابه في القرن العشرين. والمصطلح الذي يطلق على هذا الجنس الأدبي هو Bildungsroman. وظل المصطلح يحتفظ باسمه الألماني الذي تشكلت الرواية منه على يد جوته. يعنى هذا الجنس الأدبي بنمو الشخصية وارتقائها من خلال التجربة في الحياة العملية.
ثالثاً: في اعتقادي أن أكثر ما يعتور القراءة الجائزة لـ أولاد حارتنا هو التوقف عند الرمز في الرواية بدلاً من الترميز وهو مصطلح مشهور وساطع في الأدب الغربي يشار إليه بـ Allegory وهو غير الرمز. فبينما يكون الرمز معادلة ثابتة تقريباً تكشف عن تقارب شبه متكافئ بين الطرفين يسعى في النهاية إلى تقريب الفهم لموضوع الرمز، يكون الترميز أوسع مدى في شموليته دون أن يفرض على القارئ التقيد بمقاربة محدودة بين طرفي المعادلة. وفي حالة الترميز يضيع المضمون في شكله المجرد ليصبح أكثر تجسيداً. وقد لاحظ المهتمون بترجمة المصطلح Allegory صعوبة نقله إلى العربية لدرجة أنهم يؤثرون الحفاظ على صبغته الأصلية فيشيرون إليه بـ إليغوريا منعاً للخلط بينه وبين الرمز symbol. وقد لاحظ النقاد والشعراء الغربيون المحدثون محدودية الرمز فتقدموا بمصطلح الصورة Image ليسد الفراغ أو النقص الذي كان يوحي به الرمز إذ أضحت الصورة متفوقة على الرمز في اتساع مداها. فقصص كانتربري Cantebery Tales لصاحبها تشوسر الذي يشار إليه على أنه أب اللغة الإنجليزية هي على سبيل المثال إليغورية، وكذلك رواية مزرعة الحيوانات Animal Farm للروائي المشهور جورج أورول. وقد اطّلع نجيب محفوظ على الكثير من الروايات التي تشملها تقنية الإليغوريا.
ما من شك أن قراءة أولاد حارتنا يمكن أن تفيد من منظور مصطلح الإليغوريا أكثر من الرمز. وربما تخفف من حدة القراءة المغلوطة لرواية نجيب محفوظ.
رابعاً: المعروف أن نجيب محفوظ كان قارئاً نهماً في الآداب العالمية والإنجليزية بشكل خاص. وقد ذكر شعير العديد من المصادر الغربية التي اطلع عليها محفوظ منها موتوشولوح لكاتب المسرح المشهور بيرنارد شو وكذلك روايات هاردي وغيرها الكثير الكثير. وهذا شأن كل روائي كبير مثل نجيب محفوظ.
في اعتقادي أن أقرب عمل أدبي غربي تأثر به نجيب محفوظ هو رواية جورج إليوت التي تعد درة الرواية في العصر الفكتوري وهي مدلمارش Middlemarsh. استذكرت هذه الرواية عند قراءتي الأولى لرواية نجيب محفوظ بل أني أعتقد أنها تصلح لأن يشار إليها على أنها الرواية الإطار لرواية نجيب محفوظ. منظورها لا يبتعد كثيراً عن منظور محفوظ إذ أنها بداية تتخذ من قرية مدلمارش، قرية عادية بسيطة غير مشهورة، إطاراً تتمثل في حياة أهلها (شخصيات الرواية) صورة انجلترا بأكملها. ألا يجعلنا هذا نستذكر على الفور مقاربة بين الحارة والقرية المذكورة كإطار عام مشترك بين الروايتين؟ ألا يجعلنا هذا أيضاً نستذكر استمرارية حياة الأجيال في فضاء الإطار التقريبي؟
هنالك شخصية في أولاد حارتنا ربطها البعض بشخصية مقدسة تتقاطع مع شخصية مدلمارش تتعاطى الأفيون ظناً أنها ستصبح مثل الشاعر الرومنتيكي كوليردج الذي كان هو الآخر يتعاطى الأفيون. ومن الواضح أن الروائية البريطانية كانت تهدف إلى تبيين مواطن الضعف في تلك الشخصية. ورسمها بشكل كاريكاتوري يدعو إلى الرثاء والشفقة لضحالة تفكيرها. هل كان محفوظ يسير في اتجاه مواز يتضمن أن النبوة ظاهرة نادرة الحدوث وأن البشر واهمون لو اعتقدوا أنها تحصل بمجرد ممارسة طقوس بشرية مغرية!
خامساً وأخيراً: اعتراف نجيب محفوظ بكامب ديفد ونيله جائزة نوبل. كثيراً ما يربط الناس بين الحادثتين بل وذهب البعض إلى الاعتقاد أن جائزة نوبل جاءت تتويجاً لمحفوظ من خلال أولاد حارتنا بشكل خاص. وفي هذا السياق لا أتفق مع محمد شعير في المسوغات التي يقدمها بشأن اعتراف نجيب محفوظ بكامب ديفد مع أنها مستوحاة من خلفيات موثقة. وهي مبررات أكثر منها دفاع.
* * *
وفي اعتقادي أنه لا علاقة حقيقية بين الحادثتين وأنا أصدق نجيب محفوظ أن جائزة نوبل لم تكن بالنسبة له في الحسبان. ذكر لي محمود درويش والذي هو الآخر كانت الجائزة خارج حساباته إذ أنه كان يؤكد لي في أكثر من حديث عن الموضوع أنه خارج اللعبة تماماً مشيراً إلى أن آلية منح الجائزة معقدة لدرجة أنها تستعصي على التكهنات وأن النشاط الذي يسبق منح الجائزة بحثاً عن مستحقيها يظل طي الكتمان. أما اعتراف نجيب محفوظ بكامب ديفيد فإنه بالنسبة لي لغزاً عصياً حتى على التكهن. وكثيراً ما أحاول أن أملأ الفراغ بالاعتقاد أن العالم بأكمله عند نجيب محفوظ مسرح شخصيات بني البشر لا هوية معينة لهم في واقع الحياة وأنه أمضى جل حياته يشقى في اختيار ما استهوى ليمنحهم هوية من خلال موقعهم في أعماله الفنية. يقال أن العالم بالنسبة لشيلي خيال (fiction) لا حقيقة وهذا في تصوري ينسحب على نجيب محفوظ. وإذا كان هنالك من تبرير فهو تبرير خيالي وهمي إذ أني أتصور نجيب محفوظ يقول لنفسه أن كامب ديفد والسادات عابرون في كلام عابر. المهم بالنسبة له أنهما ليسا كذلك في فضائه الفني. فالكارثة بالنسبة له أنهما خارج المكان في عالمه الروائي.
ما يخفف من وطأة اعتراف نجيب محفوظ بكامب ديفد رواية ليالي ألف ليلة (القاهرة 1988) التي اتخذ نجيب محفوظ فيها من السندباد موتيفا صّبّ من خلال مصطلح الإليغوريا جل غضبه على رحلة السندباد إلى الكنيست عام 1977.
وإنه لمن اللافت للنظر، أن تظل هذه الرواية ليالي ألف ليلة بعيدة نسبياً عن أنظار الدارسين والباحثين في أدب الرواية العربية تعميماً وأدب نجيب محفوظ تخصيصاً. ومرجع ذلك في اعتقادي إلى سببين: أولهما التركيب المعقد للقناع الذي يتكوّن من موتيفات متشابكة وتقاطعات متداخلة تقف عائقاً في وجه القارئ الذي يحاول اختراق القناع للوصول إلى الوجه. وثانيهما أن الظرف السياسي المعيّن الذي يشكّل مصدراً لهذا التركيب هو في كثير من الأحيان تاريخ مربك أقل ما يقال عن فاعله إنه خرج من التاريخ، وهي عبارة إدوارد سعيد. وإنه لمن المؤسف أن يظل الأمر في هذا التحوّل أو الإنحدار التاريخي أمراً جدلياً. ومن يقرأ ليالي ألف ليلة يعجب ما إذا كان نجيب محفوظ نفسه ما زال غير متأكد من موقف معين تجاه ما حدث. ونحن لا نلوم نجيب محفوظ إن بدت لنا الرؤية معقدة؛ لأن الحدث نفسه لا يدع فرصة للوقوف والتأمل والخروج بنتيجة، وسيظل الحدث يدهشنا بحدّته وشدّته لما له من تأثير سلبي في تاريخ أمة بأكملها إلى ما لا نهاية، خصوصاً أنّه كان تلك البداية المرعبة (ويكفي أن نستذكره الآن بنفس زخم الدهشة التي أثارها بعد مضي أربعة عقود).
ويعبّر محفوظ نفسه عن هذه الحالة المحيّرة المربكة في مقابلة أجراها معه حسين حمودة نشرتها مجلة فصول. ويجيب عن سؤال يتعلق بتأثير الإسهامات المتقدمة حول ألف ليلة في صياغة روايته قائلاً:
” لقد جاءتني فكرةٌ مفادها أنّ حكايات (ألف ليلة وليلة) يمكن أن تكون مادة صالحة تماماً لأن أصوغ منها عملاً روائياً متداخلاً ومتكاملاً بقدر الإمكان؛ أي قدر التداخل والتكامل نفسيهما اللذين نجدهما في حكايات (ألف ليلة وليلة)؛ لذلك، أعدت قراءة (ألف ليلة) مرة أخرى، واستخرجت منها مجموعة من “الثيمات” المختلفة، ووجدتها – عندئذ- تدعوني للكتابة عنها. طبعاً ليس كل عمل، ولا كل تجربة، يغريك أو تغريك للكتابة عنه أو عنها. لكنّي، على أية حال، وجدت في (ألف ليلة) أشياء ودوافع تدعوني للكتابة عنها؛ ومن ثمّ كانت روايتي (ليالي ألف ليلة).
أعتقد أنني، في هذه الرواية، قد عبّرت عن اهتماماتي الكبرى الأساسية، وأنّني قمت بذلك في مزيج بين ما يمكن أن تسميه “الواقعية السياسية”، و”التأملات الميتافيزيقية”، ولك – إن شئت- أن تقول “التأملات الصوفية”. لقد وجدت في (ألف ليلة) مساحة كبيرة تمكّنني من التعبير عن هذا المزيج متباعد الأطراف. (فصول صيف 1994: ص 379-380).
من يقرأ الرواية بتمعّن يدرك أن ثيماتها وموتيفاتها كانت تعتمر في نفس نجيب محفوظ منذ أمد طويل، ولو أردنا حصر خلفيتها السياسية التي أشار إليها محفوظ منذ أمد طويل، ولو أردنا حصر خلفيتها السياسية التي أشار إليها محفوظ في المقابلة لقلنا إنها تمتد بين حدثين كبيرين في تاريخ الأمة العربية، حدث 1967، وحدث 1979. ويبدو أن نجيب محفوظ كان على وعي أن الحدثين لن يكون الشفاء منهما سهلاً، وليس لهما شبيه في التاريخ. لهذا كان لا بدّ من البحث عن شكل خيالي يناسب التعبير عن الواقع الذي أصبح ضرباً من الخيال. وفي الستينات والسبعينات شاعت تقنية تدعى بالواقعية السحرية من شأنها أن تقلّص أو تلغي الهوّة المعهودة بين الواقع الخيال، وتغني الكاتب عن الوساطة الفنية التي تنقلنا من جهة إلى أخرى. وفي لقطة فنيّة سريعة فيها بداهة الواقعية السحرية يدخلنا نجيب محفوظ إلى الواقع السياسي مدخل صدق، عندما يدع السندباد يطلب من أهل الحيّ ولنقل أهل الحارة أن يرووا له أولاً ما حدث لهم أثناء غيابه بدلاً من أن يبدأ رواية حكاياته في رحلاته السبع؛ إذ يؤثر أن يسمع أخبارهم قبل أن يسمعوا أخباره التي يؤجل روايتها عليهم إلى الوقت المناسب:
“لدي ما يسر ويفيد وكل شيء بأوانه.. صبركم حتى أستقر..
فقال عجر:
نحدثك نحن عما وقع لنا!
ماذا فعل الله بكم؟
فأجابه حسن العطار:
مات كثيرون فشبعوا موتاً، وولد كثيرون لا يشبعون من الحياة. هبط من الأعالي قوم وارتفع من القعر قوم، أثرى أناس بعد جوع وتسول آخرون بعد عز، وفد على مدينتنا عدد من أخيار الجن وأشرارهم، وآخر أخبارنا أن ولي حكم حينا معروف الإسكافي..
فهتف السندباد:
حسبت الأعاجيب قاصرة على رحلاتي، الآن يحق لي العجب..” (248)
في ظل هتاف السندباد هذا الذي يقع في رواية ليالي ألف ليلة، تعلق مارينا وورنر في دراستها المتميزة السحر الأقوى Stranger Magic الذي صدر عام 2012 وحاز على جائزة الشيخ زايد على ما يقوله نجيب محفوظ عن ألف ليلة وليلة بشكل عام وهي أنها سحر خيّر white magic بمعنى أنها على النقيض من ذلك السحر الشرير black magic وذلك بغية اقتفاء سحر السرد الخير والإفادة منه في كتابها إذ أنها تشاطر نجيب محفوظ في اعتقاده أنه لم يسبق لقصص قبل ألف ليلة وليلة “أن أنقذت قوة السرد رقبة راو والسيف مسلط على رقبة الراوي لهذه القصص”. وفي ضوء هذه الملاحظة تقوم وورنر بعقد مقارنة تقريبية بين شخصية شهرزاد الخيالية وشخصية روث في الأسطورة التوراتية التي استطاعت بالمثل أن تنقذ شعبها اليهودي من الهلاك. هذه الملاحظة لا غبار عليها لو كانت الإشارة حصراً في ألف ليلة وليلة.
لكن وورنر تشير في مقدمتها لكتابها إلى ليالي… محفوظ، التي هي عملياً خروج عن دائرة السحر الخير إلى السحر الشرير. وفي نفس السياق تشير وورنر إلى ما يقوله نجيب محفوظ عن ألف ليلة وليلة بشكل عام وهو “أن قصص ألف ليلة وليلة تفتح عوالم جديدة تحث على التأمل” من الواضح أن وورنر تجاهلت تأمل نجيب محفوظ الذي أدى في النهاية إلى خلق عالم جديدة استقاه من ألف ليلة وليلة وتمثل في ليالي ألف ليلة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا استقصت وورنر البعد السياسي الهام وتوقفت عن البعد الفني لرواية ليالي ألف ليلة؟ ما من إجابة على ذلك غير أنها آثرت أن توفر على نفسها الحرج من بني جلدتها الذين لا يروق لهم أن يقدم نجيب محفوظ تهكماً لاذعاً لما حصل في عامي 1976 و 1977 يجعلنا نستذكر الهجاء satire عند سوفت. فالمعروف أن رواية نجيب محفوظ لا تخفي وجهها مهما بلغت كثافة القناع. وفي مواقع كثيرة من الرواية يبدو التماهي بين شهريار الجديد وبطل كامب ديفد واضحاً. هذا هو الحوار على سبيل المثال بين شهريار والصبية الملائكية يكشف عن القناع ليرينا الوجه بكل وضوح. وتجنبا لإعادة الحوار الذي يرد في هذه المداخلة لاحقاً بالهتاف المذكور أعلاه، أكتفي بإعادة الكلمات الأخيرة في الحوار: “انتظرناك طويلاً، المدينة كلها تنتظرك”.
هذه الكلمات هي نفس الكلمات التي قوبل بها السادات في مطار بن جوريون حيث كانت جولدا مائير في استقباله. وقد أكد لي جابر عصفور ذلك (محادثة مع جابر عصفور جرت في المعرض الدولي للكتاب في عمان 2018/9/27).
ما يقوله السندباد هنا هو أبلغ وصف كموتيف السندباد الذي شاع شعراً ونثراً عند الكتاب العرب قبل نجيب محفوظ في حقبة الستينات والسّبعينات، ويشكل هذا الوصف المتقضب نافذة على حكايات السندباد، وهو البعد الجديد الذي دخل في صورة السندباد. ومن هذا الموتيف تنبع جدلية الواقعية السحرية التي تقوم على تداخل الواقع والخيال بل وتلاحمهما ومن هذا التلاحم تولد صورة السندباد المأساوية للواقع الحاضر من رحم الملهاة لحكايات السندباد القديمة. وهكذا نجد أن حِكَمْ السندباد التي يستقيها من تجاربه (وليس المقصود هنا عدد هذه التجارب وسنواتها الطويلة التي يمكن أن تؤهل المرء لأن يصبح حكيماً) هي التي تؤثّر على شهريار وتساعده على التحرر من الماضي وأوهامه. فشهريار على وعي أن حكايات شهرزاد وحكايات السندباد (وباعتراف شهرزاد نفسها) تنبع من مصدر واحد. ولكن الفرق كبير عندما يدرك شهريار أن حكايات شهرزاد حكايات من الماضي جعلته نفسه وبطريقة غير مباشرة يعرض عن ماضيه نفسه أو يسكت عنه على الأقل. أما حكايات السندباد فهي أكثر من مجرد حكايات خلص منها إلى حِكَم وعبر أيقظت شهريار وجعلته يثور على ماضيه وينقلب على شهرزاد التي كانت السبب في توقفه عند الماضي طيلة سردها للماضي وممارسة سلطان السرد القصصي عليه. وأرجو ألا يفهم هنا أن محفوظ يقف موقفاً نقدياً من الماضي وإيجابياً من التحرر منه بل أنه يصور الحيرة والضياع والخسارة في جميع الأحوال ولا يستشف منظوراً بعينه فصحوة شهريار لا تؤدي إلى نتيجة بل انها صحوة تأتي بعد نكسة تتلوها نكسة أخرى. وفي اعتقادي أن “السندباد” وهو الجزء الرئيسي من الخاتمة يتبعها “البكاؤون” المكملة للسندباد والتي هي أشبه بتعقيب عليه يمثل صورة صادقة جادة معقدة لذلك الواقع السياسي الممتد بين عام 1967 و 1979. ومهما اختلطت الألوان في هذه الصورة يظل اللون الذي يوحد بين الخيال والحقيقة هو السائد على بقية الألوان.
وأي قراءة متأنية لجزأي الخاتمة الأول والثاني تشدنا على الفور إلى ذلك الواقع السياسي، إلى الحادثين المشؤومين هزيمة حزيران والمعاهدة المذكورة. كلاهما يشكل رجع الصدى لذلك الواقع. فعند قراءة الجزء الأول نتذكر على الفور جموع الأمة العربية وهي تتلقى النبأ الفاجع بتنحي الحاكم الذي كان أمل الأمة العربية على مدى خمسة عشر عاماً ونيف ويتذكر جيل الستينات الملايين من هذه الأمة وهي تستقبل النبأ بالبكاء والحزن البالغين.
والصورة الفنية الموازية التي تعبر عن وضع الحاكم المقهور وشعبه الحزين هي صورة شهريار الذي تنتهي به المقادير إلى الهزيمة والقهر ويجد نفسه، مثل سندباد نجيب سرور، أمام اختيارين لا ثالث لهما:
“عزل نفسه مقهوراً أمام ثورة قلبه في وقت تناسى فيه شعبه آثامه القديمة الماضية.. اقتضت تربيته زمناً غير قصير.. لم يقدم على الخطوة الحاسمة حتى استفحل في باطنه الخوف وهيمنت رغبته في الخلاص.. غادر قصرَه بالليل، عليه عباءة وبيده عصا مستسلماً للمقادير.. أمامه سبيل للسياحة كما فعل السندباد، وسبيل إلى دار البلخي، وثمة مهلة للتدبر.. قادته قدماه إلى الخلاء قريباً من اللسان الأخضر فترامى إلى أذنيه صوت غريب.. أنصت تحت هلال في السماء الصافية فأيقن من أنه يسمع نحيباً جماعياً!.. قوم يبكون في هذا الخلاء؟، مضى نحو مصدر الصوت في حذر حتى استقر وراء نخلة..”(263).
أما واقع الجموع الباكية فتعبر عنه صورة الجموع التي تصور نفس الحالة تقريباً عندما يشير عليها أحد أفرادها بالعودة إلى دار العذاب مثل عودة سندباد سرور إلى الجحيم، إلى مدينة العذاب، وهو يعرض عن اختيار السياحة السندبادية رافضاً الهروب من الواقع، ويختار الصمود في وجه الواقع:
“… وقبيل الفجر قام أحدهم وقال:
آن لنا أن نرجع إلى دار العذاب!
فَكَفوا عن البكاء وقاموا وهم يتواعدون على اللقاء غداً ثم مضوا نحو المدينة كالأشباح..” (263)
أما الطرف الآخر من الواقع المقيت الذي يحدث بعد حوالي أحد عشر عاماً فيصوره الجزء الثاني من الخاتمة. وإذا استقل الجزء الأول بصورة الحاكم المقهور، الحاكم الضحية، فإن هذا الجزء يصور الحاكم المغرور الذي غرَّه أو غرر به ما بدا له من أنه انتصار حقيقي في حرب أكتوبر عام 1973. يصور الحاكم المغامر الذي استقل الطائرة التي حطت به بعد حوالي الساعة في بلاد الواق واق. بعدها انتقل إلى المدينة المقدسة، صلى في شرق المدينة وخطب في غربها وكان ما كان من الخروج من التاريخ، وعندما نقرأ ما بين السطور تبرز لنا صورة فنية لغتها مكثفة، حوارها هادئ أثرها عميق لا يمكن أن يقدر على هذه الصياغة غير كاتب قدير على وعي جاد بحقيقة التاريخ وأبعاده التي ما زالت متفوقة على الحدث نفسه في اتساع تأثيرها:
“اقترب من الصخرة.. دار حولها دورة كاملة.. ما هي إلا صخرة في صورة قبة غير مستوية يمر بها العابر فلا تثير اهتمامه.. دنا منها فتحسس سطحها فوجدها خشناً.. هوى عليه بقبضته مرات ثم هم بالتحول عنها عندما صدر منها إليه صوت قوي متحرك.. تكشف أسفلها عن مدخل مقوس الهامة فتراجع مرتعداً من الخوف لأنه رأى نوراً هادئاً عذباً ونسمت رائحة زكية مخدرة.. زايله الخوف إن هذا الباب هو ما تاق الرجال إلى فتحه وما أحرقوا الدموع من أجله.. اقترب منه أدخل رأسه متطلعاً فجذبته فتنة طاغية.. ما كاد يدخل حتى أغلق الباب وراءه ولكن فتنة المكان استحوذت عليه كله.. منير بلا ضوء.. عذب المناخ بلا نافذة، متضوع بشذا طيب بلا حديقة.. أرضه بيضاء ناصعة قدت من معدن مجهول، جدرانه زمردية، سقفه مزركش بمهرجان من الألوان المتناغمة، في نهاية بوابة متلألئة كأنما طُعمت بالماس، مضى بلا تردد متناسياً ما وراءه، ظن أنه سيبلغ البوابة في دقيقة أو دقيقتين ولكنه مشى طويلاً والممر باق على حاله لا يقصر والفتنة من الجانب تتدفق.. أشفق من أن يكون طريقاً بلا نهاية، لكنه لم يفكر في الرجوع ولا في التوقف وطاب له المشي العقيم إلى الأبد.. ولما أوشك أن ينسى أن لمشيه غاية وجد نفسه يقترب من بركة صافية تقوم فيما وراءها مرآة مصقولة، وسمع صوتاً يقول:
– أفعل ما بدا لك..
سرعان ما لبى رغائبه الطارئة فخلع ملابسه وغاص في الماء.. دلكته نبضات الماء بأنامل ملائكية وتسللت إلى باطنه أيضاً.. خرج من الماء فوقف أمام المرآة فرأى نفسه جديداً في إهاب فتى أمرد، قوى الجسم متناسقة، بوجه مليح ينضح فتوة وشباباً، وشعر أسود مفروق وقد طر بالكاد شاربه.. همس:
– سبحان القادر على كل شيء..
والتفت إلى ملابسه فوجد بديلها سروالاً من الحرير الدمشقي وعباءة بغدادية وعمامة خراسانية ونعلاً مصرياً، فارتداها فصار آية تسر الناظرين..
وواصل السير فوجد نفسه أمام البوابة، ووجد أمامها صبية ملائكية لم يرها من قبل، سألته باسمه:
– من أنت؟
فأجاب بحيْرة:
– شهريار
– ما صناعتك؟
– هارب من ماضيه..
– متى تركت بلدتك؟
– منذ ساعة على الأكثر..
– فما تمالَكَتْ أن ضَحِكَت قائلة:
– ما أضعفك في الحساب!
وتبادلا نظرة طويلة ثم قالت الصبية:
– انتظرناك طويلاً، المدينة كلها تنتظرك..
فتساءل في دهشه:
– أنا؟!
– تنتظر العريس الموعود لملكتها المعظمة..
وأشارت بيدها ففتحت البوابة مرسلة صوتاً كأنين الرباب..” (266-265)
يتكون موتيف السندباد في هذه الصورة الجديدة إذن من السندباد الراوي بدلاً من السندباد المروي عنه ومن السندباد الحكيم الذي تنتقل حكمته إلى الحاكم دون وساطة مما يؤدي إلى أن يقاضي الحاكم نفسه أمام نفسه كما يفعل السندباد وهو يحاسب نفسه في ضوء ما مضى من تجاربه ويرضى أيضاً بحساب الآخرين.
وترفد هذه الصورة موتيفات عدة أبرزها موتيف طير الرخ وبريق الماس. وهنا يصبح التماهي بين السندباد والحاكم بدلاً منه بين شهريار والحاكم كما سبق أعلاه. يعبّر الراوي عن هذا الموتيف في حوار بين المهيني والسندباد وهو يهم برحلة لاحقة بعد رحلاته السابقة حيث يحضر السندباد إلى الشيخ عبدالله البلخي، معلم صباه لوداعه ويطلب المهيني من الشيخ أن يودع السندباد بكلمة طيبة فيقول الشيخ برقة للسندباد:
– إذا سلمت منك نفسك فقد أديت حقها، وإذا سلم منك الخلق فقد أديت حقوقهم.
فهوى السندباد على يده فقبلها ثم نظر إلى الطبيب ممتناً وهمّ بالقيام، غير أن الطبيب وضع يده على منكبه وقال:
– أذهب مصحوباً بالسلامة ثم عد محملاً بالماس والحِكَم ولكن لا تكرر الخطأ.
فتجلت في عيني السندباد نظرة حيرى فقال المهيني:
– لم يطر الرّخ بإنسان قبلك فماذا فعلت؟، وتركته عند أول فرصة منجذباً ببريق الماس.
– بل لم أكد أصدّق بالنجاة..
فقال المهيني بحماس:
– الرخ يطير من عالم مجهول إلى عالم مجهول، ويثب من قمة الواق إلى قمة قاف فلا تقنع بشيء فهي مشيئة ذي الجلال!
وكأن السندباد قد شرب عشرة أرطال من الخمر…(262).
عبارة المهيني “لم يطر الرخ بإنسان من قبلك” التي يتبعها باستفهام استنكاري “فماذا فعلت” تشخص المغامرة التي قام بها الحاكم الذي طار به الرخ في رحلة خارج المكان والزمن ليتوهم أن كل شيء سيكون على ما يرام بعد خطاب المصالحة. والعملية برمتها أشبه ببريق الماس. أو عبارة المهيني التي قالها بحماس، فهي تصوير يعبر أبلغ تعبير عن واقع الطرف الآخر وتعامله معنا منذ تلك الرحلة فهو ما زال ذلك “الرخ يطير ]بنا[ من عالم مجهول إلى عالم مجهول، ويثب من قمة الواق إلى قمة قاف…” ويدخلنا في متاهات ما زلنا ضائعين فيها، عكس مغامرات السندباد في حكاياته عندما كان ينجو من الضياع مهما اشتدت الأهوال واحتدت الأزمات وصعبت المغامرات.
وقبل ملاحظة المهيني على طائر الرخ يعلق شهريار عندما كان السندباد في حضرته يروي مغامراته عليه مستخلصاً منها العبر والحكم التي كان شهريار يستمع إليها باستحسان إذ يقول شهريار بهدوء:
– إنه الرخ الذي نسمع عنه ولا نراه، أنك أول إنسان يسخره لأغراضه يا سندباد فأعلم ذلك أيضاً (252).
لا بد أن شهريار هنا كان يغبط السندباد على تجربته مع الرخ، هذه التجربة التي ظلت حية في نفسه إلى أن وقع شهريار الحاكم في الشرك: شرك الرخ وشرك الماس شرك الرحلة غير الميمونة.
وهكذا يكتمل التماهي بين السندباد وشهريار والحاكم – هذا التماهي الذي يشكل موتيف الصورة الجديدة.
ومن أبلغ التعليقات على واقع الحال ما يرد في الجزء الأول من “السندباد” وكأنه لوحة مرسومة بالكلمات:
” رفع معروف حاكم الحي – بكل خشوع- اقتراحاً للسلطان بنقل سامي شكري كاتم السر وخليل فارس كبير الشرطة إلى حي آخر على أن يتفضل السلطان بتعيين نور الدين كاتماً للسر. والمجنون كبيراً للشرطة باسم جديد هو “عبدالله العاقل” .. ومن عجب أن السلطان استجاب له، ولو أنه سأله:
– أتطمئن حقاً إلى المجنون كبيراً لشرطتك؟
فقال معروف بثقة:
– كل الاطمئنان يا مولاي..
فدعا له بالتوفيق، ثم سأله:
– ماذا عن سياستك يا معروف؟
فقال الرجل بتواضع:
– عشت عمري يا مولاي أصلح النعال حتى استقر الإصلاح في دمي..
وقد قلق الوزير دندان فقال للسلطان عقب انصراف معروف:
– ألا ترى يا مولاي أن حكم الحي أصبح بيد نفر لا خبرة لهم؟
فقال السلطان بهدوء:
– دعنا نقدم على تجربة جديدة…” (246).
هذه “التجربة الجديدة” هي الواقع الذي أثار حفيظة الكتاب العرب، على رأسهم نجيب محفوظ، إلى البحث عن شكل روائي جديد، ألهمتهم إياه حكايات السندباد، هذه التجربة هي التي خرج السلطان عبرها من التاريخ مخلّفاً وراءه أجيالاً تدفع ثمن التجربة باهظاً جرّاء المغامرة في هذه التجربة التي توهم صاحبها أن مغامرته الفريدة تجربة جديدة لا يستطيع أن يقدم عليها حتى السندباد، فهي أقرب إلى الدنكيهوتية منها إلى السندبادية.
وهكذا يرحل الكتاب العرب بالسندباد شعراً ونثراً ثلاث رحلات بعد رحلته السابقة المعهودة الأولى رحلة الأمل المنشود والثانية رحلة خيبة الأمل غير المنشودة والثالثة رحلة إلى قلب الظلام ما زال رعبها يحاصرنا، وهي رحلة في طريق مسدود.
* * *
أما بالنسبة لجائزة نوبل وما دار حولها من شكوك فلدي حيثيتان غير مسبوقتين ظهرا في دورية نجيب محفوظ العدد الأول ديسمبر 2008 وأنا متأكد أنهما لم يحظيا بانتباه محمد شعير وإلا لقام بالإشارة إليهما في كتابه ولهذا فإني أود أن أعيد استذكارهما هنا.
وهذه هي الحيثية الأولى قبيل حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل صيف عام 1987، كنت في زيارة ناشر صغير في واشنطن العاصمة، واسمه الدكتور هيردك، صاحب دار النشر (Three Continents) التي كان لها الريادة في نشر ترجمات بالإنجليزية من العربية للعديد من الكتابات العربية والتي انتقلت الآن إلى بولدر كولورادو لتقوم بنفس الاتجاه. كنت حينها في طريقي إلى حضور مؤتمر عن باوند في جامعة مين، عندما علم الدكتور هيردك أنني مهتم بالشاعر العظيم، دعاني على الفور أن أنتقل من صالة عرض الكتب إلى مكتبه، حيث قدم لي القهوة وبدأ معي حديثاً ودّياً عرفت من خلاله أنه مختص بالأدب الأمريكي، وأنه كتب أطروحته عن باوند وأنه يمارس هواهيته في نشر الأدب العربي. قلت له بادئ ذي بدء، بعد أن استعرضت الكتب الماثلة على رفوف معرضه، إن نجيب محفوظ له حظوة خاصة عندك، معتمداً على المساحة التي كانت تحتلها كتب نجيب محفوظ المترجمة، أجاب على الفور: “لو أن السوق يساعد على التسويق، أو على الأقل لو أن إمكانياتي المادية تساعدني، لقمت بترجمة ونشر العديد من كتبه، ومن الكتب العربية الأخرى”. وعلّقت بالقول إن السوق الأمريكي سوق ضخم لكل شيء، فأجاب: “إن الطلب على الأدب العربي المترجم خارج أمريكا أكثر بكثير، وإن أكثر مبيعاته من الكتب العربية المترجمة خارج حدود أمريكا، وإنه كثيراً ما يحرص على استيراد ترجمات من العربية إلى الإنجليزية من خارج أمريكا ليعيد تصديرها ثانية”. سألته عن السبب، فأجاب: “إن الأمريكيين لا يحبونكم، ولا يحبون أدبكم، مترجماً كان أو غير مترجم”. وأردفت سائلاً: “حتى نجيب محفوظ؟” استمر بإجابته بنفس اللهجة، ولكي يؤكد لي الأمر، أخرج لي رسالة تسلمها على التوّ من عربي مقيم في استوكهولم يطلب منه كل ما لديه من ترجمات نجيب محفوظ، ويسأله عمّا إذا كان في وسعه أن يترجم أو يقوم بنشر ترجمات أخرى لنجيب محفوظ. “وهل ستفعل ذلك؟”. سألته، فأجاب بأنه سيطلب دعماً مادياً أولاً قبل أن يشرع بالمشروع، لأنه لا يستطيع أن يستمر في الإنفاق على الترجمات العربية من جيبه الخاص أكثر مما فعل. وسألني إذا ما كنت على استعداد للاشتراك بالمشروع، بل إنه قدّم لي نموذجاً من عقود الترجمة وطلب مني الاحتفاظ به، وأن أرد عليه مستقبلاً إن كنت راغباً في العرض.
وبعد عام ونيّف، حدث الحدث الجلل لنا جميعاً. ونال نجيب محفوظ جائزته ونلناها جميعاً طبعاً. ولم تنقض أسابيع قليلة على نيل الجائزة حتى اتصل بي هيردك وقال: إنّ سي إن إن طلبت مقابلة حول الموضوع، وإنه يريدني أن أكون في حضرة الحوار معه عبر الأقمار الصناعية. لم يَحِدْ هيردك عن موقفه السابق، بل إنه ازداد تشديداً له. إذ قال: ربما يزيد انتشار نجيب محفوظ في أمريكا، ولكن القارئ الأمريكي لن يقبل على قراءته بجد، بل سيظل يعامله على أنه ينتمي إلى حضارة لا تجد ترحاباً في أمريكا لسبب أو لآخر. علينا أن ننتظر معجزة تغير الوضع الراهن. اختتم هيردك حديثه. ربما كان هيردك مغالياً أو متشائماً، لكن الواقع ما زال مستمراً في حدود منظور هيردك، وإن تغير قليلاً فإنه لن يكون بنيّة مخلصة.
* * *
إلى الحيثية الثانية؛ في فبراير 1983، كنت في زيارة أهلي في الضفة الغربية. بينما كنت أتمشى في شارع صلاح الدين في القدس الشرقية، وهو أحد الأمكنة التي تعيد إليَّ ذكرى أيام الدراسة الثانوية في القدس عندما كنت طالباً في أحد معاهدها، التقيت بالاستاذ مناخم ميلسون مدرس الأدب العربي جامعة بئر السبع، وهو من سكان حي القطامون بالقدس المحتلة. وكان ميلسون قد استقال من منصبه كحاكم عسكري للضفة الغربية إثر استقالة الحكومة الإسرائيلية على خلاف في إسرائيل حول غزو لبنان عام 1982. كنت قد التقيت به أول مرة في أوائل السبعينات عندما حضر إلى بريطانيا لقضاء إجازة دراسية في الجامعة التي كنت فيها طالباً.التقينا بمقهى الجندول في شارع صلاح الدين مَعْلَم من معالم الشارع، دلفنا إلى المقهى لاحتساء القهوة. كان الاتفاق معه منذ اللقاء الأول أن لا عيش ولا ملح بيننا ما دام الاحتلال على حاله، اللقاء على قهوة بلا سكر في بريطانيا كما هي الحال في القدس. بدأت معه الحديث قائلاً: “هل تعلم أن المرحوم يوسف النجار صاحب هذا المقهى اشتقّ اسم مقهاه من أغنية المطرب عبد الوهاب؟ وأنه ذكر لي في هذا المكان الذي نجلس فيه الآن، أنه كان محتاراً بين تسميته (الجندول) أو (أولاد حارتنا). ردّ على الفور، لقد حضرت قبل أيام من زيارة لنجيب محفوظ، زيارتي له بدأت من الخمسينات، ومنذ ذلك الحين، وأنا أقوم بزيارته مرة كل عامين، أقوم بتدريسه في الجامعة، وقد كتبت أطروحتي عنه، كثير من طلابي يحفظون أجزاء من (أولاد حارتنا) عن ظهر قلب. صمت قليلاً ثم تابع القول نحن (ولست أدري من كان مشمولاً بالضمير ربما يشير إلى سُميخ الذي كان رائداً في كتابته عن محفوظ) نُعدّه لجائزة نوبل. “ومتى سيحصل عليها؟” سألته. “هذه أسرار لا يمكن أن يعرفها غير أفراد اللجنة”، كانت إجابته. وأردف قائلاً: “سيحصل عليها في المستقبل بكل تأكيد!”.
لا أقصد من سرد هذه الحادثة أي إثارة ولا يهمني أن نجيب محفوظ كان يقابل إسرائيليين فهذا معروف. لكني أودّ القول إن الروائي الكبير غالباً ما يعامل الناس خارج رواياته وكأنهم شخصيات في الرواية: يستقبلهم ويحاورهم ويحاكيهم دون أن يعطيهم، كما يقول فورستر، حقّ البوح بما يعتمر في داخله.
* * *
ما تبقى من هذه الشهادة ربما يكون أقلّها شأناً، لما فيه ما يخصّ كاتب هذه السطور. في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، كنت قد فرغت من دراسة بالإنجليزية عن القصة العربية القصيرة، اخترت فيها ما يقرب من خمسة عشر كاتباً، كنماذج للكاتب العربي الذي اعتقدت أنه يستقي مادته من التراث الشعبي، والذي تحتل فيه قصة “السندباد” واسطة العقد. وكان الهدف من الدراسة توضيح ما يسمى بالأصالة أحياناً، بمعنى أن القصة العربية القصيرة ليست كما يقول البعض جنساً أدبياً مستورداً، أما الهدف الآخر من الدراسة، فهو ما قام به هذا الكاتب العربي الذي استطاع أن يوظف التراث الفني كقناع يحمي به نفسه من الرقابة. ما إن فرغت من الدراسة وبعثت بها إلى دار النشر ماكميلان حتى ظهرت (ليالي ألف ليلة). تبين لي أن نجيب محفوظ استطاع أن يحشد في هذه الرواية ما حشده كتّاب القصة القصيرة وحتى الشعراء الذين وظّفوا مثل هذا التراث على مدى أكثر من عقدين: عقدي الستينات والسبعينات. وفي الحال طلبت من الناشر أن يمهلني قليلاً لأضيف ما اعتقدت أنه إضافة نوعية للكتاب، وكم كان سروري بالغاً عندما أضفتُ إلى الدراسة مساهمة نجيب محفوظ الفذّة لصورة السندباد وشهرزاد وشهريار، التي أبدعها والتي ما زلت أشعر أنها تجبّ في قيمتها وتأثيرها كل ما قبلها من صور مشابهة. لقد استطعت مؤخراً أن أضيف إلى تلك المساهمة في الطبعة الثانية (2002) التي نشرتها دار النشر ماكميلان لاحقاً.
وعندما حضر المترجم جونسون ديفيز إلى عمان وقابلته في بيت صديقه إحسان عباس الذي دعانا للغداء، تبادلت الحديث معه مطوّلاً حول (ليالي ألف ليلة). وبعد أقل من عام، زفّ إلى ديفيز نبأ إنجازه ترجمة الرواية، وأشار الى أنه قرأ تعليقي على الرواية في كتابي عن القصة القصيرة.
ورغم كل ما يمكن أن يقال عن أي ترجمة, فإنني سررت أنها ظهرت بالإنجليزية إلى حيز الوجود. متفقاً في الرأي مع أستاذتنا الدكتورة فاطمة الموسى حول ما ينقص ترجمات المستشرقين والمستعربين الذين يفوت عليهم تطوّر نجيب محفوظ. والذي يقرأ النص المترجم يدرك فحوى هذا الأمر.
(ليالي ألف ليلة) في اعتقادي رواية لم تأخذ حقها نقدياً على الأقل، وكم دهشت كيف أن ظهورها قوبل بصمت، وكيف أن الانتباه إلى قيمتها ما زالت بعيداً عن الإنصاف. هل تطور نجيب محفوظ إلى حدّ جعل القارئ العربي يحجم عن فكّ الألغاز الفنية في هذه الرواية، أم أن حبكة السياسة فيها تمسّ الحاضر والماضي وتشمل الحي والميت من سلاطين السياسة.
وبعد، فبين “كفاح” نجيب في “طيبة”، وليالي سهره في “ألف ليلة”، يظهر لنا أكثر من نجيب محفوظ معين. ما تبقى لنا، مواصلة الرحلة مع الزمن الذي قهره نجيب محفوظ بإبداعه، مخلّفاً لنا زمناً أبدياً نلج إليه كلما ضقنا ذرعاً بالزمن الآتي. ويحضرني في هذا السياق تعليق الناقد علي الراعي وهو يتصدر كتابه النقدي: الرواية في الوطن العربي بعرض عنوانه يوم قتل الزعيم لـ نجيب محفوظ وهذه بدايته:
“يدخل الفنان عالمه السحري، فيتخفف من كل شيء. من الآراء الثابتة. من المواقف المحددة. يترك كل شيء وراء الباب، حتى الرداء الذي يرتديه كل يوم. يطلق روحه من إسار الفعل ورد الفعل، ويمضي في حوار خصب مع مادته الفنية، مع شخوصه. يراها من كل الزوايا ويستمع إليها عاطفاً، مقدراً، اختلف معها أم اتفق.
ذلك شأن الفنان العظيم دائماً، يرى ويفهم ولا يتحيز. وهذا ما نجده في رواية نجيب محفوظ: “يوم قتل الزعيم” نجيب محفوظ في هذه الرائعة القليلة الحجم، أشد ما يكون صفاء نفس. هو شخوصه جميعاً يوفيها حقها من التصوير، ويدخل خبايا نفسها ويقلب أغوارها، فلا يمنعه هذا من التمييز بينها قرباً وبعداً من نفسه”.
ألا ينسحب هذا على نجيب محفوظ في ليالي ألف ليلة!
وفي الختام أود أن أستذكر مع قارئ هذه السطور ما يقوله الروائي من جنوب إفريقيا كوتزي في سياق إحدى رواياته مخاطباً جمهور القراء:
أنا لا أروي عليكم ما أرويه بدافع من استدرار الشفقة، بل إني أفعل ذلك لأجعلكم ترون ما أرى “to see what I see”. هذا هو نجيب محفوظ في سيرته الفنية.
*المصادر:
– حمودة، حسين، مقابلة مع نجيب محفوظ، فصول، صيف 1994: ص389-380.
– الراعي، علي، الرواية في الوطن العربي، القاهرة، دار المستقبل العربي، 1991.
– شعير، محمد، أولاد حارتنا: سيرة الرواية المحرمة، القاهرة، دار العين للنشر 2018، طبعة ثانية.
– شاهين، محمد، “من أرشيف الذكريات”، دورية نجيب محفوظ، ديسمبر 2018.
– شاهين، محمد، القصة العربية القصيرة، لندن، ماكميلان 1989 (بالإنجليزية) وربما تكون الإشارة إلى ليالي ألف ليلة في هذا الكتاب أول إشارة من نوعها إلى الرواية.
– محفوظ، نجيب، أولاد حارتنا، بيروت، دار الآداب البيروتية، 1986 طبعة سادسة.
محمد شاهين *