ياسين عدنان
غرناطة / 22 نوفمبر 2001
لم يكن وصلُكِ يا غرناطة إلا حلمًا في اليقظةِ قبل الكرَى. لم يكن وصلُكِ إلا حلما. لذا ما إن اتصلت بي الشاعرة الإسبانية بيلين خواريث تدعوني إلى ندوةٍ في غرناطة حتى لبّيت نداء الحلم وأنا كالمسرنم، كالمحمول فوق سحابة، كالمحلِّق في سماء فردَوْسِيةٍ بأجنحةٍ من أثير.
لبّيكِ غرناطةُ. لبّيكِ يا رُمّانة المدائن.
لماذا كلما نادَتِ الأندلس أحدَنا، نحن أبناءَ الضّفة الجنوبية للبحر الزُّقاق، يتخيّل الواحد منا نفسه طارق بن زياد، أو يوسف بن تاشفين؟ ابن تاشفين تحديدًا يناسب مراكشيًّا مثلي بشكل أفضل. فالرجل أميرُ مراكش، مؤسِّس المدينة وبانيها. ثم إن درس التاريخ يخبرنا أن الأندلس سبق أن دعت المُرابطيّ الملثَّم فلبّى نداءها. فبعدما دبّ الخلاف بين أمراء الطوائف هناك، و»صاح فوق كل غصنٍ ديك» بتعبير ابن الخطيب، طمع القشتاليون فيهم، فما كان من المعتمد بن عباد أمير أشبيلية إلا أن استنجد بابن تاشفين الذي لبّى دعوته، قبل أن يُوقعه في الأسر فيما بعد. وعاد بالأمير الشاعر أسيرًا إلى مراكش حيث سجنه في شقيقتها الكبرى أغمات: مدينة العرصات والبساتين والحدائق الغنّاء. كأنه هرّبه من مراكش: من ورش العاصمة الجديدة المفتوح إلى حيث الهدوء والخضرة والماء الرقراق. وهناك، وسط بساتين أغمات، قضى المعتمد نحبه، وضريحهُ قائمٌ بالحاضرة العريقة، التي استحالت ضاحيةً لمراكش، حتى اليوم.
لبّيكِ يا غرناطة. لكنني سآتي عاريًا من كل سلاح. لست الأمير الملثم ولا الفاتح ابن زياد. أنا مجرّد شاعرٍ من مراكش. أكتب قصيدة النثر، ولديّ ديوان يتيم منشور. لكنني سآتيك في كامل عدّتي وعتادي. سآتيك بكلّ قصائدي وأشعاري.
قالت لي بيلين: الدعوة موجَّهةٌ لك ولصلاح ستيتيه، هل تعرفه؟
كنتُ قد قرأتُ «ليل المعنى» قبل أشهر قليلة فقط، وهو كتاب يضمّ آراء ستيتيه في الشعر والوجود، فأجبتها: جدًّا. أعرفه جيِّدًا، أكّدتُ بثقة وحماس.
لبّيكِ بيلين. لبّيكِ يا غرناطة.
في الصباح، كانت هناك شابة إسبانية ضئيلة الحجم بفستان موشّى و(بيلوفر) أحمر فوقه. إسبانية كأنها الوردة تنتظرني في بهو الفندق. قالت إن اسمها آنو. وأنها مكلّفة من طرف الجهة الداعية بمرافقتنا في جولة صباحية صغيرة في دروب المدينة العتيقة.
أنت وصلاح ستيتيه، أين هو؟
كان صلاح قاعدًا في البهو يقرأ في كتاب. عرفته طبعًا لكنني لم أجرُؤ على إزعاجه. كان ينتظر آنو مثلي تمامًا، إنما مستغرقًا في القراءة، فيما كنت مكتفيا بتصفُّح وجوه الأندلسيات والسائحات الأوروبيات المقيمات معنا في فندق ميليّا هنا في قلب غرناطة.
توجهنا نحوه آنو وأنا. تبادل معي تحية مقتضبة ثم غادرنا الفندق. بدأنا الرحلة بكنيسة صغيرة في الجوار. قالت عنها آنو كلاما كثيرا. بدا ستيتيه مهتمًّا بالموضوع، أما أنا فلم أكن مستعدًّا لدرسٍ صباحي في التاريخ الكنسي لغرناطة. لذا اكتفيتُ بالتملّي في معمار الكنيسة الآسر. دلفنا إلى الدّاخل واقتعدنا مجلسًا ثم بدأنا نُحدّق في الرُّسومات زاهية الألوان التي تُزيِّن السقف وفي لوحاتٍ ترسم السيد المسيح وأخرى لمريم العذراء تحمل الطفل يسوع وهالة الضوء تحيط برأسها. كانت الهالات تحيط برسومات العذراء، وطفلها وبباقي القديسين.
كنت ساهمًا حينما همس صلاح في أذني: لنقرأ الفاتحة. نظرت إليه مليا فبدا لي كما لو أن هالة عجيبة تحيط برأسه. لكنه كرّر طلبه فتبخّرت الهالة:
دعنا نقرأ الفاتحة، قلت لك.
فاجأني طلبه الغريب. لكنني لم أر مانعًا في مجاراته. هكذا بدأت أقرأ الفاتحة في سرِّي بصوت خفيض. آمين. رتّلها صلاح بصوت مسموع. فرفعت صوتي بها أنا الآخر، ليطمئنَّ إلى أنني أنهيت تلاوتي على هدىً ورضوان. لكن ما إن انتهينا من تلاوة فاتحة الكتاب حتى مال عليّ صلاح من جديد، وعاد ليهمس في أذني:
دائمًا أقرأ الفاتحة في الكنائس، والإنجيل في المساجد لأضيِّع ملائكتي ………
بصعوبة أمسكتُ نفسي عن القهقهة.
يبدو أنك لست بالبراءة التي تبدو على وجهك الطفولي أيها العجوز الماكر، خاطبتُ ستيتيه في سرّي، حسنًا، عليَّ أن أهيئ نفسي للمزيد من مقالبك.
في المساء أخذتنا بيلين خواريث إلى قصر الحمراء. عند مخرج القصر من جهة القصبة لفتت بيلين انتباهنا إلى مفتاحٍ مرسومٍ فوق الباب الخشبي الضخم، وهناك يدٌ تجاوره على السور. ثم استفاضت في الشرح:
يزعمون هنا في غرناطة أنه يومَ تنجح هذه اليد في القبض على المفتاح، سيبوح قصر الحمراء بكل خزائنه ومكنوناته.
دنا صلاح ستيتيه من الباب. رفع رأسه نحو المفتاح وظل يحدّق فيه بعين فاحصة. بعينِ صيرفيٍّ خبير. ثم التفت فجأة نحو بيلين معلّقا:
هذا مجرّد كلام فارغ يا عزيزتي. اليد هي يد الحق، والأصابع الخمسة تشير إلى أركان الإسلام. من وفَّى هذه الأركان حقّها، سينال مفتاح الجنان.
اندهشت بيلين. فهمستُ في أذنها:
هذا قدركم يا شعراء غرناطة. ما إن تلجوا قصر الحمراء حتى تكتشفوا أنّ الحكمة عربية.
فبادرتني الشاعرة الغرناطية الشابة:
لست مستنكرة. فقصة صلاح مدهشة، والأكيد أنها الأقرب إلى الحقيقة.
قلت لها:
جيّد أنك تقبّلتِ روايته بأريحية، ودونما غيرة.
وفكرت في فيديريكو غارثيا لوركا. لم يكن شاعرُ غرناطة الأول يخفي غيرته من ابن زمرك. كان يراه صاحب أفخم ديوان شعري في العالم، لأنّ قصائده تغطِّي جدران قصر الحمراء وتزيّن قاعاته وتحيط بأحواضه ونافوراته.
كان لوركا أندلسيَّ الروح والوجدان. «ديوان التماريت» الذي كتبه بعد عودته من نيويورك، وأعدَّه للنشر قبيل اغتياله، يؤكّد أنّ شاعر غرناطة الكبير إنّما هرب من نيويورك ليعود إلى ذاته ووجدانه الأندلسيين. لكن اليمين الكاثوليكي المتحالف مع الفاشيست سيغتاله عام 1936 في الطريق بين فيثنار وألفاكار، على التلال القريبة من غرناطة، ولن يصدر «ديوان التماريت» في غرناطة كما أراد صاحبه، بل في بوينوس أيريس عام 1940. كان واضحًا أنّ الشعر الإنساني فقدَ لوركا وهو في منعطف حاسم من تجربته الشعرية، أي في اللحظة التي قرّر فيها العودة للإقامة في قلب حلمه الأندلسي. قبيل وفاته مباشرةً، صرَّح لوركا لصحيفة El Sol التقدمية: «أنتمي لغرناطة التسامح. غرناطة ما قبل السّقوط في يد الكاثوليك». وهو الانتماء الذي اتّضح في هذا الديوان.
منذ العنوان نحن في ضيافة الأندلس. «الديوان» كلمة عربية ذات أصل فارسي، تبنتها اللغة الإسبانية بمعناها العربي. أما «تماريت» فكلمة أمازيغية تعني العاشقة، ويُطلق هذا الاسم على قريةٍ كانت ضمن أملاك ملوك غرناطة المسلمين، وذلك في منطقة «فوينطي باكيروس» حيث وُلد لوركا، بضعة كيلومترات فقط خارج غرناطة.
وتمامًا كما لو كنا بصدد قصيدة عربية تقليدية، استهلَّ لوركا «ديوان التماريت» بالغزل والبكاء على الأطلال، ووصفِ آثار الأحبّة في اثنَتيْ عشرة «غزلية» قبل أن يبلغ بيت القصيد في القسم الثاني من الديوان الذي يضم تسع قصائد. وفي هذه القصائد بالذات سيتّضح أنّ الوقت الطويل الذي قضاهُ لوركا في خزانة الدائرة الفنية في غرناطة عاكفًا على شعر ابن شهيد وابن حزم وابن زيدون وابن قزمان وابن زمرك وغيرهم من شعراء الأندلس لم يكن عبثًا. فصُوَر الغزل العربي العذري تكرّرت كثيرًا في «ديوان التماريت» كما هي الحال في صورة «الخد الشاحب حتى الموت بسبب الهجران» المألوفة في الشعر العربي. هذا دون الحديث عن استعادة لوركا في «قصيدة جريح الماء» لصورة الجدول الذي يكون مثل السيف في سكونه ومثل الزّرد إذا حرّكته الريح في أبيات ابن الزقاق البلنسي: «نُثِر الوردُ بالغدير وقد دَرَّ/ جَهُ بالهبوبِ مرُّ الرياحِ/ مثل درع الكميّ مزَّقها الطعنُ/ فسالت به دماء الجراحِ». يقول لوركا: «برَكٌ وأحواض وينابيع/ كانت ترفع سيوفها في وجه الهواء/ يا للحب الصاخب والحدِّ الجارح».
بل لن يتردّد لوركا في الحديث عن تكامل الرَّدف الثقيل والخصر النحيل باعتباره قمة الجمال الأنثوي في الذوق العربي: «رُؤْيتُكِ عاريةً تذكيرٌ بالأرض الملساء/ الخالية من الخيول/ رؤيتُكِ عاريةً/ إدراكُ شوق المطر الباحثِ عن قوام نحيل».
لم يكن ردف بيلين ثقيلا. فالصيدلانية الأندلسية الشابة هيفاء في الإقبال والإدبار. ثم إنها لم تشعر بالغيرة من رواية صلاح عن اليد والمفتاح.
لكنّ يدًا أخرى سيطرت على حواسي في برهةٍ كنا جالسين خلالها للاستراحة في إحدى حدائق قصر الحمراء. يدٌ وديعة رحيمة، خفيفة شفيفة. يدٌ لا مرئية. كنا قد أخذنا مكاننا أمام صفٍّ من نافورات الماء الصغيرة. وكانت خيوط الماء تنبجس ثم تصّاعد إلى أعلى قبل أن تبدأ فجأة في النزول كما لو أنّ يدًا خفية تضربها تباعًا فتجبرها على التراجع والانسكاب. التفتُ إلى صلاح لأسأله: هل رأيت تلك اليد؟ لكنه كان شاردًا بعينين مغمضتين. كأنما أسلمَ حواسَّه للموسيقى الجميلة التي يخلّفها ارتطام الماء بالماء. صلاح ستيتيه شخص باطني. انتبهتُ إلى أنه يعلو بالموجودات والأشياء أحيانًا إلى سماء التجريد ثم يغزل منها أرواحًا صغيرة يناجيها في صمت.
لكنه سرعان ما يخون خفَّته تلك وباطنيته المُحبَّبة حين يشرع في لعب دور المعلم المرشد. اشترى صلاح عند مدخل قصر الحمراء كتابًا عن تاريخ هذه المعلمة. ومباشرة بعد ولوج القصر طلب منا التريُّث. فتح الكتاب وقرأ علينا أكثر من عشر صفحات. يا له من تعذيب. لم أفهم لماذا عليّ أن أستمع لكل هذه المعلومات عن القصر والحال أنني بداخله؟
شخصيًّا لا أميل كثيرًا إلى التاريخ ولا إلى معلوماته التي تدّعي الدّقّة. على العكس، أفضّل أن أدخل في علاقة مباشرة مع الأمكنة، بمسامّي وحواسّي. بل أفضّل أحيانًا أن تبقى المعلومات التاريخية مشوَّشة في ذهني لأرتجل للمكان تاريخًا بديلًا على مزاجي. تاريخٌ مرنٌ مضياف يفسح لي بدوري أنا الطارئ الغريب مكانًا داخله.
قرطبة / 23 نوفمبر 2001
تعرّفت إلى كارولين على مائدة الإفطار.
حين أخبرتني بيلين على الهاتف، وأنا في مراكش لا أزال، أنّ زوجة صلاح ستكون برفقته في غرناطة فكّرتُ مباشرة في ماري سيسيل. لستُ أدري لماذا كنت أتصوّر صلاح ستيتيه مثل إدمون عمران المليح. نفس القامة القصيرة، نفس الفرنسية الباذخة، نفس الملامح الأوربية، ونفس السّنّ تقريبًا. ولأنه شبيه إدمون فلا شك أن كارولين ستكون شبيهةً بماري سيسيل التي التقيتُ بها في أول مؤتمر أحضره لاتحاد كتاب المغرب في أواسط التسعينيات. لكن ما إن قدّم لي صلاح زوجته، حتى صُعِقْت. صُعقت تمامًا. رشيقة هيفاء في الثامنة والعشرين، تصغرني بثلاثة أعوام. كانت لطيفة جذّابة متوقّدة الذكاء. فكيف قرّرت هذه الباريسية الحلوة أن تنذر شبابها لرفقةِ شاعر في الثانية والسبعين؟ قلتُ الرّفقة، وأنا أفكّر في السّرير. يا لَلُؤم الشعراء.
لكن كارولين بدت سعيدة بوجودها إلى جانب صلاح. بل من الواضح أنّ حبًّا جارفًا كان يشدُّهما إلى بعض بحبال سرّيّة لم أتبيّنها.
أخبرتني كارولين ونحن على مائدة الإفطار أنها سافرت كثيرًا مع صلاح وهي مستمتعة جدًّا بحياتها إلى جانبه.
سترافقيننا إلى قرطبة إذن هذا الصباح؟ سألتُها.
مع الأسف، أصبحت مريضة اليوم، لذا لا أظن أنني قادرة على مرافقتكما. ثم إنني أقرأ باستمتاع كتابًا لن يزعجني أن أقضي يومي بين دفّتيه. لكن أرجوك، اهتمّ بطفلي الكبير. خذ بالك منه.
لكن من سيهتمُّ بي أنا يا كارولين؟
كان السؤال مشاكسًا. لكنها أجابتني على البديهة بروح لا تخلو من دعابة:
لا أريدك أن تغضب منّي. لكن، لديَّ فعلا إحساس عميق بأنه ليس بينكما من يستحقُّ أن أوصيه بالآخر. الحالتان معًا ميؤوس منهما. لذا، سأتضرّع إلى الرّبّ لكي يحفظكما ويُعيدكما إلى غرناطة كاملين غير منقوصين.
شيّعتنا كارولين إلى باب الفندق. خرجنا نرفل في القهقهات. ثم ناديت التاكسي. همس صلاح في أذني:
ما رأيك في أن تتكفّل أنت بمصاريف الذهاب من تاكسي وحافلة وخلافه على أن أضطلع أنا بمصاريف التنقل هناك، وكذا بثمن حافلة الإياب.
لكن حينما جاء الدور عليه ليدفع ثمن التاكسي في قرطبة، اقترح أن نستقلّ الأوتوبيس. استحسنتُ الفكرة:
بهذه الطريقة سنربح جولة مذهلة في قرطبة بدل أن ندع التاكسي يختزل المسافة بين المحطّة والمسجد في دقائق خاطفة.
بالضبط عزيزي، هذا ما فكّرت فيه. بادرني بعينين مشرقتين.
كنتُ مستمتعًا برفقته. في التاكسي. في الأوتوبيس. ولو حتى سيرًا على الأقدام.
ولجْنَا جامع قرطبة من بابه الشمالي. سدَّد كلٌّ منا ثمن بطاقة الدخول. لكن مرة أخرى استوقفني صلاح في المدخل، وأشهر في وجهي كتابًا قديمًا جاء به من باريس، وبدأ يقرأ لي خلال 25 دقيقة بالضبط فصلًا كاملًا عن المسجد، تاريخ بنائه، ظروف ذلك، والتحوّلات التي مرّ منها على امتداد تاريخه العريق. كنتُ مقهورًا من درس التاريخ الصباحي، وكنا واقفين أمام حديقة ليمون. لحسن الحظ، كان على يميننا عاشقان أندلسيان غارقان في فردوسٍ من القبل. سهوت عن درس صلاح ستيتيه، وسرحت في الماء والخضرة والوجه الحسن. وفكرت في أغنية محمد عبد الوهاب: «فحرَقْنا نفوسنا/ في جحيمٍ من القبل»
لكنَّ القُبَل فردوسٌ يا أخي. فردوسٌ لا جحيم.
كان صلاح مستغرقًا في القراءة: «لقد تمّ بناء هذا الجامع خلال قرنين ونصف تقريبا، ويرجع تأسيسه إلى سنة 92 هجرية، عندما اتّخذ الأمويون قرطبة حاضرة الخلافة الأموية في الأندلس، حيث شاطر المسلمون المسيحيين كنيستهم العظمى، فبنوا في شطرهم مسجدًا وبقي الشطر الآخر للمسيحيين، وحينما ازدحمت المدينة بالمسلمين وجيوشهم اشترى عبد الرحمن الداخل شطر الكنيسة العائد للروم مقابل أن يُعيد بناء ما تمّ هدمه من كنائسهم وقت الغزو. وقد أمر صقر قريش بإنشائه سنة 587م وكانت مساحته آنذاك 4875 مترًا مربعًا وكان المسجد قديمًا يُسمى بجامع الحضرة أي جامع الخليفة.»
كان العاشقان الأندلسيان ملتحمين في البداية وهما متكئان على أحد أعمدة فناء المسجد. وبعدها ارتخيا بالتدريج ليتمدّدا على الأرض. أدخل الفتى يُمناه «في جيب» فستان عشيقته، تجوّل بأريحية تحت السوتيان لبُرهةٍ، فإذا بالقشدة الأندلسية تفزُّ من مكمنها طرية بيضاء.
كان صلاح مستغرقًا تمامًا في القراءة. بدأ يحكي عن شارل الخامس. حين سمع شارل الخامس أنّ عمدة قرطبة قد أنشأ كنيسة داخل المسجد أنّبَهُ قائلا:
لقد أخطأت. فما بنيتَه أنت له أماكن مشابهة في كل أرجاء إسبانيا، أمّا ما هدمتَه، فما له من نظير.
شاردًا، سرحت فيما هو أبعد من فترة حكم شارل الخامس. عدت إلى زمن الجامع الأول. تخيلت الحرّاس وقد أطبقوا على العاشقين:
تمارسان الفاحشة في بهو المسجد يا أعداء الله. خذوهما فغلّوهما ثم إلى الحاكم سوقوهما لينظر في أمر الفاسقين، هتف قائد الجند بحرسه قبل أن يسبقهم جميعًا إلى مجلس الأمير.
نظرت بعطف جهة العاشقين، لكنهما كانا مستغنيين تمامًا عن تعاطف غريبٍ مُريب. كانت القشدة تسيل في فناء المسجد حرّة رضيّة، فيما صلاح يواصل بهمّةٍ القراءةَ من كتابه العتيق. لم تعد لديّ قدرة على مواصلة الاستماع إليه. كنت أستعجل التجوال في أبهاء هذه الكنيسة التي صارت مسجدًا. هذا المسجد الذي استحال إلى كنيسة.
غرناطة / 24 نوفمبر 2001
مساء السبت، رافقَتْنا بيلين إلى حيّ «البيّازين»: أشهر أحياء غرناطة. بل حيُّها العربي القديم. حيّ الصّنّاع التقليديين والحرفيين، حيُّ الأزقة الضيقة والحانات الصغيرة المزدحمة ومحلات الشيشة. قصر الحمراء يشرف عليه من الأعلى ويفصله عنه سور صغير. هناك من يقول إن اسمه الحقيقي «حي البائسين». تذكّرتُ ما صدحت به أم كلثوم من «رباعيات الخيام»:
«يا عالِم الأسرار علم اليقين/ يا كاشف الضُّرِّ عن البائسين».
هل البائسون هم فلول بني الأحمر الذين طُرِدوا من الحيّ والمدينة والأندلس كلها إلى الضفة الجنوبية للمتوسط؟
أم واحد مثلي يعود إلى الحيّ كأنه لم يغادر مراكش؟ كأنّ مراكش بنت غرناطة؟ وكأنّ هذه الأسواق امتدادٌ لـ«السّمارين» و«المواسين»؟
دعتنا بيلين للتسلُّل داخل إقامة تابعة لجامعة غرناطة القديمة. تجوّلنا قليلا داخل الإقامة الجامعية. كان هناك طلبة يُذاكرون فرادى، وآخرون يتسامرون ربما في انتظار التحاق رفاق لهم آخرين. نبّهتنا بيلين إلى أنهم يرصّون صفوفهم الآن قبل أن ينطلقوا للإغارة على وسط المدينة. الليلة السبت، وسبت غرناطة يغري بالسّهر. لم تكن إقامة جامعية على الطراز المألوف، بل فيلا عتيقة تحيط بها حديقة شاسعة غنّاء. بستان ما زالت أشجاره وأغراسه وشتلاته الصغيرة مخلصة لروح الروض العربي العاطر. كنا نشرف مباشرة على قصر الحمراء. بدأت الشمس تنسحب مثل أميرة تجرجر أذيال فستانها اللألاء مفسحة المجال أمام الليل ليُرخي سدوله على المدينة. لكن وقبل أن تطبق علينا الظلمة وكآبة الغروب، اندلعَتْ أضواء جميلة تحيط بخصر الحمراء، فبدا القصر بحمرته المتوهّجة أشبه بزهرة أسطورية تتوسّط حوضًا عظيمًا فادح الاخضرار.
عطست كارولين، فانتبهتُ إلى أن البرد بدأ يلسعني، ومع ذلك فقد كنت مأخوذا بالمشهد. بدأت أدندن بصوت خافت:
جادك الغيث إذا الغيث همى/ يا زمان الوصل بالأندلسِ
لكن بيلين سمعتني، فبادرتني:
أما زال العرب يحنّون إلى الأندلس؟
تذكّرتُ شريطًا كنت قد سمعته مرة لأحد فقهاء الظلام. كان ينعق فيه مهدِّدًا العالم والناس بالويل والثبور، مذكِّرًا بعذاب النار وأهوال القبور. ولكي يفلت العباد من المآل الأسود الذي يُنذِرهم به، دعاهم إلى التّلبية الفورية لدعوة الجهاد كلٌّ من موقعه، ضدّ الطاغوت في بلده. وبعدها سنرُصُّ صفوفنا ونخرج للجهاد الأكبر، نحرّر فلسطين، ننجد إخواننا في العراق، وبعدها نذهب لاسترجاع الأندلس. وما ذلك على الله بعزيز.
ربما كفردوس مفقود، ما زال بيننا من يطمح إلى استرجاعه. فكّرت.
ما بالك لا تردّ؟ أما زال العرب يحنّون إلى الأندلس؟
هناك بيت ثانٍ لم أنشده بعد:
لم يكن وصلكَ إلا حلما/ في الكرى أو خلسة المختلسِ
الأندلس حلمٌ قديم يا بيلين. فردوس مفقود. هكذا يفكّر فيها العرب اليوم.
ثم أضفتُ مشاكسًا:
هذا عن العرب، أمّا جيرانكم المغاربة فهم لا يفكرون حاليًا إلا في ثغريهما السليبين سبتة ومليلية. على الأقل، المطمح هنا مشروع وواقعي.
فبادرتني بيلين وابتسامة لا تخلو من لؤم ترتسم على وجهها:
قد يكون المطمحُ مشروعًا كما ذكرت. إنما واقعي؟ أشك في ذلك.
حدّقتُ فيها باندهاش أعطاها ثقة أكثر فواصلت بنبرة واثقة:
لا أعتقد يا صديقي أن شباب سبتة ومليلية سيتخلّون هكذا بغباء عن جوازات سفرهم الإسبانية من أجل عودة عاطفية إلى البلد الأم، وهو يرون إخوانهم من أبناء المدن المغربية المحيطة بهم يجازفون بركوب زوارق الموت ويعرِّضون أنفسهم للخطر من أجل الهجرة إلى إسبانيا حيث يفضّلون الإقامة السرية من دون أوراق على العودة إلى الوطن الأم.
تبًّا يا بيلين. ما أقساك.
هل غضبْتَ مني؟ سألَتْني بارتباك.
أبدًا عزيزتي. بل أغضبني واقع الحال.
عدت إلى الرباعيات أترّنم بها:
يا عالم الأسرار علم اليقين/ يا كاشف الضُّرِّ عن البائسين
يا قابل الأعذار عُدْنا إلى ظلكَ..
سمعتُ صلاح ستيتيه يناديني، فهرعت إليه. فإذا به يسحب الكتاب العتيق ذاته من جيب معطفه، سلّمه إلى كارولين. حدّد لها الصفحة والفقرة، وطلب منها أن تقرأ علينا بصوت مرتفع. بدأت كارولين تقرأ فقرة تقدّم معطيات تاريخية عن حيّ البيّازين. لم أكن أسمع. شاردًا، كنت أستعيد منطق بيلين القاسي، وأحدّق في البعيد.